المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٢

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه

- ‌ص: باب: بيع أراضي مكة وإجارتها

- ‌ص: باب: ثمن الكلب

- ‌ص: باب: استقراض الحيوان

- ‌ص: كتاب السِّير

- ‌ص: باب: الإمام يريد قتال العدو هل عليه قبل ذلك أن يدعو أم لا

- ‌ص: باب: ما يكون الرجل به مسلمًا

- ‌ص: باب: بلوغ الصبي بما سوى الاحتلام فيكون بذلك في معنى البالغين في سهمان الرجال، وفي حلِّ قتله في دار الحرب إن كان حربيًّا

- ‌ص: باب: ما نهي عنه قتله من النساء والولدان في دار الحرب

- ‌ص: باب: الشيخ الكبير هل يقتل في دار الحرب أم لا

- ‌ص: باب: الرجل يقتل قتيلاً في دار الحرب هل يكون له سلبه أم لا

- ‌ص: باب: سهم ذوي القربى

- ‌ص: باب: النفل بعد الفراغ من قتال العدو وإحراز الغنيمة

- ‌ص: باب: المدد يَقْدُمون بعد الفراغ من القتال في دار الحرب بعدما ارتفع القتال قبل قفول العسكر، هل يُسْهم لهم أم لا

- ‌ص: باب: الأرض تفتتح، كيف ينبغي للإِمام أن يفعل فيها

- ‌ص: باب: الرجل يحتاج إلى القتال على في دابة من المغنم

- ‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

- ‌ص: باب: الحربية تُسلم في دار الحرب فتخرج إلى دار الإِسلام ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلمًا

- ‌ص: باب: الفداء

- ‌ص: باب: ما أحرز المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه

- ‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو

- ‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة

- ‌ص: باب: إنزاء الحمير على الخيل

- ‌ص: كتاب الصيد والذبائح

- ‌ص: باب: العيوب التي لا تجزئ الهدايا والضحايا إذا كانت بها

- ‌ص: باب: من نحر يوم النحر قبل أن ينحر الإمام

- ‌ص: باب: البدنة عن كم تجزئ في الضحايا والهدايا

- ‌ص: باب: الشاة عن كم تجزئ أن يضحى بها

الفصل: ‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

ش: أي هذا باب في بيان حكم الكافر الذي يسلم في دار الحرب والحالة أن تحته أكثر من أربع نسوة كيف يكون حكمه؟

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا بكر بن خلف، قال: ثنا عبد الأعلى الشامي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنه:"أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي عليه السلام: خذ منهن أربعًا".

ش: إسناده فيه مقال على ما يأتي، ولكن رجاله ثقات.

وبكر بن خلف البصري شيخ أبي داود وابن ماجه والبخاري في التعليقات، قال أبو حاتم: ثقة. وقال يحيى: صدوق.

وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي -بالسين المهملة- نسبة إلى بني سامة بن لؤي البصري روى له الجماعة.

ومعمر هو ابن راشد روى له الجماعة.

والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب.

والحديث أخرجه الترمذي (1): ثنا هناد، قال: ثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر:"أن غيلان ابن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي عليه السلام أن يتخير أربعًا منهن".

وأخرجه ابن ماجه أيضًا (2)، وفيه كلام كثير يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 435 رقم 1128).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 628 رقم 1953).

ص: 365

ص: فذهب قومٌ إلى أن الرجل إذا أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة وقد كان تزوجهن في دار الحرب وهو مشرك أنه يختار منهن أربعًا ويمسكهن ويفارق سائرهن، وسواء عندهم كان تزويجه إياهن في عقدة واحدة أو في عقد متفرقة. وممن قال بهذا القول محمد بن الحسن رحمه الله.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي والليث بن سعد والشافعي ومالكًا وأحمد، فإنهم قالوا: إذا أسلم الكافر كتابيًّا كان أو غير كتابي وعنده عشر نسوة أو خمس نسوة أو ما زاد على أربع، اختار منهن أربعًا، ولا يبالي كن الأوائل أو الأواخر.

وكذلك إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء، إلا أن الأوزاعي روي عنه في الأختين أن الأولى امرأته. واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.

