المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المبحث الثاني: بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة

- ‌المبحث الثالث: رأي المعتزلة في أفعال العباد

- ‌المبحث الرابع: أفعال التولد

- ‌المبحث الخامس: رأي المعتزلة في اللطف والصلاح والأصلح ومناقشتهم

- ‌المطلب الأول: مسالة اللطف

- ‌المطلب الثاني: مسألة الصلاح والأصلح

- ‌المبحث السادس: رأي المعتزلة في بعثة الرسل

- ‌الفصل الرابع: الأصل الثالث الوعد والوعيد

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في الوعد

- ‌المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الوعد مع المناقشة

- ‌المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوعيد

- ‌المطلب الأول: شبهات المعتزلة التي أيدوا بها رأيهم في الوعيد مع المناقشة:

- ‌المبحث الثالث: حقيقة الشفاعة ورأي المعتزلة فيها

- ‌المطلب الأول: عرض ما تيسر من شبهات المعتزلة التي يؤيدون بها رأيهم في الشفاعة مع المناقشة

- ‌المبحث الرابع: الإحباط والتكفير عند المعتزلة ومناقشتهم

- ‌المطلب الأول: رأي المعتزلة في الإحباط

- ‌الفصل الخامس: الأصل الرابع المنزلة بين المنزلتين

- ‌الفصل السادس: الأصل الخامس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌المبحث الأول: رأي المعتزلة في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأقسامه

- ‌المطلب الأول: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة وأقسامه:

- ‌المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحكم الخروج على السلطان وقتال المخالف لهم، وهل يفرقون بين قتال الكافر والفاسق

- ‌المبحث الثالث: مناقشة رأي المعتزلة في الوسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع بيان رأي أهل السنة:

- ‌المبحث الأول: حقيقة الإيمان عند المعتزلة

- ‌المبحث الثاني: الصلة بين الإيمان والإسلام

- ‌المبحث الثالث: زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المبحث الرابع: منهج المعتزلة في تعامله مع اللغة العربية لتقرير العقائد

- ‌المبحث الأول: منهج المعتزلة في تفسير القرآن الكريم

- ‌المبحث الثاني: موقف المعتزلة من السنة

- ‌المبحث الثالث: صور من انحرافات المعتزلة عن السنة

- ‌المبحث الأول: التطور الفكري للمعتزلة

- ‌المبحث الثاني: التطور السياسي للمعتزلة

- ‌المطلب الأول: نشأة الفرقة وتكونها في العصر الأموي

- ‌المطلب الثاني: المعتزلة في العصر العباسي

- ‌المطلب الثالث: المعتزلة بعد المتوكل

- ‌المطلب الرابع: المعتزلة في عصر البويهيين

- ‌المبحث الأول: وظيفة العقل في الإسلام

- ‌المبحث الثاني: مجال العقل في الإسلام

- ‌المبحث الثالث: نشأة الفرق العقلية

- ‌المبحث الرابع: مفهوم العقل عند المعتزلة

- ‌المبحث الخامس: من مباحث المعتزلة المجافية للعقل والمخالفة للسنة

- ‌المبحث الأول: موقف المعتزلة من الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌المبحث الثاني: أثر أصولهم الخمسة العقدية في آرائهم الأصولية

- ‌المبحث الثالث: مناقشة المعتزلة في خوارق العادات

- ‌المبحث الرابع: موقف المعتزلة من الحكمة والتعليل

- ‌المبحث الخامس: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لإبطال صفة الكلام

- ‌المبحث السادس: بين المعتزلة والقدرية والجهمية

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: نماذج من تأويلات المعتزلة لنصوص الصفات والقدر

- ‌المطلب الثاني: مقارنة بين منهج المعتزلة ومنهج الجهمية في التأويل

- ‌المطلب الثالث: ذكر شبه المعتزلة في القول بخلق القرآن ونقضها

- ‌المطلب الرابع: أفول المدرسة العقلية القديمة:

- ‌المطلب الخامس: موقف السلف من المعتزلة وتأويلاتهم

- ‌المبحث الثامن: المعتزلة في ميزان أئمة السلف

- ‌المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال

- ‌المبحث الثاني: نشأة المدرسة العقلية الحديثة

- ‌المطلب الأول: جمال الدين الأفغاني

- ‌المطلب الثاني: محمد عبده

- ‌المبحث الرابع: أثرها في الفكر الإسلامي الحديث

- ‌المبحث الخامس: موقف المدرسة العقلية الحديثة من السنة النبوية

- ‌المبحث السادس: موقف علماء المسلمين منهم

- ‌المبحث السابع: موقف الاستعمار البريطاني منهم واعترافه بما قدموه له من خدمات

- ‌النتيجة

- ‌الخاتمة

- ‌الفصل الأول: وجود الخوارج في الماضي والحاضر

- ‌المبحث الأول: تعريف الخوارج لغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف الخوارج اصطلاحا

- ‌الفصل الثالث: نشأة الخوارج

- ‌الفصل الرابع: أسماء الخوارج

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: النزاع حول الخلافة

- ‌المبحث الثاني: قضية التحكيم

- ‌المبحث الثالث: جور الحكام وظهور المنكرات بين الناس

- ‌المبحث الرابع: العصبية القبلية

- ‌المبحث الخامس: العامل الاقتصادي

- ‌المبحث السادس: الحماس الديني

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: نشأة فرق الخوارج وأسبابها

- ‌المبحث الثاني: مناهج مؤرخي الفرق في ذكر فرق الخوارج

- ‌المطلب الأول: المحكمة

- ‌المطلب الثاني: الأزارقة

- ‌المطلب الثالث: النجدات

- ‌المطلب الرابع: الإباضية

- ‌المطلب الخامس: البيهسية

- ‌المطلب السادس: الصفرية

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: حركات الخوارج على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النهروان

