الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
وبعد، فتلك هي فرقة "المعتزلة" في ماضيها وحاضرها، في أفكارها ومعتقداتها، في مبادئها وآرائها ومناهجها. وإن كان لنا أن ندعو الشباب إلى الحذر من تلك السموم وإلى توخي الحرص عند الاستماع لأي دعوى من دعاوى العقلانية أو التجديد أو عدم التعصب أو الحرية – وإن تدثرت برداء الإسلام خداعا لأهله – فإننا ننبه إلى أنه في تلك الدعوات خيبة الدنيا وخسرانها قبل الآخرة وعذابها، ذلك أن منهج الكلام ومباحث الاعتزال هي في حقيقة أمرها مباحث نظرية بعيدة كل البعد عن الناحية التطبيقية العملية، والإسلام إنما يدعو البشر إلى الاعتقاد السهل البسيط بوحدانية الله تعالى، واتخاذه – سبحانه – إلها يعبد في كافة مناحي الحياة ثم يفتح الباب على مصراعيه للاجتهاد في استغلال ما في الأرض جميعا والسير في مناكبها والنظر في آيات الآفاق والأنفس، ليرتفع في مدارج الرقي والقوة والإنتاج فيسود العالم كله ويستعلي عليه استعلاء القوة كما استعلى عليه استعلاء الإيمان، فلا يذهب بقوته في الصراع والتناحر حول معان نظرية مجردة لا عمل تحتها – كالعرض والجوهر وما إلى ذلك – ولا فائدة من ورائها. والحقيقة أن دعاة تلك المذاهب إنما يدفعون المسلمين إلى الاستغراق في النظريات المجردة فتبعد بهم عن مجالات العمل والتطبيق وتظل قواهم مبعثرة وأراضيهم مستعمرة وشرعهم معطلا.
إن كبار العلماء في الغرب قد أدركوا – منذ زمن – أن لعبة المباحث النظرية لا تؤدي إلا إلى الضعف، وأن دعاوى الحرية والتقدم بناء على تلك النظريات إنما هي شرك يكفل تردي البشرية - لصالح فئة منها - في مهاوي التخلف والتناحر مادامت الحياة، وهو ما هدانا إليه رب العالمين حين أنزل المنهج الأمثل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وحين تلقفه منه صحابته رضوان الله عليهم فانطلقوا به "عاملين" في مشارق الأرض ومغاربها فبنوا أكبر دولة على مر التاريخ في أقصر فترة زمنية! وإننا لنتساءل – ونسأل أولئك الدعاة لمنهج الاعتزال – أين هي الدولة التي قامت على مثل تلك الفروض والمباحث الكلامية النظرية؟! وإنما كان نصيب الدولة الإسلامية التفتت والمحنة يوم أن تبنت السلطة تلك النظريات في عهد المأمون العباسي. ولله در الإمام مالك حين عبر عن روح الإسلام في كلمته الجديرة بالتخليد:"أكره الكلام فيما ليس تحته عمل"(1). وقوله: "أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم "(2) وقوله: "وأكره أن ينسب أحد حتى يبلغ آدم ولا إلى إبراهيم"(3).
(1)((سير أعلام النبلاء)) (8/ 88)، و ((مذاهب الإسلاميين)) لبدوي (1/ 30).
(2)
((الجامع)) أبو زيد القيرواني (259).
(3)
((سير أعلام النبلاء)) (16/ 104).
ويقول الإمام الأوزاعي: "بلغني أن الله إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".بل إن ذلك كان وعي السلف الصالح من أئمة الإسلام حين نهوا عن الخوض في الكلام وامتنعوا عن المشاركة فيه كالشافعي وأحمد وغيرهما – ممن ذكرنا طرفا منهم في مقدمة بحثنا هذا – لما عرفوا أن ذلك الأمر إلى جانب ابتداعه فهو صارف للمسلمين عما هو نافع لهم في دينهم ودنياهم على حد سواء، بل تلك هي عبرة اندفاع الصحابة رضوان الله عليهم في الفتح والتقدم لما أعرضوا عما نهوا عنه مما لا طائل تحته، وبعد أن وعوا الحكمة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر)) (1).
ثم لنستمع إلى شهادة أحد أكابر علماء الغرب القلائل الذين وضعوا أيديهم على الداء البشري وهو الدكتور الكسيس كاريل حيث يقول: "مهما كانت براعة المذاهب "النظرية" التي يبتدعها العقل، فإنها لا تعدو أن تكون نظرات جزئية، وأشباحا باهتة للواقع. وليس هناك مذهب فلسفي قط استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس، وقوانين الحياة التي تستنبط من مثل تلك المبادئ ليست إلا فروضا وإذا أردنا تجنب الوقوع في الخطأ وجب علينا أن نستخلص قوانين الحياة من ملاحظة الحياة نفسها"(2).
