الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
هذه هي مشكلة الخوارج الكبرى منذ نشأوا: وطوال عهد الدولة الأموية وزمن متقدم من عهد الدولة العباسية، شغلتهم قضية الإمامة عملياً، فجردوا السيوف ضد الحكام المخالفين لهم، ناقمين عليهم سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار إمامهم بأنفسهم، ثم سياستهم الداخلية في الناس، وشغلتهم فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع، وكانوا يظهرون بمظهر الزاهد عن تولي الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم وحرباً لا هوادة فيها ضد المخالفين لهم.
حكم الإمامة عند الخوارج:
الإمامة منصب خطير وضرورة اجتماعية؛ إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة إلا بحاكم يكون هو المرجع الأخير لحل الخلافات وحماية الأمة، وقد أطبق على هذا جميع العقلاء.
أما بالنسبة للخوارج فقد انقسموا فيها إلى فريقين:
1 -
الفريق الأول: وهم عامة الخوارج. هؤلاء يوجبون نصب الإمام والانضواء تحت رايته والقتال معه ما دام على الطريق الأمثل الذي ارتأوه له.
2 -
الفريق الثاني: وهم المحكّمة والنجدات والإباضية فيما قيل عنهم. وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام إذا تناصف الناس فيما بينهم وإذا احتيج إليه فمن أي جنس كان مادام كفئاً لتولي الإمامة (1).
ومن مبرراتهم:
1 -
استنادهم إلى المبدأ القائل: لا حكم إلا لله، والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً.
2 -
أن الحكم ليس من اختصاص البشر بل تهيمن عليه قوة علوية.
3 -
إن الضروري هو تطبيق أحكام الشريعة، فإذا تمكن الناس من تطبيقها بأنفسهم فلا حاجة إلى نصب خليفة.
4 -
ربما ينحصر وجود الإمام في بطانة قليلة وينعزل عن الأغلبية فيكون بعيداً عن تفهم مشاكل المسلمين فلا يبقى لوجوده فائدة.
5 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشر صراحة ولا وضع شروطاً لوجود الخلفاء من بعده.6 - أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام، وإنما أبان وأمرهم شورى بينهم (2).هذه مبرراتهم، فهل بقي القائلون بالاستغناء عن نصب الإمام على مبدأهم؟ والجواب بالنفي؛ فإن المحكمة حينما انفصلوا ولوا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي، والنجدات حينما انفصلوا تزعمهم نجدة بن عامر، وأما ما قيل عن الإباضية من أنهم يقولون بالاستغناء عن نصب الإمام (3).فإن مصادرهم التي تيسرت لي قراءتها تذكر أن هذا القول إنما نسبه إليهم خصومهم، بقصد الإشاعة الباطلة عنهم (4).
وأما تلك المبررات التي نسبت إلى من ذكرناهم فلا شك أنها مبررات واهية ولا تكفي للقول بالاستغناء عن نصب الخليفة؛ أما القول بعدم وجود الإنسان الكامل؛ فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار أفضل الموجودين.
(1)((مقالات الأشعري)) (1/ 205)، ((مروج الذهب)) (3/ 236).
(2)
((آراء الخوارج)) للطالبي (ص125)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص123).
(3)
كما يذكر لوريمر في كتابه ((دليل الخليج)) (6/ 3303).
(4)
((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص290).
ومن التصور الساذج القول بتناصف الناس فيما بينهم. وأما انعزال الإمام فإن مدار الأمر على التزامه بواجباته الشرعية وعدم إيجاد الحجب بينه وبين رعيته، وذلك مناط الحكم بضرورة وجود الإمام شرعاً وعقلاً. وقد ذهبت الخلفية من الخوارج الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها إمامها، فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين (1) ، ويكون لهذه المناطق أئمة بعدد تلك المناطق وهذا باطل ولا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه، لأن ذلك يؤدي إلى المشاحنات والعداوة وتفريق كلمة المسلمين، وحينما قرروا أن كل إقليم ينبغي أن يكون مستقلا عن الآخر لا يخضع إقليم ولا منطقة لمنطقة أخرى تجاهلوا دعوة المسلمين إلى الاتحاد الذي يكمن فيه عزهم وقوتهم.
شروط الإمام:
وضع الخوارج شروطاً قاسية لمن يتولى الإمامة ومنها:
أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية، مخلصاً في عبادته وتقواه حسب مفهومهم.
أن يكون قوياً في نفسه ذا عزمٍ نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم.
أن لا يكون فيه ما يُخلُّ بإيمانه من حب المعاصي واللهو.
ألا يكون قد حُدَّ في كبيرة حتى ولو تاب.
أن يتم انتخابه برضى الجميع، لا يغني بعضهم عن بعض.
ولا عبرة بالنسب أو الجنس كما يقولونه ظاهراً دعاية لمذهبهم وفي باطنهم يملأهم التعصب، وكون الإمام ينتخب برضى أهل الحل والعقد، وهذا مبدأ إسلامي لم يأت به الخوارج، كما يقول بعض المستشرقين دعاية للخوارج.
