الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: ثمن الكلب
ش: أي هذا باب في بيان حكم ثمن الكلب هل يباح أم لا؟
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، عن ابن مسعود:"أن النبي عليه السلام نهى عن ثمن الكلب ومهر البغيّ وحلوان الكاهن".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي مسعود، أن النبي عليه السلام قال: "ثلاث هن سحتٌ
…
" ثم ذكر مثله.
ش: هذان إسنادان رجالهما كلهم رجال الصحيح.
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن، والصحيح أن اسمه وكنيته واحد.
عن أبي مسعود البدري، واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري في الطلاق (1): عن علي.
وفي الطب (2): عن عبد الله بن محمد، كلاهما عن ابن عيينة، عن الزهري
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه في البيوع (3): عن عبد الله بن يوسف.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2045 رقم 5031).
(2)
"صحيح البخاري"(5/ 2172 رقم 5428).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 779 رقم 2162).
وفي الإجارة (1): عن قتيبة كلاهما، عن مالك، عن الزهري
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم في البيوع (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.
وعن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث.
وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن عيينة، ثلاثتهم، عن الزهري، عن أبي بكر
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه أبو داود (3): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري
…
إلى آخره.
الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري
…
إلى آخره.
قوله: "ومهر البغي" البَغِيّ -بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء- الفاجرة، وأصله: بغوى على وزن فَعْوَل بمعنى فاعلة وهي صفة لمؤنث فلذلك جاءت بغير هاء كما تجيء إذا كانت بمعنى مفعول نحو رَكُوب وَحَلُوب، ولا يجوز أن تكون بغي ها هنا على وزن فعيل؛ إذ لو كان كذلك للزمته الهاء كامرأة حليمة وكريمة، والبِغَاء -بكسر الياء ممدود- الزنا والفجور، قال الله عز وجل:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} (4) يقال: بَغَت المرأة تَبْغِي بِغَاءً بالكسر، وامرأة بغي، ومنه قوله تعالى:{وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (5)، وتجمع على بغايا.
قوله: "وحُلْوَان الكاهن" الحُلوان -بالضم- الرشوة، وهو ما يعطى الكاهن ويجعل له على كهانته تقول منه: حلوت الرجل حلوانًا إذا حبوته بشيء. قال الهروي: قال بعضهم: أصله من الحلاوة شبه بالشيء الحلو، يقال: حلوته إذا أطعمته الحلو، كما يقال: عسلته إذا أطعمته العسل.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 797 رقم 2162).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1198رقم 1567).
(3)
"سنن أبي داود"(3/ 267 رقم 3428).
(4)
سورة النور، آية:[33].
(5)
سورة مريم، آية:[20].
قال أبو عبيد: والحلوان أيضًا في غير هذا: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وهو عيب عند النساء، قالت امرأة تمدح زوجها:
لا يَأْخُذُ الحُلوانَ من بَنَاتِنا
وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: وأصل الحلوان في اللغة العطية، قال الشاعر:
فمن رجلٌ أحلوه رَحْلي وناَقَتِي
…
يُبَلِّغُ عني الشِّعْرَ إذا مات قائِلُه
قال الجوهري: حَلَوْت فلانًا على كذا مالاً، وأنا أَحْلُوه حُلْوًا وحلوانًا: إذا وهبت له شيئًا على شيء يفعله لك غير الأجرة، والحلوان أيضًا: أن يأخذ الرجل من مهر ابنته لنفسه، وكانت العرب تعير به.
و"الكاهن": الذي يخبر بالغيب المستقبل، و"العراف": الذي يخبر بما أخفي وقد حصل في الوجود، ويجمع الكاهن على كهنة وكهان، يقال: كَهَنَ يَكْهُنُ كِهَانَة، مثل كَتَبَ يَكْتُبُ كتَابةً إذا تكهن، فإذا أردت أنه صار كاهنًا قلت: كَهُنَ -بالضم- كَهَانَةً -بالفتح-.
وقال ابن الأثير: الكاهن الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار، وقد كان في العرب كهنة كَشِقٍّ وسَطِيح وغيرهما، فمنهم من كان يزعم أن له تابعًا من الجن وَرَئيًّا يلقي إليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم "العراف" كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما.
والحديث الذي فيه "من أتى كاهنًا" قد يشتمل على إتيان الكاهن والعراف والمنجم.
قوله: "ثلاثة هن" أي ثلاثة أشياء هن.
"سحت" أي حرام. وقال ابن الأثير: السحت: الحرام الذي لا يحل كسبه؛ لأنه يَسْحَت البركة أي يذهبها.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: فيه أن ثمن الكلب حرام، وسيجيء الكلام فيه مستقصى.
الثاني: فيه أن مهر البغي حرام، وهو ما يعطى على النكاح المحرم، وإذا كان محرمًا ولم يستبح بعقد؛ صارت المعاوضة عليه لا تحل؛ لأن ما حرم الانتفاع به فكأنه لا منفعة فيه أصلاً. وقال القاضي: لم يختلف العلماء في تحريم أجر البغي وحلوان الكاهن؛ لأنه ثمن عن محرم، وقد حرم الله الزنا، وكذلك أجمعوا على إبطال أجر المغنية والنائحة.
الثالث: فيه أن حلوان الكاهن حرام؛ لأنه عليه السلام نهى عن إتيان الكهان مع أن ما يأتون به باطل وجله كذب، قال تعالى:{تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} (1)، وأخذ العوض على مثل هذا -ولو لم يكن منهيًّا عنه- من أكل المال بالباطل، ولأن الكاهن يقول ما لا ينتفع به، ويعان بما يعطاه على ما لا يحل.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ، أن السائب ابن يزيد حدثه، أن رافع بن خديج رضي الله عنه حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث".
ش: إسناده صحيح، فيه صحابي عن صحابي، أحدهما: هو السائب بن يزيد ابن سعيد الكندي الصحابي، والآخر: رافع بن خديج الأنصاري.
وبقية الرجال رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق.
وأخرجه مسلم (2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني إبراهيم بن قارظ، عن السائب بن يزيد
…
إلى آخره نحوه.
(1) سورة الشعراء، آية:[222، 223].
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1193 رقم 1568).
وأحْرجه الترمذي (1): قال: ثنا محمد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير
…
إلى آخره نحوه.
وقال: حديث رافع حديث حسن صحيح.
وفيه: أن كسب الحجام خبيث، ولكنه محمول على أن المراد منه التنزه عن كسبه؛ لأنها من الصنائع المستقذرة الذميمة، والشرع يحض على مكارم الأخلاق والتنزه عن الدناءة، والدليل على ذلك:
ما رواه مسلم (2): عن ابن عباس رضي الله عنهما: "حجم النبي عليه السلام عبد لبني بياضة، فأعطاه النبي عليه السلام أجره، وكلم سيده فخفف عنه ضريبته، ولو كان سحتًا لم يعطه".
وقد ذهب بعض الناس إلى منع ذلك في الأحرار، واستعمل الحديث فيمن وقع على صفة ما وقع عليه، وأظنهم يجيزونه في العبد ليعلف به نواضحه ورقيقه.
وفي الترمذي (3): "أنه عليه السلام استؤذن في إجارة الحجام فنهى الذي استأذنه عنها، فلم يزل يستأذنه ويسأله حتى قال: اعلفه ناضحك ورقيقك".
