الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: محاسبة الإمام والخروج عليه
يرى الخوارج أن الإمام هو المثل الأعلى، ولهذا فيجب أن يكون متصفاً بذلك قولاً وفعلاً، فإن خطأه ليس كخطأ غيره من الناس، فإذا أخطأ خطيئة ما يجب فوراً محاسبته والخروج عليه، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل ولو أدى هذا إلى قتله؛ فإنه حق مشروع لهم حينئذ. وهكذا يعيش الإمام عندهم بين فكي الأسد يحاسب على كل ما يصدر منه محاسبة دقيقة لا تأخذهم فيه لومة لائم فلا طاعة لجائر؛ لأنهم ينكرون الجور أشد الإنكار ولا يعترفون بإمام يعتقدون أنه قد جار في حكمه، قال الأشعري:" ولا يرون إمامة الجائر"(1)، ويحل عليه الخروج عندهم إذا ارتكب ذنباً ولم يتب منه، أو أظهر جور في حكمه، أو كان فيه تقصير عن إقامة الحدود؛ فإن الخروج عليه حينئذ يكون واجباً وقتاله حق واستشهاد، " فهم مشهور بتشددهم وصرامتهم وجرأتهم في محاسبة رؤسائهم"(2).وإشهار السيف في وجهه ووجوه أتباعه من إقامة الدين وإظهاره عالياً؛ لأن الظلمة لا ولاية لهم، ولا تجب طاعتهم؛ فقد قال تعالى: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، وهذا دليل واضح عندهم على وجوب إقصائه عن الحكم إذا ظلم في حكمه أو جار. يقول الشهرستاني في بيانه لموقف الخوارج من الإمام:" وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله"(3).ويقول البغدادي فيما يرويه عن الكعبي: إن من الأمور التي أجمعت عليها الخوارج إجماعهم على " وجوب الخروج على الإمام الجائر"(4).
وهم كما سبق لا يرون للإمام ميزة إلا إقامة الأحكام الشرعية، ولهذا فمراجعته وانتقاده أمر عادي، ولقد أدت هذه النظرية من سلفهم القديم إلى المغالاة والشطط التي دفعت بذي الخويصرة بغير حق إلى نقد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فيما توهمه ظلماً في توزيع الغنائم. قال ابن حزم في كلامه عن خروج الخوارج على علي ومحاربته وعدم الرضى بخلافته وأن هذا كان بسبب جهلهم وقلة علمهم قال:" ولكن حق لمن كان إحدى يمينه ذو خويصرة الذي بلغ ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله في حكمه والاستدراك، ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وهو يقر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبه اهتدى وبه عرف الدين، ولولاه لكان حماراً أو أضل"(5).
(1)((المقالات)) (1/ 204)، وانظر:((الإسلام والحضارة العربية)) (2/ 62 /63).
(2)
انظر: ((الطرماح بن حكيم)) (ص 55).
(3)
((الملل والنحل)) (1/ 116).
(4)
((الفرق بين الفرق)) (ص 73).
(5)
((الفصل)) (4/ 157).
فإذا كانت هذه حال سلفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن بعده من الخلفاء؟! ولهذا فهم قلما يثبتون على إمام ويخضعون له خضوعاً تاماً إلا قليلاً، فنتج عن هذا الموقف ثم من المواقف الأخرى، وهو كثرة حروبهم مع مخالفيهم أو مع بعضهم البعض – كثرة أئمتهم. ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة العوفية فقد اعتبرت كفر الإمام سبباً في كفر رعيته، وذلك في قولهم:"إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد"(1)؛ لهذا فينبغي أن يحال بينه وبين الحكم عندما يبدو منه أمر مكفر بأي وسيلة كانت، وإلا فقد كفروا هم أيضاً، فلا أشد من هذه المبالغة في تكفير الناس بغير حق، فإذا كفر الإمام بالمشرق فمن أي وجه تكفر رعيته بالمغرب، بل من أي وجه يكفر حتى ولده الذي هو في بيته مادام متمسكاً بالإسلام؟! ومن هذا القبيل ما قاله الملطي حاكياً عن رئيس البيهسية هيصم بن عامر بأنه قد افترى " فزعم أن حكم الإمام بالكوفة حكماً يستحق به الكفر، ففي تلك الساعة يكفر من كان في حكم ذلك الإمام بخراسان والأندلس، وعلى الإمام إذا أبصر كفره فتاب منه أرسل إلى أهل حكمه كلهم يستتيبهم من الكفر وإن لم يشعروا به، فإن أبي أن يتوب منه وقال ما لي أن أتوب مما لا شك فيه ولم أعلم به ضربت عنقه"(2).
(1) انظر: ((المقالات)) (1/ 194، ((الملل والنحل)) (1/ 126، ((الفرق بين الفرق)) (ص 109).
(2)
((التنبيه والرد)) (ص 169، ((الفصل)) لابن حزم (4/ 190).
