الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه
ش: أي هذا باب في بيان حكم البيع الذي يشترط فيه شرط ليس فيه، ولا من مقتضياته.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا زكرياء بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:"أنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل له فأعياه، فأدركه رسول الله عليه السلام، فقال: ما شأنك يا جابر؟ فقال: أُعْيِيَ ناضحي يا رسول الله، فقال: أمعك شيء؟ فأعطاه قضييًا -أو عودًا فنخسه به- أو قال: فضربه به- فسار مسيرة يكن يسير مثلها، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعْنِيه بأوقية، قال: قلت: يا رسول الله، هو ناضحك، فبعته بأوقية واستثنيت حملانه حتى أقدم على أهلي، فلما قدمت أتيت بالبعير، فقلت: هذا بعيرك يا رسول الله، قال: لعلك ترى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك، يا بلال أعطه من العيبة، أوقية وقال: انطلق ببعيرك فهما لك".
ش: إسناده صحيح:
والشعبي هو عامر بن شراحيل.
وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه بألفاظ مختلفة وأسانيد متغيرة:
فقال البخاري (1): ثنا أبو نعيم، ثنا زكرياء، سمعت عامرًا يقول: حدثني جابر: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا (*)، فمر النبي عليه السلام فضربه، فدعا له، فسار سيرًا ليس يسير مثله، ثم قال: بعنيه بوقية.
قلت: لا، ثم قال بعنيه بوقية، فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيت بالجمل، ونقدني ثمنه، ثم انصرفت فأرسل على إثري، قال: ما كنت لآخذ جملك، فخذ جملك ذلك فهو مالك".
(1)"صحيح البخاري"(2/ 968 رقم 2569).
(*) قال معد الكتاب للشاملة: في المطبوعة: "أعيي"، والصواب ما أثبتناه كما في الصحيح، وقد وردت على الصواب في طبعة المنهاج.
وقال شعبة: عن مغيرة، [عن جابر] (1):"فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة". وقال عطاء وغيره: "لك ظهره إلى المدينة".
وقال ابن المنكدر: عن جابر: "شرط ظهره إلى المدينة".
وقال زيد بن أسلم عن جابر: ["ولك ظهره حتى ترجع".
وقال أبو الزبير، عن جابر:"أفقرناك ظهره إلى المدينة".
وقال الأعمش، عن سالم، عن جابر:"تبلغ عليه إلى أهلك".
وقال عبيد الله بن إسحاق، عن وهب، عن جابر] (2):"اشتراه النبي عليه السلام بوقية".
وتابعه زيد بن أسلم عن جابر.
وقال ابن جريج، عن عطاء وغيره، عن جابر:"أخذته بأربعة دنانير" وهذا يكون وقية على حساب الدينار بعشرة دراهم، ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي، عن جابر، وابن المنكدر وأبو الزبير، عن جابر.
وقال الأعمش: عن سالم، عن جابر:"وقية ذهب".
وقال أبو إسحاق عن سالم عن جابر: "بمائتي درهم".
وقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر:"اشتراه بطريق تبوك، أحسبه قال: بأربع أواق".
وقال أبو نضرة: عن جابر: "اشتراه بعشرين دينارًا".
وقول الشعبي: "بوقية" أكثر.
قال أبو عبد الله: الاشتراط أكثر وأصح عندي.
أخرج البخاري هذا في كتاب الشرط.
(1) سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح البخاري".
(2)
سقط من "الأصل"، والمثبت من "صحيح البخاري".
وأخرجه أيضًا في كتاب الاستقراض (1): عن محمد، عن جرير.
وفي كتاب الجهاد أيضًا (2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن مغيرة.
وقال مسلم (3): ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا أبي، ثنا زكرياء، عن عامر، قال: حدثني جابر بن عبد الله: "أنه كان يسير على جمل له قد أعيا، فأراد أن يسيب، قال: فلحقني النبي عليه السلام، فدعى لي وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه بأوقية، قلت: لا، ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت، أتيته بالحمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في إثري فقال: أتراني ماكستك لأخذ جملك؟! خذ جملك ودراهمك، فهو لك".
وأخرجه مسلم في كتاب البيوع.
وأخرجه أيضًا (3): عن على بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن زكرياء.
وعن (3) عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه، عن جرير، عن مغيرة، كلاهما عن الشعبي، عن جابر بهذا.
وقال أبو داود (4): ثنا مسدد، قال: نا يحيى بن سعيد، عن زكرياء قال: ثنا عامر، عن جابر بن عبد الله قال:"بعته -يعني بعيره- من النبي عليه السلام، واشترطت حملانه إلى أهلي، وقال في آخره: تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه، فهما لك".
وقال الترمذي (5): ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا وكيع، عن زكرياء، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله:"أنه باع من النبي عليه السلام بعيرًا، واشترط ظهره إلى أهله".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 847 رقم 2275).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1083 رقم 2805).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1219 رقم 715).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 306 رقم 3505).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 554 رقم 1253).
وقال النسائي (1): أخبرنا علي بن حجر، أبنا سعدان بن يحيى، عن زكرياء، عن عامر، عن جابر بن عبد الله قال:"كنت مع النبي عليه السلام في سفر، فأعيى جملي، فأردت أن أُسيبه، فلحقني رسول الله عليه السلام، ودعى له، فضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه بوقية، قلت: لا، قال: بعنيه، فبعته بوقية، واستثنيت حملانه إلى المدينة، فلما بلغنا المدينة أتيته بالجمل وابتغيت ثمنه ثم رجعت، فأرسل إلي فقال: أَتُرَاني إنما ماكستك لَاخذ جملك؟! خذ جملك ودراهمك"(2).
وأخرجه (3) من طريق آخر بأتم منه:
قوله: "على جمل له" قال الفراء: الجمل زوج الناقة والجمع: جمال، وأجمال، وجملات، وجمائل، ويطلق عليه البعير؛ لأن جابرًا رضي الله عنه قال في الحديث:"ثم أتيت بالبعير" وأراد به الجمل المذكور.
وقال أهل اللغة: البعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون للأنثى.
وحكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعير لي، فإذا استثنيته قلت: جمل أو ناقة ويجمع على أبعرة وأباعر وأباعير وبُعران وبَعران.
قوله: "فأعياه" أي أعجزه عن الذهاب إلى مقصده؛ لعيِّه وعجزه عن المشي، يقال: عييت بأمري إذا لم تهتد بوجهه، وأعياني هو، ويقال: هذا مرض أعيى الأطباء: إذا أعجزهم عن مداواته.
قوله: "أعيى ناضحي" من قولهم: أعيى الرجل في مشيه فهو معيى، ولا يقال: عيان، وأعياه الله، كلاهما بالألف.
(1)"المجتبى"(7/ 297 رقم 4637).
(2)
طمس من "الأصل" بمقدار لوحة، يبدأ من هنا، والمثبت من "ك". وقد استشرى الطمس في هذا المجلد من "الأصل" في كل اللوحات "ب" واستدركناه من "ك" وسنضع معكوفًا عند أول الطمس، وننبه عند آخر الطمس إن شاء الله.
(3)
"المجتبى"(7/ 298 رقم 2638).
و"الناضح" بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة، هو البعير الذي يستقى عليه والأنثى: ناضحة وسائبة، وأراد به ها هنا الجمل المذكور.
قوله: "أمعك شيء؟ " الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: "فنخسه" بالنون والخاء المعجمة والسين المهملة، أي: طعنه.
قوله: "بأوقية" بضم الهمزة وتشديد الياء والجمع يشدد ويخفف، مثل: أثفية وأثافيّ وأثاف، وقد جاء في رواية البخاري وغيره "وقية" بدون الهمزة وليست بلغة عالية، وكانت الوقية قديمًا عبارة عن أربعين درهمًا، وقد اختلفت الروايات ها هنا، ففي رواية:"أنه باعه بخمس أواقي وزادني أوقية"، وفي بعضها:"بأوقيتين ودرهم أو درهمين"، وفي بعضها:"بأوقية ذهب"، وفي رواية:"بأربعة دنانير"، وفي الأخرى:"بأوقة" ولم يقل: ذهبًا، وقد ذكر البخاري أيضًا اختلاف هذه الروايات وقد بَيَّنَّاها الآن.
وقال أبو جعفر الداودي: ليس لأوقية الذهب وزن يحفظ، وأما أوقية الفضة فأربعون درهمًا.
وأما اختلاف هذه الروايات فسببها نقل الحديث على المعنى، وبمثل هذا يحتج من يجيز ذلك، وقال: إنا نجد الحديث الواحد قد حدث به جماعة من الصحابة والتابعين بألفاظ مختلفة وعبارات متقاربة ترجع إلى معنى واحد، وإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في قصة منفردة، فأما ذكر الأوقية المهملة فيفسرها قوله:"أوقية ذهب" وإليه يرجع اختلاف الألفاظ؛ إذ هي في رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر مفسرة بقوله: "إن لرجل عليَّ أوقية ذهب، فهو لك بها" ويكون قوله في الرواية الأخرى: "فبعته منه بخمس أواقي" أي: فضة صرف أوقية الذهب حينئذ، كأنه أخبر مرة عما وقع به البيع من أوقية الذهب أولاً ومرة عما كان به القضاء من عدلها فضة، والله أعلم.
ويعضد هذا قوله آخر الحديث: "خذ جملك ودراهمك" ورواية من قال: "مائتي درهم"؛ لأنه خمس أواقي أو يكون هذا كله زيادة على الأوقية كما قال: "فما زال يزيدني".
وأما ذكر الأربعة الدنانير فموافقة لأوقية؛ إذ قد يحتمل أن يكون وزن أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانر كبار؛ لأن دنانيرهم كانت مختلفة وكذلك دراهمهم على ما مرَّ بيانه في الزكاة، ولأن أوقية الذهب غير محققة الوزن بخلاف الفضة، أو يكون المراد بذلك أنها صرفت أربعين درهمًا، فأربعة دنانير موافقة للأوقية الفضة؛ إذ هي صرفها.