قال القاضي: كذا قال أحمد بن حنبل وفقهاء أصحاب الحديث كما أشار إليه أنه محرم على الأحرار مباح للعبيد أخذًا بظاهر الحديث الذي ذكره من قوله: "اعلفه ناضحك ورقيقك"، وعامة الفقهاء على خلاف قولهم، وأنه جائز أكله، وحملوا الحديث على التنزيه والحض على مكارم الأخلاق؛ إذ لا يجوز للرجل أن يطعم عبيده ما لا يحل أكله، وجعلوا أن إباحته هذه ناسخة لقوله:"كسب الحجام خبيث" والخبيث: الحرام، وأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تراه في حديث "الموطأ"(4) والترمذي (5) نهاه أولاً فلم يزل يسأله حتى أباح له إطعامه لناضحه
(1)"جامع الترمذي"(3/ 574 رقم 1275).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1204 رقم 1202).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 575 رقم 1277).
(4)
"الموطأ"(2/ 974 رقم 1756).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 575 رقم 1277).
ورقيقه؟ وأنه حجمه أبو طيبة وأعطاه أجره؟! ولا يعطي النبي عليه السلام ما لا يحل، والحجام هنا هو الذي يحجم لا ما يطلقه الناس على المزين وغيره.
قال القاضي: وقد رأيت الطحاوي ذهب إلى جواز الاستئجار على فصد العرق وتعريب الدواب. قال: فكذلك الحجامة. والذي عنده أنه لا فرق بين فصد العرق والحجامة، وأنه يدخلها من الكراهة ما دَخَلَهَا؛ لا سيما على ما جاء في بعض الأحاديث:"نهى عن ثمن الدم"(1)، وقد قيل: إن النهي عن كسب الحجام قد يحتمل أن يكون بيع دم ما يفصده من الحيوانات لن يستجيز أكلها من الكفرة، أو لاستعمالها في بعض الأشياء، واحتج على ذلك بقوله: ونهى عن ثمن الدم".
وقيل: إنما كره لأنه لا يشترط أجرة معلومة قبل العمل، وإنما يعمل غالبًا بأجر مجهول.
وهذا لا تعلق فيه، وقد أجاز العلماء مثل هذا على ما استمرت به العادة في المكارمة، وإن كان لابن حبيب من أصحابنا ما ظاهره المنع في كل إجارة حتى يسمى الأجر، وقد حكى الداودي في هذا الباب جواز ما جرت به العادة أيضًا في معاملة الجزار وبياع الفاكهة ودفع الثمن إليه ليعطيك مما يبيعه دون أن تساومه أو تعرف كيف يبيعه.
ص: حدثنا ربيع المؤذن ونصر بن مرزوق، قالا: ثنا أسد، قال: ثنا عبد المجيد ابن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن حبيب بن وأبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام نهى عن ثمن الكلب".
ش: أسد هو ابن موسى الذي يقال له: أسد السنة.
وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي المكي مولى المهلب بن أبي صفرة قال يحيى: ثقة. وعنه: كان يروي عن قوم ضعفاء، وكان أعلم الناس بحديث ابن جريج، وكان يعلن بالإرجاء. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: لا يحتج به، يعتبر به. روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة.
(1) تقدم.
وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، روى له الجماعة.
وعاصم بن ضمرة السلولي الكوفي، وثقه العجلي وابن المديني، روى له الأربعة.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"ثمن الكلب حرام".
حدثنا يونس وحسين بن نصر، قالا: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن عبد الكريم
…
فذكر بإسناده.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبد الكريم الجزري، عن قيس بن حبتر -بفتح الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق وفي آخره راء- النهشلي الكوفي، وثقه النسائي وابن حبان.
وروى له أبو داود وأخرجه (1): ثنا الربيع بن نافع أبو توبة، قال: ثنا عبيد الله -يعني ابن عمرو- عن عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن عبد الله بن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا".
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى وحسين بن نصر بن المعارك كلاهما، عن علي بن معبد بن شداد الرقي صاحب محمد بن الحسن الشيباني، عن عبيد الله بن عمرو الأسدي الرقي، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1)"سنن أبي داود"(3/ 279 رقم 3482).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الخمر ومهر البغي وثمن الكلب، وقال: إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا".
ص: حدثنا مالك بن عبد الله التجيبي، قال: ثنا عثمان بن صالح (ح).
وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن صفوان بن سليم أخبره، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن ثمن الكلب وإن كان ضاريًا".
ش: هذان طريقان فيهما عبد الله بن لهيعة، وفيه مقال.
وعثمان بن صالح بن صفوان التجيبي المصري شيخ البخاري.
وعبيد الله بن أبي جعفر المصري الفقيه، روى له الجماعة.
وصفوان بن سليم المدني الفقيه، روى له الجماعة.
قوله: "وإن كان ضاريًا" وأصل بما قبله، أي: وإن كان كلب صيد ضاريًا، يقال: ضرى الكلب وأَضْرَاه صاحبه: أي عوده للصيد وأغراه به.
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني أبو سفيان، عن جابر -أثبته مرة، ومرة شك في أبي سفيان- عن النبي عليه السلام:"أنه نهى عن ثمن الكلب والسنور".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله، ولم يشك.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 6 رقم 10791).
ش: هذه ثلاث طرق:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن عمر بن حفص بن غياث النخعي الكوفي شيخ البخاري ومسلم، عن أبيه حفص بن غياث بن طلق النخعي القاضي بالكوفة واحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان -واسمه طلحة بن نافع- القرشي الواسطي الإسكاف، روى له الجماعة، البخاري مقرونًا بغيره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن الأعمش، قال: أنا أبو سفيان، ذكره عن جابر، قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب".
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عمرو بن علي، ثنا وكيع، ثنا الأعمش، عن جابر قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب والسنور".
قال الأعمش: أرى أبا سفيان ذكره.
قوله: "أثبته مرة" أي أثبت الأعمش ذكر أبي سفيان مرة، ومرة أخرى شك في ذكره، فعلى الأول يكون الحديث متصلاً، وعلى الثاني يكون منقطعًا.
الطريق الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سليمان الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر رضي الله عنه.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن أبي مذعور، ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر:"أن النبي عليه السلام نهى عن ثمن الكلب والسنور".
وأخرجه الترمذي (2): ثنا علي بن حجر وعلي بن خشرم، قالا: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب والسنور".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 296 رقم 36232).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 577 رقم 1279).
قال أبو عيسى: هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السنور. وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن بعض أصحابه عن جابر، واضطربوا على الأعمش في هذا الحديث.
الطريق الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود بن مهران شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر رضي الله عنه.
والحديث أخرجه مسلم (1): حدثني سلمة بن شبيب، قال: ثنا الحسن بن أعين، قال: ثنا معقل، عن أبي الزبير، قال:"سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي عليه السلام عن ذلك".
ثم وجه النهي عن ثمن السنور ما قاله بعضهم أن ذلك لَعَلَّه على جهة الندب لإعارته؛ لأنه إذا كان له ثمن شح عليه، قال: ولأنه لا يمكن ضبطه وإن ربط لم ينتفع به، فوقع ذلك. وقال بعضهم: لعله في السنور الوحشي، وجمهور العلماء على أنه لا يمنع من بيعه، ويذكر كراهة بيعه عن أبي هريرة ومجاهد وغيرهما؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث.
وقال أبو عمر بن عبد البر: حديث منع بيع السنور لا يثبت رفعه، وحديث أبي الزبير عن جابر في ذلك لم يروه غير حماد بن سلمة.
وقال ابن حزم في "المحلى"(2): ولا يحل بيع الهر، فمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر.
ثم روى في ذلك حديث جابر (3) الذي رواه مسلم على ما نذكره.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1199 رقم 1569).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 119 رقم 1569).
(3)
"المحلى"(9/ 13).
ثم قال: وروينا (1) من طريق قاسم بن أصبغ، نا محمد بن وضاح، نا محمد بن آدم، نا عبد الله بن المبارك، نا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله "أنه كره ثمن الكلب والسنور".
