الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة
لقد أيد المعتزلة رأيهم في الشفاعة بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي:
أولاً: الشبهات النقلية:
الشبهة الأولى:
قال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 48].
وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "الآية تدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم له، ولا ينصره؛ لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب، وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم، لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم، فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع الشفاعة للمؤمنين أيضاً، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى، فكان لا يصح أن يقول تعالى:
…
لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً
…
الآية، ولما صح أن يقول: .... وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
…
الآية. وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم. ولما صح أن يقول:
…
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
…
؛ لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب
…
أعظم من كل فداء يسقط به ما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه .. ولما صح أن يقول:
…
وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ، وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة. فالآية دالة على ما نقوله من جميع هذه الوجوه" (1).
المناقشة:
إن استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باطل؛ وذلك لأن الشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكافرين، ويدل على ذلك ما يلي:
أولاً: إجماع المفسرين على أن المراد بالنفس في قوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً
…
الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس، فهي من العام الذي أريد به الخاص. يقول القرطبي: "أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
…
الآية. النفس الكافرة، لا كل نفس
…
" (2).ويقول الطبري: "قوله تعالى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ .. الآية إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله عز وجل" (3).ويقول ابن الجوزي: "قوله تعالى:
…
لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً
…
الآية قالوا: المراد بالنفس ههنا: النفس الكافرة، لا كل نفس؛ فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص
…
" (4).ويقول ابن كثير: "قوله تعالى:
…
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ
…
الآية يعني من الكافرين، كما قال تعالى: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48]. وقوله تعالى:
…
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
…
الآية [البقرة: 48] أي: فدية كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
…
الآية [آل عمران: 91]. ثم قال: فقد أخبر الله تعالى أنهم لما لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ويتابعون على ما بعثه الله به ووافوا الله يوم القيامة فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة شافع، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض
…
" (5).
(1)((متشابه القرآن)) (1/ 90، 91).
(2)
((تفسير القرطبي)) (1/ 379، 380).
(3)
((تفسير القرطبي)) (2/ 33).
(4)
((زاد المسير)) (1/ 77).
(5)
((تيسير العلي القدير في اختصار تفسير ابن كثير)) (1/ 50).
فإذا كان المراد بالنفس في الآية النفس الكافرة، فالشفاعة المنفية في الآية الشفاعة للكفار، لا للعصاة؛ وإذاً فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. ثانياً: تظاهر الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (1). وأنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس من نبي إلا وقد أعطي دعوة وإني قد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة - إن شاء الله - منهم من لم يشرك بالله شيئا)) (2).وإذا ثبتت الشفاعة لأهل الكبائر؛ فلابد من أن تكون الشفاعة المنفية في الآية؛ إنما هي الشفاعة للكفار جمعاً بين الآية والحديث (3).ثالثا: ويؤيد أن الآية في الكافرين - أيضاً - أن الخطاب فيها مع قوم كافرين، وهم اليهود الذين كانوا يعتقدون أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، فنزلت هذه الآية لرد هذا الاعتقاد، وبيان أنه لا ينفعهم عنده إلا التوبة إليه من كفرهم والإنابة من ضلالهم، وجعل ما سن فيهم من ذلك إماماً لكل من كان على مثل منهاجهم؛ لئلا يطمع ذو إلحاد في رحمته (4).
وإذاً فالشفاعة المنفية في الآية: إنما هي الشفاعة للكافرين لما ذكرت من إجماع المفسرين على أن الآية خاصة بالكافر، ولأن الخطاب فيها مع قوم كافرين، وهي سنة لمن سلك نهجهم، ولتظاهر النصوص المثبتة للشفاعة لأهل الكبائر. وعليه فيبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. والله أعلم.
الشبهة الثانية:
قال تعالى:
…
مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18].
وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "إن الله تعالى بين في هذه الآية أن الظالم لا يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين لتحصل لهم مزية في التفضل وزيادة في الدرجات مع ما يحصل له صلى الله عليه وسلم من التعظيم والإكرام"(5).
المناقشة:
(1) ذكره السيوطي في ((الجامع الصغير)) ونسبه لأحمد وأبي داود، والترمذي، وابن حبان والحاكم عن أنس. انظر ((شرح المناوي الكبير)) (ص163)، (برقم 4892). يقول أحمد شاكر: حديث صحيح. انظر ((تفسير الطبري)) (2/ 33) الحاشية.
(2)
انظر ((الترغيب والترهيب)) (1/ 378).
