المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٢

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه

- ‌ص: باب: بيع أراضي مكة وإجارتها

- ‌ص: باب: ثمن الكلب

- ‌ص: باب: استقراض الحيوان

- ‌ص: كتاب السِّير

- ‌ص: باب: الإمام يريد قتال العدو هل عليه قبل ذلك أن يدعو أم لا

- ‌ص: باب: ما يكون الرجل به مسلمًا

- ‌ص: باب: بلوغ الصبي بما سوى الاحتلام فيكون بذلك في معنى البالغين في سهمان الرجال، وفي حلِّ قتله في دار الحرب إن كان حربيًّا

- ‌ص: باب: ما نهي عنه قتله من النساء والولدان في دار الحرب

- ‌ص: باب: الشيخ الكبير هل يقتل في دار الحرب أم لا

- ‌ص: باب: الرجل يقتل قتيلاً في دار الحرب هل يكون له سلبه أم لا

- ‌ص: باب: سهم ذوي القربى

- ‌ص: باب: النفل بعد الفراغ من قتال العدو وإحراز الغنيمة

- ‌ص: باب: المدد يَقْدُمون بعد الفراغ من القتال في دار الحرب بعدما ارتفع القتال قبل قفول العسكر، هل يُسْهم لهم أم لا

- ‌ص: باب: الأرض تفتتح، كيف ينبغي للإِمام أن يفعل فيها

- ‌ص: باب: الرجل يحتاج إلى القتال على في دابة من المغنم

- ‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

- ‌ص: باب: الحربية تُسلم في دار الحرب فتخرج إلى دار الإِسلام ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلمًا

- ‌ص: باب: الفداء

- ‌ص: باب: ما أحرز المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه

- ‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو

- ‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة

- ‌ص: باب: إنزاء الحمير على الخيل

- ‌ص: كتاب الصيد والذبائح

- ‌ص: باب: العيوب التي لا تجزئ الهدايا والضحايا إذا كانت بها

- ‌ص: باب: من نحر يوم النحر قبل أن ينحر الإمام

- ‌ص: باب: البدنة عن كم تجزئ في الضحايا والهدايا

- ‌ص: باب: الشاة عن كم تجزئ أن يضحى بها

الفصل: ‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة

‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة

ش: أي هذا باب في بيان حكم إحياء الأرض الميتة، وهي الأرض الموات، وهي الأرض التي لم تزرع ولم تعمر ولا جرى عليها ملك أحد، وإحياؤها: مباشرة عمارتها وتأثير شيء فيها.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا محمد بن بشر، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا قتادة، عن سليمان اليشكري، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له".

ش: إسناده صحيح.

وأبو بكر اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه.

ومحمد بن بشر بن بشير الأسلمي، وثقه ابن حبان.

وسعيد هو ابن أبي عروبة، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وسليمان هو ابن قيس اليشكري البصري، وثقه أبو زرعة والنسائي، وروى له الترمذي وابن ماجه.

والحديث أخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمد بن بشر، ثنا سعيد بن أبي عروبة، ثنا قتادة، عن سليمان بن قيس اليشكري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحاط حائطًا على أرض فهي له".

وقال البخاري: يقال: إن سليمان بن قيس مات في حياة جابر رضي الله عنه ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بشر، ولا يعرف لأحد منهم سماعًا إلا أن يكون عمرو بن دينار سمع منه في حياة جابر بن عبد الله.

(1)"مسند أحمد"(3/ 381 رقم 15129).

ص: 437

وقال أبو حاتم: جالس سليمان بن قيس جابرًا وسمع منه وكتب عنه صحيفة، وتوفي وبقيت الصحيفة عند امرأته.

وروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة.

قوله: "من أحاط" أي من جعل حائطًا أي جدارًا على أرض، وأصل حائط من قولهم: حاطَهُ يَحُوطهُ حَوْطًا وحيطة وحياطة: أي كلأه ورعاه، والحائط: الجدار، ويسمى البستان أيضًا من النخيل إذا كان عليه حائط.

ويستفاد منه: أن من بني حائطًا على أرض موات، أو حَجَّر عليها فإنه يملكه بالاتفاق، ولكن هل يشترط فيه إذن الإِمام أم لا؟ فيه خلاف سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيى أرضًا مواتًا فهي له، وليس لعرق ظالم حق".