وهذه أحكام خاطئة لا تصدر إلا عن عقول جاهلة بمعاني الشريعة وأحكامها، وعلى هذا فما تراه من كثرة حروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفيهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة تجاه الإمام؛ فهو عندهم مراقب مراقبة صارمة لا تغتفر له خطيئته، ولا يقبل له عذر في الخطأ إلا بعد الاعتراف والتوبة، أمام طائفة من المؤمنين. فقد " كان المجتمع الإباضي - كما يقول السالمي - يحرص حرصاً شديداً على مراقبة أئمته طيلة الوقت
…
فقد كانت جميع خطواته محسوبة عليه، وغلطة بسيطة غير متعمدة تبدر منه عفواً كانت كافية لإثارة الضجة من حوله، وربما أدت إلى عزله وإن كان الخطأ بسيطاً جداً، فعليه أن يعترف به أمام كبار أعلام المسلمين وأن يطلب المغفرة من الله وأن يتوب إليه، وقد قيل بأن كبار العلماء قاموا بمحاسبة الإمام عزان بن قيس لأنه أرسل إلى بلده الرستاق بعض القطع النحاسية التي كسبوها في المعركة، وقد اعترف بخطئه وطلب المغفرة من الله" (1).ومع أن النص يشير إلى الغلو والتشدد المفرط، إذ أن الخطأ اليسير غير المتعمد يكون كافياً لإثارة الضجة والمداولات العنيفة التي قد تؤدي إلى عزل الإمام وسقوطه، وما يتبع سقوطه من فتن ومخاوف- لا يرى الإباضية أن هذا تشدداً بل هو مثل عليا تمثل عصر الخلفاء الراشدين في بساطتهم وعدلهم، كما يذكر السالمي ذلك عن فرقة الإباضية فيقول: " وبحكم بساطتها وعدم غلوها ومثلها العليا استطاعت أن تعيش حتى يومنا هذا، واستطاعت أن تقيم حكم الإمامة الذي انقطع بموت الخلفاء الراشدين وأن توصل حبله" (2).وإضافة إلى ما ذكره السالمي فيما سبق فإن الأشعري يقول عنهم:" ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف"(3).ولكننا نجد من علماء الإباضية من ينكر أن يكون من رأيهم وجوب الخروج على الأئمة الجورة، بل من رأيهم جواز الخروج وعدمه، وأيضاً يستثنون من جواز الخروج إذا لم يؤد ذلك إلى فتنة أكبر من فتنة الخروج عليه، وإن نازعهم في صحة هذا الاستثناء بعض الكتاب المحدثين، مثل أحمد صبحي الذي اعتبر قول الإباضية المتأخرين وخصوصاً علي يحيى معمر بأنه يجوز الخروج إذا لم يؤد ذلك إلى فتنة أكبر- أنه لم يكن من آراء الخوارج الأصلية – بما فيهم الإباضية واتهم علي يحيى معمر بتقريب مذهب الإباضية إلى مذهب الأشعرية القائلين بهذا التحفظ (4).
ولكننا نجد نصوصاً كثيرة من علماء الإباضية تشهد لما ذهب إليه علي يحيى من جواز الخروج على الأئمة ما لم تكن فتنة أكبر. قال أبو يعقوب الوارجلاني: " وأجزنا الخروج عليهم والكون معهم، فإن خرجنا عليهم قاتلناهم حتى نزيل ظلمهم على البلاد والعباد، وإن لم نخرج عليهم ورضينا بالكون معهم وتحتهم فجائز لنا"(5).ويقول قطب الأئمة محمد يوسف أطفيش: " ونحن بعد لا نقول بالخروج على سلاطين الجور الموحدين، ومن نسب إلينا وجوب الخروج فقد جهل مذهبنا "(6).ويقول علي يحيى معمر: " يجب على الأمة المسلمة أن تقيم دولة عادلة، فإذا كانت الدولة القائمة جائزة جاز البقاء تحت حكمها وتجب طاعتها في جميع ما لا يخالف أحكام الإسلام، على أنه ينبغي للمسلمين أن يستنيموا على الظلم وإنما ينبغي لهم أن يحاولوا تغيير الحكم إذا كان ذلك لا يسبب في إحداث أضرار جسيمة بالأمة "(7).
(1)((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 126).
(2)
((عمان تاريخ يتكلم)) (ص 128).
(3)
((مقالات الأشعري)) (1/ 204).
(4)
((الإباضية بين الفرق)) (ص 456).
(5)
نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 289).
(6)
نقلاً عن ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص 291).
(7)
((الإباضية بين الفرق)) (ص 292).