فهذه فتيا جابر رضي الله عنه بما روى، ولا نعرف له مخالفًا من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن طريق (2) سعيد بن منصور: نا أبو الأحوص، عن ليث، عن طاوس، عن مجاهد:"أنهما كرها أن يستمتع بمسوك السنانير وأثمانها".
ومن طريق ابن أبي شيبة (3): نا حفص بن غياث، عن ليث، عن طاوس ومجاهد "أنهما كرها بيع الهر وثمنه وأكله".
وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا.
وفي "المغني": فأما الهر فقد ذكر الخرقي جواز بيعها، وبه قال ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي.
وروي عن أحمد أنه كره ثمنها، وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد، واختاره أبو بكر.
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني معروف بن سويد، أن عُلَيّ بن رباح حدثهم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل ثمن الكلب".
حدثنا ابن أبي داود، قال: أنا المقدمي، قال: ثنا حميد بن الأسود، قال: ثنا عبد الله بن أبي هند، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي".
(1)"المحلى"(9/ 13).
(2)
"المحلى"(9/ 13).
(3)
"المحلى"(9/ 13).
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "ثمن الكلب من السحت".
حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، قال: ثنا محمد بن الفضل، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه خمس طرق:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معروف بن سويد الجذامي أبي سلمة المصري وثقه ابن حبان، عن عُلَيّ -بضم العين- بن رباح اللخمي المصري، قال العجلي: تابعي مصري ثقة.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن وهب: أخبرني معروف بن سويد الجذامي، أن علي بن رباح حدثهم، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي".
وأخرجه أبو داود (2): عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي شيخ البخاري ومسلم، عن حميد بن الأسود الكرابيسي البصري، عن عبد الله بن أبي هند -هو عبد الله بن سعيد بن أبي هند- الفزاري المدني، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي المدني، عن عطاء بن يسار المدني، عن أبي هريرة.
وهؤلاء كلهم ثقات.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 6 رقم 10792).
(2)
"سنن أبي داود"(3/ 279 رقم 3484).
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رباح بن أبي معروف المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة.
وأخرجه البزار في "مسنده": نا أحمد بن ثابت، نا أبو عامر، ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال:"السحت: كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب".
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن محمد بن الفضل بن غزوان، عن سليمان الأعمش، عن أبي حازم الأشجعي الكوفي سلمان.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه البزار في "مسنده": نا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة، نا محمد بن أبي عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:"نهى النبي عليه السلام عن ثمن الكلب ومهر البغي وثمن الدم".
وأخرجه النسائي (1): عن واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن أبي حازم قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب وعسب الفحل".
الخامس: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن وكيع، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى -فيه مقال- عن عطاء، عن أبي هريرة قال:"نهى رسول الله عليه السلام عن مهر البغي وكسب الحجام وثمن الكلب".
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد (ح).
وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عون بن أبي جحيفة، أخبرني عن أبيه، عن النبي عليه السلام مثله.
(1)"المجتبى"(7/ 311 رقم 4675).
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن أي بكرة بكار القاضي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شعبة بن الحجاج، عن عون بن أي جحيفة، عن أبيه أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي الكوفي الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (1): نا أبو الوليد، عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن ثمن الكلب وثمن الدم وكسب البغي، ولعن الواشمة، وآكل الربا وموكله، ولعن المصور".
أخرجه في البيوع (1).
وأخرجه أيضًا عن الحجاج بن المنهال (2).
وأخرجه في اللباس أيضًا (3): عن سليمان بن حرب.
وفي الطلاق أيضًا (4): عن آدم.
وفي اللباس أيضًا (5): عن أبي موسى، عن غندر، كلهم عن شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه بهذا.
الثاني: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن شعبة
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(6) من حديث شعبة
…
إلى آخره نحو رواية البخاري.
ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، قال: "سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر عن ذلك رسول الله عليه السلام.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 735 رقم 1980).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 780 رقم 2123).
(3)
"صحيح البخاري"(5/ 2219 رقم 5601).
(4)
"صحيح البخاري"(5/ 2045 رقم 5032).
(5)
"صحيح البخاري"(5/ 2223 رقم 5617).
(6)
"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 6 رقم 10789).
ش: عمرو بن خالد بن فروخ الحراني شيخ البخاري.
وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة، فيه مقال.
وأبو الزبير محمد بن مسلم المكي.
وأخرجه مسلم (1): عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل بن يسار، عن أبي الزبير قال:"سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر النبي عليه السلام عن ذلك".
فهذا كما رأيت أخرج الطحاوي أحاديث هذا الباب عن ثمانية أنفس من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: أبو مسعود البدري، ورافع بن خديج، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأبو جحيفة رضي الله عنهم.
ولما أخرج الترمذي حديث رافع بن خديج قال: وفي الباب عن عمر، وأبي مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم.
وفات الطحاوي من ذلك حديث عمر وعبد الله بن جعفر.
أما حديث عمر رضي الله عنه: فأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): من حديث السائب بن يزيد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"ثمن القينة سحت، وغناؤها حرام، والنظر إليها حرام، وثمنها مثل ثمن الكلب سحت، ومن نبت لحمه على السحت فالنار أولى به".
وأما حديث عبد الله بن جعفر: فأخرجه ابن عدي في "الكامل"(3): من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عبد الله بن جعفر قال: "نهى رسول الله عليه السلام عن ثمن الكلب
…
" الحديث.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1199 رقم 1569).
(2)
"المعجم الكبير"(1/ 73 رقم 87).
(3)
"الكامل في ضعفاء الرجال"(7/ 199).
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى تحريم أثمان الكلاب كلها، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وربيعة وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي والشافعي وأحمد وداود ومالكًا في رواية.
وقال ابن قدامة: لا يختلف المذهب في أن بيع الكلب باطل على كل حال، وكره أبو هريرة ثمن الكلب، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر، وبه قال عطاء والنخعي، واختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: الكلب المأذون في إمساكه يكره بيعه ويصح ولا يجوز إجارته، نص عليه أحمد، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: يجوز، وقال مالك في "الموطأ": أكره ثمن الكلب الضاري وغير الضاري؛ لنهيه عليه السلام عن ثمن الكلب.
وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: واختلف قول مالك في ثمن الكلب المباح اتخاذه، فأجازه مرة ومنعه أخرى. وبإجازته قال ابن كنانة وأبو حنيفة.
قال سحنون: ويحج بثمنه. وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه. قال عبد الوهاب: من أصحابنا من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه لا يجوز، وبه قال الشافعي.
وفي المدينة كان مالك يأمر ببيع الكلب الضاري في الميراث والدين والمغانم، ويكره بيعه للرجل ابتداءً.
قال يحيى بن إبراهيم: قوله في الميراث يعني لليتيم، وأما لأهل الميراث البالغين فلا يباع إلا في الدين والمغانم، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: لا بأس باشتراء كلاب الصيد، ولا يجوز بيعها.
وقال أشهب في "ديوانه" عن مالك: يفسخ بيع الكلب إلا أن يطول. وحكى ابن عبد الحكم أنه يفسخ وإن طال.
وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل بيع كلب أصلاً لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرهما، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فله ابتياعه وهو حلال للمشتري حرام على البائع، ينتزع منه الثمن متى قُدِرَ عليه كالرشوة في دفع الظلم وفداء الأسير ومصانعة الظالم، ولا فرق.
ثم قال: وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي سليمان وأبي ثور وغيرهم.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بأثمان الكلاب كلها التي ينتفع بها.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وابن كنانة وسحنون من المالكية؛ فإنهم قالوا: الكلاب التي ينتفع بها يجوز بيعها وتباح أثمانها. وعن أبي حنيفة: أن الكلب العقور لا يجوز بيعه ولا يباح ثمنه.