ش: عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود.

وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني المدني، قال أحمد: منكر الحديث ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد: ضرب أبي على حديث كثير بن عبد الله في "المسند" ولم يحدث عنه شيئًا.

وقال يحيى بن معين: لجده صحبة، وكثير ضعيف الحديث. وعنه: ليس بشيء.

وعن أبي داود: كان أحد الكذابين. وقال النسائي والدارقطني: متروك، روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

وأبوه عبد الله بن عمرو: وثقه ابن حبان، وروى له هؤلاء.

وجده عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني المدني الصحابي رضي الله عنه.

ص: 438

وأخرجه الطبراني (1): ثنا محمد بن علي الصائغ، ثنا القعنبي، ثنا كثير بن عبد الله.

وثنا علي بن المبارك الصنعاني، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام قال:"من أحيى مواتًا من الأرض في غير حق مسلم فهو له، وليس لعرق ظالم حق".

قوله: "أرضًا مواتًا" بفتح الميم، قد مرَّ تفسيره.

قوله: "وليس لعرق ظالم حق" هو أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرسًا غصبًا؛ ليستوجب به الأرض. والرواية: "لعرقٍ" بالتنوين، وهو على حذف المضاف، أي لذي عرق ظالم فجعل العرق نفسه ظالمًا والحق لصاحبه، أو يكون الظالم من صفة صاحب العرق، وإن روي "عرقِ" بالإِضافة فيكون الظالم صاحب العرق، والحق العرق، وهو أحد عروق الشجرة.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "من أحاط على شيء فهو له".

ش: إسناده صحيح، ولكن قيل: إن سماع الحسن عن سمرة لم يصح إلا في حديث العقيقة، وقد ذكرنا في الكتاب غير مرة أنه سمع من سمرة أحاديث كثيرة.

قاله البخاري وغيره.

وأخرجه أبو داود (2): حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، ثنا محمد بن بشر العبدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه السلام: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له".

(1)"المعجم الكبير"(17/ 13 رقم 4).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 195 رقم 3077).

ص: 439

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب ذاهبون إلى أن من أحيى أرضًا ميتةً فهي له؛ أذن له الإِمام في ذلك أو لم يأذن، أو جعلها له الإِمام أو لم يجعلها له، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

وممن ذهب إلى ذلك: أبو يوسف ومحمد بن الحسن -رحمهما الله-، وقالوا: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيى أرضًا ميتةً فهي له" فقد جعل حكم إحياء ذلك إلى من أحب بلا أمر، وقالوا: قد دلَّت على هذه أيضًا شواهد النظر، ألا ترى أن الماء الذي في البحار والأنهار من أخذ منه مَلَكَهُ بأخذه إياه وإن لم يأمر، الإِمام بأخذه ويجعله له، وكذلك الصيد من صاده فهو له، ولا يحتاج في ذلك إلى إباحة من الإِمام ولا إلى تمليك، والإِمام في ذلك وسائر الناس سواء.

قالوا: فكذلك الأرض الميتة التي لا ملك لأحد عليها فهي كالطير الذي ليس بمملوك وكالماء الذي ليس بمملوك، فمن أخذ من ذلك شيئًا فهو له بأخذه إياه، ولا يحتاج في ذلك إلى أمر الإِمام ولا إلى تمليكه كما لا يحتاج إلى ذلك منه في الماء والصيد اللذين ذكرنا.

ش: أراد بهؤلاء الذاهبين: عبيد الله بن الحسن والشافعي وأحمد وأبا ثور والظاهرية؛ فإنهم قالوا: من أحيى أرض ميتة فهي له، ولا يشترط فيه إذن الإِمام. وبه قال: أبو يوسف ومحمد.