ويبين كاريل بعدها مسار العقل الإنساني في اختياره للمباحث النظرية السهلة وما يجلبه ذلك من ضرر فيقول: "كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والاجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي الذي ساد في القرن الثامن عشر على نتائج العلم الواضحة، فارتضينا أن نأسن وسط "المعاني المجردة" ولعل كسل الإنسان الطبيعي هو الذي دفعه إلى اختيار المعاني المجردة الهينة. وذلك لأن الملاحظة أشق من الاستدلال، وهذا هو السبب في أن البشرية كانت دائما تميل إلى اللعب بضروب التجريد"(3).ثم يؤكد على أن الفلسفة ومناهجها هي التي تزري بالمناهج الأصلية للبشرية في العلم والعمل: "ولا شك أن فلاسفة عصر النور – أي عصر النهضة – هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوربا وأمريكا، فراحوا باسم العقل يزرون بجميع النظم التقليدية، وبذلك وسموا هذه القيود في أعين الناس بميسم الشناعة، وحينئذ بدأت المرحلة الأخيرة من الصراع ضد القواعد التي رضي أسلافنا بأن تهيمن على سلوكهم"(4).
(1) رواه ابن حبان (15/ 118)(6724) ، والحاكم (1/ 88) ، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (2/ 401)، قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علة ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/ 205): رجال البزار رجاله صحيح. وقال السيوطي في ((الخصائص الكبرى)) (2/ 148): إسناده صحيح. وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (225): قال البزار قد رواه جماعة فوقفوه على ابن عباس.
(2)
((تأملات في سلوك الإنسان)) (47).
(3)
((تأملات في سلوك الإنسان)) (7).
(4)
((تأملات في سلوك الإنسان)) (1).
وسبحان الله العظيم! كيف يدور الزمن دورته فيحاول "فلاسفة" عصرنا و"علمائه" أن يعيدوا تمثيل ما حدث في أوربا منذ ثلاثة قرون أو أكثر، فيمكنوا لعبادة "الحرية" ويزدروا مناهج سلفنا الصالح! أليس ذلك كفعل الببغاء الذي عقله في أذنيه!؟. ثم يعلن كاريل في قوة ووضوح أن زيف المباحث النظرية هو السبب الأصيل وراء تدهور الحضارة فيقول:"ولذلك كان انتصار المذاهب النظرية تأكيدا نهائيا لهزيمة الحضارة"(1).وإن كان كاريل قد شهد بذلك، فإننا نسوق شهادة واحد من أعتى المستشرقين وأكثرهم حقدا على الإسلام وأهله، وهو هاملتون جب حيث يقول:"إن تركيز الفكر العربي على الأحداث الفردية، جعل العلماء المسلمين معدين للتعمق في المنهج الاختياري العلمي أكثر من أسلافهم الإغريق والإسكندرانيين. إن الملاحظات المفصلة التي قام بها باحثوا الإسلام قد ساهمت بشكل ملموس في تقدم المعرفة العلمية، بل إنها المصدر الذي أعاد المنهج التجريبي إلى أوربا في العصر الوسيط"(2).
فيا للعجب! ألم يكن أجدر "بفلاسفتنا" أن يدركوا من روح الإسلام ما أدركه ذلك الخبيث!! وصدق القائل (عدو عاقل. .).
ونكتفي بهذا القدر من الشهادة لاثنين من أكابر علماء الغرب، وما كنا لننقل عن أحد من تلك الأمم، ولكن الشهادة التي يقر بها المخالف أكبر قيمة - في صدقها – من تلك التي يدلي بها الموافق. وإن في الحضارة الغربية آفات قاتلة تتركز في مناهجها ونظرياتها وسلوكياتها، وإن كان فيها من المباحث العلمية والمناهج التطبيقية والتقدم التكنولوجي ما يجب على المسلمين الأخذ به والتسابق في تعلمه وتطويره – إن أمكن – فهم أولى البشر بالأخذ بأسباب القوة وتجنب مواطن الضعف.
وإنها لحكمة جد عزيزة غالية نقدمها للمخلصين من أبناء هذا الجيل من الإسلاميين؛ أن لا تقيموا وجهة نظركم على الرفض الكامل، ولا على الموافقة التامة في كل الأحوال بل إن التوسط والاعتدال هو سبيل هذه الطائف الناجية المنصورة بإذن الله.
إن هناك دائما حق بين صفوف الباطل، وحيثما وجد الحق فنحن أولى به من الغير إذ أنه ينتمي لأمة الإسلام دون غيرها.
إن القدرة على أن نفرق بين ما نأخذ وما ندع، من ذلك الحصاد الهائل للبشرية إنما يكمن - في حقيقته - في إدراك المنهج الإسلامي الصحيح وما يدعو إليه، وفي دراسة سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم دراسة واعية لأحداثها وعبرة تلك الأحداث، والله سبحانه وحده هو القادر على أن يكشف عن المسلمين الغمة، وأن يعيد إليهم القدرة على صحة الحكم، ودقة النقد فهم جد محتاجين إلى ذلك في مواجهة تلك التيارات التي يعج بها العصر. إنه سميع مجيب.
المصدر:
المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 141
(1)((تأملات في سلوك الإنسان)) (11).
(2)
((الاتجاهات الحديثة في الإسلام لهاملتون جب)) (33).