الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشاهد برلين
(1)
*
مقدمة:
وجود الإمام محمد الخضر حسين في "برلين" مجاهداً كريماً في سبيل الله، وإعلاء كلمة الحق، مرحلة من المراحل الهامة في حياته - رضوان الله عليه -.
وما أروع وأعظم مراحل حياته على اختلاف زمانها ومكانها، سواء في تونس مولده، أو في دمشق، أو في إستنبول، أو القاهرة نهاية مطافه!
كلها مدن إسلامية في عالم إسلامي واحد، شاهدة ذاكرة لنشاطه الديني والسياسي، الذي طبع صفحات تاريخه بطابع الإخلاص في العمل، والصدق في النية، إلى جانب علم غزير نافع يزين جهاده، ومكارم أخلاق ترافق خطاه، وطيب ثناء يترك آثاره من خلفه في كل سبيل سلكه على مدى عمره الطويل العامر.
والرجل القوي في دينه، العظيم في نفسه، تسلس أمامة شدائد الصعاب، وتلين بين يديه قساوة الأيام، ويلقي الله في صدور أعدائه الضعف والهلع، ويجد المؤمن الصادق في بذل الجهد الشاق متعة وراحة، لا يجدها المترفون
(1) نشرت في رسالة مستقلة ووجدنا ضمها إلى كتاب "الرحلات" إتماماً للفائدة ووحدة الموضوع.
الكسالى في أحضان الدعة والمال والسكون، أو الرجال الذين يسيرون إلى جوانب الجدران بعيداً عن الخوض في غمار الحياة خوف التعب.
يقول الإمام محمد الخضر حسين من ديوانه "خواطر الحياة":
ولولا ارتياحي للنضال عن الهدى
…
لفتشت عن وادٍ أعيشُ به وحدي
وكثيراً ما كان يتمثل بهذا البيت - رضوان الله عليه -.
والمسلم الذي يرتاح للنضال لا يخشى سهامه، ولا يبالي بما يصيبه من الأذى، ويجد في الحل والترحال من أجل الدعوة حلاوة لا يجدها إلا المسلم الصادق الذي يستعذب مرارة الصبر والجلَد للوصول إلى رضاء الله تعالى.
ولست أرى في الإمام محمد الخضر حسين إلا ذاك الرجل العالم العامل، والمجاهد الصامد الصابر، صغرت الدنيا في عينيه، فمرّ بها مرور الكريم سريعاً، وكأنها في نظره غزوة من غزوات الإسلام، دخلها شاهراً في يمناه كتاب الله العظيم، وخرج منها ظافراً بسلام آمن. وهنيئاً له بالدرجة العالية الرفيعة مع الصديقين والشهداء والأبرار، وحسن أولئك رفيقاً.
رحل إلى ألمانيا مرتين (1) للاتصال مع الأسرى من أبناء المغرب، وأقام
(1) يقول الإمام في حديثه إلى صحفي ألماني زاره في مشيخة الأزهر عن رحلته إلى ألمانيا: "كانت هذه الرحلة في أيام الحرب الكبرى، وكنت مع الأسرى الأفريقيين أتردد عليهم وأعود إلى برلين، وقد زرت ألمانيا مرتين: أولاهما استغرقت تسعة أشهر، والثانية سبعة أشهر". مجلة "الأزهر" - الجزء الرابع من المجلد الخامس والعشرين، من مقال:"طغيان الاستعمار وخطر الشيوعية، ما نأخذ من نظم الغرب وما ندع"، ونشرت المقال في كتاب "أحاديث في رحاب الأزهر" للإمام.
فيها تسعة أشهر في عام 1917 م، ثم أقام فيها مدة سبعة أشهر عام 1918 م. ومن رفاقه هناك: الشيخ صالح الشريف، وإسماعيل الصفايحي، وعبد العزيز جاويش، والدكتور عبد الحميد سعيد، واللواء يوسف مصطفى، وغيرهم.
كانت رحلته لأداء مهمة وطنية جليلة، فقد جندت فرنسا مئات الآلاف من المغاربة: تونسيين، وجزائريين، ومراكشيين، وألقت بهم في الخنادق الأولى من المعارك التي خاضتها ضد ألمانيا. وكان الإمام يقوم بالاتصال اليومي مع الأسرى، ويحرضهم على الثورة ضد الفرنسيين، ويدعوهم إلى الإنضمام إلى الدولة التركية التي سوف تساعدهم على تحرير بلادهم من الاستعمار.
مهمة صعبة قاسية أداها الإمام في جو الحرب المرعب، تحت القذف الدائم، والدوي المتواصل لأصوات القذائف، والتنقل عبر خطوط القتال ليصل إلى أقرب نقاط التماس مع القوات الفرنسية، وتطلق محاضراته وكلماته بواسطة المدافع إلى خنادق الفرنسيين؛ ليقرأ المغاربة الدعوة إلى عدم مؤازرة مستعمر بلادهم في هذه الحرب، بل عليهم القتال في أوطانهم ضده.
وأقام مع إخوانه المجاهدين في برلين (اللجنة التونسية الجزائرية) التي تهدف إلى تحرير بلاد المغرب، والدفاع عن قضاياها. وله مقالات ومحاضرات في الصحف والمنتديات، ولا سيما تلك التي تلقى يومياً على جموع الأسرى المغاربة في المعتقلات.
وأصدرت سلطات الاحتلال في تونس حكماً عليه بالإعدام غيابياً؛ لتحريضه المغاربة المعبئين في الجيش الفرنسي على التمرد والعصيان، ودعوتهم إلى الثورة على فرنسا، كما أصدرت السلطات الفرنسية أمراً مؤرخاً في