المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة: - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: رأي المعتزلة في أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: أفعال التولد

- ‌المبحث الخامس: رأي المعتزلة في اللطف والصلاح والأصلح ومناقشتهم

- ‌المطلب الأول: مسالة اللطف

- ‌المطلب الثاني: مسألة الصلاح والأصلح

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في بعثة الرسل

- ‌الفصل الرابع: الأصل الثالث الوعد والوعيد

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في الوعد

- ‌المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الوعد مع المناقشة

- ‌المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوعيد

- ‌المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة:

- ‌المبحث الثالث: حقيقة الشفاعة ورأي المعتزلة فيها

- ‌المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة

- ‌المبحث الرابع: الإحباط والتكفير عند المعتزلة ومناقشتهم

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإحباط

- ‌الفصل الخامس: الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

- ‌الفصل السادس: الأصل الخامس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقسامه

- ‌المطلب الأول: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة وأقسامه:

- ‌المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم، وهل يفرقون بين قتال الكافر والفاسق

- ‌المبحث الثالث: مناقشة رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان رأي أهل السنة:

- ‌المبحث الأول: حقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: الصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابع: منهج المعتزلة في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد

- ‌المبحث الأول: منهج المعتزلة في تفسير القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من السنة

- ‌المبحث الثالث: صور من انحرافات المعتزلة عن السنة

- ‌المبحث الأول: التطور الفكري للمعتزلة

- ‌المبحث الثاني: التطور السياسي للمعتزلة

- ‌المطلب الأول: نشأة الفرقة وتكونها في العصر الأموي

- ‌المطلب الثاني: المعتزلة في العصر العباسي

- ‌المطلب الثالث: المعتزلة بعد المتوكل

- ‌المطلب الرابع: المعتزلة في عصر البويهيين

- ‌المبحث الأول: وظيفة العقل في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مجال العقل في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نشأة الفرق العقلية

- ‌المبحث الرابع: مفهوم العقل عند المعتزلة

- ‌المبحث الخامس: من مباحث المعتزلة المجافية للعقل والمخالفة للسنة

- ‌المبحث الأول: موقف المعتزلة من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌المبحث الثاني: أثر أصولهم الخمسة العقدية في آرائهم الأصولية

- ‌المبحث الثالث: مناقشة المعتزلة في خوارق العادات

- ‌المبحث الرابع: موقف المعتزلة من الحكمة والتعليل

- ‌المبحث الخامس: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لإبطال صفة الكلام

- ‌المبحث السادس: بين المعتزلة والقدرية والجهمية

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نماذج من تأويلات المعتزلة لنصوص الصفات والقدر

- ‌المطلب الثاني: مقارنة بين منهج المعتزلة ومنهج الجهمية في التأويل

- ‌المطلب الثالث: ذكر شبه المعتزلة في القول بخلق القرآن ونقضها

- ‌المطلب الرابع: أفول المدرسة العقلية القديمة:

- ‌المطلب الخامس: موقف السلف من المعتزلة وتأويلاتهم

- ‌المبحث الثامن: المعتزلة في ميزان أئمة السلف

- ‌المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال

- ‌المبحث الثاني: نشأة المدرسة العقلية الحديثة

- ‌المطلب الأول: جمال الدين الأفغاني

- ‌المطلب الثاني: محمد عبده

- ‌المبحث الرابع: أثرها في الفكر الإسلامي الحديث

- ‌المبحث الخامس: موقف المدرسة العقلية الحديثة من السنة النبوية

- ‌المبحث السادس: موقف علماء المسلمين منهم

- ‌المبحث السابع: موقف الاستعمار البريطاني منهم واعترافه بما قدموه له من خدمات

- ‌النتيجة

- ‌الخاتمة

- ‌الفصل الأول: وجود الخوارج في الماضي والحاضر

- ‌المبحث الأول: تعريف الخوارج لغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف الخوارج اصطلاحا

- ‌الفصل الثالث: نشأة الخوارج

- ‌الفصل الرابع: أسماء الخوارج

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: النزاع حول الخلافة

- ‌المبحث الثاني: قضية التحكيم

- ‌المبحث الثالث: جور الحكام وظهور المنكرات بين الناس

- ‌المبحث الرابع: العصبية القبلية

- ‌المبحث الخامس: العامل الاقتصادي

- ‌المبحث السادس: الحماس الديني

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: نشأة فرق الخوارج وأسبابها

- ‌المبحث الثاني: مناهج مؤرخي الفرق في ذكر فرق الخوارج

- ‌المطلب الأول: المحكمة

- ‌المطلب الثاني: الأزارقة

- ‌المطلب الثالث: النجدات

- ‌المطلب الرابع: الإباضية

- ‌المطلب الخامس: البيهسية

- ‌المطلب السادس: الصفرية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: حركات الخوارج على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النهروان

