المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٢

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: البيع يشترط فيه شرط ليس فيه

- ‌ص: باب: بيع أراضي مكة وإجارتها

- ‌ص: باب: ثمن الكلب

- ‌ص: باب: استقراض الحيوان

- ‌ص: كتاب السِّير

- ‌ص: باب: الإمام يريد قتال العدو هل عليه قبل ذلك أن يدعو أم لا

- ‌ص: باب: ما يكون الرجل به مسلمًا

- ‌ص: باب: بلوغ الصبي بما سوى الاحتلام فيكون بذلك في معنى البالغين في سهمان الرجال، وفي حلِّ قتله في دار الحرب إن كان حربيًّا

- ‌ص: باب: ما نهي عنه قتله من النساء والولدان في دار الحرب

- ‌ص: باب: الشيخ الكبير هل يقتل في دار الحرب أم لا

- ‌ص: باب: الرجل يقتل قتيلاً في دار الحرب هل يكون له سلبه أم لا

- ‌ص: باب: سهم ذوي القربى

- ‌ص: باب: النفل بعد الفراغ من قتال العدو وإحراز الغنيمة

- ‌ص: باب: المدد يَقْدُمون بعد الفراغ من القتال في دار الحرب بعدما ارتفع القتال قبل قفول العسكر، هل يُسْهم لهم أم لا

- ‌ص: باب: الأرض تفتتح، كيف ينبغي للإِمام أن يفعل فيها

- ‌ص: باب: الرجل يحتاج إلى القتال على في دابة من المغنم

- ‌ص: باب: الرجل يسلم في دار الحرب وعنده أكثر من أربع نسوة

- ‌ص: باب: الحربية تُسلم في دار الحرب فتخرج إلى دار الإِسلام ثم يخرج زوجها بعد ذلك مسلمًا

- ‌ص: باب: الفداء

- ‌ص: باب: ما أحرز المشركون من أموال المسلمين هل يملكونه

- ‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو

- ‌ص: باب: إحياء الأرض الميتة

- ‌ص: باب: إنزاء الحمير على الخيل

- ‌ص: كتاب الصيد والذبائح

- ‌ص: باب: العيوب التي لا تجزئ الهدايا والضحايا إذا كانت بها

- ‌ص: باب: من نحر يوم النحر قبل أن ينحر الإمام

- ‌ص: باب: البدنة عن كم تجزئ في الضحايا والهدايا

- ‌ص: باب: الشاة عن كم تجزئ أن يضحى بها

الفصل: ‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو

‌ص: باب: ميراث المرتد لمن هو

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم ميراث المرتد كيف يورث عنه؟ ومن يرثه؟

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي عليه السلام قال:"لا يرث الكافر المسلم ولا يرث المسلم الكافر".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب. . . فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبي عليه السلام قال:"لا يرث المسلم الكافر".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح، ورجالها كلهم رجال الصحيح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن عمرو بن عثمان بن عفان، عن أسامة بن زيد.

وأخرجه مسلم في "الفرائض"(1): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم -واللفظ ليحيى، قال يحيى: أنا، وقال الآخران: ثنا- ابن عيينة، عن الزهري. . . إلى آخره نحوه.

وأخرجه بقية الجماعة (2).

(1)"صحيح مسلم"(3/ 1233 رقم 1614).

(2)

البخاري (6/ 2484 رقم 6383)، وأبو داود (2/ 140 رقم 2909)، والترمذي (4/ 423 رقم 2107)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4/ 81 رقم 6376)، وابن ماجه (2/ 911 رقم 2729).

ص: 424

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري. . . إلى آخره.

وأخرجه البخاري في "الحج"(1): عن أصبغ، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. . . إلى آخره بأتم منه.

الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن الزهري. . . إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطئه"(2)، والنسائي (3): عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، عن ابن المبارك، عن مالك، عن الزهري.

وعن (4) أحمد بن سليمان، عن معاوية بن هشام، عن مالك، عن الزهري.

وعن (5) محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك.

وعن (6) أحمد بن سليمان، عن زيد بن الحباب، عن مالك.

ثم اعلم أن لفظ مالك في "الموطأ"(7): عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن عمر بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يرث المسلم الكافر".

قال أبو عمر: هكذا قال مالك: عمر بن عثمان. وسائر أصحاب ابن شهاب يقولون: عمرو بن عثمان. وروى ابن بكير هذا الحديث عن مالك على الشك في عمرو بن عثمان أو عمر بن عثمان، والثابت عن مالك: عمر بن عثمان، وأما أهل

(1)"صحيح البخاري"(2/ 575 رقم 1511).

(2)

"موطأ مالك"(2/ 519 رقم 1082).

(3)

"سنن النسائي الكبرى"(4/ 81 رقم 6373).

(4)

"سنن النسائي الكبرى"(4/ 81 رقم 6375).

(5)

"سنن النسائي الكبرى"(4/ 80 رقم 6372).

(6)

"سنن النسائي الكبرى"(4/ 84 رقم 6374).

(7)

"موطأ مالك"(2/ 519 رقم 1082).

ص: 425

النسب فلا يختلفون أن لعثمان ابنًا يسمى عُمر وابنًا يسمى عَمرًا ، وله أيضًا أبان والوليد وسعيد، كلهم بنو عثمان بن عفان، وقد روي الحديث عن عمر وعمرو وأبان، وقال النسائي: والصواب في حديث مالك: عمر، ولا نعلم أحدًا تابع مالكًا على قوله: عمر.