وقال ابن حزم (1): كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عُمرت في الإِسلام فهي لمن سبق إليها، سواء بإذن الإِمام فعل ذلك أو بغير إذنه، لا إذن في ذلك للإِمام ولا للأمير، ولو أنه بين الدورفي الأمصار، ولا لأحد أن يحمي شيئًا من الأرض عمن سبق إليها بعد رسول الله عليه السلام، فلو أن الإِمام أقطع إنسانًا شيئًا لم يصر له ذلك ولم يكن له أن يحميه ممن سبق إليه، فإن كان إحياؤه لذلك مضرًّا لأهل القرية ضررًا ظاهرًا لم يكن لأحد أن ينفرد لا بإقطاع الإِمام ولا بغيره، كالملح الظاهر والماء الظاهر والمراح ورحبة السوق والطريق والمصلى ونحو ذلك.

(1)"المحلى"(8/ 233).

ص: 440

قوله: "وقالوا. . ." إلى آخره. أي قال هؤلاء الذاهبون، وأراد به بيان وجه جواز إحياء الأرض الميتة بلا إذن الإِمام، وهو ظاهر.

وقال الخطابي: إحياء الموات إنما يكون بحفره وتحجيره وبإجراء الماء إليها ونحوها من وجوه العمارة، فمن فعل ذلك فقد ملك به الأرض، سواء كان بإذن الإِمام أو يغير إذنه؛ وذلك لأن قوله:"من أحيى أرضًا" كلمة شرط وجزاء فهو غير مقصور على عين دون عين ولا على زمان دون آخر، وإلى هذا ذهب الأكثر.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ منهم أبو حنيفة، فقالوا: لا تكون الأرض للذي يحييها إلا بأمر الإِمام له في ذلك وجعلها له، وقالوا: ليس ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكرنا في هذا الباب يدافع ما قلنا؛ لأن ذلك الإحياء الذي جعل به رسول الله عليه السلام الأرض التى أحياها في هذا الحديث لم يفسر لنا ما هو، فقد يجوز أن يكون هو ما فعل من ذلك بأمر الإِمام، فيكون قوله:"من أحيى أرضًا ميتة فهي له" أي من أحياها على شرائط الإحياء فهي له، ومن شرائطه تحظيرها وإذن الإمام له فيها وتمليكه إياها، فقد يجوز أن يكون هذا هو معنى هذا الحديث، ويجوز أن يكون على ما تأوَّله أبو يوسف ومحمد إلا أنه لا يجوز أن يقطع على رسول الله عليه السلام بالقول أنه أراد معنى إلا بالتوقيف منه أو بإجماعٍ ممن بعده أنه أراد ذلك المعنى.

فنظرنا إذْ لم نجد في هذا الحديث حجة لأحد الفريقين في غيره من الأحاديث، هل فيها ما يدل على شيء من ذلك؟ فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب ابن جثامة، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لا حمى إلا لله ولرسوله".

حدثنا يزيد وابن أبي داود، قالا: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة:"أن رسول الله عليه السلام حرم النقيع، وقال: لا حمى إلا لله ورسوله".

ص: 441

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا حمى إلا لله ولرسوله".

فلما قال رسول الله عليه السلام: "لا حمى إلا لله ولرسوله" -والحمى: ما حمي من الأرض- دلَّ ذلك أن حكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم، وأن حكم ذلك غير حكم الصيد، وقد بيَّنا ما يحتمل الخبر الأول، فكان أولى الأشياء بنا أن نحمل وجهه على ما لا يخالف هذا الأثر الثاني.

ش: أي خالف أولئك الذاهبين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مكحولًا الشامي ومحمد بن سيرين وابن المسيب والنخعي؛ فإنهم قالوا: من أحيى مواتًا لا يكون له إلا بإذن الإِمام له فيه. وبه قال أبو حنيفة.

ومذهب مالك على التفصيل، فقال: أما ما يتشاحّ الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه لا يكون لأحد إلا بقطيعة الإِمام، وأما ما كان في الصحاري وغير العمران فهو لمن أحياه، فإن تركه، عاد كما كان فقد صار أيضًا لمن أحياه وسقط ملكه عنه.

وهكذا قال في الصيد يتملك ثم يتوحش فإنه لمن أخذه، فإن كان في أذنه شنف (1) أو نحو ذلك فالشنف للذي كان له والصيد لمن أخذه. وقال الحسن بن حي: ليس الموات إلا في أرض العرب فقط.

