الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الوعد مع المناقشة
لقد أيد المعتزلة رأيهم في الوعد بشبهات، منها ما يلي:
الشبهة الأولى:
قال تعالى:
…
وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 100].
وجه الدلالة: يقول الزمخشري: ""فقد وقع أجره على الله" فقد وجب ثوابه عليه؛ إذ أن حقيقة الوجوب: هو الوقوع والسقوط. قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
…
الآية [الحج: 36]. أي: سقطت، ويقال: وجبت الشمس: سقط قرصها .. والمعنى: فقد علم الله كيف يثيبه وذلك واجب عليه" (1).
ويقول الرازي: "قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله؛ لأنه تعالى قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ [النساء:100]. ثم قالوا: وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه.
الأول: أنه ذكر لفظ الوقوع، وحقيقة الوجوب هي: الوقوع والسقوط. قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا .... الآية [الحج: 36] أي: سقطت.
الثاني: ذكر لفظ الأجر والأجر: عبارة عن المنفعة المستحقة، فأما الذي لا يكون مستحقاً، فذلك لا يسمى أجراً؛ بل هبة. الثالث: قوله عَلَى اللهِ وكلمة "على" للوجوب. قال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
…
الآية [آل عمران: 97](2).
المناقشة: إنا لا ننازع في دلالة الآية على الوجوب، لكن بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا بحكم الاستحقاق (3). وذلك لما يلي:
1 -
أن الإنعام يوجب على المنعم عليه الاشتغال بالشكر والخدمة، ونعم الله تعالى على عباده لا تحصى، كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا
…
الآية [إبراهيم: 34]. وإذا كان كذلك؛ فتلك النعم السالفة توجب على العبد الاشتغال بالطاعة والشكر، وأداء الواجب لا يكون سبباً لاستحقاق شيء آخر، فوجب أن لا يكون اشتغال العبد بالطاعة علة لاستحقاق الثواب على الله.2 - لو كان العمل علة لوجوب الثواب لكان إما أن يمتنع من الله تعالى أن لا يثيب، أو يصح. فإن امتنع أن لا يثيب؛ فحينئذ يكون الصانع علة موجبة لذلك الثواب لا فاعلاً مختاراً. وإن صح: فبتقدير أن لا يثيب: إن لم يصر مستحقاً للذم لم يتحقق معنى الوجوب، وإن صار مستحقاً للذم لزم أن يكون ناقصاً لذاته مستكملاً بذلك الفعل الذي يفعله، وذلك محال (4).
(1)((تفسير الكشاف)) للزمخشري (1/ 558).
(2)
((التفسير الكبير)) للرازي (11/ 16).
(3)
((تفسير المراغي)) (4/ 135)، و ((فتح القدير)) (1/ 550)، و ((التفسير الكبير)) (11/ 16).
(4)
((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص388، 389).
3 -
أن العبد لا يدخل الجنة بعمله، وإنما يدخلها بفضل الله ورحمته بسبب عمله. قال تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ
…
الآية [فاطر: 35].وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((
…
سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (1).فإذا كان العبد لا يدخله الجنة عمله لم يستحق بعمله على الله شيئاً. ثم إن كون العبد لا يستحق بعمله على الله شيئاً لا يتنافى مع الحق الذي أوجبه الله على نفسه. قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ بن جبل:
…
هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً
…
ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: أن لا يعذبهم)) (2). لأن هذا الحق أوجبه الباري على نفسه ولم يوجبه العبد عليه بعمله.
إضافة إلى ما ذكرنا؛ فإن الوجوب على الله بمعنى: أن يوجب أحد عليه شيئاً باطل، وقد سبق أن بينا وجه بطلانه في موضع سابق. وإذاً فإذا كان المراد بالوجوب في الآية بحكم ما أوجبه الغير عليه، فهذا باطل؛ إذ لا سلطان فوق سلطانه تعالى، وإن كان بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا حق وله تعالى أن يوجب على نفسه ما يشاء (3)، وإذا أرادوا هذا الوجه من الوجوب سقط استدلالهم بالآية، والله أعلم.
الشبهة الثانية: يقول القاضي عبدالجبار: "اعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة، فلابد من أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله؛ بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حداً لا يجوز الابتداء بمثله، ولا التفضل به
…
وإنما قلنا: إن هذا هكذا؛ لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما ذكرناه، كان يكون القديم تعالى ظالماً
…
" (4).
المناقشة:
أولاً: هذه الشبهة تنبني على أن الإنسان إنما يدخل الجنة مستحقاً بعمله، وقد بينا في الرد على الشبهة الأولى بطلان هذا القول؛ وهو أن الإنسان لا يستوجب بعلمه على الله شيئا. وإذا لم يستوجب بعمله على الله شيئاً لم يتصور ظلم من الله لعبده عندما لا يثيبه على عمله؛ لأن الظلم لا يكون إلا في منع واجب مستحق للغير، والله سبحانه وتعالى لا يستحق عبده عليه شيئاً.
وكونه سبحانه وتعالى أوجب على نفسه ثواباً لعبده لا يتعارض مع هذا، لأنه لو منع ما أوجب لم يعد ظالماً كما لو أوجب إنسان لإنسان آخر مبلغاً من المال ثم بدا له أن لا يعطيه إياه، لم يعتبر عدم إعطائه إياه ظلماً، فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى. ثانيا: أن التكليف تصرف في عبيده ومماليكه، والمالك إذا لم يعط مملوكه أجراً مقابل خدمته لم يعد ظالماً؛ فكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى فإن له المشيئة المطلقة إن شاء أثابهم بمقتضى فضله ورحمته، وإن شاء عاقبهم بمقتضى عدله ولا يمنعه من ذلك مانع، ولا يقدح في إلهيته (5).
وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.
المصدر:
المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 213
(1) رواه البخاري (6467) ، ومسلم (2818).
(2)
رواه البخاري (6267) ، ومسلم (30).
(3)
انظر ((تفسير المراغي)) (4/ 135).
(4)
((شرح الأصول الخمسة)) (ص614، 615).
(5)
انظر ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص185).