ولم يلتفت الخوارج إلى ما صح من الأحاديث في اشتراط القرشية لتولي الخلافة وتقديم قريش فيها عند صلاحية أحدهم لها. ولم يشترط الشرع في الإمام أن يكون ليله قائماً ونهاره صائماً، أو أنه لا يلم بأي معصية، أو أن يكون انتخابه برضى كل المسلمين من أقصاهم إلى أدناهم، لا يغني بعضهم عن بعض في مبايعتهم له كما يزعمه الخوارج (2).
محاسبة الإمام والخروج عليه:
يعيش الإمام عند الخوارج بين فكي الأسد –عكس الشيعة- فالخوارج ينظرون إلى الإمام على أنه المثل الأعلى وينبغي أن يتصف بذلك قولاً وفعلاً، وبمجرد أقل خطأ ينبغي عليهم القيام في وجهه ومحاسبته، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل. ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة البيهسية منهم والعوفية، فقد اعتبر هؤلاء كفر الإمام سبباً في كفر رعيته، فإذا تركه رعيته دون إنكار فإنهم يكفرون أيضاً (3)، ولا شك أن هذا جهل بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا فما تراه من كثرة هروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفيهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة.
وقد حث الإسلام على طاعة أولي الأمر والاجتماع تحت رايتهم إلا أن يُظهروا كفراً بواحاً، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينبغي معالجة ذلك بأخف الضرر، ولا يجوز الخروج عليهم ما داموا ملتزمين بالشريعة بأي حال.
(1) نقلاً عن ((آراء الخوارج)) (ص 128). لكن عموم الإباضية لا تجيز هذا حسب ما جاء في ((مدارج الكمال)) (ص172).
(2)
((مدارج الكمال)) للسالمي (ص171)، ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (ص1/ 71)، ((التفكير الفلسفي)) (1/ 191) للدكتور عبد الحليم محمود، ((آراء الخوارج)) (ص121)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص126).
(3)
((مقالات الأشعري)) (1/ 194)، ((الطرماح بن حكيم)) (ص55)، ((الملل والنحل)) (1/ 126) ، ((الفرق بين الفرق)) (ص109)، ((التنبيه والرد)) للملطي (ص169).
نشأ الخوارج كقوة مستقلة بعد قضية التحكيم - كما قدمنا - وصار لهم نفوذ وكلمة وقوة فعلية كان لها أثرها البالغ في شغل الخلفاء والولاة وتصدع كيان الأمة الإسلامية زمناً طويلاً، وقد كانت مشكلة الإمامة من أهم العوامل التي أدت إلى نشأتهم وشغلت أكبر قسط من نشاطهم منذ أن اختلفوا على إمامة الإمام علي رضي الله عنه وطوال عهد الخلفاء الأمويين وإلى زمن متقدم في الدولة العباسية، وهم ناقمون على هؤلاء الخلفاء سياستهم في الرعية من عدم تمكينهم من اختيار إمامهم بأنفسهم ثم سياستهم الداخلية في الناس.
وقد شغلتهم مشكلة الإمامة فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره في المجتمع وعملياً بالسعي المتواصل ولو بالقوة في سبيل إصلاح سياسة الأئمة، ومن هنا كان الخوارج يزعمون أن خروجهم كان لأجل إسقاط الحكام الظلمة وأئمة الجور - كما يعبرون عنهم - وإقامة حكمهم العادل الذي يطبق أحكام الإسلام كما هي قولاً وفعلاً، وكان خطباؤهم وقوادهم يركزون على هذه الناحية في كل مقال لهم.
فكانوا يرون أن في سكوتهم عن ولاة الدولة الأموية والعباسية وعدم مقاومتهم بكل ما يستطيعون من قوة مداهنة في الدين ورضا بالكفر، وأن دينهم يحتم عليهم مقاومة أئمة الجور مهما كانت التضحيات، ولهذا فهم.