وممن ذهب إلى قولهم: محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة:

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن كلهن باطل، ويفرق بينه وبين سائرهن.

وممن ذهب إلى هذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله-.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والشعبي وعطاء وأبا حنيفة وأبا يوسف، فإنهم قالوا: إذا أسلم وتحته عشر نسوة مثلاً يختار الأربع الأوائل، فإن تزوجهن في عقدة واحدة؛ فُرِق بينه وبينهن.

وقال الحسن بن حي: يختار الأربع الأوائل، وإن لم يدر أيتهن أول طلق كل واحدة منهن تطليقة حتى تنقضي عدتهن ثم يتزوج منهن أربعًا إن شاء.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذا الحديث حديث منقطع ليس كما رواه عبد الأعلى وأصحابه البصريون عن معمر، إنما أصله:

ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن ابن شهاب أنه قال:"بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال لرجل من ثقيف -أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة-: أَمْسِك منهن أربعًا وفارق سائرهن".

ص: 366

وحدثنا أحمد بن داود المكي، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب (ح).

وحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حميد، قال: ثنا ابن عيينة، عن معمر، عن ابن شهاب، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن النبي عليه السلام مثله.

فهذا هو أصل هذا الحديث كما رواه مالك عن الزهري، وكما رواه عبد الرزاق وابن عيينة عن معمر عن الزهري، وقد رواه أيضًا عُقَيل عن الزهري بما يدل على الموضع الذي أخذه الزهري منه.

حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد: "أن رسول الله عليه السلام قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: خد منهن أربعًا وفارق سائرهن".

فبيَّن عُقَيل في هذا عن الزهري مخرج هذا الحديث، وأنه إنما أخذه عما بلغه عن عثمان بن محمد عن النبي عليه السلام، فاستحال أن يكون الزهري عنده في هذا شيء عن سالم عن أبيه فيدع الحجة به ويحتج بما بلغه عن عثمان بن محمد بن أبي سويد عن النبى عليه السلام، ولكن إنما أُتِي معمر في هذا أنه كان عنده عن الزهري في قصة غيلان حديثان هذا أحدهما.

والآخر: عن سالم عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة طلَّق نساءه وقسم ماله، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأمره أن يَرتجع نساءه وماله، وقال: لو متَّ على ذلك لرجمتُ قبرك كما رجم قبر أبي رغال في الجاهلية".

فأخطأ معمر فجعل إسناد هذا الحديث الذي فيه كلام عمر رضي الله عنه للحديث الذي فيه كلام رسول الله عليه السلام، ففسد هذا الحديث من جهة الإسناد.

ص: 367

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية فيما ذهبوا إليه أن هذا الحديث -يعني حديث غيلان- حديثٌ منقطع، ليس كما رواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري، وإنما أصله مثل ما رواه مالك عن الزهري أنه قال:"بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال لرجل. . ." الحديث. وكذلك رواه منقطعًا عبد الرزاق وسفيان بن عيينة كلاهما، عن معمر، عن الزهري.

وقد بيَّن أصل هذا الحديث في الانقطاع ومخرجه عُقَيل بن خالد الأيلي في روايته عن الزهري أنه قال: "بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة. . ." الحديث.

فبيَّن عُقَيل مخرج هذا الحديث، وأن الزهري إنما أخذه عن عثمان بن محمد.

فإذا كان كذلك؛ يكون من المحال أن يكون عند الزهري في هذا شيء عن سالم ابن عبد الله عن أبيه فيترك الاحتجاج به ويحتج بما بلغه عن عثمان بن محمد، عن النبي عليه السلام، فبان من هذا انقطاع الحديث المذكور وفساد سنده، والآفة فيه عن معمر؛ لأنه كان عنده عن الزهري في قصة غيلان حديثان، أحدهما الحديث المذكور، والثاني عن سالم عن أبيه:"أن غيلان بن سلمة طلق نساءه وقسم ماله. . ." الحديث، فأخطأ معمر، فأخلط إسناد الحديثين بعضهما ببعض، فجعل إسناد الحديث الذي فيه كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحديث الذي فيه كلام رسول الله عليه السلام؛ ففسد الحديث المذكور حينئذٍ من جهة الإسناد؛ فلم يبق حجة لما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، وعن هذا قال أبو عمر بن عبد البر: الأحاديث في هذا الباب كلها معلولة وليست أسانيدها بالقوية، وقال الترمذي عقيب روايته الحديث المذكور: هكذا رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما رواه شعيب بن أبي حمزة وغيره عن الزهري قال: حُدِّثت عن محمد بن أبي سويد الثقفي: "أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة".