- ‌المبحث الثاني: حركات الخوارج الثورية ضد الحكم الأموي

- ‌المبحث الثالث: حركات الخوارج الثورية على الدولة العباسية

- ‌المبحث الأول: شجاعتهم وسرعة اندفاعهم

- ‌المبحث الثاني: مبالغتهم في العبادة والزهد

- ‌المبحث الثالث: فصاحتهم وقوة تأثيرهم

- ‌المبحث الرابع: صدقهم في الحديث

- ‌المبحث الخامس: ميلهم إلى الجدل وقوتهم فيه

- ‌المطلب الأول: بين العقل والشرع في التحسين والتقبيح

- ‌المطلب الثاني: بين ظاهر النص والتأويل

- ‌تمهيد

- ‌1 - صفات الله تعالى

- ‌2 - رؤية الله تعالى

- ‌3 - القول بخلق القرآن

- ‌4 - القدر

- ‌1 - وجود الجنة والنار قبل يوم القيامة

- ‌2 - عذاب القبر

- ‌3 - الشفاعة

- ‌4 - الميزان

- ‌5 - الصراط

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: حقيقة الإيمان

- ‌المطلب الثاني: زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌المطلب الأول: الحكم بتكفير العصاة كفر ملة

- ‌المطلب الثاني: الحكم بتكفير العصاة كفر نعمة

- ‌المطلب الثالث: حقيقة القول بالمنزلة بين المنزلتين عند الإباضية

- ‌المطلب الرابع: وجوب الوعد والوعيد

- ‌المطلب الخامس: أدلة الخوارج على تكفير العصاة والرد عليها

- ‌أ- أدلتهم من الكتاب والرد عليها:

- ‌ب- أدلة الخوارج من السنة والرد عليها:

- ‌المطلب السادس: أدلة الإباضية على تكفير المذنبين كفر نعمة والرد عليها

- ‌المطلب السابع: تعقيب على آراء الخوارج في أمر العصاة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: حكم الإمامة

- ‌المطلب الثاني: وحدة الإمامة

- ‌المطلب الثالث: شروط الإمام

- ‌المطلب الرابع: محاسبة الإمام والخروج عليه

- ‌المطلب الخامس: رأي الخوارج في إمامة المفضول

- ‌المطلب السادس: رأي الخوارج في إمامة المرأة

- ‌المطلب السابع: الفرق بين الخوارج والشيعة في الإمامة

- ‌المبحث السادس: آراء الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌تمهيد:

- ‌أ- القول بعدم جواز التقية

- ‌ب- القول بجواز التقية قولا وعملا

الفصل: ‌المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة:

‌المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة:

لقد أيد المعتزلة رأيهم في الوعيد بشبهات نقلية وعقلية، وسنعرض - إن شاء الله - ما تيسر منها، مع المناقشة.

الشبهة الأولى:

بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81].

وجه الدلالة: يقول القاضي: "دلت الآية على أن من غلبت كبائره على طاعاته - لأن هذا هو المعقول من الإحاطة في باب الخطايا؛ إذ أن ما سواه من الإحاطة التي تستعمل في الأجسام مستحيل فيها - هو من أهل النار مخلد فيها"(1).

المناقشة: يقول ابن كثير: الآية رد على بني إسرائيل الذين زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة بأن الأمر ليس كما زعموا؛ بل إن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنة، بل جميع أعماله سيئات، فهو من أهل النار. قال ابن عباس: بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً

الآية [البقرة: 81] أي: عمل مثل عملكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة" (2).ويقول القرطبي: "السيئة: الشرك. قال ابن جريج قلت لعطاء: وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ

الآية [النمل: 90]

" (3).ومما يؤيد قول القرطبي: في أن المراد بالسيئة هنا: الشرك قوله تعالى:

وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ .... الآية [البقرة: 81]، أي: أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذاً، وهذا لا يكون إلا في الشرك، فإن من معه من الإيمان شيء لا تحيط به خطيئته (4).

