الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيام في "المريجات" بلد من جبل لبنان اتخذت محجراً صحياً لمن يرد من نواحي دمشق، ولو أني لبثت هذه المدة عن داعية خاطر مني، لحسبتها في أيام الارتياض بمشاهدة المناظر الزاهرة.
وممن قاسمني في هذه الإقامة، وقد سبقني إليها بيوم: الذكي السيد إبراهيم المستنطق بعدلية بيروت، وكان يسايرني في شعاب هذه القرية التي هي على قمة جبل، ويطوف بي على ما حولها من الرياض الرائقة، والأنهار الدافقة، وربما جلسنا على ربوة مطلة على مظاهر لا تسأم العيون من التمتع بمرآها الجميل، وكان في خلال ذلك المطاف يطارحني الأدب، وينشدني من شعره باللسانين العربي والتركي، وقلت في هذه الإقامة:
بين "المريجات" ما تحلو مناظره
…
للطرف لكنّ نفسي سامها ضجرُ
والنفس تضجر من دار المقام على
…
رغم وإن كان من سمّارها القمر
انطلقنا من "المرايجات" يوم الجمعة، وصعد من بعض مواقف الرتل رجل من أهالي لبنان يقارب في نطقه العربية الصحيحة، وكان هذا الرجل يلاحظ عباراتي، ويتفقدها من حيث الإعراب، حتى قال لي في آخر المحادثة، عندما أزمع على الانصراف:"هل جميع التونسيين يلفظون بالعربية؟ "، فقلت له: "لا يتفاوتون في قرب ألسنتهم منها، وإنما الذين ينسجون على منوالها، ويتحرون أساليبها هم طوائف أهل العلم والأدب.
*
محاضرة شفيق المؤيد:
وصل الرتل إلى محطة ييروت، فألفيت السيد إبراهيم الذي كان يصاحبنا بالمريجات في انتظارنا، فقصدنا إلى خان يسمى:"قصر البحر"، وهذا القصر من أجمل المنازل من حيث التنسيق والموقع، ومن أهم ما روعي في مرافقه:
بيت فسيح، فيه زرابي مبثوثة أعد لأداء الصلوات، وطالعت في أحد جدران مقعده العام معلّقة، رسمت بها قصيدة للشاعر الشهير السيد معروف الرصافي في وصف هذا القصر، يقول في طالعها:
لعمرك إن قصر البحر قصرٌ
…
به يسلو مواطنَه الغريبُ
وتمتلئ العيون به ابتهاجاً
…
إذا نظرت وتنشرح القلوبُ
ثم قال:
كأن الموج في الدلتا رجالٌ
…
وهذا القصر بينهم خطيب
تخاطبهم مبانيه فيعلو
…
من الأمواج تصفيق مهيب
وما انفردت به بيروت حسناً
…
ولكن القصور بها ضروب
أعلمني السيد إبراهيم بأن السيد شفيق المؤيد سيلقي محاضرة في هذه الليلة بنادي جمعية "الحرية والائتلاف"، فذهبنا عند وقتها المحدود، يرافقنا السيد محمد صبحي بن الشيخ عبد الرزاق العطار، فتبوأنا مكاناً في الطبقة العليا من النادي، وأخذ الناس ينسلون فرادى وزمراً إلى أن أفعموا الطبقتين، وغصّ بهم المجلس على سعته، فأقبل السيد المحاضر تحف به طائفة يترنمون بأنشودة حماسية من نظم السيد سليم الجزائري إلى أن ارتقى على منصة الخطابة، فتقدم السيد عبد الغني العروسي صاحب جريدة "الائتلاف العثماني"، وألقى خطاباً أعلن فيه بموضوع المحاضرة، وأدبج فيه نبذة في التعريف بشأن المحاضر، ومن جملة ما قصه في حقه: أنه كان أحد مبعوثي الشام، وأنه خرج يوماً من مجلس "المبعوثان" بالآستانة، فبسط إليه أحد الرجال يده ليصافحه، فقبض يده، وقال له:"لا أصافح يداً خانت أمتها".