ص: 368

قال محمد: وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه: "أن رجلاً من ثقيف طلَّق نساءه، فقال له عمر رضي الله عنه: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال" انتهى.

وقال مسلم بن الحجاج: أهل اليمن أعرف بحديث معمر، فإن حدث به ثقة من غير أهل البصرة صار الحديث حديثًا وإلا فالإرسال أولى.

يعني أن أهل البصرة تفردوا بإسناده.

وقد أخرجه الدارقطني (1) من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف.

وذكر صاحب التمهيد الحديث المذكور من طريق عمر متصلاً، ثم قال: يقولون: إنه من خطأ معمر، ومما حدث به بالعراق من حفظه وصحيح حديثه ما حدث باليمن من كتبه.

ثم إنه أخرج حديث الزهري من خمس طرق:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك، عن ابن شهاب. . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه"(2).

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن مالك.

الثالث: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، عن سفيان بن عيينة، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب.

الرابع: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

الخامس: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما، عن

(1)"سنن الدارقطني"(3/ 269 رقم 93).

(2)

"موطأ مالك"(2/ 586 رقم 1218).

ص: 369

أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن محمد بن أبي سويد. . . إلى آخره.

وعثمان هذا ذكره ابن حبان في التابعين الثقات، وقال: يروي المراسيل، روى عنه الزهري.

وقال أبو عمر بن عبد البر: رواه جماعة من رواة "الموطأ": عن مالك، عن ابن شهاب، أنه قال:"بلغني أن رسول الله عليه السلام قال لرجل من ثقيف. . ." الحديث. وكذا رواه أكثر رواة ابن شهاب.

ورواه ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن أبي سويد:"أن رسول الله عليه السلام قال لغيلان بن سلمة الثقفي حين أسلم وتحته عشر نسوة: خذ منهن أربعًا وفارق سائرهن".

قوله: "قبر أبي رِغَال" بكسر الراء وبالغين المعجمة، وكان أبو رغال هذا دليلاً للحبشة حين توجهوا إلى مكة -حرسها الله- فمات في الطريق بالمغمس ويرجم قبره، قال جرير:

إذا مات الفرزدق فارجموه

كما ترمون قبر أبي رغال

وقال ابن الأعرابي: رغال مثل قطام الأمة. وقال أبو دريد: أبو رغال مشتق من راغل يراغل مراغلة ورغالا، ولم يفسره. وقال الصغاني: التركيب يدل على اعتقاد شيء وأخذه.

ص: ثم لو ثبت على ما رواه عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، لما كانت فيه أيضًا حجة على من ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف في ذلك؛ لأن تزويج غيلان ذلك إنما كان في الجاهلية، قد بيّن ذلك سعيد بن أبي عروبة عن معمر في هذا الحديث.

حدثناه خلاد بن محمد، قال: ثنا محمد بن شجاع، عن يزيد بن هارون، قال:

ص: 370

أنا سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام مثل حديث أحمد بن داود، وزاد:"أنه كان تزوجهن في الجاهلية".

فكان تزويج غيلان للنسوة اللائي كن عنده حين أسلم في وقت كان تزويج ذلك العدد جائزًا والنكاح عليه ثابت، ولم يكن للواحدة حينئذٍ من ثبوت النكاح إلا ما للعاشرة مثله، ثم أحدث الله عز وجل حكمًا آخر وهو تحريم ما فوق الأربع، فكان ذلك حكمًا طارئًا طرأت به حرمة حادثة على نكاح غيلان، فأمره النبي عليه السلام لذلك أن يمسك من النساء العدد الذي أباحه الله عز وجل ويفارق ما سوى ذلك، وجُعل كرجل له أربعة نسوة فطلَّق منهن واحدة، فحكمه أن يختار واحدة منهن فيجعل ذلك الطلاق عليها ويمسك الآخر، وكذلك كان أبو حنيفة وأبو يوسف يقولان في هذا.