- ‌المبحث الثاني: حركات الخوارج الثورية ضد الحكم الأموي

- ‌المبحث الثالث: حركات الخوارج الثورية على الدولة العباسية

- ‌المبحث الأول: شجاعتهم وسرعة اندفاعهم

- ‌المبحث الثاني: مبالغتهم في العبادة والزهد

- ‌المبحث الثالث: فصاحتهم وقوة تأثيرهم

- ‌المبحث الرابع: صدقهم في الحديث

- ‌المبحث الخامس: ميلهم إلى الجدل وقوتهم فيه

- ‌المطلب الأول: بين العقل والشرع في التحسين والتقبيح

- ‌المطلب الثاني: بين ظاهر النص والتأويل

- ‌تمهيد

- ‌1 - صفات الله تعالى

- ‌2 - رؤية الله تعالى

- ‌3 - القول بخلق القرآن

- ‌4 - القدر

- ‌1 - وجود الجنة والنار قبل يوم القيامة

- ‌2 - عذاب القبر

- ‌3 - الشفاعة

- ‌4 - الميزان

- ‌5 - الصراط

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: حقيقة الإيمان

- ‌المطلب الثاني: زيادة الإيمان ونقصه

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين الإسلام والإيمان

- ‌المطلب الأول: الحكم بتكفير العصاة كفر ملة

- ‌المطلب الثاني: الحكم بتكفير العصاة كفر نعمة

- ‌المطلب الثالث: حقيقة القول بالمنزلة بين المنزلتين عند الإباضية

- ‌المطلب الرابع: وجوب الوعد والوعيد

- ‌المطلب الخامس: أدلة الخوارج على تكفير العصاة والرد عليها

- ‌أ- أدلتهم من الكتاب والرد عليها:

- ‌ب- أدلة الخوارج من السنة والرد عليها:

- ‌المطلب السادس: أدلة الإباضية على تكفير المذنبين كفر نعمة والرد عليها

- ‌المطلب السابع: تعقيب على آراء الخوارج في أمر العصاة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: حكم الإمامة

- ‌المطلب الثاني: وحدة الإمامة

- ‌المطلب الثالث: شروط الإمام

- ‌المطلب الرابع: محاسبة الإمام والخروج عليه

- ‌المطلب الخامس: رأي الخوارج في إمامة المفضول

- ‌المطلب السادس: رأي الخوارج في إمامة المرأة

- ‌المطلب السابع: الفرق بين الخوارج والشيعة في الإمامة

- ‌المبحث السادس: آراء الخوارج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌تمهيد:

- ‌أ- القول بعدم جواز التقية

- ‌ب- القول بجواز التقية قولا وعملا

الفصل: ‌المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال

‌المبحث الأول: المدرسة العقلية الحديثة وفكر الاعتزال

وللمعتزلة – أو بالأصح فكر الاعتزال – شأن في عصرنا الحديث، ولولا ذلك الشأن ما اجتهدنا في التعريف بهذه الفرقة وأفكارها ومبادئها ولاعتبرناها من الفرق التي اندثرت في التاريخ؛ ذلك أن فضح مباحثها من خلال فكر الشيعة الرافضة أو تزييف مناهجها من خلال مناهج الأشاعرة إنما يتم في ثنايا الرد على الرافضة وغيرهم في مباحثهم ومناهجهم، وإنما اعتبرنا بيان الأصول العقائدية والقواعد المنهجية للاعتزال لما أطل خلفهم في عصرنا هذا برؤوسهم، ونادوا بما ادعته المعتزلة من مناهج واتخذوا من سبيل المدح لهم والثناء على "تحررهم" و "عقلانيتهم"! ذريعة إلى نشر آرائهم الفاسدة، والاستتار تحت شعار الاعتزال لدس السم في الفكر الإسلامي التوحيدي السليم.

نعم! قالوا: أليس المعتزلة من "المسلمين"؟! ألا يحق لنا الاقتباس منهم والرجوع إليهم؟! وما لنا "نجمد" مع الجامدين من الفقهاء والأئمة والمحدثين من السلف ونلتزم طريقهم ولا نقتبس عن المعتزلة "المسلمين" مواقفهم"العقلية""الثورية""التحررية" التي تتناسب ومقتضيات عصرنا الراهن؟! تلك هي مجمل دعواهم وملخص قولهم الذي أرادوا به القضاء على عقيدة المسلمين والتفافهم حول كتابهم من خلال تلبيس الحق بالباطل – بعد أن نجحت جهودهم في إزاحة شريعة الحق عن الساحة – وهو شأن المفسدين في كل زمان ومكان.

وقد بدأت جذور ذلك الأمر تظهر في البلاد الإسلامية السنية بعد أن ذاعت المبادئ الثلاثة التي أطلقها الصهاينة من خلال الثورة الفرنسية ليتمكنوا من خلالها من هدم الخلقية البشرية عامة وإقامة المجتمع اليهودي على أنقاضها، وهي مبادئ "الحرية – المساواة – العدل".

"والحرية" تعني أن يتحرر الإنسان من كل القيم والأعراف والأديان ويفعل ما يحلو له كالبهيمة، وإن تمحك دعاتها في معاني الحرية السياسية أو الفكرية التي لم يقف الإسلام حائلا في سبيلها يوما من الأيام داخل الإطار الشرعي لها.