قوله: "وقالوا: ليس فيما روي. . ." إلى آخره، جواب عن الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، فيما ذهبوا إليه، بيانه: أن الاستدلال لا يتم بها؛ لأن معناها يحتمل ما قال هؤلاء، ويحتمل أن يكون معناها بأمر الإِمام، فإذا كان كذلك لا يكون فيها حجة لأحد الفريقين؛ لأن القطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول:

(1) والشَّنْف: الذي يلبس في أعلى الأُذُن -بفتح الشين- ولا تقل: شُنْف، والذي يلبس في أسفلها: القُرْط، وقيل: الشَّنْف، والقُرْطُ سواء. انظر "لسان العرب":(شنف).

ص: 442

إنه أراد معنى مخصوصًا من ذلك لا يجوز إلا بدليل يدل عليه، فلما كان كذلك نظرنا في ذلك فوجدنا حديثي الصعب بن جثامة وأبي هريرة رضي الله عنه يدلان على أن الحكم الأرضين إلى الأئمة لا إلى غيرهم؛ فبيَّنا حينئذ ما تحتمل الأحاديث الأُوَل وترجح بهذا أحد الاحتمالين المذكورين وهو: أن معناها بأمر الإِمام، فبهذا حصل التوافق بين هذه الآثار كلها، ولم يبق فيها ما يخالف بعضها بعضًا.

ثم إنه أخرج حديث الصعب بن جثامة من طريقين:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، عن الصعب.

وأخرجه مسلم (1): عن يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وعمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله. . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه أبو داود (2): عن ابن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد بن عبد الله. . . إلى آخره نحوه.

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، وعن إبراهيم بن أبي داود البرلسي كلاهما، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- فيه مقال، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن الزهري. . . إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، عن

(1) لم أجده في "صحيح مسلم"، ولم يعزه المزي إليه في "التحفة". انظر "التحفة"(4/ 186 رقم 4941)، وذكره الحافظ ابن حجر في الأحاديث التي إنفرد بها البخاري عن مسلم في آخر باب المساقاة. انظر "الفتح"(5/ 64).

وبهذا السند أخرج مسلم حديثًا آخر (3/ 1364 رقم 1745) فلعله انتقال نظر منه حيث ينقل من أطراف ابن عساكر. وهو أصل كتاب "تحفة الأشراف" والله أعلم.

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 196 رقم 3083).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 197 رقم 3084).

ص: 443

عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة:"أن رسول الله عليه السلام حمى النقيع، وقال: لا حمى إلا لله عز وجل".

قوله: "لا حمى" حمى على وزن فِعَل -بكسر الفاء وفتح العين- بمعنى محمي أي محظور لا يقرب، وأحميت المكان: جعلته حمىً، وقال الكسائي: سمعت في تثنيته: حموان، والوجه: حميان، وأصل الكلمة من حميته حماية أي دفعت عنه، وهذا شيء حمىً.

قال ابن الأثير: كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضًا في حيه استعوى كلبًا فحمى مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره، وهو يشارك القوم في سائر ما يرعون فيه، فنهى النبي عليه السلام عن ذلك وأضاف الحمى إلى الله ورسوله؛ أي إلا ما يحمى للخيل التي تنصب للجهاد، والإبل التي يحمل عليها في سبيل الله، وإبل الزكاة وغيرها، كما حمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النقيع لنعم الصدقة والخيل المعدة في سبيل الله تعالى.

وقال الخطابي: "لا حمى إلا لله ولرسوله" يريد لا حمى على معنى ما أباحه رسول الله عليه السلام على الوجه الذي حماه.

قوله: "حرم النَّقِيع" -بفتح النون وكسر القاف- وهو موضع قريب من المدينة كان يستنقع فيه الماء -أي يجتمع- ويقال: بينه وبين المدينة عشرون ميلًا، وقيل عشرون فرسخًا، ومساحته بريد في بريد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد حماه لنعم الفيء وخيل المجاهدين فلا يرعاه غيرها، وقال الخطابي: النقيع مكان معروف مستنقع للمياه ينبت فيه الكلأ، حماه رسول الله عليه السلام لمهازيل إبل الصدقة ولضعف الخيل.