وعلى هذا: فلا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة في النار؛ لأن الإحاطة - كما ذكرنا - إنما تصح في شأن الكافر؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه، فلم تحط به خطيئته، لكون قلبه ولسانه منزهاً عن الخطيئة. وبهذا يظهر بطلان استدلال المعتزلة بالآية. والله أعلم.

الشبهة الثانية:

قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74].

(1)((متشابه القرآن)) (1/ 97).

(2)

((مختصر تفسير ابن كثير)) (1/ 71).

(3)

((تفسير القرطبي)) (2/ 12).

(4)

((تفسير ابن سعدي)) (1/ 49).

ص: 30

وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "إن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق جميعاً، فيجب أن يكونا مرادين بالآية معنيين بالنار؛ لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعاً. ثم قال: والكلام في أن اسم المجرم يتناول الكافر والفاسق جميعاً ظاهر في اللغة والشرع جميعاً. أما من جهة اللغة؛ فلأنهم لا يفرقون بين قولهم: مذنب، وبين قولهم مجرم، فكما أن المذنب شامل لهما جميعاً، فكذلك المجرم. وأما من جهة الشرع: فلأن أهل الشرع لا يفرقون بين قولهم مجرم لزناه، وبين قولهم: فاسق لزناه

" (1).ويقول في موضع آخر - بعد سياق هذه الآية -: "الآية تدل على أن الوعيد بالخلود لأنه لم يخص مجرماً من مجرم، وبين أنهم خالدون في النار، والخلود هو الدوام الذي لا انقطاع له" (2).أولاً: المقصود بالمجرمين هنا: الكافرين: يقول ابن جرير - عند تفسير هذه الآية-: "

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ وهم الذين اجترموا في الدنيا الكفر بالله .. " (3). ويؤيد كونها في الكافر: ما ذكره الرازي في معرض الرد على استدلال المعتزلة بهذه الآية حيث قال: "إن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد بالمجرمين الكافرين. أما ما قبل هذه الآية: فقوله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 68 - 69]. فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين، فإنهم يدخلون تحت قوله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68]. والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم، فوجب أن يكون داخلا تحت ذلك الوعد ووجب أن يكون خارجاً عن هذا الوعيد. وأما ما بعد هذه الآية، فقوله تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78]. والمراد بالحق ههنا؛ إما الإسلام؛ وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام، ولا القرآن

" (4) فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على أن المراد من المجرمين: الكفار. والكافر ليس محل نزاع في أنه من أهل النار مخلداً فيها؛ وبذلك يبطل استدلالهم بالآية على خلود صاحب الكبيرة في النار.

ثانياً: على التسليم بعموم الآية، وأنها ليست خاصة بالكفار، فإنها مخصصة بنصوص العفو والتوبة، والنصوص الدالة على خروج الموحدين من النار، كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. وكقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى: 30].وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة .. ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان

الحديث)) (5).

(1)((شرح الأصول الخمسة)) (ص660 - 661).

(2)

((متشابه القرآن)) (2/ 609).

(3)

((تفسير الطبري)) (25/ 98)، وانظر ((زاد المسير)) (7/ 329)، و ((تفسير أبي السعود)) (5/ 49).

(4)

((التفسير الكبير)) (27/ 226).

(5)

رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 31

ومعارضة بنصوص الوعد، كقوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]. وكقوله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].وترجيح عمومات الوعد أولى؛ لأنها أدخل في باب الكرم من عمومات الوعيد. ولأنه اشتهر أن رحمة الله سابقة على غضبه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى (1).

وبهذا يتبين بطلان استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.

الشبهة الثالثة:

قال تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 14 - 16].

وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "

الآية تدل على أن الفاجر وإن كان من أهل الصلاة فهو من أهل الوعيد ومن أهل النار، وأنه إذا لم يتب ومات على ذلك فهو في الجحيم لا يغيب عنها، وذلك يدل على الخلود؛ لأنهم إذا لم يغيبوا عنها ولا لحقهم موت وقتاً فليس إلا العذاب الدائم

" (2).