"والمساواة" تعني أن لا فرق بين مسلم ونصراني ومجوسي بل الكل مشتركون في صفة الإنسانية فهم إخوة بهذا المعنى، ولا معنى للتفريق بينهم بسبب العقيدة، فلنسقط الأديان كلها باسم المساواة، وليتحد البشر باسم الإنسانية! وسبحان القائل وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وقال: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فكيف السبيل للاتحاد مع أمثال هؤلاء من المشركين!؟

ص: 220

"والعدل" يعني نزع الثروات من أيدي مالكيها بدعوى سلامة التوزيع وردها إلى فئة من اليهود المسيطرين على الاقتصاد العالمي كله، وما تجارب الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية إلا أفكارا يهودية في أصلها ومنشئها. وقد ساعدت على نشر الأفكار الهدامة المؤسسات التي أقامها الصهاينة لتكون شعارا لهم ينشرون من ورائه تلك الخبائث كنوادي الروتاري والليونز، وهي مؤسسات ماسونية تنتشر في العالم كله لامتصاص طاقته وثرواته واجتذاب علية القوم فيه للاستفادة منهم. وقد سرت عدوى "التحرر" و "العقلانية" وأمثالها إلى الوطن الإسلامي نتيجة الاختلاط بين الشرق والغرب في مطلع القرن الماضي عن طريق البعثات التعليمية وغيرها، فتأثر تلامذة البعثات بما وجدوه في أوربا ونقلوا ذلك في كتبهم – بقصد أو بدون قصد – كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، إلى أن جاء دور جمال الدين الأسد آبادي – المعروف بالأفغاني – وهو إيراني المولد والمنشأ تربى في أحضان علماء الرافضة (1) – وقد قام بالعديد من الأعمال التي كان لها أسوأ الأثر في العالم الإسلامي رغم ما يحلو للبعض من المسلمين "الطيبين" أن يدعوه باسم "باعث الشرق"! وباعث الشرق هذا كان مؤسسا ورئيسا لأكبر محفل ماسوني في الشرق، وترقى في درجات الماسونية إلى أعلى المراتب. يقول محمد محمد حسين:"وإلى جانب ذلك كله نجد إشارات صريحة في كتاب لأحد كبار رجال الماسونية في مصر ومن المعروف أنها دعوة تخدم الصهيونية العالمية – تؤكد أن جمال الدين كان رئيسا لمحفل كوكب الشرق الماسوني، كما تؤكد أن محمد عبده كان عضوا في هذا المحفل"(2).وينقل أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح) عن جمال الدين قوله: "أول ما شوقني للعمل في بناية الأحرار عنوان كبير خطير (حرية – مساواة – إخاء) وإن غرضها منفعة الإنسان"!! (3).وقد تكشفت حقيقة جمال الدين هذا لعلماء تركيا الذين اطلعوا على رفضه وخبثه فطردوه من بلادهم ورموه بالكفر من أمثال الشيخ مصطفى صبري مفتي الدولة العثمانية وغيره من العلماء (4).

ولا مجال للإطالة في الحديث عن جمال الدين هذا إلا بمقدار ما ينبغي أن نعرفه كأستاذ لمحمد عبده صاحب المدرسة العقلية الاعتزالية – التي اصطلح على تسميتها بالمدرسة الإصلاحية! - والتي ظهرت أوائل هذا القرن في مصر وخرج من تحت عباءتها كثير من الكتاب الذين اتهموا بالدخل في دينهم من بعد مثل طه حسين، الذي وضع كتاب الشعر الجاهلي فحشاه بالكفر البواح وحوكم بسببه في مصر وعزل من عمله بالجامعة.

(1)((الإسلام والحضارة الغربية)) محمد محمد حسين، ((دعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان)) (380) مصطفى فوزي.

(2)

((الاتجاهات الوطينة)) (1/ 339).

(3)

((زعماء الإصلاح)) (73).

(4)

((دعوة جمال الدين في الميزان)) (12 وما بعدها)((موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين)) لمصطفى صبري، الجزء الرابع.

ص: 221

ثم تتابعت الكتابات الهدامة المستترة تحت ستار الاعتزال والتحرر والعقلانية تنخر في جسد الأمة المسلمة بعد أن سقطت الخلافة – التي كانت آخر درع يتقي به كيد المفسدين- فظهرت كتابات طه حسين عن الشعر الجاهلي ثم عن مستقبل الثقافة في مصر وضرورة نبذ التقاليد الشرقية جملة وتفصيلا. كذلك كتابات قاسم أمين عن تحرير المرأة، وقد تمحك هؤلاء بلفظ الحرية ودعوى العقلانية والتقدم، وامتدحوا الاعتزال والمعتزلة واعتبروهم الأجدر بالاتباع في "تراثنا الإسلامي"!.تساءل أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام):"والآن يحق لنا أن نتساءل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟ "(1). ثم أعلن أنه ليس في صالحهم القضاء على الاعتزال، بل كان من الواجب على المعتزلة والمحدثين أن يستمرا كحزبين أحدهما تقدمي والآخر محافظ! ليستفيد المسلمون من كليهما! (2) وما أبعد هذا الفكر عن الفهم الإسلامي المستوحى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تقرر أن هناك طائفة واحدة منصورة ظاهرة على الحق وأنها وحدها الناجية دون سائر الفرق الاثنتين والسبعين!.ويعلن أحمد أمين في صراحة:" في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"(3).

ولم يكن هذا الرأي، الذي عبر عنه أحمد أمين، بشأن دور الاعتزال وأهميته وضرورة تبني المسلمين له في طرق البحث ومنهاجه، رأيا ارتآه وحده بل عرف عند كثير من غيره من الكتاب الذين لمعت أسماؤهم في هذه الحقبة الأخيرة من الزمان. فهذا كاتب آخر وهو زكي نجيب محمود – الذي تبنى الوضعية المنطقية كنظرية يدين بها – بزعم أنه إن كان لنا أن نحيي جزءا من تراثنا الإسلامي فليكن هو الاعتزال. يقول في (تجديد الفكر العربي):"يبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها. . أعني أن يرثها في طريقتها ومنهاجها عند النظر إلى الأمور هي جماعة المعتزلة التي جعلت العقل مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر"(4).ويؤكد ذلك بعد صفحات فيقول: "فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطا فكريا ليتمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة"(5).

(1)((ضحى الإسلام)) (3/ 202).

(2)

((ضحى الإسلام)) (3/ 203).

(3)

((ضحى الإسلام)) (3/ 207).

(4)

((تجديد الفكر العربي)) (117).

(5)

((تجديد الفكر العربي)) (123).

