الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
خطاب الإمام محمد الخضر حسين في تدشين مسجد ببرلين في أثناء الحرب
(1):
سادتي!
لا شك أن لكل حكومة سياستها الخاصة بها، والمتسمة بسمة تتجلّى في مظاهر تلك السياسة.
ولكن الحكومة التي تزدهر سياستها، والتي يبتهج الشعب بتصرفاتها، هي الحكومة التي تقيم سياستها على ثلاثة مبادئ:
المبدأ الأول: استسهال الأعمال الجبارة، والإقدام عليها دون الالتفات إلى الأخطار التي قد تنجر عن ذلك. فما من شعب يستطيع أن يتطور نحو السعادة والحرية، إلا إذا كان يقوده رجال لهم من العزيمة والحمية الوطنية ما يجعل الجبل الأشم في ناظرهم مجرد ذرة من الرّمل تدوسها أقدامهم.
المبدأ الثاني: جمع اللين إلى الحزم، والطيبة إلى الشدة، إذ لا تُغلب النفوس الشريرة، ولا يُقضى على الآفات التي تصيب محاسن الأمور وتفسدها إلا بالحزم والشدة، أو باللين والطيبة تكسب قلوب الرعية، وتستمال نفوس الأهالي.
المبدأ الثالث: منح الناس الحرية المطلقة، حتى يتمتعوا بحقوقهم الشرعية، وحتى يسلك كل فرد الطريق الذى يدله عليه ضميره.
ولا تزدهر سياسة أية حكومة إلا بقدر ما ترتكز على هذه المبادئ الثلاثة.
(1) خطاب الإمام محمد الخضر حسين في حفل افتتاح مسجد برلين في غرة شهر رمضان 1333 هـ.
ونحن نرى -في الواقع-: أن الحكومة التي أحسنت معاملة رعاياها، وحرصت على رخائهم أكثرَ من غيرها، هي التي تتبوأ المكانة الأسنى، والتي تحوز قوة أعظم من قوة سواها.
وإذا اعتبرنا هذه المبادئ، ونظرنا إلى حال الحكومة الألمانية، وإلى سلوكها، لاحظنا بوضوح أنها تفوقت تفوقًا كبيراً على الحكومات الأخرى، وبلغت الأوج.
وهذه الحرب الراهنة تُبرهن على ما لرجال هذه الحكومة من صبر غير محدد، وصمود لا يمكن -حتى للموت- أن يَنال منه.
ولو لم تجمع الحكومة الألمانية اللين إلى الحزم، والطيبة إلى الشدة، لما شاهدنا هذا التضامن القائم بينها وبين رعاياها، والذي يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بروح واحدة تفرقت في جسوم عديدة.
أما عطفها على الأجناس من مختلف الأديان -لا سيما المسلمين-، وصدق طويتها نحوها، ففي الظروف الحالية برهان عليهما. لا شك أن ألمانيا لم تكتف قط بصيانة حياة المسلمين، بل بذلت كل ما في وسعها لتطوير حياتهم الروحية، ومساعدتهم على حفظ دينهم!
ومن مبرّات ألمانيا: تشييد هذا المسجد.
فهذا البناء، رغم أنه لا يحتل إلا قطعة ضئيلة من التراب الألماني، فإنه سيُحِلُّهُ من قلوينا حيزاً بقدر ضعف مساحته، وسينمي بذلك قوته ومشاريعه.
ورغم أن الحكومة الألمانية لم تصرف وقتاً طويلاً في بناء هذ المسجد، فإن ألسنة خطبائنا وأقلام كتابنا ستلهج بشكرها، والتغني بمجدها، طالما ظلت الأرض تدور.
ومن جهة أخرى، فإذا كان إخواننا الجزائريون يذكرون أن فرنسا استولت على جامع الباي صالح بقسنطينة، وعلى الجامع الكبير في عنابّة، واتخذت منهما ثكنتين لعسكرها، فإنهم سيفهمون الفارق بين حكومة تشيد لهم، في عقرها، مسجداً جميلاً، وبين أخرى همها القضاء على الإسلام وبيوت العبادة فيه.
ولا ريب أن للمسلمين شريعة دينية وسياسة، وإن هذه المبادئ السياسية التي ألْزَمَهُمْ بها الإسلام، وإن أهملها بعض الخامدين في سالف العصور، فقد أدرك اليوم كنهها رجال أحاطوا بمقاصدها الجليلة. وهؤلاء الرجال مصممون اليوم على أحد أمرين: فإما أن يعيشوا على هَدْيِ تلك السياسة الإلهية، وفي كنف الاستقلال التام، وإما أن يفوزوا بالجنّة في ظلال السيوف!
لقد تحققت الحكومة الألمانية من هذه الأمور، وهي شاهدة على أن الشعب الذي يسعى إلى المحافظة على استقلاله، أو إلى ما أخذ منه ظلماً محقٌّ في ذلك.
ولم تكتف ألمانيا بعدم وضع العقبات في طريق رقي المسلمين، فمدّت يداً مخلصة إلى حكومة الخليفة لإخراجها من حالة الاستبداد.
ولا نملك إلا أن نشكر رجال هذه الحكومة على مشاعر التعلق بالحرية التي يكنونها، وعلى وفائهم بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم.
ندعوا الله عز وجل أن يمد صاحب الجلالة الامبراطور العظيم (ويلهلم الثاني) بطول العمر، وبالنّصر على أعدائه! آمين ....