وقال صاحب "البداع": وأما بيع ذي ناب من السباع سوى الخنزير كالكلب فجائز عند أصحابنا، وعند الشافعي لا يجوز، ثم عندنا لا فرق بين المعلَّم وغير المعلَّم في رواية الأصل، فيجوز بيعه كيف ما كان.
وروي عن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك على أهل المقالة الأول فيما احتجوا به عليهم من الآثار التي ذكرنا أن الكلاب قد كان حكمها أن تقتل كلها، ولا يحل لأحد إمساك شيء منها، فلم يكن بيعها عندنا جائز ولا ثمنها حلال.
فمما روي في ذلك: ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب كلها، فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال:"سمعت رسول الله عليه السلام رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام أمر بقتل الكلاب".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، قال: حدثتني ابنة أبي رافع، عن أبي رافع:"أن النبي عليه السلام دفع العَنزة إلى أبي رافع فأمره أن يقتل كلاب المدينة كلها، حتى أفضى به القتل إلى كلب لعجوز، فأمره رسول الله عليه السلام بقتله".
حدثنا أبو بكرة، قال: نا أبو عامر العقدي (ح).
وحدثنا محمد بن خزيمة وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا القعنبي، قال: ثنا يعقوب بن حميد بن طحلاء، عن أبي الرجال، عن سالم بن عبد الله، عن أبي رافع قال: "أمرني النبي عليه السلام بقتل الكلاب، فخرجت أقتلها لا أرى كلبًا إلا قتلته، حتى أتيت موضع كذا -وسماه- فإذا به كلب يدور ببيت فذهبت أقتله فناداني إنسان من جوف البيت: يا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ قلت: أريد أن أقتل هذا الكلب. قالت: إني امرأة بدار مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السباع، ويؤذن بالجائي فائت النبي عليه السلام واذكر ذلك له.
فأتيت النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، فأمرني بقتله".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا هوذة بن خليفة بن عوف، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم".
حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها: "أن جبريل عليه السلام واعد النبي صلى الله عليه وسلم -
ساعةً يأتيه فيها، فذهبت الساعة ولم يأته، فخرج النبي عليه السلام فإذا بجبريل عليه السلام على الباب، فقال: ما منعك أن تدخل البيت؟! قال: إن في البيت كلبًا وإنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة، فأمر رسول الله عليه السلام بالكلب فأخرج، ثم أمر بالكلاب أن تقتل".
حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظي، قال: ثنا معاوية بن سلام، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن السائب بن يزيد أخبره، أن سفيان بن أبي زهير أخبره، أنه سمع النبي عليه السلام يقول:"من أمسك الكلب فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراط".
قال أبو جعفر رحمه الله: فكان هذا حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمسكها ولا الانتفاع بها، فما كان الانتفاع به حرامًا فثمنه حرام، فإن كان نهي النبي عليه السلام عن ثمن الكلب كان وهذا حكمها؛ فإن ذلك قد نسخ فأبيح الانتفاع بالكلاب.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه على أهل المقالة الأولى مما احتجوا به عليهم من الأحاديث المذكورة: أن هذا إنما كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمساك منها ولا الانتفاع بها، ولا شك أن ما حرم الانتفاع به كان ثمنه حرامًا، فلما أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتفاع بها للاصطياد ونحوه ونهى عن قتلها؛ نسخ ما كان من النهي عن بيعها وتبادل ثمنها.
فإن قيل: ما وجه هذا النسخ؟
قلت: وجهه ظاهر، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلما ورد النهي عن اتخاذ الكلاب وورد الأمر بقتلها، علمنا أن اتخاذها حرام، وأن بيعها حرام أيضًا؛ لأن ما كان الانتفاع به حرامًا فثمنه حرام كالخنزير ونحوه.
ثم لما وردت الإباحة بالانتفاع بها للاصطياد ونحوه وورد النهي عن قتلها؛ علمنا أن ما كان قبل ذلك من الحكمين المذكورين قد انتسخ بما ورد بعده، ولا شك أن الإباحة بعد التحريم نسخٌ لذلك التحريم ورفعٌ لحكمه.
قوله: "فمما روي في ذلك" إشارة إلى بيان ما روي من الأمر بقتل الكلاب، ومن النهي عن اتخاذها، فمن ذلك: ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا فهدًا.
واسم أبي أسامة حماد بن أسامة القرشي الكوفي.
وأخرجه مسلم (1): عن أبي بكر بن أبي شيبة
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبيد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البخاري (2): من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام أمر بقتل الكلاب".
الثالث: رجاله كلهم أيضًا رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): عن وهب بن بيان، عن ابن وهب
…
إلى آخره.
ومنها ما رواه أبو رافع رضي الله عنه. وأخرجه من ثلاث طرق:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن ابنة أبي رافع، عن أبي رافع، أن النبي عليه السلام
…
إلى آخره.
وأبو رافع اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز، وهو مولى النبي عليه السلام كان للعباس فوهبه للنبي عليه السلام، فلما بشره بإسلام عباس أعتقه،
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1200 رقم 1570).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1207 رقم 3145).
(3)
"المجتبى"(7/ 184 رقم 4278).
شهد أُحُدًا والخندق وما بعدها من المشاهد ولم يشهد بدرًا، وكان إسلامه قبل بدر، مات بالمدينة في خلافة علي رضي الله عنه.
واسم ابنته سلمى، ذكر في "التكميل" جماعة ممن روى عن أبي رافع، ثم قال في آخرهم: وابنته سلمى. أي: وروى عنه أيضًا ابنته سلمى.
والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا محمد بن أبي بكر، نا هارون الخزاز، نا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثتني بنت أبي رافع، عن أبي رافع:"أن رسول الله عليه السلام دفع العنزة إلى أبي رافع فأمره أن يقتل كلاب المدينة، فقتلها حتى أفضى به القتل إلى كلب لعجوز، فأمر رسول الله عليه السلام أن يقتله" انتهى.
"والعنزة": مثل نصف الرمح أو أكبر سنًّا، وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكازة قريب منها.
قوله: "حتى أفضى به القتل" أي انتهى به القتل إلى كلب لعجوز.
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء المدني، عن أبي الرجال -جمع رجل- محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، عن أبي رافع قال: "أمرني النبي عليه السلام
…
" إلى آخره.
وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أبو يعلى أيضًا بهذا الإسناد والمتن، وقال: ثنا المقدمي، نا أبو عامر، ثنا يعقوب بن محمد
…
إلى آخره.
قوله: "بدار مَضِيعة" بفتح الميم وكسر الضاد المعجمة على وزن مَفْعِلَة (1)، من الضياع وهو الإطراح والهوان، فكأنها فيها ضائع.
(1) قال ابن الأثير في "النهاية"(3/ 108): المَضِيعَة -بكسر الضاد- مَفْعِلَةٌ من الضَّياع: الاطراح والهوان، كأنه فيه ضائع، فلما كانت "عين" الكلمة "ياء" وهي مكسورة، نقلت حركتها إلى "العين"؛ فسكنت "الياء" فصارت بوزن مَعِيشَة، والتقدير فيهما سواء.
قوله: "ويؤذن" من الإيذان وهو الإعلام.
الثالث: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن صالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن يعقوب بن محمد بن طحلاء
…
إلى آخره.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
ومنها ما رواه عبد الله بن المغفل: أخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي، عن هوذة بن خليفة بن عبد الله البكراوي البصري الأصم، عن عوف ابن أبي جميلة الأعرابي، عن الحسن البصري، عن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي رضي الله عنه. وعن أحمد: هوذة عن عوف ضعيف. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: لا بأس به.