يخوضون معارك يعلمون تمام العلم أنهم لن يخرجوا منها إلا أشلاء، ولكنهم يخوضون غمارها رجاء أن يهدوا من قوة الحكام شيئاً فشيئاً، امتثالاً لما يوجبه عليهم الغضب لله وإعزاز دينه بقتال أولئك الظلمة وإسقاط حكمهم الجائر. وليس لهم – كما يقولون – مطمع من مطامع الدنيا ولا يريدون اكتساب فخر من مفاخرها البراقة التي يسعى إليها أكثر الناس، من جمع الأموال والسيطرة، وبناء القصور الفاخرة، وطلب العيشة الناعمة، التي يتهالك عليها مخالفوهم – كما يقولون -، فليس منصب الخلافة عندهم مغنماً بل هو مسئولية خطيرة أمام الله لا يستهين بها إلا جاهل لا يقدر ثقلها؛ لذا فإنهم عندما يكون الأمر لهم يزهدون عن توليها، ويتدافعون فيما بينهم هرباً من تبعاتها، فمما يذكر عن زهدهم عنها أنهم حينما أرادوا تولية عبدالله بن وهب خليفة عليهم أبى وتحرج من ذلك، ولكنهم كرروا الطلب والإلحاح عليه حتى قبلها؛ قال المبرد:" قال أبو العباس: ذكر أهل العلم من الصفرية أن الخوارج لما عزموا على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي من الأزد تكره ذلك فأبوا من سواه ولم يريدوا غيره، فلما رأى ذلك منهم قال: يا قوم استبينوا الرأي، أي دعوه يغب"(1).ويقول الشهر ستاني: " وكان يمتنع عليهم تحرجا ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزاً فلم يقتنعوا إلا به"(2)، وهذا موقف أول رئيس لهم فكان عمله هذا قدوة لمن بعده؛ إذ كان في نظرهم من أحق أهل الأرض بالخلافة عن جدارة ومقدرة، ومع ذلك فإنه خاف على نفسه وتحرج ولم يقبلها إلا بعد الإلحاح الصادق منهم، فقبلها كما يذكر عن نفسه لا حباً في الإمارة، ولم يدعها خوفاً من الموت، ومما يجدر ذكره أنه لم يقبلها إلا بعد أن عرضت على زملاء له في مثل قدرته وكفاءته لا يختلفون عنه ولكنهم رفضوها رفضاً باتاً، وذلك حينما قرروا الخروج إلى بعض كور الجبال فأخذوا في التشاور وتداولوا الرأي فيما بينهم في انتخاب خليفة لهم، " فقال حمزة بن سنان الأسدي – كما يروي المبرد – " يا قوم إن الرأي ما رأيتم فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنكم لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها، فعرضوها على زيد بن حسين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبدالله بن وهب فقال: هاتوها أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت؛ فبايعوه" (3).
ومثل هذا الموقف موقف آخر كان في زمن الدولة الأموية في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة؛ حيث يروي المحل بن خليفة تدافع الخوارج عن تولي الخلافة، وكان أبرزهم ثلاثة أشخاص هم المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب وحيان بن ظبيان السلمي، ومعاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي.
قال المحل بن خليفة فيما يرويه عنه الطبري: " إن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم: المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي
…
فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي فتشاوروا فيمن يولون عليهم. قال: فقال لهم المستورد: يا أيها المسلمون والمؤمنون أراكم الله ما تحبون وعزل عنكم ما تكرهون، ولوا عليكم من أحببتم فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم، وما شرف الدنيا نريد وما البقاء فيما من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود.
(1)((الكامل)) للمبرد (2/ 105).
(2)
((الملل والنحل)) (1/ 111).
(3)
((الكامل)) للمبرد (2/ 336)، ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 125).
فقال حيان بن ظبيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها، وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض، فانظروا من شئتم منكم فسموه فأنا أول من يبايعه، فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين: إذا قلتما أنتما هذا وأنتما سيدا المسلمين وذووا أنسابهم في صلاحكما ودينكما وقدركما، فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر؟! وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواءً في الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعاً بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر فليتوله أحدكما. قالا: فتوله أنت فقد رضيناك فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن منى فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضرهما من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة فولوا أيكم أحببتم. فليس في الثلاثة رجل إلا قال لصاحبه: تولها أنت فإني بك راض وإني فيها غير ذي رغبة، فلما كثر ذلك بينهم قال حيان بن ظبيان: فإن معاذ بن جوين قال: إني لا ألي عليكما وأنتما أسن مني، وأنا أقول لك مثل ما قال لي ولك لا ألي عليك وأنت أسن مني، أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه، ثم بايعه معاذ بن جوين، ثم بايعه القوم جميعاً" (1).
من هذه المحاورة يظهر عدم رغبتهم في تولي الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم، فإنهم يعتبرونها عبئاً ثقيلاً ومسئولية عظمى أمام الله يوم القيامة. ويذكر المبرد أن مرداساً وأصحابه حينما خرجوا " أرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى فولوا مرداساً (2).ويذكر الباروني أنه بعد وفاة الإمام عبد الرحمن بن رستم تحيروا فيمن سيقبل الخلافة من السبعة الأشخاص الذين عينهم الإمام لتوليها بعده ومن بينهم ولده عبد الوهاب، وأنهم صاروا – كما يذكر – يتداولون الأمر شهراً كاملاً دون أن يتحملها أحد لحرج موقفها فيقول في وصف ذلك: " ثم اجتمع أهل الشورى منهم والصالحون للنظر فيمن يولونه الأمر بعده، ولشدة تحريهم رحمهم الله لم يقصدوا أحداً إلا وتبرأ منها ودفعها علماً بحرج موقفها، وبقي الأمر كذلك موقوفاً نحو شهر كامل لم يثبت لهم فيها قرار ولم يستقر لهم رأي
…
" (3) إلخ.
وأيا كان الرأي في زهدهم عن تولي الإمامة فإنها كانت – كما قلنا – أهل عامل في نشأتهم وكان إصلاح أمرها أهم ما يشغلهم، بياناً لحكمها وشرائطها وكيفية إصلاح سياسة الأئمة فيها على نحو ما سنبينه في هذا الفصل.
المصدر:
الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص393
(1)((تاريخ الطبري)) (5/ 175).
(2)
((الكامل)) للمبرد (2/ 156).
(3)
((الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية)) (2/ 99).