ص: 222

وهذا المسكين قد وقع في خطأ كان لابد له من الوقوع فيه نظرا لانشغاله طوال حياته بالفكر الغربي دراسة وتحليلا وتسلية كما عبر بنفسه في مقدمة كتابه المذكور إلا سنوات قليلة أخذ "يعب فيها التراث عبا" على عجل بنظر المستشرقين لا بنظر المؤمن، هذا الخطأ هو اعتقاد أن أهل السنة والجماعة كانوا يقفون بالمرصاد لمحاولات إعمال العقل في مجال الطبيعة والحياة بحرية وانطلاق، وهو أمر ما كان في يوم من الأيام، وإنما يشهد التاريخ أن الصراع بين أهل السنة وبين غيرهم من الفرق الضالة كان بسبب إدخال العقل في مجال الغيب أولا، ومحاولة تحكيمه في نصوص الشارع الثابتة التي توجه الحياة البشرية بكليات وقواعد قد رضيها الله سبحانه لخلقه – وهو أعلم بهم – ثانيا، أما في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية فعلى أمثال هؤلاء المفسدين إبراز دليل واحد يستدلون به على وقوف أهل السنة والجماعة في وجه تلك العلوم أو عدم إعمال العقل فيها، وحتى مهاجمة أهل السنة للفلاسفة إنما كانت في الجانب الميتافيزيقي الذي خاضوا فيه غمار العلوم الإلهية بعقولهم القاصرة فخرجوا إلى الكفر البواح كما فعل ابن سينا والفارابي، بينما لم ينكر أحد على ابن سينا وضعه لكتاب (القانون) في الطب مثلا، وإنما ادعاءات هؤلاء كلها محض باطل وتجن وهوى، ولما كان الإسلام يعالج في مبادئه وأساسياته قواعد اجتماعية وتشريعات دولية وسياسية واقتصادية تصادمت في كثير منها مع تلك الاتجاهات الهدامة، كان لهم في المواقف الاعتزالية التي قدمت العقل فيما لا يمكن الحكم فيه خير سند في دعواهم للقضاء على الشريعة الإسلامية والنهج الرباني.

وقد تناثرت تلك الدعاوى عن المعتزلة في العديد من أعمال بعض الباحثين المحدثين، كما ذكرنا، فمدحوا الاعتزال وتابعوا المستشرقين ونقلوا عنهم ما أوردوه في تحسينه وتزيينه.

ص: 223

يقول عرفان عبد الحميد في كتابه (دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية) تحت عنوان أهمية المعتزلة في الفكر الإسلامي: "المعتزلة أول مدرسة كلامية ظهرت في الإسلام وكان لها دور كبير في تطوير الفكر الديني والفلسفي فيه، فهي التي أوجدت الأصول العقلية للعقيدة الإسلامية!! وجعلت للنزعة العقلية في الفكر الإسلامي مكانة مرموقة، ورفعت من شأن العقل وأحكامه وقدرته في الوصول إلى الحقيقة"(1)، ولا نحتاج إلى التعليق، حيث سبق أن بينا موقف أهل السنة من "العقل" ومجالاته، وبينا المجال الذي عملت فيه النزعة العقلية في الإلهيات فأنتجت ذلك الضلال والانحراف. ولكن أنى لمثل هذا الباحث أن يتفهم موقف الإسلام في مثل تلك الأمور وهو ينقل عن المستشرقين نص كلامهم مرتئيا له وموافقا عليه، فيقول:"والمعتزلة تمثل أول محاولة في الفكر الإسلامي تعرضت لمسألة الصلة بين الحقائق الدينية وأحكام العقل وذلك (بقوة فكرية عجيبة وثبات عظيم وحاولت حلها بطريقة مبتكرة) " وما بين القوسين منقول عن سوزانا فلزر في مقدمة كتاب (المعتزلة) وواضح تبنيه لهذا الرأي الاستشراقي! فالله الله في المسلمين وعقائدهم أيها الباحثون المجددون. ويقول عبد الستار الراوي في مقدمة كتابه (فلسفة العقل) عن الحركة الاعتزالية: "حركة ثقافية تتخطى المذهبيات المغلقة، تنتهج في جدلياتها الكلامية "الحرية" (2) وأنها "تقيم الأدلة المنطقية على عقم الاتجاهات السلفية ومواقفها الوثوقية! " (3).ومعنى قوله "مواقف السلف الوثوقية" هو وثوق أهل السنة وأتباع السلف بقيمة النص إزاء العقل ووثوقهم من مقررات النصوص الثابتة القطعية. ثم يقول في بيان شرحه لموقف الإمام أحمد إزاء محاوريه من المعتزلة إبان المحنة وتمسكه بالنصوص الثابتة: "ولما حاصرته براهين المعتزلة العقلية أقر بعجز عقله غير المدرب عن رد جدلياتهم الكلامية في مسألة الصفات يقول: لا أدري. هو (الله) كما وصف نفسه لا أزيد عن ذلك شيئا!! " (4).

ولله درك يا إمام، فقد ضاق عقل شانئيك بعد اثني عشر قرنا من أن يفهموا معنى موقفك، وحقيقته الذي حافظت به على قيمة النص الشرعي وأوقفت محاولات التلاعب بدين الله.

ولو ذهبنا نتتبع هذا التيار الذي انتشر في الكتابات الحديثة لطال الحديث ولكننا نكتفي بما ذكرنا ليكون دليلا وشاهدا على صحة ما ذهبنا إليه من محاولة الفكر الاعتزالي العودة إلى السطح – من خلال مفاهيم التحرر والتقدم والعقلانية – محمولا على أقلام بعيدة كل البعد عن منهج الإسلام الصافي الأصيل.

(1)((دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)) (125).

(2)

((فلسفة العقل للراوي)) (5).

(3)

((فلسفة العقل للراوي)) (5).

(4)

((فلسفة العقل للراوي)) (24).