ثم قال: "أوقية ذهب"؛ لأنه أخذ عن الأوقية عدلها من الذهب الدنانير المذكورة، أو يكون ذكر الأربعة دنانير في ابتداء المماكسة، وانعقد البيع بأوقية.
وأما قوله: "أوقيتان" فيحتمل أن الواحدة هي التي وقع بها البيع، والثانية زاده إياها، ألا تراه كيف قال في الرواية الأخرى:"فزادني أوقية"؟ وذكره الدرهم والدرهمين مطابق لقوله: "وزادني قيراطًا" في بعض الروايات يحتمل أنه أرجح له في كل (1) دينار قيراطًا، وأنها الزيادة التى زاده أولاً، فذكر مرة قيراطًا، وشك في هذه الرواية في مقدار الزيادة، إذ صرف قيراط الذهب على ما كان قبل: درهم ونحوه، لأن دنانيرهم كان بعضها من عشرة قراريط، وبعضها من عشرين قيراطًا، فوجه بناء هذه الروايات -المختلف ظاهرها- والجمع بينها وترتيب منازلها: أنه عليه السلام أولاً أعطاه أربعة دنانير حين ساومه به، ولم ينعقد البيع بذلك ولا أمضاه جابر رضي الله عنه، وإنما أمضاه له بأوقية ذهب، ألا تراه إنما قال له:"قد أخذته منك بأربعة دنانير"؟ ولم يزد في هذا الحديث على ذلك، وفي الحديث أنه ماكسه في البيع ثم أمضاه له بأوقية ذهب، وبها أنعقد البيع كما بينه في حديث سالم بن أبي الجعد، وهذا يضعف تأويل البخاري: أن الأوقية دراهم لتوافق أربعة دنانير،
(1) آخر ما أثبتناه من "ك".
وقول البخاري هذا يكون على حساب الدينار بعشرة دراهم، إذ قد يفسر في الحديث أنها أوقية ذهب، وبدليل قوله في الرواية الأولى:"عشرين دينارًا". إذ كانت دنانيرهم مختلفة، فيها ما هو من درهم وثلثين، ومن درهم وثلاثة أسباع، ومن ثلاثة دراهم، فقد يحتمل إذا اجتمعت منها عشرون كان وزنها أربعين درهمًا، وهي أوقية، ويكون ما في الرواية الأخرى:"خذ جملك ودراهمك" وفي الرواية الأخرى: "مائتي درهم" وذلك صرف العشرين دينارًا، لكل دينار عشرة دراهم، وذلك صرف الأوقية الذهب.
وأما رواية "أربع" فقد شك فيها رواتها، فلا تعتبر، وكذلك الرواية باقتضاء أربعة دنانير، والله أعلم؛ لأن سائر الروايات تخالفها.
وقوله في الرواية الأخري: "بأوقيتين" الأولى التي وقع بها البيع من الذهب، والثانية التي زاده، كما بين ذلك في الحديث:"وزادني أوقية" فيحتمل أن تكون ذهبًا ويحتمل أن تكون فضة، ألا تراه قال:"فما زال يزيدني" وتكون زيادة الأوقية زيادة في عدد الأواقي، كل ذلك بفضل منه وإحسان، ثم زاده أيضًا في الوزن والرجحان بقوله:"فزادني قيراطًا" وهو وفق الدرهم أو الدرهمين في الرواية الأخرى كما بيَّناه.
قوله: "واستثنيت حُمْلانه" بضم الحاء وسكون الميم: مصدر من حَمَلَ يَحْمِلُ، من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وذلك كالغُفْرَان من غَفَرَ يَغْفِرُ.
قوله: "لعلك تُرَى" بضم التاء أي: تظنّ.
قوله: "إنما حبستك" أي إنما منعتك ثمن جملك، وفي رواية غيره:"أتراني ماكستك" من المماكسة وهي المكالمة في النقص من الثمن، وأصلها من النقص، ومنه: مكس العشَّار، وهو ما ينتقصه ويأخذه من أموال الناس.
قوله: "من العَيْبَة" العيبة -بفتح الين المهملة، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الباء الموحدة، وفي آخره هاء-: ما تجعل فيه الثياب، وأراد بها ها هنا ما يحفظ فيها الذهب والفضة.
ويستنبط منها أحكام:
الأول: احتج به من يقول بجواز شرط البائع ركوب الدابة التي يبيعها من غيره، إلى مسافة معلومة على ما يجيء بيانه مفصلًا عن قريب إن شاء الله تعالى.
الثاني: فيه علامة من علامات النبوة: فيما نخسه أو ضربه بالعود.
الثالث: فيه جواز طلب البيع من الرجل سلعته ابتداء، وإن لم يعرضها للبيع.
الرابع: فيه جواز الزيادة والرجحان في ثمن المبيع، كَثرَ أو قَلَّ، كان في مجلس القضاء أو بعده، وبهذا قال كافة العلماء.
الخامس: فيه أن الوزن والكيل في المييع على البائع، وفي الثمن على المشتري، إذ توفية ما يؤخذ من كل واحد منها عليه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا باع من رجل دابة بثمن معلوم على أن يركبها البائع إلى موضع معلوم؛ أن البيع جائز والشرط جائز واحتجوا في ذلك بحديث جابر رضي الله عنه هذا.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكًا وأحمد وإسحاق وأبا ثور وابن المنذر؛ فإنهم قالوا: إذا باع دابةً بشرط أن يركبها البائع إلى موضع معلوم؛ أن البيع صحيح والشرط صحيح.
وقال ابن قدامة في "المغني": ويصح أن يشترط البائع منفعة البيع مدةً معلومةً، مثل أن يبيع دارًا ويستثني سكناها شهرًا، أو عبدًا ويشترط خدمته سنة، أو جملًا ويشترط ظهره إلى مكان؛ نص عليه أحمد، وهو قول الأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، ثم احتج لهم بحديث جابر المذكور.
وقال القاضي في "شرح مسلم": من الناس من أجاز بيع الدابة واستثناء البائع ركوبها أخذ بظاهر الحديث.
وأما مالك فيجيزه بشرط أن تكون مسافة الركوب قريبة ويحمل هذا الحديث عليه.
وقال الترمذي عقيب إخراج هذا الحديث: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون الشرط جائزًا في البيع إذا كان شرطًا واحدًا، وهو قول أحمد وإسحاق.
وقال ابن حزم في "المحلى": قال أحمد: يبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ويجوز إذا كان فيه شرط واحد.
وذهب أبو ثور إلى جواز اشتراط البائع بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله، أو خدمة العبد كذلك، أو ركوب الدابة كذلك، أو لباس الثوب كذلك، وقال: جاز البيع والشرط؛ لأن الأصل له والمنافع، فباع ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز والشرط باطل، كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو على المشتري فالبيع والشرط باطلان معًا.
وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: قال أبو ثور: كل شرط اشترطه البائع على المبتاع مما كان البائع يملكه فهو جائز مثل ركوب الدابة وسكنى الدار، وكان مَنْ شرط على المشتري بعد ملكه مما لم يكن في ملك البائع مثل أن يعتق العبد ويكون ولاؤه للبائع، وأن لا يبيع ولا يهب ولا يتصدق فالبيع جائز والشرط باطل لا يجوز.
وقاله ابن أبي ليلى أيضًا.
وقال أحمد: إذا كان في البيع شرط واحد جاز، وإن كان فيه شرطان بطل؛ للحديث:"لا يحل شرطان في بيع"، وشرطان في بيع أن يقول: أبيعك هذه السلعة إلى شهرٍ بكذا وإلى شهرين بكذا.
قال أحمد: ومن شرطين في بيع أن يقول: أبيعك بذهب على أن تأخذ منه دراهم، الدينار بكذا، أو يبيعه بدراهم على أن يأخذ منه ذهبًا، وحجته في إجازة شرط واحد حديث جابر رضي الله عنه في بيعه بعيره من النبي صلى الله عليه وسلم على أن له ظهره إلى المدينة.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، ثم افترق المخالفون لهم على فرقتين، فقالت فرقة: البيع جائز والشرط باطل. وقالت فرقة: البيع فاسد.
وسنبيِّن ما ذهب إليه الفريقان جميعًا في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي وأشهب وأحمد في رواية.
ثم افترق هؤلاء على فرقتين، فقالت فرقة -وهم: ابن أبي ليلى وأحمد- في رواية -وأشهب-: البيع جائز والشرط باطل.
وقالت فرقة -وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي-: البيع فاسد.
وفي "شرح الموطأ" قال أبو حنيفة: لا يجوز أن يشترط سكنى الدار ولا خدمة العبد ولا ركوب الدابة وقتًا بحال؛ والبيع فاسد.
وكره الليث بن سعد أن يشترط سكنى الدار عشرين سنة، وأجاز اشتراط سكناها سنة، وإن احترقت في السنة كانت من المشتري، ولم يُجِز اشتراط ركوب الدابة إلى موضع قريب ولا بعيد، وإن اشترط البائع على المبتاع إيقاع معنى من معاني البر، فإن اشترط عليه من ذلك ما يتعجل كالعتق المعجل؛ فذلك جائز لبعده عن الغرر، وبه قال الشافعي، ولم يجزه أبو حنيفة.
فإن امتنع البائع من إنفاذ العتق، فقال أشهب: يجبر على العتق] (1) وقاله ابن كنانة في المدينة، وزاد: ولو رضي البائع بذلك لم يكن له ذلك، ويعتق عليه.
وقال ابن القاسم: إن كان اشتراه على إيجاب العتق فهو حُر، وإن كان اشتراه من غير إيجاب عتق لم يجبر على عتقه، والإيجاب أن يقول: اشتريته منك فهو حُر، وإن لم يقل ذلك وإنما اشترط أن يستأنف عنه بعد كمال ملكه فليس بإيجاب.