(3)
انظر ((تفسير القرطبي)) (1/ 378)، و ((الطبري)) (2/ 33).
(4)
((تفسير الطبري)) (2/ 33)، و ((زاد المسير)) (1/ 77)، بتصرف.
(5)
((متشابه القرآن)) (2/ 600).
يقال لهم: أولاً: المراد بالظالمين في الآية: الكاملون في الظلم؛ وهم الكافرون (1)، لقوله تعالى:
…
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. يقول ابن الجوزي: " مَا لِلظَّالِمِينَ يعني الكافرين"(2). وقد قال بمثل هذا القول كل من ابن جرير (3)، وابن جزي الكلبي (4).كذلك قال الباقلاني بمثل ما قال به (5) ابن الجوزي، واستدل بالآية:
…
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. ثم قال: ( .... ولهذا نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ
…
الآية [الأنعام: 82]. حزن الصحابة رضي الله عنهم حتى قالوا: وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس هو كما تظنون، إنما هو من قول لقمان لابنه
…
يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13])) (6). فدل أن لا شفاعة تنفع الكافر والمؤمن بخلاف ذلك، وإن كانت له سيئات
…
" (7). انتهى كلام الباقلاني بتصرف.
من هذا العرض يظهر لنا أن المراد بالظالمين في الآية هم الكافرون، فعلى ذلك فالشفاعة المنفية هنا إنما هي منفية عن الكفار، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فيبطل الاستدلال بالآية. والله أعلم.
ثانياً: أن لفظ الظالمين؛ إما أن يفيد الاستغراق، وإما ألا يفيد. فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم، ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع، لأن بعض هذا المجموع هم الكفار، وليس لهم شفيع؛ فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع. وإن لم يفد الاستغراق؛ كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفاً بهذه الصفة، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع، وهم الكافرون؛ وإذاً فعلى كلا الاحتمالين فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة لأصحاب الكبائر (8).ثالثا: أن الله تعالى نفى في الآية شفيعاً يطاع، وهذا لا يدل على نفي الشفيع، ألا ترى أنك إذا قلت: ما عندي كتاب يباع، لا يلزم منه نفي الكتاب. ثم إن الآية تدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله تعالى؛ لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله تعالى حتى يقال: إن الله يطيعه (9). وإذا فنفي الشفيع المطاع لا يقتضي نفي الشفاعة، وعليه فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر؛ وبذلك يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.
الشبهة الثالثة:
قال تعالى:
…
وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى
…
الآية [الأنبياء: 28].
وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "
…
الآية تدل على أن الشفاعة لا تكون إلا لمن كانت طرائقه مرضية، وأن الكافر والفاسق ليسا من أهلها" (10).
(1)((روح المعاني)) (24/ 59).
(2)
((زاد المسير)) (10/ 77).
(3)
((تفسير الطبري)) (2/ 33).
(4)
((التسهيل لعلوم التنزيل)) (4/ 7).
(5)
انظر ((التمهيد)) (ص371)، و ((الإنصاف)) (ص154).
(6)
رواه البخاري (3360) ، ومسلم (124) ، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(7)
((الإنصاف)) (ص154)، بتصرف.
(8)
((التفسير الكبير)) (27/ 32).
(9)
((التفسير الكبير)) (27/ 32).
(10)
((متشابه القرآن)) (2/ 499).
المناقشة: يقال لهم: إن معنى الآية: ولا يشفعون إلا لمن رضي الله سبحانه وتعالى أن يشفعوا له وأذن فيه (1)، ومن ارتضاه الله للشفاعة هم الموحدون. يقول ابن عباس والضحاك: إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى أي: لمن قال: لا إله إلا الله (2). ويدل على أن الآية في الموحدين قوله تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 87]. يقول المفسرون: إلا من قال لا إله إلا الله.
فإن قالوا: المرتضى: هو التائب الذي اتخذ عنه الله عهداً بالإنابة إليه؛ بدليل أن الملائكة استغفروا لهم. قال تعالى:
…
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر: 7]. وكذا شفاعة الأنبياء عليهم السلام إنما هي لأهل التوبة دون أهل الكبائر. قلنا: عندكم يجب على الله تعالى قبول التوبة، فإذا قبل الله توبة المذنب، فلا يحتاج إلى الشفاعة، ولا إلى الاستغفار. وأيضاً: فقد أجمع أهل التفسير على أن المراد بقوله تعالى:
…
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
…
الآية من الشرك
…
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
…
الآية [غافر: 7] سبيل المؤمنين سألوا الله أن يغفر لهم ما دون الشرك من ذنوبهم، كما قال تعالى:
…
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
…
الآية [النساء: 48].