والحديث أخرجه النسائي (1): أنا عمران بن موسى، ثنا يزيد بن زريع، نا يونس، عن الحسن، عن عبد الله بن المغفل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم، وأيما قوم اتخذوا كلبًا ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراط".
قوله: "أُمَّة" أي جيل وطائفة، يقال لكل جيل من الحيوان والناس: أُمَّة. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الكلاب من الحن وهي ضعفة الجن، فإذا غشيتكم عند طعامكم فألقوا إليها الشيء فإن لها أنفسًا، يعني أعينًا".
وقال إسماعيل بن أمية: أمتان من الجن مسختا وهما الكلاب والحيات.
وروى إسماعيل المكي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: سمعت ابن عباس يقول: "السود من الكلاب الجن والبقع منها الحن".
(1)"المجتبى"(7/ 185 رقم 4280).
وأنشد بعضهم في الجن والحن قول الشاعر:
أَبِيتُ أهوى في شياطين تُرِنُّ
…
مختلف نَجْوَاهم جِنّ وحِنّ
وقال الجوهري: الحِنُّ -بالكسر- حيّ من الجن، قال الراجز: أَبيتُ أهوى
…
إلى آخره.
ورجل محنون: أي مجنون، وبه حنة: أي جنة، ويقال: الحِنُّ خلق بين الجن والإنس. انتهى.
وقال صاحب "العين": الحِنُّ حيّ من الجن منهم الكلاب البهم، يقال منه: كلب حِنيّ.
وقال أبو عمر في "التمهيد"(1): وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الِجن ثلاثة أثلاث: فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون".
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله عليه السلام: "الجن ثلاثة أثلاث: فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض، وثلث ريح هفافة، وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث: فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين.
وثلث في ظل الله يوم القيامة".
قوله: "كل أسود بهيم" البهيم في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه وإنما خص البهيم لأنه أكثر الكلاب أذى وأبعدها من تعلم ما ينفع؛ ولذلك روي أن الكلب الأسود البهيم شيطان، أي بعيد من المنافع قريب من المضرة والأذى، وهذه أمور لا تدرك بنظر ولا يوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى فيها إلى ما جاء عنه عليه السلام.
(1)"التمهيد"(16/ 267).
وقال أبو عمر (1): احتجت طائفة بحديث عبد الله بن المغفل أن الأمر بقتل الكلاب منسوخ، واحتجوا أيضًا بما رواه سعيد بن المسيب:"أن رسول الله عليه السلام أمر بقتل الكلاب ثم قال: إنها أمة ولا أحب أن أفنيها، ولكن اقتلوا كل أسود بهيم".
وقد قال ابن جريج في حديث أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. قال: فكنا نقتلها حتى قال: إنها أمة من الأمم، ثم نهى عن قتلها، وقال: عليكم بالأسود ذي الذقين -أو قال: ذي النكتتين- فإنه شيطان".
ومنها ما روته عائشة رضي الله عنها:
أخرجه عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل ابن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يزيد، أنا محمد -يعني ابن عمرو- عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في ساعة أن يأتيه فيها، فراث عليه أن يأتيه فيها، فخرج رسول الله عليه السلام فوجده بالباب قائمًا، فقال رسول الله عليه السلام: إني انتظرتك لميعادكَ؟! فقال: إن في البيت كلبًا ولا ندخل بيتًا فيه كلب؛ ولا صورة، وكان تحت سرير عائشة رضي الله عنها جرو كلب؛ فأمر به رسول الله عليه السلام فأخرج، ثم أمر بالكلاب حين أصبح فقتلت".
قوله: "إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب" قيل: هو خصوص لجبريل عليه السلام وحده، بدليل الحفظة، وقيل: بل الملائكة على عموم الحديث.
قلت: الظاهر أن المراد منه الملائكة كلهم غير الحفظة؛ لأن الحفظة لا يفارقون بني آدم، والله أعلم.
(1)"التمهيد"(14/ 228).
(2)
"مسند أحمد"(6/ 142 رقم 25143).
ومنها ما رواه سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه:
أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن صالح الوُحَاظي أبي زكرياء الشامي الدمشقي شيخ البخاري، عن معاوية بن أبي سلام الحبشي الأسود، عن يحيى بن أبي كثير، عن السائب بن يزيد الصحابي، عن سفيان بن أبي زهير واسمه القرد الأزدي الشنائي.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه البخاري في "الزراعة"(1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، عن سفيان بن أبي زهير، عن النبي عليه السلام أنه قال:"من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراط".
وأخرجه أيضًا في "بدء الخلق"(2): عن القعنبي، عن سليمان بن بلال.
وأخرجه مسلم (3): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن يزيد بن خصيفة
…
إلى آخره.
قوله: "كل يوم قيراط" أراد بالقيراط ها هنا جرامًا، وهو في الأصل جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشره في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين، والياء فيه بدل من الراء؛ فإن أصله قرَّاط، ويجمع على قراريط، وقد جاء في حديث آخر "قيراطان". وفي الرواية الأخرى "نقص من عمله" والكل يرجع إلى معنى واحد: أي من أجر عمله (4).
(1)"صحيح البخاري"(2/ 818 رقم 2198).
(2)
"صحيح البخاري"(3/ 1207 رقم 3147).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1204 رقم 1576).
(4)
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(5/ 7): واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها -أي مثل جبل أحد من الأجر-؟ فقيل بالتسوية، وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره.
ثم قيل: يحتمل ذلك لما يُدْخِله من الروع على المسلمين والأذى لهم يكتسب من الإثم بما ينقص من أجر عمله هذا المقدار ويوازنه لو لم يكن.
وقيل: بل ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عنه وعصيانه في ذلك.
وقيل: بل إن امتناع دخول الملائكة بيته بسببه.
وقيل: بل لما يكتسبه من مراقبة أحكام اتخاذه من غسل الإناء من ولوغها ومن نجاستها -عند من يراها نجسة- وأنه لا يكاد يتحفظ منه ويراعي ذلك، فيدخل عليه الإثم من أجله، فيدخل عليه في هذه الوجوه من السيئات ما ينقص عمله وأجره في يومه.
وقيل: يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إليه من أن في الكل ذي كبد رطبة أجر، فقد يمحق أجره في ذلك وينقصه ما يلحق مقتنيه من السيئات بترك أدائه العبادات فيه ومراعاة أحكامه، أو لترويع غيره.
وقيل: يختص هذا النقص من البر ما يطابق الإثم وهو أجره من تغيير المنكر كل يوم فينتقص منه ذلك القدر لموافقته في اتخاذ الكلب مثله، والله أعلم بما أراد رسوله.
وذكر القيراط هنا تقدم لمقدار الله أعلم به وما جاء في الحديث الآخر من قوله: "قيراطان"، فقيل: يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، أو لمعنى فيهما، أو يكون في اختلاف المواقع فيكون القيراطان في المدينة خاصة والقيراط في غيرها، أو القيراطان في المدائن والحواضر والقيراط في غيرها، أو يكون ذلك في زمنين فذكر القيراط أولاً ثم أراد التغليظ فذكر القيراطين، والله أعلم بمراده.
ص: وروي في ذلك ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا حنظلة بن أبي سفيان، قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلبًا -إلا كلبًا ضاريًا بصيد أو كلب ماشية- فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان".
حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"من اقتنى كلبًا -إلا كلب صيد أو ماشية- نقص من عمله كل يوم قيراطان".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن نافع
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"قيراط".
حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن بكير، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية".
ثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، قال: قال ابن شهاب، حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال:"سمعت رسول الله عليه السلام رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب، فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية". قال ابن شهاب: وحدثني سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"من اقتنى كلبًا -ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض- فإنه ينقص من أجره قيراطان في كل يوم".
حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي الحكم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا -غير كلب زرع ولا صيد- نقص من عمله كل يوم قيراطان".
حدثنا حسين، قال: أنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زهير، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله. غير أنه قال:"إلا كلبًا ضاريّا أو كلب ماشية".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أمية بن بسطام، قال: ثنا يزيد زريع، عن روح ابن القاسم، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو:"أن رسول الله عليه السلام ذكر الكلاب فقال: من اتخذ كلبًا -ليس بكلب قنص أو كلب ماشية- نقص من أجره كل يوم قيراط".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الحميد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن أبي سلمة وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلب وقال: لا يتخذ الكلب إلا صيادًا أو خائف أو صاحب غنم".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: نا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أمسك كلبًا فإنه ينقص من عمله كل يوم قيراطًا إلا كلب حرث أو ماشية".
حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، أن أبا الزبير أخبره:"أنه سأل جابرًا: أقال النبي عليه السلام في الكلاب شيئًا؟ قال: أمر بقتلهن، ثم أذن لطوائف".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أبي التياح، عن مطرف، عن عبد الله بن المغفل قال:"أمر رسول الله عليه السلام بقتل الكلاب ثم قال: ما لي وللكلاب؟! ثم رخص في كلب الصيد وفي كلب آخر نسيه سعيد".
حدثنا محمد بن النعمان، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، قال: أخبرني السائب بن يزيد، أن سفيان بن أبي زهير الشنوي أخبره، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلبًا -لا يغني عنه في ضرع ولا في
زرع- نقص من عمله كل يوم قيراط. قال: فقال السائب: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إي ورب القبلة".
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكاً حدثه، عن يزيد بن خصيفة
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني محمد بن جعفر، قال: أخبرني يزيد بن خصيفة
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر قول السائب لسفيان:"أسمعت هذا من رسول الله عليه السلام؟ ".
قال أبو جعفر رحمه الله: فلما ثبتت الإباحة بعد النهي، وأباح الله تعالى في كتابه ما أباح بقوله:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} ، اعتبرنا حكم ما ينتفع به هل يجوز بيعه ويحل ثمنه أم لا؟ فرأينا الحمار الأهلي قد نهي عن أكله وأبيح كسبه والانتفاع به، فكان بيعه إذا كان هذا حكمه حلالًا وثمنه حلال، فكان يجيء في النظر أن يكون كذلك الكلاب لمَّا أبيح الانتفاع بها؛ حل بيعها وأكل ثمنها، ويكون ما روي في حرمة أثمانها كان في وقت حرمة الانتفاع بها، وما روي في إباحة الانتفاع بها دليل على حِلِّ أثمانها.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي روي في إباحة الانتفاع بالكلاب لنحو الصيد: ما حدثنا علي بن معبد
…
إلى آخره.
فهذا يدل على أن ما كان من النهي عن اتخاذ الكلاب قد انتسخ ورفع حكمه كما قد ذكرناه مستقصى.
ثم إنه أخرج حديث ابن عمر رضي الله عنهما من عشر طرق صحاح:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن مكي بن إبراهيم بن بشير البلخي شيخ البخاري، عن حنظلة بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان المكي، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البخاري (1): عن مكي بن إبراهيم
…
إلى آخره نحوه.
ومسلم (2): عن إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا وكيع، قال: نا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من اقتنى كلبًا إلا كلبًا ضاريًا أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان".
قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: "أو كلب حرث. وكان صاحب حرث".
قوله: "من اقتنى" أي من اتخذ، يقال: قناه يَقْنُوه واقتناه: إذا اتخذه لنفسه دون البيع.
قوله: "إلا كلبًا ضاريًا بصيد" يقال: ضرى الكلب وأضراه صاحبه أي عوده وأغراه به، ويجمع على ضوار. والمواشي الضارية المعتادة لرعي زرع الناس. وقد مرّ الكلام في القيراط والقيراطين.
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير وابن نمير، قالوا: نا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام، قال:"من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان".
الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله عليه السلام مثله.
وأخرجه البخاري (3) ومسلم (4) أيضًا من حديث مالك نحوه.
(1)"صحيح البخاري"(5/ 2088 رقم 5164).
(2)
"صحيح مسلم"(3/ 1202 رقم 1574).
(3)
"صحيح البخاري"(5/ 2088 رقم 5165).
(4)
"صحيح مسلم"(3/ 1201 رقم 1574).
الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم محمد بن الفضل شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا إسماعيل، نا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام أنه قال:"من اتخذ -أو قال: اقتنى- كلبًا ليس بضارٍ ولا كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان. فقيل له: إن أبا هريرة يقول: وكلب حرث. فقال: إن لأبي هريرة حرث".
الخامس: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2).
السادس: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا وكيع، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله عليه السلام: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان".
السابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن بكير -هو يحيى بن عبد الله بن بكير- القرشي المخزومي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عبد الله ابن دينار، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
(1)"مسند أحمد"(2/ 4 رقم 4479).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 265 رقم 19946).
(3)
"مسند أحمد"(2/ 60 رقم 5254).
وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -قال يحيى بن يحيى: أنا، وقال الآخرون: ثنا- إسماعيل وهو ابن جعفر، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان".
الثامن: عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه النسائي (2): أنا وهب بن بيان، نا ابن وهب، أخبرني يونس، قال: قال ابن شهاب: حدثني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال:"سمعت رسول الله عليه السلام رافعًا صوته يأمر بقتل الكلاب، فكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية".
وهذا الطريق أخرجه الطحاوي فيما مضى -يعني هذا الإسناد- ولكن عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب -عوض: بحر بن نصر، عن عبد الله ابن وهب- ولكن هناك أخرجه مختصرًا.
التاسع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى عن قتادة، عن أبي الحكم عمران بن الحارث السلمي الكوفي، عن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه مسلم (1): نا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لابن المثنى- قالا: نا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي الحكم، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي عليه السلام قال: "من اتخذ كلبًا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط".
العاشر: عن حسين بن نصر، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام.
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1202 رقم 1574).
(2)
"المجتبى"(7/ 184 رقم 4378).
وأخرجه النسائي (1): عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أمسك كلبًا إلا كلب ضار أو كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان".
وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: فأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أمية بن بسطام البصري شيخ البخاري، عن يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم التميمي العنبري، عن إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد القاص المكي، عن بجير بن أبي بجير الحجازي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأخرجه الطبراني في "الكبير": نا إبراهيم بن هاشم البغوي، نا أمية بن بسطام، نا يزيد بن زريع، نا روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اتخذ كلبًا ليس كلب قنص ولا كلب ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط
…
" الحديث.
فإن قلت: ما حال إسناد هذا الحديث؟
قلت: رجاله ثقات، غير أن بجير بن أبي بجير قال يحيى بن معين: لم أسمع أحدًا يحدث عنه غير إسماعيل بن أمية. وقال الذهبي: لم يعرفه ابن أبي حاتم بشيء.
قوله: "ليس بقنص" أي صيد، والقانص: الصائد.
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من طريقين:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الحميد بن صالح بن عجلان البرجمي الكوفي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف وغيره، عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
".
وهذا إسناد جيد.
(1)"المجتبى"(7/ 188 رقم 4286).
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام بمثله.
وأما حديث جابر: فأخرجه عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي "أنه سأل جابرًا رضي الله عنه
…
" إلى آخره.
وقد مرَّ غير مرة الكلام في ابن لهيعة.
وأما حديث عبد الله بن المغفل: فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضبعي، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عبد الله بن المغفل.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه مسلم (2): نا عبيد الله بن معاذ، قال: نا أبي، قال: نا شعبة، عن أبي التياح، سمع مطرف بن عبد الله، عن ابن المغفل قال:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب؟! ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم".