(1) آخر ما أثبتناه من "ك".
وقال الشافعي: البيع فاسد، ويمضي العتق اتباعًا للسنة. وروي عنه: البيع جائز والشرط باطل. وروى المزني عنه: لا يجوز تصرف المشتري في البيع الفاسد بحال.
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واستحسن أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يجيز له العتق ويجعل عليه الثمن، وإن مات قبل أن يعتقه كانت عليه القيمة.
وقال أبو يوسف: العتق جائز وعليه القيمة.
وانفرد الشافعي بقوله فيمن اشترى عبدًا شراءً فاسدًا وقبضه وأعتقه: إنه لا يجوز عتقه؛ لأنه لم يملكه بالبيع الفاسد، ولا يجوز له التصرف فيه.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضا الآخر فإنهما إن عقداه قبل عقد البيع وبعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير أو في أحد الوقتين -يعني قبل العقد أو بعده- ولم يذكراه في حين عقد البيع؛ فالبيع صحيح تامٌّ، والشرط باطل لا يلزم.
فإن ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع فالبيع باطل مفسوخ والشرط باطل أي شرط كان؛ لا يحاش شيئًا إلا سبعة شروط فإنها لازمة، والبيع صحيح إن اشترطت في البيع وهي: اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى، واشتراط تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط الثمن إلى الميسرة وإن لم يذكرا أجلاً، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معًا ويبتاعان ذلك الشيء على أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشتري مالهما أو بعضه مسمى معينًا أو جزءًا منسوبًا مشاعًا في جميعه سواء كان مالهما مجهولًا كله أو معلومًا كله، أو معلومًا بعضه ومجهولًا بعضه، وبيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب أو بعده، فيشترط المشتري الثمرة لنفسه أو جزءًا معينًا منها أو مسمى مشاعًا في جميعها.
(1)"المحلى"(8/ 412).
فهذه ولا مزيد وسائرها باطل، كمن باع مملوكًا بشرط العتق أو أمة بشرط الإيلاد أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة -قلَّت أو كثرت- أو إلى مكان مسمى -قريب أو بعيد- أو دارًا واشترط سكناها ساعةً فما فوقها، أو غير ذلك من الشروط كلها.
وقال ابن حزم (1): حدثني محمد بن إسماعيل بن إسحاق العذري القاضي بسرقُسْطة، ثنا محمد بن علي الرازي المطوعي، نا محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ثنا جعفر بن محمد الخلدي، ثنا عبد الله بن أيوب بن زاذان الضرير، ثنا محمد بن سليمان الذهلي، ثنا عبد الوارث -هو ابن سعيد- التنوري: "قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعًا واشترط شرطًا، فقال: البيع باطل والشرط باطل.
ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط باطل.
ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز.
فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل. فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء. البيع جائز والشرط باطل.
فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدري ما قالا؛ ثنا مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أنه باع من رسول الله عليه السلام جملًا واشترط ظهره إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز". والله أعلم.
ص: فكان من الحجة لهاتين الفرقتين جميعًا على الفرقة الأولى في حديث جابر رضي الله عنه الذي ذكرنا: أن فيه معنيين يدلان أن لا حجة لهم فيه، فأما أحد
(1)"المحلى"(8/ 415، 416).
المعنيين: فإن مساومة النبي عليه السلام لجابر رضي الله عنه إنما كانت على البعير ولم يشترط في ذلك لجابر ركوبًا. قال جابر: "فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي".
فوجه هذا الحديث أن البيع إنما كان على ما كانت عليه المساومة من النبي عليه السلام، ثم كان الاسئثناء للركوب من بعد وكان ذلك الاستثناء مفصولًا من البيع؛ لأنه إنما كان بعده؛ فليس في ذلك حجة تدلنا كيف كان حكم البيع لو كان ذلك الاسئثناء مشروطًا في عقدته، هل هو كذلك أم لا؟
وأما الحجة الأخرى: فإن جابرًا رضي الله عنه قال: "فلما قدمت المدينة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالبعير فقلت: هذا بعيرك، فقال: لعلك تُرَى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك؟! يا بلال أعطه أوقية وحد بعيرك فهما لك" فدلَّ ذلك أن ذلك القول الأول لم يكن على التبايع، فلو ثبت أن الاشتراط للركوب كان في أصله بعد ثبوت هذه العلة لم يكن في هذا الحديث حجة؛ لأن المشروط فيه ذلك الشرط لم يكن بيعًا، ولأن النبي عليه السلام لم يكن ملك البعير على جابر رضي الله عنه؛ فكان اشتراط جابر للركوب اشتراطًا فيما هو له مالك، فليس في هذا دليل على حكم ذلك الشرط لو وقع في بيع يوجب الملك للمشتري كيف كان حكمه.
ش: أي فكان من الدليل والبرهان للجماعة الآخرين الذين افترقوا على فرقتين، وأراد به: الجواب عن استدلال أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بحديث جابر رضي الله عنه المذكور.
وحاصله: أنه أجاب عن ذلك بثلاثة أجوبة: الأول والثاني بطريق المنع، والثالث بطريق التسليم.
أما الأول: فلا نسلم أن هذا العقد كان فيه شرط؛ لأنه عليه السلام إنما ساوم جابرًا على البعير ولم يشترط له ركوبًا، وإنما جابر هو الذي قال:"بعته واستثنيت حملانه إلى أهلي" فيكون استثناؤه للركوب مفصولًا من العقد؛ لأنه إنما وقع بعد العقد.
وأما الثاني: فلا نسلم أن ذلك القول من النبي عليه السلام كان على التبايع، ألا ترى إلى قوله لجابر رضي الله عنه:"تُرَى أني إنما حبستك لأذهب ببعيرك؟! يا بلال أعطه أوقية وخذ بعيرك فهما لك".
فهذا صريح أنه لم يكن ثمة عقد فضلاً عن أن يكون فيه شرط.
وقال ابن حزم: أخبر عليه السلام أنه لم يماكسه ليأخذ جمله؛ فصح أن البيع لم يتم فيه فقط، وإنما اشترط جابر رضي الله عنه ركوب جمل نفسه فقط.
وأما الثالث: فلئن سلمنا أن هناك شرطًا قد شرط فيه الركوب، ولكن لا يدل أن الحديث حجة لهم أيضًا؛ وذلك لأن المشروط فيه ذلك الشرط لم يكن بيعًا؛ لأنه عليه السلام لم يكن ملك البعير على جابر فكان اشتراط جابر للركوب اشتراطًا فيما هو له مالك.
وقال ابن حزم (1): روي هذا: أن ركوب جابر رضي الله عنه للجمل كان تطوعًا من النبي عليه السلام، واختلف فيه على الشعبي وأبي الزبير؛ فروي عنهما، عن جابر رضي الله عنه أنه كان شرطًا من جابر، وروي عنهما أنه كان تطوعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نسلم لهم أنه كان شرطًا ثم نقول وبالله التوفيق: إنه قد صح أنه عليه السلام قال: "قد أخذته بأوقية"، وصح أنه عليه السلام قال:"أَتُرَاني ماكستك لآخذ جملك؟! فخذ جملك ذلك فهو مالك" فصح يقينًا أنهما أخذان: أحدهما فعله رسول الله عليه السلام، والآخر لم يفعله، بل انتفى عنه، وهو أنه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك أخذه؛ فصح أن البيع لم يتم فيه فقط؛ فيكون اشتراط جابر رضي الله عنه اشتراطًا لركوب جمل نفسه فقط، والله أعلم.
ص: وذهب الذين أبطلوا الشرط في ذلك وجوزوا البيع إلى حديث بريرة.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة فَتُعْتقها، فقال لها أهلها:
(1)"المحلى"(8/ 418).
نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يمنعنك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن:"أن بريرة جاءت تستعين عائشة، فقالت لها عائشة: إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فقالوا: لا، إلا أن يكون ولاؤك لنا".
قال مالك: قال يحيى: فزعمت عمرة: "أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أنها أرادت أن تشتري بريرة فَتُعتقها، فاشترط مواليها ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال: اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها ويشترطوا الولاء، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال: اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق".
حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة:"أن بريرة جاءتها تستعينها في كتابتها، فقالت عائشة: إن شاء أهلك اشتريتك ونقدتهم ثمنك صبة واحدة، فذهبت إلي أهلها فقالت لهم ذلك، [فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم] (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتريها لا يضرك ما قالوا؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
(1) سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".
قالوا: فلما كان أهل بريرة أرادوا بيعها على أن تعتق فيكون ولاؤها لهم، فقال النبي عليه السلام لعائشة:"لا يمنعك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
دلَّ أن هكذا الشروط كلها التي تشترط في البيوع، وأنها تبطل وتثبت البيوع.
ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان حجة أحد الفرقتين من أهل المقالة الثانية وهم الذين قالوا: البيع جائز والشرط باطل.
أي ذهبت الفرقة الذين أبطلوا الشرط وجوزوا البيع -فيما إذا باع بالشرط- إلى حديث بريرة، فإن أهل بريرة لما أرادوا بيعها بشرط أن تعتق ويكون ولاءها لهم؛ قال النبي عليه السلام لعائشة:"لا يمنعك ذلك" أي اشتراطهم الولاء لا يمنع صحة العقد "فإنما الولاء لمن أعتق" سواء اشترط أهلها أن يكون لهم أو لم يشترطوا.
فدلَّ هذا الكلام أن الشروط كلها التي تشترط في البيوع لا تضر صحة البيوع، فتثبت البيوع وتبطل الشروط.
ثم إنه أخرج حديث عائشة في بريرة ها هنا من خمس طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق وأبا بشر وعلي بن عبد الرحمن:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عائشة رضي الله عنهم
…
" إلخ.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة:"أنها أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا. فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال: لا يمنعك ذلك؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
الثاني: عن يونس أيضًا
…
إلى آخره.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 1141 رقم 1504).