وعلى ذلك؛ فالآية ليس فيها نفي للشفاعة، وإنما حصر لها الموحدين، وصاحب الكبيرة مما سوى الشرك موحد، وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. والله أعلم.
الشبهة الرابعة:
قال تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ [الزمر: 19].
وجه الدلالة: يقول القاضي عبدالجبار: "
…
الآية تدل على أن من أخبر الله تعالى أنه يعذبه لا يخرج من النار، فإذا صح أنه أخبر بذلك في الفجار والفساق، فيجب ذلك فيهم
…
ويدل أيضاً: على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لهم؛ لأنه لو شفع لهم لوجب أن يكون منقذاَ من النار، وقد نفى الله تعالى عنه ذلك" (3).
المناقشة: يقال لهم: إن الآية في أهل الكفر والضلال، وليست في أهل التوحيد والإيمان. يقول الطبري: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
…
الآية [الزمر:19]. أفمن وجبت عليه كلمة العذاب في سابق علم ربك يا محمد بكفره
…
" (4). وكلمة العذاب: هي قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85].فإذا كانت الآية في الكافر، فلا دلالة فيها على نفي الشفاعة عن صاحب الكبيرة، لأنه ليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وكيف يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب مع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
…
الآية [النساء: 48]. وقوله تعالى:
…
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار)) (5)(6). وغيرها من النصوص الدالة على الوعد بالمغفرة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً.
وصاحب الكبيرة ليس بمشرك. فإذاً فالآية ليست في صاحب الكبيرة، وعليه فيبطل الاستدلال بها على نفي الشفاعة لصاحب الكبيرة.
(1)((التسهيل)) (3/ 53)، و ((تفسير أبي السعود)) (6/ 64)، و ((تفسير القرطبي)) (11/ 380، 381)، بتصرف.
(2)
((التفسير الكبير)) (22/ 160).
(3)
((متشابه القرآن)) (2/ 592).
(4)
((تفسير الطبري)) (23/ 133).
(5)
رواه مسلم (29) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(6)
انظر ((التفسير الكبير)) (2/ 263).
وعلى التسليم بأن هذه الآية في أهل الكبائر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينقذ أحداً بنفسه، وبدون مشيئة الله وإذنه؛ بل لا يشفع إلا لمن ارتضى الله وأذن بالشفاعة له، وصاحب الكبيرة ممن ارتضى الله أن يشفع له؛ لأنه موحد كما بينا في مقام سابق. والله أعلم.
ثانياً: الشبهات العقلية:
من الشبهات العقلية التي تمسك بها المعتزلة في إنكار الشفاعة لأهل الكبائر ما يلي:
الشبهة الأولى: يقول القاضي عبدالجبار: "لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والحال ما تقدم؟! "(1).
المناقشة:
هذه الشبهة باطلة لما يلي: أولاً: أن الأدلة الدالة على دوام العقوبة عامة، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصة، والخاص مقدم على العام، فوجب القطع بأن النصوص الدالة على الشفاعة مقدمة على العمومات الدالة على دوام العقوبة (2)، وبهذا يزول الإشكال وتبطل هذه الشبهة.
ثانياً: هذه الشبهة تنبني على القول بتخليد الفاسق في النار، وقد سبق عرض شيء من الشبهات الواردة حول هذا عند الكلام على رأي المعتزلة في الوعيد، وإبطالها، فإذا بطل الأصل بطل الفرع، والله أعلم.
الشبهة الثانية: يقول الرازي: "واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه
…
إلى أن قال: وسابعها: أن الأمة مجمعة على أن ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام، ويقولون في جملة أدعيتهم:"واجعلنا من أهل شفاعته" فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر؛ لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر" (3).ويقول القاضي عبدالجبار: "
…
أليس أن الأمة اتفقت على قولهم: اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق، وذلك خلف" (4).
المناقشة: يقول القرطبي - في معرض الرد على هذه الشبهة -: "إنما يطلب كل مسلم شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرغب إلى الله في أن تناله لاعتقاده أنه غير سالم من الذنوب، ولا قائم بكل ما افترض الله عليه، بل كل واحد معترف على نفسه بالنقص، فهو لذلك يخاف العقاب ويرجو النجاة. قال صلى الله عليه وسلم: ((سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحداً الجنة عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا. إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)) (5) (6).ويقول الرازي: "أما قول المسلمين: اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فالجواب عنه: إن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب، وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق، ودفع المضار المستحقة على المعاصي؛ وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً، فاندفع السؤال" (7).