وله في رواية أخرى (3): "ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع".
(1)"صحيح مسلم"(3/ 1203 رقم 1575).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 235 رقم 280)، (3/ 1200 رقم 1573).
(3)
"صحيح مسلم"(3/ 1201 رقم 1573).
وأما حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن محمد بن النعمان، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد الصحابي، عن سفيان بن أبي زهير الشنوي.
وأخرجه البخاري في "بدء الخلق"(1): عن القعنبي، عن سليمان بن بلال
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد، عن سفيان بن أبي زهير.
وأخرجه البخاري في المزارعة (2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، عن يزيد بن خصيفة
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3).
قوله: "نسيه سعيد" بن أبي سعيد بن عامر الضبعي، والكلب الآخر الذي نسيه سعيد هو كلب الغنم، كما صرح به في رواية مسلم.
قوله: "الشَّنَوي" بفتح الشين المعجمة والنون، ووقع في رواية مسلم والنسائي:"الشَّنَائي" -بفتح الشين والنون بعدها همزة مكسورة- منسوب إلى أزد شنوءة.
قال القاضي: ووقع عند السمرقندي بالواو مكان الهمزة على التسهيل، ورواه بعض رواة البخاري:"شُنوي" بضم النون على الأصل.
(1)"صحيح البخاري"(3/ 1207 رقم 3147) وقد تقدم.
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 818 رقم 2198) وقد تقدم.
(3)
"المجتبى"(7/ 187 رقم 4285).
قوله: "لا يغني عنه في ضرع ولا زرع" قال الجوهري: الضرع لكل ذات ظلف أو خف.
قوله: "أأنت سمعت" الهمزة فيه للاستفهام على وجه الاستخبار.
ص: وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال:"جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أَذِنَّا لك، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع أن لا يدع كلبًا بالمدينة إلا قتله، فإذا بامرأة من ناحية المدينة لها كلب يحرس عنها. قال: فرحمتها، فأتيت النبي عليه السلام، فأمرني فقتلته، فأتاه ناس من الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرتنا بقتلها؟ قال: فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) ".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا سليمان الجعفي، قال: ثنا يحيى بن زكرياء، قال: ثنا موسى بن عبيدة، قال: حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم بني رافع، عن أبي رافع قال:"لما أمر رسول الله عليه السلام بقتل الكلاب، أتاه ناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) ".
ففي هذا الحديث أيضًا مثل ما قبله مما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر بقتلها وإن كان لم يذكر في هذا الحديث غير ما يضاد به منها، وفيه زيادة على ما قبله من الأحاديث في الإباحة التي ذكرنا؛ لأن فيه نزول هذه الآية بعد تحريم الكلاب، وأن
(1) سورة المائدة، آية:[4].
هذه الآية أعادت الجوارح المكلبين إلى أن صيرتها حلالاً، وإذا صارت كذلك كانت في حكم سائر الأشياء التي هي حلال في حل إمساكها، وإباحة أثمانها، وضمان متلفيها ما أتلفوا منها كغيرها.
ش: ذكر حديث أبي رافع تأييدًا لما ذكره فيما مضى من انتساخ حكم الأمر بقتل الكلاب وحكم النهي عن اتخاذها، وبيانًا أن حديث أبي رافع مثل الأحاديث المذكور في إباحة اتخاذ الكلاب بعد الأمر بقتلها، مع زيادة فيه على تلك الأحاديث وهي أنه يتضمن نزول قوله تعالى:{قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (1) بعد تحريم الكلاب، فتكون هذه الآية أيضًا ناسخة لما تقدم من الأحاديث التي فيها الأمر بقتل الكلاب والنهي عن اتخاذها فبينت هذه الآية أن اتخاذ هذه الجوارح حلال، فإذا كانت حلالاً صار حكمها كحكم سائر الأشياء التي هي حلال، في حل إمساكها، وجواز بيعها، وإباحة أثمانها، وفي وجوب الضمان على متلفيها كما في غيرها من الأشياء.
وفي هذا الفصل خلاف.
فعند أبي حنيفة وأصحابه: إذا قتل كلب رجل الذي يصيد به أو يقتنيه لزرعه أو لماشيته أو نحو ذلك؛ تجب عليه قيمته.
وقال أبو عمر رحمه الله: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه القيمة، ومن قتل غيرها من الكلاب فليس عليه شيء.
وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه جعل في كلب الصيد القيمة. وعن عطاء مثله.
وعن ابن عمر أنه أوجب فيه أربعين درهمًا وأوجب في كلب ماشية فرقًا من طعام.
وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز الكلب الضاري، وجعل على قاتله عشرًا من الإبل.
(1) سورة المائدة، آية:[4].
وفي "شرح الموطأ" لابن زرقون: لا خلاف عن مالك أن من قتل كلب صيد أو ماشية أو زرع فعليه قيمته، ولا قيمة على من قتل كلب الدار.
وقال الشافعي: لا قيمة عليه بحال.
وفي "المغني" لابن قدامة: ومن قتله وهو معلَّم فقد أساء ولا غرم عليه، وبهذا قال الشافعي، وأوجب مالك وعطاء عليه الغرم.
وقال ابن حزم في "المحلى": ولا يحل قتل الكلاب فمن قتلها ضمنها بمثلها أو بما يتراضيا عليه عوضًا منها إلا الأسود البهيم أو الأسود ذا النقطتين أينما كانت النقطتان منه، فإن عظمتا حتى لا تسمى في اللغة العربية نقطتين لكن تسمى لمعتين لم يجز قتله.
ثم إنه أخرج حديث أبي رافع من طريقين:
الأول: عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم المصري (1)، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي -ضعفه يحيى وأحمد، وعن يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة.
وهو يروي عن القعقاع بن حكيم الكناني المدني -عن سلمى أم رافع- وهي خادم النبي عليه السلام، وهي مولاة صفية بنت عبد المطلب وهي امرأة أبي رافع، ويقال أيضًا مولاة النبي عليه السلام وكانت قابلة بني فاطمة بنت رسول الله عليه السلام وهي التي غسلت فاطمة مع زوجها علي رضي الله عنهما ومع أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وشهدت خيبر مع رسول الله عليه السلام، وهي تروي عن أبي رافع مولى النبي عليه السلام واسمه إبراهيم، وقد مرت ترجمته غير مرة.
(1) قال ابن عدي في ترجمته من "الكامل"(4/ 255): مصري يحدث عن الفريابي وغيره بالبواطيل، ثم ذكر له عدة أحاديث منكرة، ثم قال: هذا إما أن يكون مغفلاً لا يدري ما يخرج من رأسه، أو يتعمد؛ فإني رأيت له غير حديث مما لم أذكره أيضًا ها هنا غير محفوظ.
وانظر ترجمته في "تاريخ بغداد"(10/ 133)، و"لسان الميزان"(3/ 337).
والحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا ابن نمير، عن موسى بن عبيدة، أخبرني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال:"جاء جبريل عليه السلام فاستأذن على رسول الله عليه السلام فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ رسول الله عليه السلام رداءه فقام إليه وهو قائم بالباب، فقال رسول الله عليه السلام: قد أَذنَّا، فقال: أجل يا رسول الله، ولكنَّا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب، فنظروا فوجدوا جروًا في بعض بيوتهم. قال أبو رافع: فأمرني حين أصبحت فلم أدع بالمدينة كلبًا إلا قتلته، فإذا أنا بامرأة قاصية ولها كلب ينبح عليها، فكأني رحمتها فتركته، فجئته فأخبرته، فأمرني أن أقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، قال: فقال الناس: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمّة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) ".