وأخرجه مالك في "موطئه"(1).
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني البصري، عن شعبة ابن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي، قالا: ثنا محمد ابن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أنها أرادت أن تشتري بريرة، فشرطوا ولاءها، فقال رسول الله عليه السلام: اشتريها وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق".
الرابع: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمد ابن خازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة.
وأخرجه النسائي (2): أنا قتيبة، ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام فقال: أعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعطى الورِق".
الخامس: عن علي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك، عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3).
ثم اعلم أن الناس قد أكثروا في حديث عائشة في قصة بريرة.
قال أبو عمر: قد أكثر الناس في تشقيق معاني الأحاديث المروية في قصة بريرة وتنسيقها وتخريج وجوهها؛ فلمحمد بن جرير في ذلك كتاب، ولمحمد بن خزيمة
(1)"موطأ مالك"(2/ 781 رقم 1479).
(2)
"المجتبى"(6/ 163 رقم 3449).
(3)
"مسند أحمد"(6/ 161 رقم 25323).
في ذلك كتاب، ولجماعة في ذلك أبواب، أكثر ذلك تكلُّف واستنباط، واستخراج محتمل، وتأويل ممكن لا يُقطع بصحته ولا يُستغنى عن الاستدلال عليه.
ثم إنه يشتمل على أحكام:
الأول: فيه من الفقه استعمال عموم الخطاب في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (1) دخل في ذلك الأَمَةُ ذات الزوج وغيرها؛ لأن بريرة كانت ذات زوج خيرت تحته إذ أعتقت.
الثاني: فيه جواز كتابة الأمة دون زوجها.
الثالث: فيه دليل على أن زوج الأَمَة ليس له منعها من السعي في كتابتها.
قال أبو عمر: لو استدل مستدلّ من هذا المعنى بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها كان حسنًا.
الرابع: فيه دليل على أن العبد زوج الأمة ليس له منعها من الكتابة التي تؤول إلى عتقها وفراقها له، كما أن لسيد الأمة عتق أمته تحت العبد وإن أدى ذلك إلى إبطال نكاحه، وكذلك له أن يبيع أمته من زوجها الحر وإن كان في ذلك بطلان عقده.
الخامس: فيه دليل على جواز نكاح العبد الحرة؛ لأنها إذ خيرت فاختارته؛ بقيت معه وهي حرة، وهو عبد.
السادس: فيه أن المكاتب يجوز له السعي في كتابته والسؤال والتكسب به.
السابع: فيه جوازركتابة مملوكه وهو لا شيء معه، وفيه ردٌّ على من يقول: لا يجوز كتابة المكاتب حتى يكون له مال؛ واحتجوا بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (1) قالوا: هو المال. روي ذلك عن ابن عباس وعطاء، وقال عمرو بن دينار: المال والصلاح. وقال مجاهد: الغني والأداء.
وكان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة.
(1) سورة النور، آية:[33].
وقال إبراهيم النخعي: صدقًا ووفاءً.
وقال الثوري: دينًا وأمانةً.
وقال الشافعي: القوة على الاكتساب.
وقال أبو عمر: رخص مالك وأبو حنيفة والشافعي في مكاتبة من لا حرفة له؛ وإن كان قد اختلف قول مالك في ذلك.
وكره الأوزاعي وأحمد وإسحاق مكاتبة من لا حرفة له.
وروي نحو ذلك عن عمر وابن عمر ومسروق.
الثامن: فيه دليل على إجازة كتابة الأمة وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال، وهو ظاهر الخبر، ولم يسأل النبي عليه السلام هل لها كسب -أو عمل أو مال-؟ ولو كان هذا واجبًا لسأل عنه ليقع حكمه عليه؛ لأنه بُعِثَ مبينًا ومعلمًا عليه السلام.
التاسع: فيه دليل على جواز أخد السيد نجوم المكاتب من مسألة الناس؛ لترك النبي عليه السلام زجرها عن مسألة عائشة رضي الله عنها؛ إذ كانت تستعينها في أداء نجمها، وهذا يرد قول من كره كتابة المكاتب الذي يسأل الناس وقال: يطعمني أوساخ الناس.
العاشر: فيه دليل على أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته.
الحادي عشر: فيه دليل على أن عقد الكتابة من غير أداء لا يوجب شيئًا من العتق؛ خلافًا لمن جعله غريمًا من الغرماء؛ لأن النبي عليه السلام قد أجاز بيع بريرة، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك، وفي السنة المجتمع عليها: أن لا يباع الحُرّ.
قال أبو عمر في حديث بريرة: روي عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم واحد" وهو قول سعيد بن المسيب والقاسم وابن يسار والزهري وقتادة وعطاء، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والطبري.
الثاني عشر: فيه دليل على جواز بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزًا عن أداء نجم قد دخل عليه؛ خلافًا لمن يقول أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز.
قلت: مذهب الفقهاء في ذلك واختلافهم: ما ذكره أبو عمر في "التمهيد" فقال: قال مالك: لا يجوز بيع المكاتب إلا أن يعجز عن الأداء، فإن لم يعجز عن الأداء فليس له ولا لسيده بيعه.
وقال ابن شهاب وأبو الزناد وربيعة: لا يجوز بيعه إلا برضاه، فإن رضي بالبيع فهو عجز منه.
وقال إبراهيم النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور: يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته؛ فإن أدَّى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، وإن عجز فهو عبد له.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبًا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته بحال.
وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه، وأما بيع كتابته فغير جائز بحال.
الثالث عشر: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق لها؛ لأن العلماء قد اجتمعوا -ولم تختلف في ذلك الآثار أيضًا-: أن بريرة كانت حين اشترتها عائشة رضي الله عنها ذات زوج، وإنما اختلفوا في زوجها هل كان حرًّا أو عبدًا.
وقد أجمع علماء المسلمين على أن الأمة إذا أعتقت زوجها عبد أنها تُخَيَّر، واختلفوا إذا كان زوجها حرًّا هل تُخَيّر أم لا؟ وقد مضى الكلام فيه في كتاب النكاح.
الرابع عشر: فيه أن النبي عليه السلام أجاز بيع بريرة على ذلك الشرط الفاسد وهو اشتراط موالي بريرة لأنفسهم الولاء دون عائشة وهي مُعْتِقَة، وقد احتجت به إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية؛ كما ذكرناه، وسيجيء الجواب عن ذلك إن شاء الله تعالى.
الخامس عشر: فيه حجة واضحة أن الولاء لمن أعتق، سواء كان ذكرًا أو أنثى، أو واحداً أو جمعًا؛ لأن قوله عليه السلام:"فإن الولاء لمن أعتق" عام؛ لأن "مَنْ" تصلح لما ذكرنا؛ لأن النساء ليس لهم من الولاء إلا من أعتقن أو أعتقه من أعتقن.
وقال أبو عمر (1): أما قوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" فإنه يدخل فيه كل مالك نافذ أمره مستقر ملكه من الرجال والنساء البالغين؛ إلا أن نساء ليس لهم من الولاء إلا ما أعتقن أو ولاء معتق من أعتقن؛ لأن الولاء للعصبات، وليس لذوي الفروض مدخل في ميراث الولاء إلا أن يكونوا عصبةً، وليس للنساء عَصَبة.
روى ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، أنه أخبره، عن سالم:"أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يونس موالي عمر دون بنات عمر".
وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه بمعناه، وعليه جماعة أهل العلم، ولا يستحق الولاء من العصبات إلا الأقرب فالأقرب، ولا يدخل بعيد على قريب [وإن قربت قرابتهم] (2) فأقرب العصبات: الأبناء، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب؛ لأنه ألصق الناس به بعد ولده وولد ولده، ثم الإخوة لأنهم بنو الأب، ثم بنوا الإخوة وإن سفلوا، ثم الجد أبو الأب، ثم العم لابن الجد، ثم بنو العم، فعلى هذا التنزيل ميراث الولاء.
ذكر إسماعيل بن إسحاق، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا هشام، قال: ثنا المغيرة، عن إبراهيم، أن عليًّا وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم كانوا يقولون:"الولاء للكبر".
قال أبو عمر: [على](3) قول علي وعبد الله وزيد: جمهور الفقهاء، وكثر أهل العلم كلهم يقولون: الولاء لا يحرزه في الميراث إلا أقرب الناس إلى المعتق يوم يموت الموروث المعتق، وأنه ينتقل أبدًا كهذه الحال.
(1)"التمهيد"(3/ 60).
(2)
سقط من "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد".
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد"(3/ 63)، وقد اختصر المؤلف الكلام اختصارًا شديدًا مخلًّا فراجعه هناك.
قال إسماعيل: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قتادة:"أن شريحًا قال في رجل ترك جدة وابنة ومولى، قال: للجد السدس من الولاء، وما بقي فللابن". قال قتادة: وقال زيد: "الولاء كله للابن".
قال أبو عمر: وعليه الناس اليوم.
السادس عشر: احتج بقوله: "الولاء لمن أعتق" من لا يجيز العتق عن غيره بغير أمره.
وتحقيق الكلام ها هنا ما قاله أبو عمر في "التمهيد": أجمع المسلمون على أن المسلم إذا أعتق عبده المسلم عن نفسه فإن الولاء له، هذا ما لا خلاف فيه.
واختلفوا فيمن أعتق عن غيره رقبة بغير إذن المعتق عنه ودون أمره.
وكذلك اختلفوا في النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه، وفي ولاء المعتق سائبة، وفي ولاء الذي يُسْلم على يد رجل. فقالوا في ذلك كله أقاويل شتى.
فأما عتق الرجل عن غيره: فإن مالكًا وأصحابه إلا أشهبًا قالوا: الولاء للمعتق عنه وسواء أمر بذلك أو لم يأمره إذا كان مسلمًا، فإن كان نصرانيًّا فالولاء لجماعة المسلمين.