فأما من تزوج عشر نسوة بعد تحريم الله عز وجل ما جاوز الأربع في عقدة واحدة فإنما عقد النكاح عليهن عقدًا فاسدًا، فلا يثبت له بذلك نكاح، ألا ترى أنه لو تزوج ذات رحم محرم منه في دار الحرب وهو مشرك ثم أسلم؛ أنهما لا تقر عنده، وإن كان عقده لذلك كان في دار الحرب وهو مشرك؟ فلما كان هذا يرد حكمه فيه إلى حكم نكاحات المسلمين فيما يعتقدون في دار الإِسلام، كان كذلك أيضًا حكمه في العشر نسوة اللاتي تزوجهن وهو مشرك في دار الحرب، رد حكمه فيه إلى حكم المسلمين في نكاحاتهم؛ فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن باطل، وان كان تزوجهن في عُقد متفرقة جاز نكاح الأربع الأُول منهن؛ وبطل النكاح لسائرهن.

ش: هذا جواب عن الحديث المذكور الذي احتج به أهل المقالة الأولى، بطريق التسليم، بيانه أن يقال: ولئن سلمنا أن هذا الحديث متصل الإسناد وصحيحه؛ على ما رواه عبد الأعلى السامي، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي عليه السلام، ولكن لا نسلِّم أن يكون فيه حجة على أهل المقالة الثانية؛ لأن تزويج غيلان ذلك إنما كان في الجاهلية. . . إلى آخر ما ذكره الطحاوي، وهو ظاهر.

ص: 371

وأخرج الحديث المذكور عن خلاد بن محمد الواسطي، عن محمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة- أحد أصحاب أبي حنيفة، قد تكلموا فيه بما لا ينبغي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن سعيد بن أبي عروبة روى له الجماعة، عن معمر بن راشد الأزدي البصري روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد، أنا سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال:"أسلم غيلان بن سلمة الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، وأسلمن معه، فأمره النبي عليه السلام أن يختار منهن أربعًا".

وباقي الكلام ظاهر.

ص: فإن قال قائل: فقد ترك أبو حنيفة وأبو يوسف قولهما في شيء قالاه في هذا المعنى؛ وذلك أنهما قالا في الرجل من أهل الحرب سبي وله أربع نسوة وسبين معه: إن نكاحهن كلهن فاسد، ويفرق بينه وبينهن.

قال: فقد كان ينبغي على ما حملا عليه حديث غيلان أن يجعلا له أن يختار منهن اثنتين فيمسكهما ويفارق الاثنتين الباقيتين؛ لأن نكاح الأربع قد كان كله ثابتًا صحيحًا، وإنما طرأ الرق عليه؛ فحرم عليه ما فوق الاثنتين، كما أنه لما طرأ حكم الله في تحريم ما فوق الأربع أمر رسول الله عليه السلام غيلان باختيار أربع من نسائه وفراق سائرهن.

قيل له: ما خرج أبو حنيفة وأبو يوسف بما ذكرت عن أصلهما، ولكنهما ذهبا إلى ما قد خفي عليك؛ وذلك أن هذا كان تزوج الأربع في وقت ما تزوجهن بعدما حرم على العبد تزوج ما فوق الاثنتين، فإذا تزوجهن وهو حربي في دار الحرب ما فوق الاثنتين ثم سبي وسبين معه، رُدّ حكمه في ذلك إلى حكم تحريمٍ قد كان قبل نكاحه، فصار كأنه تزوجهن في عقدة بعدما صار رقيقًا، وهو في ذلك كرجل تزوج صبيتين

(1)"مسند أحمد"(2/ 83 رقم 5558).