ص: 224

ومما يدعو للأسف أن هذا الاتجاه – بشكل أقل حدة – قد تعدى إلى بعض الفضلاء ممن ينتمون للحركة الإسلامية في عصرنا، فالدكتور عدنان زرزور يقدم رسالته عن الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير وينقل ثناء الشيخ محمد أبو زهرة على المعتزلة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية) مؤيدا هذا الثناء فيقول:"قال – أي أبو زهرة – حفظه الله: أولا: إن هؤلاء – أي المعتزلة – يعدون فلاسفة الإسلام حقا لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها غير خالعين للشريعة ولا متحللين من النصوص"! (1).كما إنه يدعو "للإفادة من منهج المعتزلة العقلي – ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى - في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء عنه على حد سواء"!! (2) فهل يا ترى في منهج المتكلمين وطريقة المعتزلة ما يدفع به عن الإسلام بحق؟! ثم يدعي الدكتور عدنان دعوى عريضة خالف فيها منطوق ومفهوم نصوص ثابتة صريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث الفرق الثلاثة والسبعين وحديث الفرقة المنصورة الذي رواه مسلم فقال: "وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كل من خالفها في شيء ضالا مبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر، وليست مهمتنا الانتصار لفرقة على أخرى أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق"! (3).والعجب العجب مما قاله! فقد اشتملت هذه الفقرة وحدها على ثلاثة أخطاء مركبة أولها: قوله: أنه لا توجد فرقة واحدة فهمت العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل! فأين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)) رواه مسلم (4)، وأين قوله صلى الله عليه وسلم:((ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة إحداها الناجية)) رواه الترمذي (5)، وأين فرقة أهل السنة والجماعة التي من زعمائها أئمة الإسلام مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم وابن كثير ومحمد بن عبد الوهاب. . وغيرهم كثير كثير ممن اتفقت عقائدهم وإن اختلفوا في بعض الفروع!؟ وهل للعقيدة الإسلامية بهذا القدر من الصعوبة ليتعذر فهمها على أي طائفة طوال هذه القرون؟!.

أوليس معنى ما تقدم من أنه "حتى يكون من خالفها في شيء ضالا ومبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء" إنكارا صريحا لوجود أهل الأهواء ابتداء إذ أين نذهب بأقوال أئمة الإسلام التي تحذر من اتباع أهل الأهواء والبدع؟ وكفانا في ذلك مراجعة ما أورده الشاطبي في الاعتصام الجزء الأول عن أهل الأهواء والتحذير منهم وكلام أئمة السنة فيهم. . ونترك للقارئ المسلم الحكم على صحة أقواله وتقييمها من خلال ما طالع في ثنايا بحثنا.

(1)((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (21).

(2)

((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (18).

(3)

((عدنان زرزور، الحاكم الجشمي)) (18).

(4)

رواه مسلم (1920).

(5)

رواه الترمذي (2640) دون لفظة: (إحداها الناجية).

ص: 225

ثانيها: قوله: ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب والتفريط في جانب آخر!.ونقول: بل إن سمة أهل السنة الوسطية لا إلى إفراط ولا إلى تفريط كما وصفهم ابن تيمية بقوله: "وهم (أهل السنة والجماعة) وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين بالقدر والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله. وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد وما فضل الله به الأبرار على الفجار. وهم وسط في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم الذين يقول فيه بإلهية أو نبوة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه وهم خيار هذه الأمة"(1).

وثالثها: قوله: "وليست مهمتنا اليوم الانتصار لفرقة على أخرى. . ".

ويقول: بل إن مهمتنا الأساسية في الحياة هي إظهار عوار الباطل الذي تشتمل عليه أقاويل تلك الفرق الاثنتين والسبعين، كما أن مهمتنا مناهضة الإلحاد والكفر سواء بسواء، والمقبول من العمل هو ما كان خالصا صوابا؛ خالصا لوجه الله تعالى وصوابا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتلفيق ومحاولة التقارب المزعوم بين الفرق هو بمثابة الطعن في صحة عقيدة الحق التي عليها أهل السنة والجماعة؛ عقيدة السلف الصالح؛ وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

‌المصدر:

المعتزلة بين القديم والحديث لمحمد العبده وطارق عبد الحليم – ص 125 يرى بعض الباحثين أن الجهمية والمعتزلة من الطوائف التي عاشت في الساحة الإسلامية ردحاً من الزمن ثم اختفت، وأن مناقشة أفكارهم وعقائدهم صراع مع الرميم يتنزه عنه العقلاء، فنجد بعضهم يعقد في كتابه مبحثاً بعنوان:"من أسباب اضمحلالهم" فيذكر بعض الأسباب، ثم يقول: ولعل مما عجل بانقراضهم كثرة اختلافاتهم" ويقول آخر: "إذا كان الإسلام لا يتعارض مع العقل فما المدى الذي يسمح فيه للتفكير العقلي في أصول الدين، حتى لا تتكرر مأساة اختفاء المعتزلة" ويقول:"قام المعتزلة بدور رئيسي في الحياة العقلية للحضارة الإسلامية منذ القرن الثاني إلى القرن الخامس الهجري، حتى تواروا بعد ذلك عن مسرح الفكر" ثم يطمئن نفسه بأن تراث المعتزلة باق فيقول: "وقد قام الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة بن سليمان ت 614هـ أحد أئمة الزيدية باليمن بإرسال دعاته إلى خارج اليمن لاستنساخ الكتب والمصنفات التي توافق مذهب الزيدية، وخاصة مؤلفات المعتزلة، بذلك حفظت لنا مكتبات اليمن وأقبيتها، تراث المعتزلة"(2).

(1)((الجواب الصحيح)) (1/ 8).

(2)

د. أحمد محمود صبحي: ((مباحث في علم الكلام)) (ص842، 387، 393) على التوالي، والأقبية: جمع قبو، بناء تحت الأرض تنخفض حرارته في الصيف. ((المعجم الوسيط)) 2/ 713).