وكذلك قال الليث بن سعد في ذلك كله.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه كقول مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إن قال: أعتق عبدك عني. على مال ذكره، فالولاء للمعتق عنه؛ لأنه بيع صحيح.
وإذا قال: أعتق عبدك عني بغير مال، فأعتقه فالولاء للمعتق؛ لأن الآمر لم يملك منه شيئًا وهي هبة باطلة؛ لأنها لا يصح فيها القبض.
وقال الشافعي: إذا أعتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير إكراه فولاؤه لك، وإن أعتقته عنه بأمره بعوض أو غير عوض فولاؤه له دونك، ويجزئه بمال أو بغير مال، وسواء قبله المعتق عنه بعد ذلك أو لم يقبله.
قال الشافعي: ولا يكون ولاء لغير معتق أبدًا، وكذلك قال أحمد وداود.
وقال الأوزاعي فيمن أعتق عن غيره: الولاء للمعتق.
وأما النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه؛ فإن مالكًا قال: ليس له من ولائه شيء، وولاؤه لجماعة المسلمين، ولا يرجع إليه الولاء أبدًا وإن أسلم، ولا إلى ورثته وإن كانوا مسلمين.
وقال الشافعي والعراقيون وأصحابهم: ولاؤه له، واحتجوا بعموم قوله عليه السلام:"الولاء لمن أعتق" لم يخص مسلمًا من كافر ولو لم يكن له عليه ملك ما بيع عليه، ودفع ثمنه إليه.
قال أبو عمر رحمه الله: أما المسلم إذا أعتق عبده النصراني فلا خلاف بين العلماء أن له ولاءه، وأنه يرثه إن أسلم إذا لم يكن له وارث من نسبه يحجبه، فإن مات العبد وهو نصراني فلا خلاف علمته أيضًا بين الفقهاء أن ماله يوضع في بيت مال المسلمين ويجري مجرى الفيء؛ إلا ما ذكره أشهب عن المخزومي، فإنه قال عنه: إن ميراثه لأهل دينه.
وأما الحربي يعتق مملوكه ثم يخرجان مسلمين: فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: للعبد أن يوالي من شاء، ولا يكون ولاؤه للمعتق، فكذلك عندهم كل كافر أعتق كافرًا، وقال الشافعي: له ولاؤه ويرثه إذا أسلم، واستحسنه أبو يوسف، وهو قياس قول مالك في الذمي يعتق الذمي ثم يسلمان.
وأما المعتق سائبة: فإن ابن وهب روى عن مالك قال: لا يعتق أحد سائبة.
قال أبو عمر: كل من أعتق سائبة نفذ عتقه وكان ولاؤه لجماعة المسلمين، هكذا روى ابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب وغيرهم عن مالك، وهو المشهور من مذهبه.
وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: من أعتق سائبة فولاؤه له، وهو يرثه دون الناس، وهو قول الشعبي وعطاء والحسن وابن سيرين وضمرة بن حبيب وراشد بن سعد، وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
وحجتهم في ذلك: قوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" فانتفى بذلك أن يكون الولاء لغير معتق.
وأما الذي يسلم على يدي رجل أو يواليه: فإن مالكًا وأصحابه وعبد الله بن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحابه قالوا: لا ميراث للذي أسلم على يديه ولا ولاء له بحال، وميراث ذلك إن لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين، وهو قول أحمد وداود، وحجتهم: قوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق".
وقال الليث بن سعد وربيعة: من أسلم على يدي رجل فولاؤه وميراثه للذي أسلم على يديه، قال الليث: إذا لم يدع وارثًا غيره. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه؛ إذا والاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له، والله أعلم.
ص: فكان من الحجة عليهم: أن هذه الآثار هكذا رويت: "أنها أرادت أن تشتريها فتعتقها فأبى أهلها إلا أن يكون ولاءها لهم"، وقد رواها آخرون على خلاف ذلك.
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم، منهم: يونس بن يزيد والليث، عن ابن شهاب، حدثهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "جاءت بريرة إليَّ فقالت: يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني، ولم تكن قضت من كتابتها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعًا ويكون ولاؤك لي فعلت.
فذهبت إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام فقال: لا يمنعك منها ذلك، ابتاعي وأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فما بال ناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، فإنما الولاء لمن أعتق".
قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث غير ما في الأحاديث الأُوَل؛ وذلك أن في الأحاديث الأُوَل: أن أهل بريرة أرادوا أن يبيعوها، على أن تعتقها عائشة ويكون ولاؤها لهم، فقال النبي عليه السلام:"لا يمنعك ذلك، اشتريها فأعتقيها؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
فكان في هذا الحديث إباحة البيع أن يعتق المشتري، وعلى أن يكون ولاء المُعْتق للبائع، فإذا وقع ذلك ثبت البيع بطل الشرط، وكان الولاء للمعتق.
وفي حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لها: "إن أحب أهلك أن أعطيهم ذلك -تريد الكتابة- صبة واحدة فعلت ويكون ولاؤك لي، فلما عرضت عليهم بريرة ذلك، قالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل، فقال رسول الله عليه السلام لعائشة: لا يمنعك ذلك منها، فأعتقيها؛ فإن الولاء لمن أعتق".
فكان الذي في هذا الحديث فيما كان من أهل بريرة من اشتراط الولاء ليس في بيع، ولكن في أداء عائشة إليهم الكتابة عن بريرة، وهم تولوا عقد تلك الكتابية، ولم يكن تقدَّم ذلك الأداء من عائشة ملك، فذكرت ذلك عائشة للنبي عليه السلام، فقال: لا يمنعك ذلك منها، أي لا ترجعي لهذا المعنى عما كنت نويت في عتاقها من الثواب؛ اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي عليه السلام ليس مما كان قبل ذلك بين عائشة وبين أهل بريرة في شيء.
ثم قام النبي عليه السلام فخطب فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" إنكارًا منه على عائشة في طلبها ولاء من تولى غيرها كتابته بحق ملكه عليه، ثم نبهها وعلمها بقوله:"فإنما الولاء لمن أعتق" أي أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فمكاتبه هو الذي أعتقه، فولاؤه له.
فهذا حديث فيه ضد ما في غيره من الأحاديث الأول، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه، هل يجب به فساد البيع أم لا؟
ش: هذه إشارة إلى الجواب عما احتج به إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه -من جواز البيع وفساد الشرط- بحديث عائشة في قصة بريرة؛ نصرة للفرقة الأخرى من أهل المقالة الثانية الذين ذهبوا إلى فساد البيع والشرط جميعًا.
وملخص هذا: أن الاحتجاج بالأحاديث المذكورة على جواز البيع وفساد الشرط غير تام؛ لأن عروة بن الزبير روى عن عائشة في هذا الباب ما يضاد تلك الأحاديث، بيانه: أن تلك الأحاديث يفهم منها إباحة البيع على أن يعتق المشتري، وأن يكون الولاء للبائع، فإذا وجد ذلك ثبت البيع وبطل الشرط ويكون الولاء للمعتق؛ لقوله عليه السلام:"الولاء لمن أعتق".
حديث عروة يفهم منه: أن اشتراط الولاء للبائع لم يكن في البيع وإنما كان في أداء عائشة الكتابة عن بريرة إلى أهلها، والحال أنهم هم الذين قد تولوا عقد تلك الكتابة، ولم يكن لعائشة ملك متقدم على الأداء، فذكرت عائشة ذلك للنبي عليه السلام، فقال لها عليه السلام: لا يمنعك منها ذلك أداء، وأنك لا ترجعي لأجل ما قالوا عما نويت من الثواب في عتاقها، اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، فكان ذكر الشراء ها هنا ابتداء من النبي عليه السلام ولم يكن ذلك فيما قيل بين عائشة وبين أهل بريرة، ثم إنه عليه السلام خطب فقال في خطبته مما قال إنكارًا منه على عائشة في كونها قد طلبت ولاء من تولى غيرها كتابته بحق تملكه عليه، ثم علمها بأن الولاء لا يكون إلا للمعتق؛ لقوله:"فإنما الولاء لمن أعتق" أراد أن المكاتب إذا أعتق بالكتابة فالذي كاتبه هو الذي أعتقه فيكون ولاؤه له، فهذا المعنى كله ضد ما في تلك الأحاديث، وليس فيه دليل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه هل يجب به فساد البيع أم لا؟
ثم رجال حديث عروة المذكور كلهم من رجال الصحيح وقد ذكروا غير مرة.
وأخرجه النسائي (1): أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، أخبرني رجال من أهل العلم منهم: يونس والليث
…
إلى آخره نحوه.
(1)"المجتبى"(7/ 305 رقم 4656).
فهذا النسائي والطحاوي اشتركا في إخراج هذا الحديث عن يونس ابن عبد الأعلى المصري، وقد روى عن يونس مسلم أيضًا على ما ذكرناه غير مرة.
قوله: "على تسع أواقٍ" جمع أوقية، وهي أربعون درهما، وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى.
وفيه دليل على أن التبايع كان بين الناس في ذلك الزمان بالأواق وبالنواة وبالنش، وهي أوزان معروفة.
قوله: "إن شاءت أن تحتسب عليك" معناه: تفعل ذلك احتسابا لله وطلبًا للأجر لا طلبًا للولاء.
قوله: "ابتاعي" أي اشتري؛ وسيجيء الكلام فيه عن قريب.
قوله: "أما بعد" كلمة قالها داود عليه السلام، قال الله عز وجل:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (1) قيل: فصل الخطاب هو: أما بعد، وقيل: البينات ومعرفة الشهود ومعرفة القضاء.
قوله: "فما بال ناس" أي شأنهم.
قوله: "كل شرط ليس في كتاب الله" أي ليس في حكم الله وقضائه في كتابه أو سنة رسوله عليه السلام.
قال أبو عمر: لا يُعلم نصٌّ في كتاب الله ولا في دلالة منه أن الولاء للمعتق، وذلك في سنة رسول الله عليه السلام المأثورة بنقل أهل العدالة من جهة الخبر الخالص، ولما أمر الله تعالى باتباع رسوله؛ جاز أن يقال لكل حكم حكم رسول الله عليه السلام: حكم الله وقضاؤه.