ص: 372

صغيرتين فجاءت امرأة فارضعتهما معًا؛ فإنهما تبينان منه جميعًا، ولا يؤمر أن يختار إحداهما فيمسكها ويفارق الأخرى؛ لأن حرمة الرضاع طرأت عليه بعد نكاحه إياهما، فكذلك الرق الطارئ على النكاح الذي وصفنا، حكمه حكم الرضاع الذي ذكرنا، وهما جميعًا مفارقان؛ لما كان من رسول الله عليه السلام في غيلان بن سلمة؛ لأن غيلان لم تكن حرمة الله عز وجل لما فوق الأربع تقدمت نكاحه، فيرد حكم نكاحه إليها، وإنما طرأت الحرمة على نكاحه بعد ثبوته كله، فردت حرمة ما حرم عليه من ذلك إلى حكم حادث بعد النكاح، فوجب له بذلك الخيار كما يجب في الطلاق الذي ذكرنا.

ش: هذا السؤال مع جوابه ظاهران.

ص: فإن احتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس قال:"أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأمرني رسول الله عليه السلام أن أختار منهن أربعًا".

حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن بعض ولد الحارث بن قيس، عن الحارث بن قيس، عن النبي عليه السلام نحوه.

قيل لهم: قد يحتمل ما ذكرناه في حديث غيلان، وقد يجوز أيضًا أن يكون رسول الله عليه السلام أراد بقوله:"أختر منهن أربعًا" أي أختر منهن أربعًا فتزوجهن، ولا دلالة في هذا الحديث على واحد من هذين المعنيين.

ش: أي فإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي الصحابي رضي الله عنه، أخرجه من طريقين:

الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس.

ص: 373

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، قال: ثنا هشيم.

ونا وهب بن بقية، قال: أنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس -قال: مسدد بن عميرة وقال وهب: الأسدي- قال: "أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي عليه السلام، فقال: اختر منهن أربعًا".

قال أبو داود: وحدثنا به أحمد بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم بهذا الحديث فقال: قيس بن الحارث مكان الحارث بن قيس.

وأخرجه ابن ماجه أيضًا (2).

الثاني: عن صالح بن عبد الرحمن أيضًا، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عن بعض ولد الحارث بن قيس، عن الحارث بن قيس. . . إلى آخره.

وأخرجه ابن عساكر في "الأطراف" معلقًا، وقال: ورواه هشيم، عن مغيرة، عن بعض ولد الحارث بن قيس بن عميرة:"أن الحارث بن قيس أسلم. . ." فذكره.

قوله: "قيل لهم. . ." إلى آخره، جواب عن ذلك بوجهين:

الأول: أنه يحتمل ما ذكره من المعنى في حديث غيلان المذكور فيما مضى.

والثاني: أنه يحتمل أن يكون المراد بقوله: "اختر منهن أربعًا" أي اختر منهن أربعًا فتزوجهن، فإذا كان كذلك فلا تبقى فيه حجة لمن يحتج به.

وجواب آخر: أن هذا الحديث لا يصح؛ فإن فيه اضطرابًا وضعفًا في سنده.

أما الاضطراب: فإن بعضهم روى هذا الحديث، وقال فيه: عن قيس بن الحارث. منهم البيهقي وغيره، وكذا قال صاحب "التمهيد" وصاحب "الكمال" وذكره في حرف القاف في ترجمة قيس، وكذا فعل ابن أبي خيثمة في "تاريخه" والمزي في "أطرافه".

(1)"سنن أبي داود"(1/ 680 رقم 2241).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 628 رقم 1952).

ص: 374

وذكره بعضهم عن الحارث بن قيس. منهم الطحاوي كما تراه، ورجح البيهقي أنه الحارث بن قيس، وقال بعضهم: الصواب أنه قيس بن الحارث كما حكاه أبو داود عن أحمد بن إبراهيم.

ثم مع الاضطراب فيه اضطراب أيضًا في حميضة، فقيل: ابن الشمردل، وقيل: بنت الشمردل، وكذا في "سنن ابن ماجه": حميضة بنت الشمردل.

وأما الضعف في سنده، فإن الذهبي قال في "الضعفاء": حميضة لا يصح حديثه.

وقال البخاري: فيه نظر. وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود": وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة. والطريق الثاني فيه مجهول.

ص: وإن احتجوا في ذلك أيضًا بما حدثنا الربيع الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود وحسان بن غالب، قالا: ثنا ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال:"أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي عليه السلام، فقال: طلق إحداهما".

حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا يحيى بن معين، قال: ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال:"أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي عليه السلام فسألته، فقال: طلق أيتهما شئت".

قيل لهم: هذا يوجب الاختيار كما ذكرتم، وهو أوضح من حديث الحارث بن قيس، ولكنه قد يجوز أن يكون رسول الله عليه السلام إنما خيره لأن نكاحه كان في الجاهلية قبل تحريم الله عز وجل ما فوق الأربع، فيكون معنى هذا الحديث مثل معنى حديث غيلان بن سلمة.

فقد ثبت بما بيَّنا في هذا الباب ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف، وفسد ما ذهب إليه محمد بن الحسن.

ص: 375

ش: أي: وإن احتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث فيروز الديلمي، يقال لهم: هذا يوجب الاختيار. . . إلى آخره، وهو ظاهر.

وأخرجه من طريقين:

الأول: عن الربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، وعن حسان بن غالب بن نجيح الرعيني المصري، كلاهما عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن أبي وهب الجيشاني الديلم بن الهوشع -أو الهوشع بن الديلم- عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه فيروز الديلمي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني، أنه سمع ابن فيروز الديلمي يحدث عن أبيه قال:"أتيت النبي عليه السلام فقلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، فقال رسول الله عليه السلام: أختر أيتهما شئت".

وقال (2): ثنا محمد بن بشار، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه قال:"قلت: يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان، قال أختر أيتهما شئت".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وقال البخاري: في إسناده نظر.

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يحيى بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 436 رقم 1129).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 436 رقم 1130).

ص: 376

وهذا إسناد حسن.

وأخرجه أبو داود (1): عن يحيى بن معين. . . إلى آخره نحوه.

وابن ماجه أيضًا (2).

وقال البخاري: أحاديث هذا الباب كلها معلولة، وليست أسانيدها قوية.

وقال أبو عمر: وعلى تقدير ثبوتها تحمل على أن ذلك كان قبل تحريم الجمع بين الخمس وبين الأختين، فعلى هذا يكون العقد حين وقع صحيحًا ثم طرأ التحريم بَعْد، فيكون له الخيار، كما تقول في رجل طلَّق إحدى امرأتيه بغير عينها: لا يفسد عقدهما وله الخيار في تعيين الطلاق في إحداهما؛ إذ لا عموم في لفظه عليه السلام؛ فيحمل على ما ذكرنا.

فإن قيل: تَرْكُه عليه السلام الاستفسار يدل على شمول الحكم للحاليين.

قلنا: يجوز أن يترك عليه السلام السؤال لعلمه بحال وقوع العقد، وقوله عليه السلام:"طلِّق أيتهما شئت" يدل على أن العقد كان وقع في حال الإِباحة، فافهم. والله أعلم.

ص: وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف بعض المتقدمين:

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا بكر بن خلف، قال: ثنا غندر وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة قال:"يأخذ الأولى والثانية والثالثة والرابعة".

ش: ذكر هذا حسمًا لشغب من يشنع على أبي حنيفة وأبي يوسف بأنه ليس لهما سلف فيما ذهبا إليه من الحكم المذكور في هذا الباب، حيث أخرج في ذلك عن قتادة بن دعامة السدوسي، فإن مذهبه في هذا الباب كمذهبهما حيث يقول: يأخذ بالأولى -أي المرأة الأولى- والثانية والثالثة والرابعة. أراد أنه يأخذ النساء الأربع الأولى منهن ويترك باقيتهن.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 681 رقم 2243).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 627 رقم 1950).

ص: 377

وقد ذكرنا هذا إذا كان تزوجهن في عقد متفرقة، وأما إذا تزوجهن في عقدة واحدة فنكاحهن كلهن باطل ويفرق بينه وبينهن كما ذكرناه فيما مضى، وكذا هو مذهب سفيان الثوري.

وإسناد ما رواه عن قتادة صحيح، ورجاله ثقات.

وبكر بن خلف البصري شيخ أبي داود وابن ماجه، وغندر هو محمد بن جعفر البصري روى له الجماعة، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى البصري روى له الجماعة، وسعيد هو ابن أبي عروبة، والله أعلم.

***

ص: 378