ص: 226

ويقول د. يوسف القرضاوي – مقللاً من أهمية بقاء الحوار مع المتكلمين المؤولة-: "ولهذا قلت لإخواننا العلماء في قطر والمملكة العربية السعودية حين سمعت بعضهم يجادل في قضية الصفات بين السلف والخلف، وما فيها من جدل وكلام طويل الذيول: إن المعركة اليوم ليست مع الأشاعرة ولا مع الماتريدية، ولا المعتزلة والجهمية، إن معركتنا اليوم مع الملاحدة الذين لا يؤمنون بإله ولا نبوة، ولا كتاب، ليست معركتنا مع الذين يقولون عن الله: ليس له مكان، بل مع الذين يقولون: ليس له وجود، وعلينا أن نخلقه كما قال أحدهم! ليست معركتنا مع الذين يؤولون صفات الله تعالى، بل مع الذين يجحدون الله بالكلية، وأي تحويل للمعركة عن هذا الخط يعتبر توهيناً للصف، وفراراً من الزحف، وإعانة للعدو. ومن الإنصاف أن أقول: إني وجدت تجاوباً رائعاً من علماء قطر، والمملكة العربية السعودية نحو هذا الاتجاه، فيما عدا القليل منهم."(1).

أقول: هذا كلام غير مقبول لأمور: الأول: أن هذا التوجه الأحادي الانتقائي تجاه الملل والنحل الضالة ينافي المنهج الإسلامي القويم الذي بعث الله به رسله، والذي يقضي بوجوب إقامة الدين الحق، ومحاربة كل ملة أو نحلة ضالة مخالفة للدين، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33 والفتح 28].

الثاني: مقتضى هذا القول: أن المعركة ليست بيننا وبين اليهودية والنصرانية المحرفين باعتبار أهلهما مقرين بوجود الله، وهذا ضرب من الإرجاء خطير.

الثالث: مما يقرب هذا اللازم أن كلام القرضاوي هذا – وإن كان غريباً لدى سائر المسلمين – ليس غريباً على منهج المدرسة التي ينتمي إليها، فقد بني هذا الكلام – كما يبدو لي – على أساس حاول شيخه البنا إقامته منذ مدة طويلة، حيث ألقي في 5/ 3/1946م كلمة أمام "اللجنة الأمريكية البريطانية" التي كانت تجول حول العالم العربي بخصوص تمييع قضية فلسطين، والعمل على تهجير اليهود إليها، ألقى الشيخ البنا كلمته أمام هذه اللجنة باعتباره ممثلاً للحركة الإسلامية، جاء فيها:"الناحية التي سأتحدث عنها نقطة بسيطة من الوجهة الدينية، إلا أن هذه النقطة قد لا تكون مفهومة في العالم الغربي، فأريد أن أوضحها باختصار فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن تكون قومية، وقد أثنى عليهم، وجعل بيننا وبينهم اتفاقاً: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] وعندما أراد القرآن أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] "(2).وقال الشيخ البنا – في مؤتمر صحفي عقد في 5/ 9/1948م للاحتفال بمرور 20 عاماً على إنشاء الجماعة-: "وليست حركة الإخوان المسلمون موجهة ضد عقيدة من العقائد، أو دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، إذ أن الشعور الذي يهيمن على نفوس القائمين بها أن القواعد الأساسية للرسالات جميعاً قد أصبحت مهددة الآن بالإلحادية، والإباحية وعلى الرجال المؤمنين بهذه الأديان أن يتكاتفوا ويوجهوا جهودهم إلى إنقاذ الإنسانية من هذين الخطرين الزاحفين"(3).

(1)((وجود الله)) (ص 6).

(2)

محمود عبدالحليم: ((الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ)) (1/ 409 - 410) / الإسكندرية/ 1406هـ.

(3)

عباس السيسي: ((في قافلة الإخوان المسلمين)) (1/ 262 - 263) / الإسكندرية/ ط2/ 1407هـ.

ص: 227

من تأمل هذا الكلام أدرك أن القرضاوي هنا يعي ما يقول، وأن كلامه جار على تعليمات تلقاها من مثل هذه التصريحات الغريبة التي تنافي مبدأ الولاء والبراء في الإسلام. وكيف يقال: إن ذم اليهود في القرآن محصور في الحيثية الاقتصادية والقانونية مع قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30 - 31].والحق الذي لا ريب فيه أن المعتزلة – وإن رحلت بأعلامها ومشاهيرها – فقد بقي الاعتزال بكل معانيه وصوره، بقي الاعتزال تحت فرق تسمت بأسماء أخرى، وبقي بمناهجه وأصوله تحت أشخاص ينتسبون إلى السنة بألسنتهم، يقول محمد أبو زهرة – وهو يقر بوجود المعتزلة منشوراً بين المفكرين-:"نعم إن المسألة محصت ودرست بعد ذلك من الأخلاف، ورأى كثيرون من مفكري الإسلام رأي المعتزلة، ولكن لم يكن ذلك نتيجة للاضطهاد، بل كان نتيجة لمناظرات العلماء، وما نشره المعتزلة من رسائل، ولو ترك الأمر على رسله من غير اضطهاد لانتشرت فكرة المعتزلة أكثر مما انتشرت، وما لوث تاريخهم بذلك الاضطهاد"(1) هنا نلاحظ أنا أبا زهرة يرى أن اللوثة الوحيدة التي لحقت بفكر المعتزلة وحدت من انتشاره هي طريقتهم في نشر أفكارهم بالقوة، وأنه لولا ذلك الأسلوب لانتشر أكثر، ومعنى الانتشار أكثر أن يكتسح هذا الفكر جميع أقطار العالم الإسلامي، وإلا فقد انتشر فكرهم انتشاراً فاحشاً، ولنسمع ما يقوله جمال الدين القاسمي في هذا الموضوع:"هذه الفرقة من أعظم الفرق رجالاً، وأكثرها تابعاً، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية، والشامية، والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن؛ فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول – كما قاله العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) (2) – وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين، وبهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا، وأن لا فائدة في المناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان، ومذاهب أهلها"(3).