من رد القرطبي والرازي، يظهر ما يلي:-
أولاً: أن طلب المسلمين الشفاعة لاعتقادهم عدم السلام من الذنوب.
ثانياً: أنه لا يزم من طلب المسلم الشفاعة الدعاء بالختم للإنسان مصراً على الكبائر؛ لأن تأثير الشفاعة إنما هو في جلب أمر مطلوب، وهو القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي، وبهذا يزول الإشكال، وتبطل الشبهة.
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (ص689).
(2)
((الأربعين في أصول الدين)) (ص400، 423)، بتصرف.
(3)
((التفسير الكبير)) (3/ 63، 64، 65).
(4)
((شرح الأصول الخمسة)) (ص692).
(5)
رواه البخاري (6467) ، ومسلم (2818).
(6)
((تفسير القرطبي)) (1/ 380، 381).
(7)
((التفسير الكبير)) (3/ 74).
الشبهة الثالثة: يقول القاضي عبدالجبار: "
…
إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع لصاحب الكبيرة، فإما أن يشفع أو لا. إن لم يشفع لم يجز؛ لأنه يقدح بإكرامه. وإن شفع فيه لم يجز أيضاً؛ لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلاً" (1).
المناقشة:
قولكم: "وإن شفع فيه لم يجز
…
" ينبني على أن المكلف لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وإنما يدخلها بعمله، وأنه متى عمل عملاً صالحاً وجب على الله إدخاله الجنة، وإذا لم يعمل لم يجز أن يدخله الله إياها، وهذا القول باطل لما يلي: أولاً: أما كون الإنسان لا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، فيبطله قوله تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ
…
الآية [فاطر: 35]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لن ينجي أحدكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)). (2) فإذا دخول الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته (3)، وإنما العمل سبب في تفضل الله على عبده بإدخاله الجنة. وأما بطلان الوجوب على الله، فلاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً.
وإذا ثبت أن الإنسان يدخل الجنة بفضل الله ورحمته، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، فلا يوجب عليه أحد شيئاً، فلا مانع أن يشفع الله نبيه في من شاء من عباده من أهل التوحيد المرتكبين للكبائر لتظاهر الأحاديث بثبوت الشفاعة لهم، كما بيناه في مقام سابق.
وإذا ثبت أن الله يشفع نبيه فيهم؛ بطل قولكم، "وإن لم يشفع فيه لم يجز
…
" لأن الشفاعة قد ثبتت، فلا مكان لهذا الاحتمال. وعليه فتبطل شبهتكم هذه. والله أعلم.
الشبهة الرابعة: يقول القاضي عبدالجبار: "ما قولكم فيمن حلف ليفعل ما يستحق به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة ويصير من أهل الفسوق والعصيان"(4).
المناقشة:
يقول الباقلاني: والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
أحدهما: أنا نأمره بالتمسك والإيمان دون فعل الذنوب؛ لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب، وهذا مثل أن يشفعوا زيداً في ذنب صديقه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك، لا يقال: إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة لا نفس الذنب. ونأمره أيضاً بالطاعة حتى ينال بذلك شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الزيادة له من البر والنعيم، ونحو ذلك.
الثاني: أنا نعارضكم بمثل قولكم، فنقول لكم ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]. فحلف ليفعلن فعلاً يجب عليه فيه التوبة والاستغفار
…
فإن قالوا: نأمره بالطاعة وفعل الخير، قلنا لهم: هذا لا يصح، لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة والاستغفار من فعل الخير بإجماع المسلمين.
وإن قلتم: نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار، فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه، فقد استحللتم ما حرم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم: لا نأمره بفعل المعصية، ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له: قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم: نحن أيضاً نقول: لمن حلف ليفعلن فعلاً يجوز أن يشفع له فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. نقول له: تمسك بالطاعة والإيمان، فإن ابتليت بشيء من المعاصي، فقد خرجت من اليمين، ويجوز أن يشفع لك الرسول صلى الله عليه وسلم، لا أن نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه (5). انتهى كلام الباقلاني بتصرف. وبذلك تبطل هذه الشبهة. والله أعلم.
المصدر:
المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها - ص 236
(1)((شرح الأصول الخمسة)) (ص689).
(2)
رواه البخاري (6463) ، ومسلم (2816).
(3)
انظر ((المواقف)) (8/ 376).
(4)
((شرح الأصول الخمسة)) (ص693).
(5)
((الإنصاف)) (ص175 - 176)، بتصرف.