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2) بإسناد الطحاوي مختصرًا، وقال: نا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا سفيان، عن موسى ابن عبيدة، عن أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى، عن أبي رافع، قال: "جاء ناس إلى النبي عليه السلام فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ -يعني الكلاب- فأنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ
…
} الآية".
الطريق الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن سليمان [......](3) عن يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن موسى بن عبيدة الربذي، عن أبان بن صالح بن عمير المدني، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى
…
إلى آخره.
(1) سورة المائدة، آية:[4].
(2)
"المعجم الكبير"(1/ 325 رقم 971).
(3)
بيض له المصنف رحمه الله، وهو: سليمان الجعفي، كما في المتن.
وأخرجه أبو يعلى أيضًا في "مسنده": ثنا المقدمي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا موسى بن عبيدة، حدثني أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى امرأة أبي رافع، عن أبي رافع:"أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فأبطأ عليه، فأخذ النبي عليه السلام رداءه ثم خرج إليه فقال: قد أذنَّا لك، قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة. قال أبو رافع: فأمرني النبي عليه السلام أن أقتل كل كلب بالمدينة، فخرجت فإذا امرأة عندها كلب فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني أن أعود إلى الكلب فأقتله، ثم جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي عليه السلام فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله عليها يؤكل ما لم يأكل".
ثم الكلام في معنى الآية الكريمة: فقوله: {الطَّيِّبَاتُ} : يتناول المعنيين:
أحدهما: الطيب المستلذ، والآخر: الحلال؛ وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث، والخبيث حرام، فإذًا الطيب حلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فشبه الحلال به في انتفاء المضرة فيهما جميعًا.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا} (2) يعني الحلال. قال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (3) فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث، والخبائث هي المحرمات، وقال تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (4) وهو يحتمل ما حَلَّ لكم، ويحتمل ما استطبتموه.
(1) سورة المائدة، آية:[4].
(2)
سورة المؤمنون، آية:[51].
(3)
سورة الأعراف، آية:[157].
(4)
سورة النساء، آية:[3].
فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه ما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين، فرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله، وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل.
ثم إنهم لما سألوا عما أُحَّل من الكلاب التي أمروا بقتلها أنزل الله تعالى هذه الآية، وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها وحقيقة اللفظ يقتضي الكلاب أنفسها؛ لأن قوله:{وَمَا عَلَّمْتُمْ} (1) يوجب إباحة ما عَلَّمْنا، وإضمار الصيد يحتاج إلى دلالة.
وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها وهو قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فحمل هذه الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما.
وقد دلت الآية أيضًا على أن شرط إباحة الجوارح: أن تكون معلمة؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} وقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} .
وأما الجوارح فإنه قد قيل: إنها الكواسب للصيد على أهلها من الكلاب وسباع الطير التي تصيد غيرها، واحدها: جارح ومنه سميت الجارحة؛ لأنه يكتسب بها، قال الله تعالى:{مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (2) يعني ما كسبتم، ومنه {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} (3)، وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما عُلِّم الاصطياد من سائر ذوي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، وقيل: الجوارح ما يجرح بناب أو مخلب.
(1) سورة المائدة، آية:[4].
(2)
سورة الأنعام، آية:[60].
(3)
سورة الجاثية، آية:[21].
قال محمد في الزيادات: إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل؛ لأنه لم يجرح بناب أو مخلب، ألا ترى إلى، قوله تعالى:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (1) فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب فإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ؛ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيقيد الأصناف التي يصاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم.
قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} قد قيل فيه وجهان: أحدهما: أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه، وقيل: معناه مضرِّين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكلب هو التضرية، يقال: كَلَبَ كلبٌ إذا ضرى بالناس، وليس في قوله {مُكَلِّبِينَ} تخصيص الكلاب دون غيرها من الجوارح إذا كانت التضرية عامة فيهن، وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عمومًا في سائر الجوارح.
ص: وقد روي في ذلك عمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم:
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت ابن جريج يحدث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهمًا، وقضى في كلب ماشية بكبش".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أنه نهى عن ثمن الكلب".
ولم يفسر أي كلب هو، فلم يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون أراد خلاف كلاب المنافع، أو يكون أراد كل الكلاب، ثم ثبت عنده نسخ كلب الصيد منها فاستثناه في هذا الحديث.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا إسرائيل، عن جابر، عن عطاء، قال:"لا بأس بثمن الكلب السلوقي".
(1) سورة المائدة، آية:[4].
فهذا عطاء يقول هذا، وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه[عن النبي عليه السلام "أن ثمن الكلب من السحت".
فدلّ ذلك على المعنى الذي ذكرناه في حديث جابر رضي الله عنه.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب أنه قال:"إذا قتل الكلب المعلم فإنه يُقَوَّم قيمته فيغرمه الذي قتله".
فهذا الزهري يقول هذا وقد روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن النبي عليه السلام: "أن ثمن الكلب سحت" فالكلام في هذا مثل الكلام في حديث جابر.
حدثنا بحر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال:"كان يقال: يجعل في الكلب الضاري إذا قتل أربعون درهمًا".
حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك ومحمد بن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:"لا بأس بثمن كلب الصيد".
ش: أي قد روي فيما ذكرنا من حل إمساك الكلاب وإباحة أثمانها وضمان متلفيها، عمن بعد النبي عليه السلام من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فمن ذلك: ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الملك بن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص
…
إلى آخره.
وهذا إسناد صحيح.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن إسماعيل بن جستاس، عن عبد الله بن عمرو قال: "في كلب الصيد أربعون درهمًا،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 348 رقم 20921)، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 349): وهذا حديث لم يتابع عليه.
وفي كلب الماشية شاة من الغنم، وفي كلب الحرث فرق من طعام، وفي كلب الدار فرق من تراب؛ حق على الذي أصابه أن يعطيه وحق على صاحب الكلب أن يقبله" (1).
ومنها ما رواه عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر رضي الله عنه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر وابن المهزم، عن أبي هريرة:"أنهما كرها ثمن الكلب إلا كلب صيد، وكرها ثمن الهر".
ومنها ما رواه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن عطاء بن أبي رباح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء قال:"إن قتلت كلبًا ليس بعقور فاغرم لأهله ثمنه".
قوله: "الكلب السلوقي"، نسبة إلى سَلُوق -بفتح السين المهملة وضم اللام وفي آخره قاف- وهي اسم لمدينة اللَّان تنسب إليها الكلاب السلوقية، ذكره الجوهري، وقال أيضًا: سَلُوق قرية باليمن تنسب إليها الدروع السَّلوقية.
(1)"مصنف" ابن أبي شيبة" (4/ 348 رقم 20921)، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 349): وهذا حديث لم يتابع عليه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 348 رقم 20910).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 348 رقم 20918)، ولكن بلفظ الطحاوي:"لا بأس بثمن الكلب السلوقي". وأما بهذا اللفظ فهو الحديث الذي بعد هذا في "المصنف"(4/ 348 رقم 20919) وبإسناد آخر. فلعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله.
ومنها ما رواه عن إبراهيم أيضًا عن عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمد بن مسلم الزهري.
ومنها ما رواه عن بحر بن نصر، عن عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان قال:"كان الناس يقضون في الكلب بأربعين درهمًا".
ومنها ما رواه عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله ومحمد بن فضيل، كلاهما عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن إبراهيم النخعي.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2): نا وكيع، عن سفيان، عن سعيد، عن إبراهيم قال:"لا بأس بثمن كلب الصيد".
ثنا ابن فضيل (3)، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"لا بأس بثمن كلب الصيد".
…
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 348 رقم 20920).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 348 رقم 20917).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 349 رقم 20922).