هذا ما يتعلق بانتشارهم ضمن الفرق البدعية الأخرى كالزيدية والرافضة، وغيرهم، وأما الجانب الآخر والخطير فهو انتشار فكرهم داخل المعسكر السني بواسطة أقوام مفتونين بالمنهج العقلاني، ولنأخذ مثاليين من هذا الصنف علماً بأنهم كثيرون في عصرنا حتى قامت معاهد فكرية تتبنى منهج عقلانية المعتزلة في التعامل مع النصوص الشرعية.

الأول: الشيخ محمد الغزالي الذي يعتمد على المنهج العقلاني في أكثر كتبه، ويظهر ذلك أكثر في كتابه الموسوم بـ (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث).

(1)((تاريخ المذاهب الإسلامية)) (1/ 159).

(2)

انظر ((العلم الشامخ)) (ص 12 - 13) / بيروت/ دار الحديث ط2/ 1405هـ.

(3)

((تاريخ الجهمية والمعتزلة)) (ص 56).

ص: 228

واعتزاليات الغزالي تبدو لقارئ كتابه المذكور من ركوبه صهوة العقل رد كثير من النصوص الثابتة، ومن موقفه من نصوص القدر حيث يؤولها إلى الاختيار المطلق كما يقول المعتزلة، وإليك نتفاً من ذلك الكتاب:- يقول الغزالي: "والقول بأن كتاباً سبق بذلك (يعني بمصير الإنسان) وأنه لا حيلة لنا بإزاء ما كتب أزلاً هذا كله تضليل وإفك"(1).وقال: "ومن ثم فإننا نتناول بحذر شديد ما جاء في حديث مسلم: ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار

الخ)) (2). إذا كان الحديث المذكور تنويهاً بشمول العلم الإلهي، وأن بدايات بعض الناس قد تكون مخالفة لنهاياتهم فلا بأس من قبوله بعد الشرح المزيل للبس المبطل للجبر، أما المعنى القريب للحديث فمردود يقيناً" (3).والمثير هنا مطابقة نظر الغزالي مع نظر النظام في رد هذا الحديث حيث نسب رواية ابن مسعود رضي الله عنه إلى الكذب، وعد مدلوله من الجبر، فرد عليه العلامة ابن قتيبة رداً بليغاً (4).قال الدكتور ربيع بن هادي: "أي أنه إن انقاد له الحديث ذليلا إلى مذهب المعتزلة البعيد فلا بأس به، تفضلا من الغزالي وتكرماً على الحديث المسكين، وإن أبى واستعصى عليه فلا يفهم منه إلا ما فهم أهل السنة والجماعة فمردود يقيناً" (5).وعلى هذا السبيل المعوج سار الغزالي في هذا الباب، فيصف أحاديث القدر بأنها "لا تخدم إلا مبدأ الجبر" ويقول عن هذه الأحاديث: "إن متونها توقفنا أمامها واجمين لنبحث عن تأويل لها أو مخرج" ثم في آخر كتابه يطلق مدفع النصر، ويصفق لنفسه قائلاً: "وقد استطعت بشيء من التكلف أن أصرف شبهة الجبر عن آثار شتى" (6).

(1) انظر ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 21 - 22).

(2)

رواه البخاري (3208) ، ومسلم (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

((السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)) (ص 145) / بيروت/ دار الشروق/ 1409هـ.

(4)

انظر في ((تأويل مختلف الحديث)) (ص 21 - 22).

(5)

((كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها)) (ص 195) / المدينة/ مكتبة ابن القيم/ 1410هـ.

(6)

((كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها)) (ص 157، 158، 160) على التوالي.

ص: 229

المقصود: أن فكر هذا الرجل امتداد لفكر المعتزلة من حيث تقديم العقل على كل شيء ممثلاً في موقفه من نصوص القدر وغيرها، فليكن قارئ كتبه – وخصوصاً كتابه (السنة النبوية) – على حذر من السقوط على أم رأسه؛ فإنها مليئة بالبلاوي والطامات، والله المستعان. الثاني: علي مصطفى الغرابي في كتابه (تاريخ الفرق الإسلامية) والغرابي – حسب ما هو مكتوب على طرة كتابه – أستاذ في كلية الشريعة بمكة المكرمة، والكتاب لا يعبر عنوانه عما في داخله؛ لأنه في الحقيقة كتاب في فضائل المعتزلة، ومزايا الاعتزال، ونصيب الفرق الأربع الأخرى المذكورة فيه ضئيل جداً (1).ومن قرأ هذا الكتاب بتأمل لا يأخذه أدنى شك بأن الرجل من المعتزلة – وليس مجرد متعاطف معهم – لما يحتويه من الثناء على المعتزلة والمبالغة في ذلك، ووصم غيرهم بالألقاب، وتبني أصولهم بكل صراحة، وإليك نتفاً من ذلك حتى تقف على الحقيقة بنفسك:- حسن ظنه بالمنهج العقلاني وسوء ظنه بالنصوص الشرعية وقدرتها على بيان الحق وتجليته: يقول الغرابي – تحت عنوان "الحكم على واصل"-: إنه يكفي في حكمنا على واصل أنه رئيس هذه الفرقة العظيمة "فرقة المعتزلة" صاحبة الأبحاث الكلامية، والتي تركت للمسلمين تراثاً فلسفياً له قيمته، والتي فتحت أمام العقيدة الإسلامية طريق البحث المنطقي، مما جعل أصحاب الديانات الأخرى يقفون عن هجوم هذه العقيدة الجديدة، والذين كانوا يريدون أن يثأروا لأنفسهم منها بطريق الجدل الكلامي، فلما رأى منهم المعتزلة هذا الأمر مرنوا على أساليبهم وأتقنوها، وحاربوهم بمثل سلاحهم، ولو وقف الأمر عند الاحتجاج بالقرآن والحديث لما انقطعت غارات المخالفين عن هذا الدين، لأنهم لا يؤمنون بهما" (2).