وقال أيضًا: وفيه دليل على أن الشروط وإن كثرت حتى تبلغ مائة شرط أو أكثر جائز اشتراطها إذا كانت لا يردها كتاب ولا سنة.
(1) سورة ص، آية:[20].
وقال عياض: فقوله عليه السلام: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فيجب أن يعلم أن الشروط المقارنة للبيع لا تخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون من مقتضى العقد كالتسليم وجواز التصرف في المبيع، وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه؛ لأنه يقضى به وإن لم يشترط.
والثاني: أن لا تكون من مقتضاه ولكنها من مصلحته كالحميل والزهي واشتراط الخيار، فهذا أيضًا يجوز اشتراطه؛ لأنه من مصلحته؛ فأشبه ما كان من مقتضاه، ولكنه إنما يقضى به مع الاشتراط، وإن لم يشترط فلا يقضي به، وهذا يفارق القسم الأول.
والثالث: أن تكون خارجة عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، بل يمنع من مقتضى العقد أو يوقع فيه غررًا أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة، فهذا موضع اضطراب العلماء، ومسائل المذهب مضطربة فيه، ولكن المشهور فيه على الجملة في القول المطلق: أن البيع والشرط جميعًا يُنْقَضان ويبطلان؛ لقوله عليه السلام: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد".
قوله: "قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق" قال الداودي: وشرط الله ها هنا أُرَاهُ -والله وأعلم- قوله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1)، وقوله:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (2)، وقال في موضع آخر هو قوله:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3)، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
…
} (4) الآية.
قال القاضي: وعندي أن الأظهر هو ما أعلم به عليه السلام من قوله: "إنما الولاء لمن أعتق"، و"مولى القوم منهم"، و"الولاء لحمة كالنسب".
(1) سورة الأحزاب، آية:[5].
(2)
سورة الأحزاب، آية:[37].
(3)
سورة البقرة، آية:[188].
(4)
سورة الحشر، آية:[7].
قال: وقوله في بعض الروايات: "كتاب الله أحق" يحتمل أن يريد حكمه، ويحتمل أن يريد القرآن، ويرجع إلى ما تقدم من قوله:{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (1) أو الآيتين الآخرين.
وفيه جواز السجع غير المتكلف، وإنما نهى النبي عليه السلام عن سجع الكهان وما أشبهه مما فيه تكلف، وإقسام على مطوي الغيب.
ص: فإن قال قائل: فإن هشام بن عروة قد رواه عن أبيه فزاد فيه شيئًا.
قلنا له: صدقت.
حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني، ثنا الشافعي، عن مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية؛ فأعينيني، فقالت لها عائشة: إن أحبَّ أهلك أن أعدها لهم عددتها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت.
فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم ذلك، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول الله عليه السلام جالس فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها، فأخبرته عائشة فقال: خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق. ففعلت عائشة رضي الله عنها، فقام رسول الله عليه السلام في الناس
…
" فذكر مثل ما في حديث الزهري.
حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك
…
فذكر بإسناده مثله.
ففي هذا الحديث مثل ما في حديث الزهري: أن الذي كان فيه الاشتراط من أهل بريرة أن يكون الولاء لهم وإباء عائشة إلا أن يكون الولاء لها هو أداء عائشة عن بريرة الكتابة، فقد اتفق الزهري وهشام على هذا الحديث، وخالفا في ذلك أصحاب الأحاديث الأُوَل، وزاد هشام على الزهري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
(1) سورة الأحزاب، آية:[5].
هكذا في حديث هشام، وموضع هذا الكلام في حديث الزهري:"ابتاعي وأعتقي؛ فإنما الولاء لمن أعتق".
ففي هذا اختلف هشام والزهري، فإن كان الذي يعتبر في هذا هو الضبط والحفظ فيؤخذ بما روى أهله ويترك ما روى الآخرون، فإن ما روى الزهري أولى؛ لأنه أضبط وأتقن وأحفظ من هشام.
وإن كان الذي يعتبر في ذلك هو التأويل، فإن قوله:"خذيها" قد يجوز أن يكون معناه: وابتاعيها، كما يقول الرجل لصاحبه: بكم أخذت هذا العبد؟ يريد: بكم ابتعت هذا العبد؟ وكما يقول الرجل للرجل: خذ هذا العبد بألف درهم، يريد بذلك: البيع، ثم قال رسول الله عليه السلام:"واشترطي" فلم يبين رسول الله عليه السلام ما يشترط، فقد يجوز أن يكون أراد: واشترطي ما يشترط في البياعات الصحاح.
فليس في حديث هشام هذا -لما كشف معناه- خلاف لشيء عما في حديث الزهري، ولا بيان فيهما كيف حكم البيع إذا وقع فيه مثل هذا الشرط، هل يكون فاسدًا أو يكون جائزًا؟
ش: حاصل هذا السؤال أن يقال: كيف تقول: وليس في حديث عروة المذكور ما يدل على اشتراط الولاء في البيع كيف حكمه: هل يجب به فساد البيع أم لا؟ وقد روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، نحو حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة، وزاد فيه شيئًا وهو قوله:"خذيها واشترطي" على ما يجيء بيانه الآن؟ فإنه يدل على أن البيع صحيح بهذا الشرط مع بطلان الشرط.
وتقرير الجواب أن يقال: إن حديث الزهري وحديث هشام متفقان على أن الذي كان فيه الاشتراط من أهل بريرة أن يكون الولاء لهم، وأن عائشة أَبَتْ إلا أن يكون الولاء لها، فقد اتفق الزهري وهشام على هذا، ولكنهما خالفا في ذلك سائر رواة الحديث التي مضت في الفصل الأول، وزاد هشام على الزهري قوله عليه السلام:"خذيها"، وفي حديث الزهري عوض هذه اللفظة:"ابتاعيها".
فقد اختلف الزهري وهشام في هذا الموضع، فإن كان الاعتبار في مثل هذا القول مَنْ هو أحفظ وأضبط؛ فيكون ما رواه الزهري أولى؛ لأنه أحفظ وأضبط وأتقن من هشام. وإن كان الاعتبار فيه للتأويل؛ فإن قول هشام:"خذيها" قد يجوز أن يكون معناه: ابتاعيها كلفظ الزهري؛ فإن مثل هذا كثير كما ذكره في المتن.
ثم قوله عليه السلام: "واشترطي" ليس فيه بيان ما يشترط، فقد يجوز أن يكون أراد: واشترطي ما يشترط في البيوع الصحيحة، فإذا كان الأمر كذلك لا يكون في حديث هشام ما يخالف ما في حديث الزهري، ولا في حديثهما بيان كيف حكم المبيع إذا وقع فيه مثل هذا الشرط هل يكون فاسدًا أو جائزًا؟ فإذا كان كذلك لا يتم به الاستدلال على أن البيع صحيح والشرط باطل.
وقال الطحاوي في "مشكل الآثار" ما ملخصه: أنه لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام، فأما من سواه -وهو الليث بن سعد وعمرو بن الحارث- فقد رويا عن هشام من السؤال لولاء بريرة إنما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم، فقال عليه السلام:"لا يمنعك ذلك منها، ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق" وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام: "خذيها واشترطي؛ فإنما الولاء لمن أعتق" مع أنه يحتمل أن يكون معنى "اشترطي": أظهري؛ لأن الاشتراط في كلام العرب هو الإظهار، ومنه قول أوس بن حجر:
فَأَشْرَطَ فيها نَفْسَهُ وهو مُعْصِمٌ
…
فَأَلْقَى بأسبابٍ لَهُ وَتَوكَّلا
أي أظهر نفسه.
أي أظهري الولاء الذي يوجبه عتاقك أنه لمن يكون ذلك العتاق منه دون من سواه.
وقال بعضهم: إن معنى "اشترطي لهم" أي عليهم كقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (1).
(1) سورة الإسراء، آية:[7].
وقال محمد بن شجاع: هو على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (1)، وكقوله:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} (2)، ألا ترى أنه عليه السلام صعد المنبر وقال: "ما بال رجال
…
" إلى آخره.
وقال القاضي: المشكل في هذا الحديث ما وقع من طريق هشام ها هنا، وهو قوله عليه السلام:"اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء" كيف أمرها رسول صلى الله عليه وسلم بهذا وفيه عقد بيع على شرط لا يجوز؟ وتغرير بالبائعين إذ اشترطت لهم ما لا يصح وخدعتهم فيه، ولما صعب الانفصال عن هذا على بعض الناس أنكر هذا الحديث أصلاً.
فحكي ذلك عن يحيى بن أكثم، وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللفظة، وهذا ما يشجع يحيى على إنكارها، وأما المحصلون من أهل العلم فطلبوا لذلك تأويلًا واختلفوا فيه، فقال بعضهم:"لهم" ها هنا بمعنى "عليهم"، فيكون معناه: اشترطي عليهم الولاء، وعبَّر عن "عليهم" بلفظ "لهم" كما قال تعالى:{أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (3) بمعنى: عليهم.
وقال آخرون: معنى "اشترطي" ها هنا: أظهري حكم الولاء.
وقال أوس بن حجر: يذكر رجلاً تدلى من رأس جبل إلى نبقةٍ ليقطفها فيتخذ منها قوسًا:
فَأَشْرِط مِنْها نفسه
…
إلى آخره على ما مرَّ الآن، ومعناه: جعل نفسه علمًا لذلك الأمر، ومنه قيل: أشراط الساعة: أي علاماتها، ومنه سُمُّوا أصحاب الشرط؛ لأنه كان لهم في القديم علامات يعرفون بها، ومنه: الشرط في كذا بمعنى أنه علم عليه.
(1) سورة فصلت، آية:[40].
(2)
سورة الإسراء، آية:[64].