المناقشة: أولاً: المراد بالفجار: هم الكفار. يقول الطبري رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "المراد بالفجار: الذين كفروا بربهم

" (3).ويقول ابن الجوزي: "قوله تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ يدل على تخليد الكفار

" (4).ومما يدل على أن المراد بالفجار: هم الكفار لا غيرهم قوله تعالى - في حق الكفار-: أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42]. يقول الرازي: لا يخلو إما أن يكون المراد أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وهم الفجرة. والأول: باطل؛ لأن كل كافر هو فاجر بالإجماع، فتقييد الكافر بالكافر الذي يكون من جنس الفجرة عبث. وإذا بطل هذا القسم، بقي القسم الثاني؛ وذلك يفيد الحصر، وهو أن الفجرة هم الكفرة فقط. وإذا دلت الآية على أن الفجرة هم الكفرة لا غيرهم؛ ثبت أن صاحب الكبيرة ليس بفاجر على الإطلاق (5)؛ وعلى ذلك فليس في الآية دلالة على خلود صاحب الكبيرة في النار، لأنها في الكافر. والله أعلم.

ثانياً: لو سلمنا أن الفاجر يدخل تحته الكافر والمسلم، لكن قوله تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 16]. معناه: أن مجموع الفجار لا يكونون غائبين، ونحن نقول بموجبه، فإن أحد نوعي الفجار وهم الكفار لا يغيبون، وإذا كان كذلك؛ ثبت صدق قولنا وهو: أن الفجار بأسرهم لا يغيبون، ويكفي فيه ألا يغيب الكفار، فلا حاجة في صدقه إلى أن لا يغيب المسلمون.

وأيضاً: فإن الآية معارضة بالنصوص الدالة على العفو مثل قوله تعالى:

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء

[النساء: 48] وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. والترجيح معنا؛ لأن دليلهم لابد أن يتناول جميع الفجار في جميع الأوقات؛ وإلا لم يحصل مقصودهم، فهو عام.

الشبهة الرابعة:

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].

(1)((التفسير الكبير)) (3/ 171).

(2)

((متشابه القرآن)) (2/ 682).

(3)

((جامع البيان)) للطبري (30/ 56).

(4)

((زاد المسير)) (9/ 49).

(5)

((التفسير الكبير)) (31/ 84، 85)، بتصرف.

ص: 32

وجه الاستدلال: يقول القاضي عبدالجبار: "الآية تدل على أن الفاسق من أهل الصلاة متوعد بالنار، وأنه سيصلاها لا محالة ما لم يتب، لأن الذي يأكل أموال اليتامى ليس هو الكافر فلا يصح حمله عليه، ويجب كونه عاماً في كل من هذا حاله، والأغلب ممن يوصف بذلك أن يكون من أهل الصلاة وأقل أحواله أن يدخل الجميع فيه، فيجب أن يقال بعمومه

" (1).

المناقشة: لقد رد القرطبي استدلال المعتزلة بهذه الآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار فقال - عند تفسير هذه الآية -: "ولا حجة فيها لمن يكفر بالذنوب، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة فيصلى ثم يحترق ويموت، بخلاف أهل الشقاء؛ فإنهم لا يموتون ولا يحيون. لما روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((

أما أهل النار الذين هم أهلها فيها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم الله إماته حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)) (2).ساقط بالمشيئة عن بعضهم لقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء

الآية [النساء: 48]. فالآية تدل على أن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده

" (3).

من رد القرطبي يتبين أن صاحب الكبيرة إما أن يعذب مدة ثم يخرج من النار ويدخل الجنة كما يدل الحديث، أو يعفى عنه بمشيئة الله، كما تدل الآية. وعلى ذلك فإنه لا يخلد في كلام الحالتين. وبهذا يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.

الشبهة الخامسة:

قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].يقول القاضي عبدالجبار: "ووجه الاستدلال هو أنه تعالى بين أن من قتل مؤمناً عمداً جازاه الله جهنم خالداً فيها وعاقبه وغضب عليه ولعنه

وفي ذلك ما قلناه" (4).

ويقول في موضع آخر: "وقوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا

الآية [النساء: 93]، يدل على أن قتل المؤمن على وجه التعمد يستحق به الخلود في النار

إلى أن قال: ولا يمكن حمل الكلام في الآية على الكافر إذا قتل متعمداً من وجهين:

الأول: أنه عام؛ لأن لفظة "من" إذا وقعت في المجازاة كانت شائعة في كل عاقل. الثاني: أنه تعالى جعل ذلك جزاء لهذا الفعل المخصوص، ولا يعتبر بحال الفاعلين، بل يجب متى وقع من أي فاعل كان أن يكون هذا الجزاء لازماً له

" (5).

(1)((متشابه القرآن)) (1/ 178).

(2)

((صحيح مسلم)) (185).