قلت: هذه خدعة طالما أثارها العقلانيون، فكأن القرآن الكريم حين نزل كان يخاطب أناساً مؤمنين ولم يخاطب الكفار والدهريين الذين لا يؤمنون بشيء وراء الحس، ويقنع أحبار اليهود حتى أسلم الكثير منهم، إن الهجمات والغزوات الفكرية والشبهات العقدية التي شنها أعداء الإسلام لم تبدأ مع ظهور المعتزلة، بل بدأت مع ظهور الإسلام، وقد دحضها القرآن كلها ولم تكن هناك فلسفة، ولا منطق كلامي، فالقرآن كما أنه خطاب للقلوب والعواطف والأرواح كذلك خطاب للعقول السليمة، وشفاء للمريضة؛ لأن منزله سبحانه هو الخبير بجميع ما كان وما يكون من الأدواء، ولكن الذي يعرف ذلك ويستفيد منه هو المؤمن الحسن الظن بالقرآن، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلَاّ خَسَارًا [الإسراء: 82] ومن لم يهتد بهدي القرآن والسنة فلا هداية له فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21].

كم حكت لنا كتب السنن والتاريخ والسير عن أحوال قوم من الجبابرة الطغاة دخل الإيمان بشاشة قلوبهم بسماع آيات من القرآن الكريم وهذه كتب السير والتواريخ بين أظهرنا لا تخبرنا عن فيلسوف عقلاني واحد أسلم بسبب جدل المعتزلة ومناظراتهم.

(1) حيث تناول الجهمية في (18) صفحة، والخوارج في 20 صفحة، والشيعة في 11 صفحة والمشبهة في 13 صفحة، والمعتزلة في 223 صفة غالبها إشادة وتمجيد.

(2)

((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 101).

ص: 230

تبرمه من عداوة أهل السنة لعمرو بن عبيد: بعد أن ذكر العديد من المناقب والمزايا التي زعمها لعمرو تحت عنوان "صفاته" عقد الغرابي عنواناً نصه: "عداوة أهل السنة له"ومما قال فيه: "إنه رغم هذه الصفات التي ذكرناها والتي هي بعض صفات عمرو فإننا نجد أهل السنة قد أكثروا من ذم عمرو، وناصبوه العداء، وكانوا يحضون الناس على مقاطعته"(1) لما وصف عمراً بقوله: "كان يميل إلى التحرر من كل شيء

يحب التحرر من النصوص إذا وجد منفذاً ينفذ منه إلى العقل، لا يتورع عن أن يخطئ صحابياً، أو ينتقد آخر ويرد روايته، وهذا مما جعله هدفاً لنقد المحدثين وتحاملهم عليه" (2) هل هذا هو التحامل علماً بأن معناه:"الجور وعدم العدل"(3).واصل بن عطاء عنده إنسان كامل: قال: "وعلى كل حال إذا فتشنا في جميع نواحي الرجل وجدناه قد بلغ فيها ذروة الكمال"(4) هكذا في جميع النواحي! ومما يؤكد ذلك كله وصفه أهل السنة بالإرجاء، فقال عن مرتكب الكبيرة:"والمرجئة تسميه مؤمناً فاسقاً" وقال أيضاً: "وقالت المرجئة: هو مع فسقه وفجوره مؤمن"(5) ويؤكده قوله – بعد أن ساق أقوال المعتزلة مسانداً لها-:"هذا بعض ما أجمعت عليه المعتزلة ذكرنا بعضه لبعض علمائهم، وذكرنا طرفاً منه لعالم أشعري لنبين الفرق بين ما يكتبه معتزلي عن معتزلي، وأشعري عن معتزلي حتى نأخذ أقوال هؤلاء المؤرخين للفرق بحرص واحتياط، وحتى لا نقع فيما وقعوا فيه، ونخدع بما خدعوا به"(6).

وهذا الذي قاله تلبيس، أما أولاً: فإنه لم يذكر فيما ساقه غير الدفاع العاطفي المجرد عن الاستدلال، وأما ثانياً: فليس اعتماد أهل السنة في نقدهم المعتزلة على ما ينقله المؤرخون، بل ردوا عليهم وهم حاضرون، وردوا عليهم من خلال كتبهم، ومقالاتهم التي نشروها؛ لأنها موجودة، فليس هناك خادع ولا مخدوع إلا من انتصر للبدعة، ودافع عن الباطل، وهل يبقى بعد هذا كله من يشكك في وجود المعتزلة بكل أصولها بين أظهرنا، أو أن الحق قد انبلج، وطلعت شمسه لذي عينين؟

‌المصدر:

جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية لمحمد أحمد لوح - ص 237

يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد .. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي.

- وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني .. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية .. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل .. إلا من هذا القبيل.

- وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.

(1) الغرابي: ((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 108).

(2)

((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 119 - 120).

(3)

((المعجم الوسيط)) (1/ 199).

(4)

((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 103).

(5)

((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص 86، 89).

(6)

((تاريخ الفرق الإسلامية)) (ص72).

ص: 231

- وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي .. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة .. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، وغير ذلك .. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث .. إلخ .. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله .. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر. - ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة)، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه:" أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية.

أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم. - وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة. - ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام .. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي .. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة انظر كتاب (تجديد الفكر العربي) ص 123. - ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام)، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: (ضحى الإسلام): " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207).

- ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه (الفكر الإسلامي والتطور) .. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً " انظر كتاب (المعتزلة بين القديم والحديث) ص 138.

- وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية .. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا، وغيرهم. ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.

‌المصدر:

الموسوعة الميسرة

ص: 232