الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصه
أما عن زيادة الإيمان ونقصه عندهم، فإنهم حين قالوا بتكون الإيمان من العناصر الثلاثة السالفة الذكر، وتلك يتفاوت الناس في الإتيان بها من ناحية التكاليف، إذ الناس يتفاوتون في التكليف، فقد يكلف أحدهم بما لم يكلف به الآخر، وذلك مثل الزكاة فإن التكليف بها يخص الغني دون الفقير، إذ الفقير لا مال لديه حتى يزكيه، وكذلك الصلاة فإن الصحيح المعافى مكلف فيها بما لم يكلف به المريض وذلك كالقيام، والوضوء ونحوها، ولهذا فإن الإنسان قد يزيد إيمانه على إيمان غيره بزيادة التكاليف في حقه لعدم قدرة الآخر عليها، فإذا الإنسان المسلم يزيد إيمانه وينقص عند المعتزلة من هذا الوجه. يقول القاضي عبد الجبار بن أحمد بعد سوقه آية الأنفال السالفة الذكر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال 2 - 3]، إن هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد وينقص على ما نقوله، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين، فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير، فتجب صحة الزيادة والنقصان، وإنما يمتنع ذلك لو كان الإيمان خصلة واحدة هو القول باللسان أو اعتقادات مخصوصة بالقلب (1).ويقول في كتاب (المختصر في أصول الدين):(فإن قال: أفتقولون في الإيمان أنه يزيد وينقص؟ قيل له: نعم، لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه. وقد وصف الله تعالى الصلاة بذلك فقال: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143] كما وصفه دينا فقال: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) (2) ، و ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) (3) فجعل من الإيمان ترك السرقة، فبطل قول المرجئة في أن الإيمان قول فقط، أو قول واعتقاد، وأنه لا يزيد ولا ينقص وعلى هذا المذهب يصح تفاضل العباد في الإيمان، فيكون إيمان الرسول عليه السلام أعظم من إيمان غيره على قولنا، وعلى قولهم لا يصح) (4).
فإذا مذهب المعتزلة هو القول بزيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف فالزيادة والنقصان عندهم شيء نسبي بين المكلفين فذاك الشخص إيمانه أكثر من إيمان هذا لأن ذاك كلف بشيء زائد لم يكلف به الآخر، والآخر غير مؤاخذ على تركه لأنه لم يكلف به لعدم قدرته عليه، أو لوجود مانع يمنع من ذلك كالحيض للنساء، مثلا، ومن هذا يتبين لنا أن الإنسان الواحد عندهم لا يتصور في إيمانه زيادة ولا نقصان إلا بالنسبة لغيره فالزيادة في كم الإيمان لا في كيفه، لهذا فإنه يظهر من مذهبهم أنهم يوافقون المرجئة في القول بأن الإيمان القلبي لا يزيد ولا ينقص لأن التكليف فيه واحد على المكلفين جميعا. ولهذا تبدو مخالفتهم للسلف في هذه المسألة من عدة وجوه:
(1)((متشابه القرآن)) (1/ 312).
(2)
رواه أحمد (3/ 135)(12406) ، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وحسنه البغوي في ((شرح السنة)) (1/ 100) ، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7179).
(3)
رواه البخاري (5578) ، ومسلم (57) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
((المختصر في أصول الدين)) تحقيق عمارة (1/ 247).
1 -
إن الزيادة والنقصان في الإيمان نسبية بين الأشخاص فزيد أكثر إيمانا من عمرو، لأن زيدا غني فهو مكلف بأمر زائد وهو الزكاة التي لم يكلف بها عمرو لفقره. والشخص الواحد لا يزيد إيمانه بالطاعة وينقص بالمعصية: لأن المعصية أمر يخرجه من الإيمان بالكلية.
2 -
إن المعصية لا اعتبار لها في زيادة الإيمان ونقصه – كما ذهب إليه السلف لأنها عند المعتزلة تخرجه من الإيمان وتخلده في النار.
3 -
إن الزيادة في الكم الذي يكون بطاعات الجوارح وتكاليفها، أما الكيف فلا زيادة فيه ولا نقصان لاستواء المكلفين في وجوب التصديق القلبي الذي لا تجزئة فيه، ولعدم قبوله للزيادة والنقصان عندهم. وقد استدل المعتزلة على مذهبهم في زيادة الإيمان ونقصه من ناحية التكاليف بما تقدم وروده من آيات في النصوص التي نقلتها عن القاضي عبد الجبار ووجه استدلالهم بها:
أن الإيمان إذا كان عبارة عن تلك الخصال المذكورة، والناس يتفاوتون في التكليف بها، فإن الإيمان يزيد وينقص من هذا الوجه، أما الأحاديث التي ذكرها فإن وجه استدلاله بها على هذا الرأي غير واضح لأن السرقة كبيرة وعندهم يسلب صاحبها اسم الإيمان ويخلد في النار، وكذلك ترك الأمانة، والتكليف بها واحد بين الناس. فجميع المسلمين مكلفون باجتناب السرقة لما فيها من اعتداء على أموال الغير، وكذلك واجب على الكل مراعاة التخلق بالأمانة والاتصاف بها. نعم استدل السلف بهذين الحديثين وأمثالهما على زيادة الإيمان ونقصه، ولكنهم لا يرون سلب مرتكب الذنب الكبير من الإيمان بالكلية، والقول بتخليده في النار كما فعل المعتزلة، لذلك كان استدلالهم سائغا مقبولا، فإذا هذه الأحاديث وأمثالها حجة على المعتزلة لا لهم.
وجعل المعتزلة ترك السرقة وفعل الأمانة من الإيمان لا غبار عليه ولا اعتراض، ولكن كيف يقال: إن الناس المتفاوتين في ترك السرقة متفاوتون في الإيمان، مع أن السرقة أمر محرم واجب على جميع المكلفين اجتنابه، وعلى مذهب المعتزلة فاعل السرقة لم يعد مؤمنا فكيف يقال بأن الإيمان تاركها أكثر من إيمانه مع أن فاعلها لم يعد معه إيمان يمكن المفاضلة بينه وبين إيمان التارك. فإذا مثل هذين الحديثين لا دليل فيه للمعتزلة بل دليل عليهم، لأن فيها نفي للكمال الدال على وجود الإيمان الناقص، والله أعلم.
المصدر:
الإيمان بين السلف والمتكلمين لأحمد الغامدي – ص 129