وأخرج حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن علي بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن مسلم الألهاني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار القرشي الحمصي روى

ص: 444

له الجماعة، عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان روي له الجماعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج روى له الجماعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا عبد الله بن أحمد بن شبوية المروزي، نا علي بن عياش، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا حمى إلا لله ولرسوله".

وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإِسناد.

ص: وأما ما يدخل لأبي حنيفة في ذلك من جهة النظر مما يفرق بين الأرض الموات وبين الأنهار والصيد: أنَّا رأينا الصيد وماء الأنهار لا يجوز للإِمام تمليك ذلك أحدًا، ورأيناه لو ملك رجلًا أرضًا ميتة تم ملكه إياها بذلك، وكذلك لو احتاج الإِمام إلى بيعها في نائبة للمسلمين جاز بيعه لها، ولا يجوز ذلك في ماء نهر ولا في صيد بَر ولا بحر، فلما كان ذلك إلى الإِمام في الأرضين؛ دلَّ أن حكمها إليه وأنها في يده كسائر الأموال التي في يده للمسلمين لا رب لها بعينه، فلا يملكها أحد بأخذه إياها حتى يكون الإِمام يُمَلِّكها إياه على حسن النظر منه للمسلمين.

ولما كان الصيد والماء ليس إلى الإِمام بيعها ولا تمليكها أحدًا؛ كان الإِمام فيها كسائر الناس، وكان ملكهما يجب بأخذهما دون الإِمام، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة لما وصفنا من الآثار والدلائل التي ذكرنا.

ش: هذا جواب عن قوله: "وقالوا: قد دلت على هذه أيضًا شواهد النظر. . ." إلى آخره. وكانوا قد قاسوا حكم إحياء الأرض الموات على حكم أخذ الصيد والماء من الأنهار، حيث قالوا: من أخذ من صيد أو من ماء نهر ملكه بأخذه إياه وإن لم يأمر الإِمام؛ لأنه لا ملك لأحد عليه، فالإِمام وسائر الناس فيه سواء، فكذلك الأرض الموات ليس لأحد ملك عليها، فمن أحياها فقد ملكها وإن لم يأمره الإِمام. لم يفقروا

(1) قال الهيثمي في "المجمع": رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله رجال الصحيح، ورواه البزار وقال: لا يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإِسناد.

ص: 445

بين الحكمين المذكورين. فأجاب عن ذلك بإثبات الفرق بينهما الذي ينفي هذا الخلاف؛ نصرة لأبي حنيفة ومن تبعه في ذلك، وهو ظاهر.

ص: فإن احتج محتجٌّ في ذلك بما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا ويونس بن يزيد قد حدثاه، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"من أحيى أرضًا ميتة فهي له. وذلك أن رجالًا كانوا يتحجرون من الأرض".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن أبي الوزير، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه مثله.

قيل له: لا حجة لك في هذا، ومعنى هذا عندنا على ما ذكرنا من معنى قول رسول الله عليه السلام:"من أحيى أرضًا ميتة فهي له".

ش: أي إن احتج أحد من أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الذي أخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس ويونس بن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. . . إلى آخره.

وأخرجه أيضًا عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن عمر بن مطرف الهاشمي المكي، عن سفيان الثوري، عن محمد بن مسلم الزهري. . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه"(1)، والبيهقي في "سننه"(2) من طريق مالك.

قوله: "قيل له" أي لهذا المحتج، وهو ظاهر.

ص: وقد روي عن عمر رضي الله عنه في غير هذا الحديث ما يدل أن مراده في هذا الحديث هو ما ذكرنا.

(1)"موطأ مالك"(2/ 744 رقم 1425).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 143 رقم 11562).

ص: 446

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أبو معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله قال:"خرج رجل من أهل البصرة يقال له: أبو عبد الله إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن بأرض البصرة أرضًا لا تضر بأحد من المسلمين وليست أرض خراج، فإن شئت أن تقطعنيها أتخذها قضبًا وزيتونًا ونخلًا فافعل. فكان أولا من افتلى الفلايا بأرض البصرة، قال: فكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى رضي الله عنه: إن كانت حمى فأقطعها إياه".