ويقول أبو يعقوب الوارجلاني أيضاً: " اعلم يا أخي أن مذهب أهل الدعوة في الخروج على الملوك والظلمة والسلاطين الجورة جائز وليس كما تقول السنية أنه لا يحل الخروج عليهم ولا قتالهم، بل التسليم لهم على ظلمهم أولى. قالوا: وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قول أهل الدعوى أنه جائز الخروج عليهم وقتالهم ومناصبتهم والامتناع من إجراء أحكامهم علينا إذا كنا في غير حكمهم، وأما إذا كنا تحت حكمهم فلا يسعنا الامتناع في كثير من أحكامهم، وإن أردنا الشراء والخروج جاز لنا"(1).ويقول الثعاريتي عن الإمام: " وللأمة عزله بموجب كأن يقع منه ما يخل بأمور المسلمين، فإن أدى عزله إلى الفتنة ارتكب أخف الضررين"(2).
وبعد فهل كان الخوارج فيما ذهبوا إليه من وجوب الخروج على الحكام – هل كانوا فيه على صواب أم على خطأ؟ وذلك بالاستناد إلى ما ورد من نصوص واضحة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقبل إيراد بعض تلك النصوص نقول: إنه لا يخفى على أحد مقدار الخسارة التي تلحق بالأمة حين يخرج بعض الناس على الإمام الشرعي، ويؤيده البعض الآخر وما ينتج عن هذا من تشتت الكلمة ودخول الأهواء في كل أمر، وتعاظم الحقد في صدور الناس وسفك الدماء المستحقة والبريئة على حد سواء من جراء تلك الفتن الأهلية، كما وقع ذلك في كل وقت من الأوقات التي يغلب فيها الجهل على العلم والظلم على العدل ولهذا فقد حث الإسلام على الوحدة واجتماع الكلمة.
يقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، ويقول الله تعالى آمراً عباده بالتعاون فيما بينهم على الخير واجتناب الشر: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2].
وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر إذ أنه لابد لكل مجتمع من وال لأمرهم يكون مرجعاً في قضاياهم، وإلا لفسد الأمر واختل النظام ووقعت الفوضى وبطل تنفيذ شرع الله، فلهذا أوجب طاعتهم التامة بعد أن أمر بطاعته هو جل وعلا وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [النساء: 59] والولاة من أولي الأمر.
وقد وردت عدة أحاديث تشير إلى وجوب طاعة أولي الأمر وتحريم الخروج عليهم، ومنها: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) (3)، أي أنه اعتبر طاعة الأمير كأنها طاعة له وعصيانه كأنه عصيان له.2 - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) (4)؛ فقد أوجب صلى الله عليه وسلم طاعة الأمير مهما كان جنسه أو لونه أو منزلته عند الناس، ما دام أنه قد نصب أميراً شرعياً على الأمة.3 - قال صلى الله عليه وسلم في التحذير من مفارقة الجماعة بالخروج على الإمام: عن ابن عباس يرويه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) (5).
(1)((الإباضية بين الفرق)) (ص 458).
(2)
((الإباضية بين الفرق)) (ص 485).
(3)
رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835).
(4)
رواه البخاري (693).
(5)
رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة كلها توجب طاعة أولي الأمر لتتم وحدة الأمة ويقوم كيانها به، على أنه وإن تظاهرت الأحاديث بطاعة أولي الأمر والرضا بحكمهم، إلا أن تلك الطاعة ليست على إطلاقها فقد قيدت طاعة الحاكم بما إذا كان ملتزماً لحكم الله غير آمراً بالمعصية، أما إذا كان بخلاف ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية خالقه تعالى. يقول صلى الله عليه وسلم:((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) (1).4 - عن علي رضي الله عنه قال: ((بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأمّر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني قالوا: بلى، قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطباً فأوقدوا فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض فقال بعضهم: إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فراراً من النار أفندخلها؟! فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف)) (2).
وهذا اللفظ في البخاري وقد أورد مسلم عدة روايات في مثل هذا المعنى، وهي واضحة في عدم طاعتهم في المعصية المحرمة.
إلا أنه لا ينبغي أن يفهم منها أنه بمجرد ارتكاب الحاكم المعصية يباح الخروج عليه كما ترى ذلك الخوارج، إذ أن المعاصي لا يمكن أن يخلو عنها بشر، فإذا أبيح الخروج على الحاكم لأنه عصى سترتكب حينئذ من المعاصي أضعاف ما ارتكب، إضافة إلى أن خلفه الذي سينصب لابد وأن يعصي معصية ما فيفضي ذلك إلى الفوضى وارتكاب المنكرات فيضعف الدين، وتبطل حكم التشريع الربانية.
فلا يجوز الخروج على الحكام ما داموا ملتزمين بالشريعة محافظين على الصلاة وسائر شعائر الإسلام، إلا أن يظهروا كفراً بواحاً فيه دليل لنا عليه من كتاب الله وسنة نبيه، أو أن يأمروا الناس بترك شعيرة من شعائر الإسلام كالصلاة أو الحج وغيرهما من شعائر الإسلام، أو يأمرونهم بفعل المعاصي.
المصدر:
الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها لغالب عواجي– ص422
(1) رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840).