(3)

((تفسير القرطبي)) (5/ 54).

(4)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص659).

(5)

((متشابه القرآن)) (1/ 201، 202)، وانظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص659).

ص: 33

المناقشة: أولاً: أن الخلود في الآية لمستحل القتل، وهو كافر إجماعاً، والكافر مخلد. يقول الطبري - عند تفسير هذه الآية -: "

قوله متعمداً

أي مستحلاً قتله" (1).ويقول القرطبي - حاكياً ما روي عن ابن عباس في معنى قوله متعمداً -: "أنه قال متعمداً أي مستحلاً لقتله، فهذا يؤول إلى الكفر إجماعاً والكافر مخلد

" (2).ويقول أبو السعود - بعد عرضه للآية: "

ولا دليل في الآية للمعتزلة في قولهم بخلود عصاة المؤمنين في النار لما قيل أنها في حق المستحل كما هو رأي عكرمة وأضرابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد

" (3).

وعلى هذا: فالآية لا تتناول صاحب الكبيرة، لأنها في الكافر، وصاحب الكبيرة لم يخرج من الإيمان إلى الكفر.

ثانياً: الجزاء في الآية ليس المقصود به وقوعه، وإنما الأخبار به. يقول الطبري:"وقوله تعالى: فَجَزَآؤُهُ أي: يستحق ما ذكره الله من العقاب إن شاء أن يجازيه"(4). وقال أبو السعود بمثل هذا

واستدل بما روي عن ابن عباس عند تفسير هذه الآية حيث قال: " فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ

الآية أي: هي جزاؤه، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له"

(5) ثم قال: "والتحقيق أن ما ورد في الآية إنما هو إخبار منه تعالى بأن جزاؤه ذلك، لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا؟! وقد قال تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا

الآية [الشورى: 40]. ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله تعالى:

وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ .... الآية [المائدة: 15]

" (6).وإذا كان الجزاء في الآية ليس المقصود، وإنما الإخبار به، بطل قولهم: "أنه تعالى جعل ذلك جزاء لهذا الفعل المخصوص، فمتى وقع الفعل، وقع الجزاء" (7).

(1)((مختصر تفسير)) الطبري (1/ 119).

(2)

((تفسير القرطبي)) (5/ 334).

(3)

((تفسير أبي السعود)) (2/ 217).

(4)

((مختصر تفسير الطبري)) (1/ 119).

(5)

((تفسير أبي السعود)) (2/ 217)، بتصرف.

(6)

((تفسير أبي السعود)) (2/ 217، 218).

(7)

انظر ((متشابه القرآن)) (1/ 202).

ص: 34

ثالثاً: على التسليم بأن الآية ليست خاصة في الكافر، والجزاء فيها المقصود به وقوعه، فإنها مخصصة بالنصوص الدالة على العفو بمشيئته تعالى، والتوبة، وأحاديث الشفاعة الدالة على خروج الموحدين من النار. يقول القرطبي: "الآية مخصوصة بآيات وأحاديث، فمن الآيات، قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ

الآية [هود: 114]. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25]. وقوله تعالى:

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء

الآية [النساء: 48]. وتوضيح ذلك؛ أنه ليس الأخذ بظاهر هذه الآية أولى من الأخذ بظاهر هذه الآيات، والأخذ بالظاهرين متناقض، فلابد من التخصيص. ثم إن الجمع بين آية الفرقان، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 68 - 70]، وبين هذه الآية ممكن، فلا نسخ ولا تعارض؛ وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان، فيكون معناه: فجزاؤه كذا إلا من تاب؛ لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. وأما الأخبار المخصصة لعموم الآية فكثيرة منها: حديث عبادة بن الصامت، أنه صلى الله عليه وسلم: قال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفى عنه، وإن شاء عذبه)) (1).وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قتل مائة نفس .... (2). ثم أنهم - المعتزلة - أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل، ويقر بأنه قتل، ويأتي السلطان فيقيم عليه الحد ويقتل قوداً، فهذا غير نافذ عليه الوعيد في الآخرة إجماعاً على مقتضى حديث عبادة، فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا

الآية [النساء: 93]. ودخله التخصيص بما ذكر". انتهى كلام القرطبي بتصرف.

من كلام القرطبي؛ يظهر أن الآية مخصوصة بالنصوص الدالة على العفو والتوبة؛ وعليه فيبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار. والله أعلم.