(3)
سورة الرعد، آية:[25].
ثم إنه أخرج حديث هشام بن عروة من طريقين صحيحين:
الأول: عن المزني، عن الشافعي، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (1): عن إسماعيل، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.
قوله: "أن أعدها لهم عددتها لهم" فيه دليل على أن العد في الدراهم الصحاح يقوم مقام الوزن، وأن الشراء بها جائز من غير ذكر الوزن.
قوله: "خذيها وأشرطي"، قال القاضي: قال الطحاوي: رواية الشافعي عن مالك في هذا الحديث: "أشرطي" بغير تاء؛ أي أظهري لهم حكمه وعلميهم سنته، وليس من الاشتراط، والله أعلم.
ص: وأما ما احتج به الذين فسدوا البيع بذلك الشرط: فما حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخَصِيب بن ناصح، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن بيع وسلف، وعن شرطين في بيعة".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد
…
فذكر بإسناده مثله.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 972 رقم 2579).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 1142 رقم 1504).
حدثنا أبو أمية، قال: ثنا محمد بن الفضل، قال: ثنا حماد بن زيد
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن شرطين في بيع، وعن سلف وبيع".
حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء الغداني، قال: أنا همام، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن النبي عليه السلام نهى عن بيع وسلف".
قالوا: فالبيع في نفسه شرط، فإذا شُرِطَ فيه شَرْطٌ آخر فقد صار شرطين في بيع؛ فهذا هو الشرطان المنهي عنهما عندهم، المذكورين في هذا الحديث.
ش: هذا بيان استدلال الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه من فسافى البيع وفساد الشرط، وقد استدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فإنه يدل على أن البيع بالشرط غير جائز، وفسروا قوله عليه السلام:"وعن شرطين في بيع"، وقوله:"ولا شرطان في بيع" بأن البيع في نفسه شرطًا، فإذا شُرِطَ فيه شرط آخر فقد صار شرطين في بيع.
ويفهم من هذا أن كل بيع يشرط فيه شرط واحد يطلق عليه أنه بيع فيه شرطان، وبهذا نرد على قول بعض الحنابلة في نهيه عليه السلام عن شرطين في بيع: أن هذا يدل بمفهومه على جواز الشرط الواحد؛ وذلك لأن الشرط الواحد حيث ما يكون في البيوع يطلق عليه أن فيه شرطين، ولا يتصور حينئذٍ إطلاق شرط واحد فقط فضلاً عن أن يحكم بجوازه، فافهم؛ فإنه موضع دقيق.
ثم إنه أخرج الحديث المذكور من سبعة طرق:
الأول: عن نصر بن مرزوق، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- بن ناصح الحارثي، عن حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند دينار البصري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا عبد الأعلى، ثنا حماد النرسي، ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن النبي عليه السلام نهى عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وبيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم تضمن".
فإن قيل: ما حالة هذا الإسناد؟
قلت: جيد حسن، بل صحيح؛ لأن الترمذي لما أخرجه قال: هذا حديث حسن صحيح.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا زهير بن حرب، قال: ثنا إسماعيل، عن أيوب، قال: حدثني عمرو بن شعيب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك".
الثالث: عن إبراهيم أيضًا، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن أيوب
…
إلي آخره.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 283 رقم 3504).
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا كامل بن طلحة، ثنا حماد بن زيد وحماد بن سلمة، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم تضمن، وبيع ما ليس عندك".
الرابع: عن أبي أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، عن محمد بن الفضل عارم شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عمرو بن شعيب.
وأخرجه النسائي (1): ثنا زياد بن أيوب، نا ابن علية، نا أيوب، نا عمرو بن شعيب، حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن".
الخامس: عن الحسن بن عبد الله بن منصور البالسي، عن الهيثم بن جميل الحافظ نزيل أنطاكية، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي الكوفي، عن عمرو بن شعيب
…
إلى آخره.
السادس: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء الغداني عن همام بن يحيى، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري، عن عمرو بن شعيب
…
إلى آخره.
السابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ شيخ الشافعي، عن داود بن قيس الفراء الدباغ، عن عمرو بن شعيب
…
إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (2)، وابن ماجه (3) أيضًا.
وهذه الطرق كلها صحاح، ورجالها ثقات قد تكرر ذكرهم.
قوله: "لا يحل سلف وبيع" مثاله أن تقول: أبيعك هذه السلعة بكذا على أن تسلفني في متاع أبيعه منك إلى أجل، أو تقول: أبيعك بكذا على أن
(1)"المجتبى"(7/ 295 رقم 4630).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 535 رقم 1234).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 737 رقم 2188).
تقرضني كذا، ويكون معنى السلف: القرض، وذلك فاسد؛ لأنه إنما يقرضه على أن يحاسبه في الثمن، فقد حلّ الثمن في حد الجهالة، ولأن "كل قرض جر نفعًا فهو ربا".
قوله: "ولا شرطان في بيع" أي: ولا يحل شرطان في بيع، وقد مرَّ الكلام فيه عن قريب.
قوله: "وبيع ما ليس عندك" يريد العين لا تبع للصفة؛ لأن المسلم فيه بيع ما ليس عند البائع في الحال وهو جائز بالصفة، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل أن يبيعه عبده الآبق أو جمله الشارد.
قوله: "وعن ربح ما لم تضمن" وهو أن يبيعه سلعة عند اشترائها ولم يكن قبضها، فهو على ضمان البائع الأول ليس من ضمانه، فهذا لا يجوز بيعها حتى يقبضها فتكون من ضمانه.
ص: وقد خولفوا في ذلك، فقيل: الشرطان في البيع هو أن يقع البيع على ألف درهم حالّ أو مائة دينار إلى سنة، فيقع البيع على أن يعطيه المشتري أيهما شاء، فالبيع فاسد؛ لأنه وقع بثمن مجهول، وكان من الحجة لهم في ذلك ما قد روي عن أصحاب رسول الله عليه السلام: أن مبشر بن الحسن حدثنا، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن خالد بن سلمة، قال: سمعت محمد بن عمرو بن الحارث يحدث، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما:"أنها باعت عبد الله جاريةً واشترطت خدمتها، فذكرت ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: لا يقربها ولأحدٍ فيها مشوبة".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، عن عبيد الله بن عمر، قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، قال:"لا يحل فرج إلا فرج إن شاء صاحبه باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه؛ لا شرط فيه".
حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب".
فقد أبطل عمر رضي الله عنه بيع عبد الله، وتابعه عبد الله على ذلك، ولم يخالفه فيه، وقد كان له خلافه أن لو كان يرى خلاف ذلك؛ لأن ما كان من عمر رضي الله عنه لم يكن على جهة الحكم، وإنما كان على جهة الفتيا، وتابعتهما زينب امرأة عبد الله على ذلك، ولها من رسول الله عليه السلام صحبة، وتابعهم على ذلك عبد الله بن عمر وقد علم من رسول الله عليه السلام ما كان من قوله لعائشة رضي الله عنها في أمر بريرة، على ما قد رويناه عنه في هذا الباب.
فدل ذلك أن معناه كان عنده على خلاف ما حمله عليه الذين احتجوا بحديثه، ولم نعلم أحدًا من أصحاب النبي عليه السلام غير من ذكرنا ذهب إلى غير ما ذهب إليه عمر ومن تابعه على ذلك ممن ذكر في هذه الآثار؛ فكان ينبغي أن يجعل هذا أصلاً وإجماعًا من أصحاب النبي عليه السلام ولا يخالف ذلك.
فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.
ش: أي: وقد خولف القوم الذين أفسدوا البيع بذلك على الشرط، والمخالفون هم بعض الحنابلة، فإنهم قالوا: المراد من الشرطين من نهيه عليه السلام عن شرطين في بيعة: هو أن يقع البيع على ألف درهم حالّ أو مائة دينار
…
إلى آخره، فهذه الصورة عند هؤلاء يكون فيها ثلاث شروط؛ لأن البيع نفسه شرط، وشرطان آخران: أحدهما: قوله: على ألف درهم حالَّة، والآخر: قوله: أو مائة دينار إلى سنة.
وقال الخطابي: معنى قوله: "ولا شرطان في بيع" هو أن يقول: بعت هذا الثوب نقدًا بدينار، ونسيئة بدينارين، فهذا بيع واحد يضمن شرطين يختلف المقصود منه بأختلافهما وهو الثمن، ويدخله الغرر والجهالة، ولا فرق في مثل هذا بين شرط واحد وبين شرطين اثنين.
قوله: "وكان من الحجة لهم في ذلك
…
" إلى آخره، جواب عما قاله هؤلاء المخالفون، بيانه: أن عمر رضي الله عنه أبطل بيع عبد الله بن مسعود، وعبد الله تابع عمر على ذلك ولم يخالفه فيه، ولو كان عنده خلافه لخالفه في ذلك، ولكن كان عنده مثل
ما أفتي به عمر رضي الله عنه ولا سيما تابعته أيضًا على ذلك زينب امرأة عبد الله وهي أيضًا صحابية، وتابعهم على ذلك أيضًا عبد الله بن عمر فيما روى نافع عنه، والحال أنه قد علم من رسول الله عليه السلام ما كان من قوله لعائشة في أمر بريرة على ما مرت روايته فيما مضى، فدلَّ ذلك على شيئين:
الأول: أن معنى حديث بريرة كان عند عبد الله بن عمر على خلاف ما حمله عليه أهل المقالة الأولى.
والثاني: أن هذا الحكم، أعني فساد البيع بفساد الشرط صار كالمجمع عليه؛ لأنا لا نعلم أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم ذهب في ذلك إلى خلاف ما ذهب إليه عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وامرأته زينب رضي الله عنهم.
فإن قيل: الأظهر من أمر عمر رضي الله عنه: "لا يقربها" أنه أمضى شراءه لها ونهاه عن وطئها، فلا يدلُّ ذلك على فساد البيع بالشرط.