أفلا ترى أن عمر رضي الله عنه لم يجعل له أخذها ولا جعل له ملكها إلا بإقطاع خليفته ذلك الرجل إياها؟! ولولا ذلك لكان يقول له: وما حاجتك إلى إقطاعي إياك؛ لأن لك أن تحييها دوني وتعمرها فتملكها؛ فدل ذلك أن الإِحياء عند عمر رضي الله عنه هو ما أذن الإِمام فيه للذي يتولاه وملكه إياه.

وقد دلَّ على ذلك أيضًا: ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن محمد، قال: قال عمر رضي الله عنه: "لنا رقاب الأرض".

فدلَّ ذلك على أن رقاب الأرضين كلها إلى أئمة المسلمين، وأنها لا تخرج من أيديهم إلا بإخراجهم إياها إلى من رأوا؛ على حسن النظر منهم للمسلمين في عمارة بلادهم وصلاحها.

وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه وبه نأخذ.

ش: ذكر هذا عمر رضي الله عنه شاهدًا لما ذكره من المعنى في الأثر السابق المروي عن عمر أيضًا، وتأيبدًا لصحة التأويل الذي أوَّله أبي حنيفة ومن تبعه فيه وفيما يشابهه من الأحاديث المرفوعة.

وأخرج ذلك بإسناد صحيح: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير، عن أبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني -بالشين المعجمة- الكوفي، عن محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الأعور الكوفي. . . إلى آخره.

ص: 447

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث أبي معاوية، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن عبيد الله الثقفي قال:"كان بالبصرة رجل يقال له: نافع أبو عبد الله، فأتى عمر رضي الله عنه فقال: إن بالبصرة أرضًا ليست من أرض الخراج ولا تضر بأحد من المسلمين، وكتب إليه أبو موسى يعلمه بذلك، فكتب عمر إلى أبي موسى: إن كانت ليست تضرّ بأحد من المسلمين وليست من أرض الخراج فأقطعها إياه".

قوله: "يقال له أبو عبد الله" قد صرَّح في رواية البيهقي أن اسمه نافع.

قوله: "أن تقطعنيها" من الإقطاع بكسر الهمزة من قولهم: أقطع السلطان فلانًا أرضًا الفلانية: إذا جعلها له ليتصرف فيها إجارةً وزراعةً، والإقطاع يكون تمليكًا وغير تمليك، ومنه الحديث:"أقطع النبي عليه السلام الناس الدور"(2) يعني أنزلهم في دور الأنصار.

قوله: "قضبًا" بفتح القاف وسكون الضاد المعجمة وفي آخره باء موحدة وهو الرطبة، وأهل مكة -حرسها الله- يسمون القت قضبًا، قاله الصغاني، والقضب أيضًا شجر يتخذ منه القسي.

قوله: "فافعل" جواب الشرط أعني قوله: "فإن شئت أن تقطعنيها".

قوله: "فكان أول من افتلى الفلايا [. . . . . . . . . . . . . . . . . .](3).

قوله: "فكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى" وهو عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه وكان نائبه بالبصرة، ولاه عمر رضي الله عنه في سنة سبع عشرة من الهجرة بعد أن عزل المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما لأمرٍ اقتضى ذلك.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 144 رقم 11573).

(2)

أخرجه البيهقي في "السنن"(6/ 145 رقم 11581)، والشافعي في "المسند"(1/ 381 رقم 1754)، والطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 222 رقم 10534).

(3)

بيض له المصنف في "الأصل".

ص: 448

قوله: "وقد دلَّ على ذلك أيضًا" أي على ما ذكرنا من أن مراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله: "من أحيى أرضًا ميتة فهي له" هو ما ذكرنا من التأويل.

قوله: "ما حدثنا" في محل الرفع؛ لأنه فاعل لقوله: "وقد دل".

وأخرجه بإسناد صحيح، ورجاله ثقات.

وابن عون هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري.

ومحمد هو ابن سيرين.

قوله: "لنا رقاب الأرض" أي نفس الأرض، أراد أن نفس الأرض لأئمة المسلمين، وأنها لا تخرج من أيديهم إلا إذا أخرجوها إلى من رأوا من المسلمين، والله أعلم.

***

ص: 449