(1) رواه البخاري (6487).

(2)

الحديث رواه البخاري (3470) ، ومسلم (2766) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 35

الشبهة السادسة: يروي عبدالرحمن الإيجي أن المعتزلة قالوا: "إن الله سبحانه وتعالى أوعد بالعقاب وأخبر به، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره، وهو محال"(1).يقول القاضي عبدالجبار: "

إن الله توعد العصاة بالعقاب

وأنه يفعل ما توعد عليه، ولا يجوز عليه الخلف والكذب" (2).ويستدل (3) على عدم جواز الخلف في الوعيد بقوله تعالى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 28 - 29]. ثم يقول: "الآية تدل على أن الوعيد الوارد عن الله تعالى لا يتبدل ولا يتغير

وأنه لا يجوز فيه الخلف، لأن ذلك يقتضي التبديل، وقد أبى الله تعالى ذلك في وعيده

" (4). كما يستدل القاضي - أيضاً - على عدم جواز الخلف في الوعيد "بأنه لو جاز الخلف في الوعد، لأن الطريقة في الموضعين واحدة" (5).

المناقشة:

يقال لهم: الوعيد إما أن يتوج للكافر والمشرك أو العاصي؛ فأما الوعيد الذي توعد الله به الكافرين: فإنهم سينالونه حتماً إذا ماتوا على كفرهم، كما دل على ذلك القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ

الآية [النساء: 48].

وأما الوعيد الذي توعد الله به العصاة: فإما أن يتوبوا أو لا. إن تابوا تاب الله عليهم وغفر لهم؛ وبذلك يسقط الوعي عنهم، كما قال تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ

الآية [الفرقان: 70].أما إذا مات العاصي وهو لم يتب؛ فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه على قدر ذنبه بمقتضى عدله ثم أدخله الجنة، فلا يخلد في النار؛ بدليل حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((

يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان

الحديث)) (6).

ففي هذا الحديث دلالة على أن من معه إيمان لا يبقى في النار خالداً؛ بل يخرج منها، وصاحب الكبيرة معه إيمان. وإن شاء عفى عنه بمقتضى عفوه ورحمته (7)، قال تعالى:

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء

الآية [النساء: 48]. ففي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى يمكن أن يخلف وعيده في حق الموحد العاصي الذي مات وهو مرتكب للكبائر من غير توبة. ومثل هذه الآية حديث عبادة بن الصامت: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وحوله عصابة من أصحابه-: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا

إلى أن قال: ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه

الحديث)) (8).يقول المازني: "وفي الحديث رد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل: لابد من تعذيبه"(9).

(1)((المواقف)) (8/ 376).

(2)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص135، 136).

(3)

انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص136).

(4)

((متشابه القرآن)) (2/ 626).

(5)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص136).

(6)

رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(7)

انظر ((عمدة القارئ)) (1/ 186).

(8)

رواه البخاري (6487).

(9)

((فتح الباري)) (1/ 68).

ص: 36

من كلام المازني؛ يظهر أن الحديث كالآية يدل على أن الوعيد المتوجه إلى العصاة ليس بحتمي؛ بل قد يخلقه الله؛ بأن يغفر لهم. ثم إن خلف الوعيد لا يعتبر كذباً ولا قبيحاً، بدليل المناظرة التي جرت بين أبي عمرو بن العلاء، وعمرو بن عبيد؛ حيث قال عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو: لا يخلف الله وعيده، وقد قال سبحانه وتعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا

الآية [النساء: 93]. فقال له أبو عمرو: ويحك يا أبا عثمان من العجمة أتيت!؛ إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذماً، بل جوداً وكرماً. فقال عمرو بن عبيد: فأوجدني هذا. فقال: نعم. أما سمعت قول الشاعر:

وإني إن أوعدته أو وعدته

لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي (1)

لما يلي:-

أولاً: أن الوعيد مشروط بشرائط مثل عدم العفو، فلا يلزم منه الكذب، فمحصل آيات الوعيد أنا نعذبهم إن لم نعف عنهم، ولكن عفونا عنهم، فما نعذبهم، وليس في هذا خلف وعيد حتى يلزم منه الكذب. ثانيا: أن معنى آيات الوعيد: إنشاء الوعيد؛ لا إخبار به، فهي لا تتصف بالصدق والكذب، لأنهما من صفات الخبر دون الإنشاء، فلا يلزم الكذب في إخلاف الوعيد (2).