قلت: لا نسلم ذلك، ولكن معنى كلامه: تنح عنها وافسخ البيع فهو فاسد، وهكذا فُسِّر كلامه في بعض شروح "الموطأ"، ثم قال: وروي عنه نحو هذا الخبر، وأن عمر رضي الله عنه قال له:"ليس من مالك ما فيه مشوبة لغيرك".
وقال أبو مصعب: قال مالك: قول عمر رضي الله عنه: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يريد: لا تشترها، ليس: لا تطأها.
وقال محمد بن معاوية الحضرمي: سمعت مالكًا يقول في قول عمر رضي الله عنه: "لا تقربها وفيها شرط لأحد" يقول: لا تطأها، وهذا خلاف مذهب مالك عند أصحابه، والصحيح عندهم ما ذكره أبو مصعب عنه. قاله ابن زرقون في "شرح الموطأ".
وقال أبو عمر: ظاهر قوله: "اشترطت خدمتها" أن ذلك كان في نفس العقد لا تطوعًا بعد كماله، وهذا يسمى بيع الثُنْيا، وهو بيع فاسد مع النقد، وإذا كانت الثنيا غير مؤقتة مثل أن يقول: متى جئت بالثمن رددت عليك المبيع، أو: متى أردت بيعه رددته عليك بالثمن الذي أعطى بها أو بالثمن الذي اشتريتها به، فهذا كله غير جائز؛ لنهي رسول الله عليه السلام عن الثُنْيَا.
ثم إسناد أثر زينب امرأة عبد الله صحيح، ورجاله ثقات.
فأبو عامر العقدي اسمه عبد الملك بن عمرو، روى له الجماعة.
وأخرجه مال في "موطئه"(1): عن ابن شهاب، أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخبره:"أن عبد الله بن مسعود ابتاع جارية من زينب الثقفية واشترطت عليه إن بعتها فهي بالثمن الذي تبيعها به، فسأل عبد الله بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر بن الخطاب: لا تقربها وفيها شرط لأحد".
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، قال: "ابتعت جارية وشرط علي أهلها أن لا أبيع ولا أهب ولا أمهر فإذا مت فهي حرة، فسألت الحكم بن عتيبة فقال: لا بأس به. وسألت مكحولًا فقال: لا بأس به. قلت: يخاف عليّ منه؟ قال: بل أرجو لك فيه أجرين، وسألت عطاء أو سئل فكرهه.
قال الأوزاعي: فحدثني يحيى بن أبي كثير، عن الحسن قال:"البيع جائز والشرط باطل. وسألت عبدة بن أبي لبابة فقال: هذا فرج سوء. وسألت الزهري فأخبرني أن ابن مسعود كتب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن جارية ابتاعها من امرأته على أنه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فقال عمر رضي الله عنه: لا تطأ فرجًا فيه شيء لغيرك".
حدثنا (3) وكيع وابن أبي زائدة، عن مسعر، عن القاسم، قال: قال عمر رضي الله عنه: "ليس من مالك ما كان فيه شوبة لغيرك".
حدثنا (4) وكيع، قال: ثنا جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة:"أن ابن مسعود اشترى من امرأته زينب جارية واشترطت عليه إن باعها فهي أحق بها بالثمن، فسأل ابن مسعود عمر رضي الله عنهما فكره أن يطأها".
(1)"موطأ مالك"(2/ 616 رقم 1275).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 424 رقم 21747) بنحوه.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 425 رقم 21748).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 425 رقم 21757).
حدثنا (1) وكيع، عن مسعر، عن عمران بن عمير، أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله:"لا تقربها".
ثم إنه أخرج أثر ابن عمر رضي الله عنه من طريقين صحيحين:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية الكوفي أحد الأئمة الحنفية، روى له الجماعة، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، روى له الجماعة، عن نافع
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول:"لا يحل للرجل أن يطأ فرجًا إلا فرجًا إن شاء وهبه وإن شاء باعه وإن شاء عتقه، ليس فيه شرط".
الثاني: عن محمد بن النعمان السقطي، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير
…
إلى آخره.
وأخرج مالك في "موطئه"(3): عن نافع، أن عبد الله بن عمر كان يقول:"لا يطأ الرجل وليدة إلا وليدةً إن شاء باعها وإن شاء وهبها وإن شاء أمسكها وإن شاء صنع بها ما شاء".
قوله: "لا يحل فرج" أي وطء فرج إلا وطء فرج خالص له؛ إن شاء باعه وإن شاء وهبه وإن شاء أمسكه، والحال أنه لا شرط فيه ولا نزاع فيه لأحد.
ص: وأما وجهه من طريق النظر فإنا رأينا الأصل المجتمع عليه أن شروطًا صحاحًا قد تعقد في الشيء المبيع مثل الخيار إلى أجل معلوم للبائع أو للمبتاع فيكون البيع على ذلك جائزًا، وكذلك الأثمان قد تعقد فيها آجال يشترطها المبتاع فتكون
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 426 رقم 21758).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 336 رقم 10613).
(3)
"موطأ مالك"(2/ 616 رقم 1276).
لازمة إذا كانت معلومة، ويكون البيع مضمنًا بها، ورأينا ذلك الأجل لو كان فاسدًا أفسد بفساده البيع، ولم يثبت البيع وينتفي هو إذا كان معقودًا فيه، فلما جعل البيع مضمنًا بهذه الشرائط المشروطة في ثمنه من صحتها وفسادها فجعله جائزًا بجوازها وفاسدًا بفسادها، ثم كان البيع إذا وقع على المبيع وكان عبدًا على أن يخدم البائع شهرًا، فقد ملك البائع المشتري العبد على أن ملكه المشتري ألف درهم وخدمة العبد شهرًا، والمشتري حينئذٍ فغير مالك للخدمة ولا للعبد؛ لأن ملكه إنما يكون بعد تمام البيع، فصار البيع واقعًا بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري في وقت ابتياعه بالمال وبخدمته.
وقد رأيناه لو ابتاع عبدًا بخدمة أمة لا يملكها كان البيع فاسدًا، فالنظر على ذلك أن يكون البيع أيضًا كذلك إذا عقد بخدمة من لم يكن تقدم ملكه له قبل ذلك العقد؛ لأن رسول الله عليه السلام قد نهى عن بيع ما ليس عندك، ولما كانت الأثمان مضمنة بالآجال الصحيحة والفاسدة على ما قد ذكرنا؛ كان كذلك الأشياء المثمونة أيضًا المضمنة بالشرائط الفاسدة والصحيحة.
فثبت بذلك أن البيع لو وقع واشترط فيه شرط مجهول أن البيع يفسد بفساد ذلك الشرط على ما قد ذكرنا؛ فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع يبطل الشرط، وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط، ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين وغير القول الآخر: أن البيع يبطل إذا اشترط فيه ما ليس منه.
فلما انتفى القولان الأولان ثبت القول الآخر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: وجه هذا النظر والقياس ظاهر.
ملخصه: أن الشروط التي هي من مقتضيات العقد لا تفسد العقد إذا كانت معلومة كالخيار لأحد المتعاقدين والتأجيل في الثمن، وتُفسد العقد إذا كانت مجهولة، فالنظر على ذلك أن نفسد العقد بشروط ليست من مقتضيات العقد سواء كانت معلومة أو مجهولة.
فإن قيل: إذا كانت مجهولة فمسلّم، وإذا كانت معلومة فلم تبطل؟
قلت: لأن فيه معنى آخر وهو أنه يؤدي إلى بيع ما ليس عندك وهو باطل.
بيان ذلك: أنه إذا اشترى عبدًا وشرط فيه البائع أن يخدمه العبد شهرًا فالعقد يكون بمال وبخدمة عبد لا يملكه المشتري وقت العقد، فيكون نظيره كمن اشترى عبدًا بخدمة أمة لا يملكها، فلما كان هذا فاسدًا فكذلك هناك؛ لأنه عقد بخدمة عما ليس عندك.
فإن قيل: روى ابن وهب في "مسنده": حدثني سليمان بن بلال، ثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم".
وأخرج ابن حزم (1): من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي، ثنا الحزامي، عن محمد بن عمر، عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمر بن عبد العزيز قال: قال رسول الله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك، عن عطاء، بلغنا أن النبي عليه السلام قال:"المسلمون على شروطهم".
حدثنا (3) ابن أبي زائدة، عن الحجاج بن أرطاة، عن خالد بن محمد، عن شيخ من بني كنانة، سمعت عمر رضي الله عنه يقول:"المسلم عند شرطه".
ثنا (4) حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال:"المسلمون عند شروطهم".
فهذا كله يدل على أن الشرط لا يضر صحة البيع.
(1)"المحلى"(8/ 414).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 450 رقم 22022).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 450 رقم 22023).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 450 رقم 22030).
قلت: المراد من هذه الشروط هي التي أباحها الله تعالى، لا التي نهاهم عنها، وقد قال عليه السلام:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط"، على أن ابن حزم قد قال: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمرو بن زيد هالك متروك باتفاق، والوليد بن رباح مجهول، وعبد الملك هالك، ومحمد بن عمر هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف، وهو مرسل أيضًا، والحجاج بن أرطاة هالك، وخالد بن محمد مجهول، وكذلك شيخ من بني كنانة.
وخبر علي رضي الله عنه مرسل.
قوله: "فقد انتفى قول من قال: يجوز البيع يبطل الشرط" وهو قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية.
قوله: "وقول من قال: يجوز البيع ويثبت الشرط" وهو قول أهل المقالة الأولى الذي ذكر في أول الباب.
قوله: "ولم يكن في هذا الباب قول غير هذين القولين" أشار به إلى قول إحدى الفرقتين من أهل المقالة الثانية وقول أهل المقالة الأولى، وأراد بقوله:"وغير القول الآخر" هو قول الفرقة الثانية من أهل المقالة الثانية، وهو قول أصحابنا ومن معهم، والله أعلم.