وأما الاستدلال القاضي ومن معه بقوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29]. على أن الله لا يخلف وعيده. فالجواب: إن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعيده في الكافر؛ بدليل الآيات التي قبلها. وبدليل النصوص الدالة على أن الله قد يغفر لمن يشاء من العصاة. قال تعالى:

وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء

الآية [النساء: 48]. وذلك جمعاً بين الآيات. وأما قولهم: "

أنه لو جاز الخلف في الوعيد؛ لجاز في الوعد

" (3). فقول فاسد؛ لأن الخلف في الوعد بخل ولؤم، والله أكرم الأكرمين، والخلف في الوعيد كرم وجود، وهو من صفاته جل وعلا (4).

وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.

الشبهة السابعة: يقول القاضي عبدالجبار: "

العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين؛ إما أن يعفى عنه، أو لا يعفى عنه. فإن لم يعف عنه؛ فقد بقي في النار خالداً، وهو الذي نقوله. وإن عفي عنه، فلا يخلو؛ إما أن يدخل الجنة أو لا. فإن لم يدخل الجنة لم يصح، لأنه لا دار بين الجنة والنار، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة، وإذا دخل الجنة فلا يخلو: إما أن يدخلها مثاباً أو متفضلاً عليه، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه، لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلابد من أن يكون حاله متميزاً عن حال الولدان المخلدين، وعن حال الأطفال والمجانين، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثاباً، لأنه غير مستحق، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح

لذا يجب أن يكون معاقباً على ما نقوله" (5).

(1)((مدارج السالكين)) (1/ 396)، وانظر ((القول السديد)) (ص16).

(2)

((القول السديد)) (ص15)، بتصرف.

(3)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص136).

(4)

انظر ((القول السديد)) (ص15،23). و ((المواقف)) (8/ 378)، و ((مدارج السالكين)) (1/ 391).

(5)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص666 - 667)، وانظر (ص 650).

ص: 37

المناقشة: هذه الشبهة باطلة، ولا تدل على تخليد الفاسق في النار، وبيان ذلك: أن الفاسق في حال العفو عنه يدخل الجنة تفضلاً من الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 35] ولما روي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحداً منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله برحمته)). (1) ففي هذه الآية والحديث: دلالة على أن الله يدخل من شاء من عباده الجنة بفضله سبحانه وتعالى، وعليه فإنه يبطل قولكم "

ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلاً عليه

" (2).

وإذاً فالفاسق في حالة العفو عنه يدخل الجنة بفضل الله ورحمته.

أما في حال عدم العفو عنه: فإن الله سبحانه وتعالى يعذبه على قدر ذنبه ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار؛ بدليل قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7]، واحتمال رؤية العامل مثقال ذرة من خير ما عمله قبل دخوله النار، أي: بأن يدخل الجنة جزاء لما عمله من الخير ثم يخرج منها ويدخل النار عقاباً لما عمله من الشر يبطله قوله تعالى في شأن أهل الجنة: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48]. فلم يبق لرؤيته موضع إلا بعد الخروج من النار. ومما يدل على أن استيفاء الأجر بالنسبة لمن يدخل النار لا يكون إلا بعد الخروج منها ما في البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل وإيمان

الحديث)) (3). ففي هذا الحديث دلالة على أن من عمل خيراً يخرجه الله بعد دخوله النار، لأجل ما عمله من خير، والعاصي معه إيمان وخير كثير بدليل قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى

الآية [الحجرات: 9]. فقد سمى الله الطائفتين المتقاتلتين مؤمنتين؛ مما يدل على أن كبيرة القتل لم تخرجهما من الإيمان. فعلى هذا: فإن الله يعذب العاصي في النار لأجل معصيته، ثم يخرجه إلى الجنة لأجل ما عمله من خير، وأهل الجنة لا يخرجون منها بدلالة الآية:

وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48](4). وعليه: فإنه يبطل قولكم "إن الفاسق في حال عدم العفو عنه يخلد في النار"(5).

وعليه فتبطل هذه الشبهة.

‌المصدر:

المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 219

(1) رواه البخاري (6463) ، ومسلم (2816).

(2)

((شرح الأصول الخمسة)) (ص666).

(3)

رواه البخاري (22) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

انظر ((الحصن والجنة في عقيدة أهل السنة)) (ص99 - 100).

(5)

انظر ((شرح الأصول الخمسة)) (ص666).

ص: 38