وقال أبو عمر: أما زيادة من زاد في هذا الحديث: "ولا الكافر المسلم" فلا مدخل للقول في ذلك؛ لأنه إجماع المسلمين كافة عن كافة أن الكافر لا يرث المسلم، وهي الحجة القاطعة الدافعة للشبهة، وأما اقتصار مالك على قوله:"لا يرث المسلم الكافر" فهذا موضع اختلف فيه السلف، فكأن مالكًا قصد النكتة التي للقول فيها مدخل.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن المرتد إذا قتل على رِدَّته أو مات عليها كان ماله لبيت مال المسلمين، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى وربيعة والشافعي ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: المرتد إذا قتُل على رِدَّته أو مات عليها؛ فماله لبيت مال المسلمين.

واعلم أن ها هنا مذاهب:

الأول: أنا ماله لورثته من المسلمين، وسيجيء بيان هذا مستقصى.

الثاني: إن كان له وارث على دينه فهو أحق به، وإلا فلورثته من المسلمين، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

الثالث: ماله ساعة يرتد لجميع المسلمين؛ قتل أو مات أو لحق بأرض الحرب أو راجع الإِسلام كل ذلك سواء، وإليه ذهب بعض أصحاب مالك، ذكر ذلك عنه ابن شعبان وأشهب.

الرابع: إن راجع الإِسلام فماله له، وإن قتل فماله لورثته من الكفار، وإليه ذهب أبو سليمان والظاهرية.

الخامس: مذهب الشافعي ومن تبعه، وقد ذكرناه.

ص: 426

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ميراثه لورثته من المسلمين.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري والليث بن سعد وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق، فإنهم قالوا: ميراث المرتد لورثته من المسلمين، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.

وقال الأوزاعي: إن قتل في أرض الإِسلام فماله لورثته من المسلمين.

وقال أبو عمر: إجماع المسلمين كافة: أن الكافر لا يرث المسلم.

واختلفوا في المسلم هل يرث الكافر؟ فذهب جماعة من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وكل من تكلم في الفقه من أهل الحديث: أن المسلم لا يرث الكافر، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور، إلا أنهم اختلفوا في معنى هذا الحديث في ميراث المرتد على ما ذكرنا، واختلفوا أيضًا في توريث اليهودي من النصراني ومن المجوسي على قولين:

فقالت طائفة: الكفر كله ملة واحدة وجائز أن يرث الكافر الكافر كان على شريعته أو لم يكن، وممن قال بهذا القول: الثوري وأبو حنيفة والشافعي وابن شبرمة وأكثر الكوفيين، وهو قول إبراهيم.

وقال مالك وأصحابه: الإِسلام ملة واحدة واليهودية والنصرانية ملة، لا يجوز أن يرث اليهودي النصراني ولا النصراني اليهودي، ولا المجوسي منهما؛ لقوله عليه السلام:"لا يتوارث أهل ملتين"(1)، وبه قال فقهاء البصرة وطائفة من أهل الحديث، وهو قول ابن شهاب وربيعة والحسن وشريك ورواية عن الثوري، قالوا: الكفر ملل مفترقة، لا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى وتأول أهل القول الأول قوله عليه السلام:"لا يتوارث أهل ملتين" فقالوا: الكفر كله ملة، والإِسلام ملة.

(1) أخرجه أبو داود (2/ 140 رقم 2911)، وابن ماجه (2/ 912 رقم 2731) من حديث عبد الله ابن عمرو، والترمذي (4/ 424 رقم 2108) من حديث جابر، والنسائي في "الكبرى"(4/ 82 رقم 6381) من حديث أسامة بن زيد.

ص: 427

وقال شريح وابن أبي ليلى: الكفر ثلاث ملل: فاليهودية ملة، والنصرانية ملة، وسائر ملل الكفر من المجوس وغيرهم ملة واحدة؛ لأنهم لا كتاب لهم.

وقال أبو عمر: إن توفي النصراني الذمي وترك اثنين أحدهما حربي والآخر ذمي، فإن الشافعي قال: المال بينهما نصفان، وكذلك لو كان الميت حربيًّا.

وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض أصحاب مالك: إن كان ذميًّا ورثه الذمي دون الحربي، وإن كان حربيًّا ورثه الحربي دون الذمي.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى أن ذلك الكافر الذي عناه النبي عليه السلام في هذا الحديث لم يبيَّن لنا فيه أي كافر هو؟ فقد يجوز أن يكون هو الكافر الذي له ملة، ويجوز أن يكون هو الكافر كل كفر ما كان ملة أو غير ملة، فلما احتمل ذلك لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليل يدل على ذلك.

فنظرنا في ذلك فإذا ربيع المؤذن قد حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، ثنا هشيم، عن الزهري، قال: ثنا علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: قال النبي عليه السلام: "لا يتوارث أهل الملتين، لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم".

فلمَّا جاء هذا عن رسول الله عليه السلام بما ذكرنا علمنا أنه أراد الكافر ذا الملة، فلما رأينا الرِّدَّة ليست بملة، ورأيناهم مجمعين أن المرتدين لا يرث بعضهم بعضًا؛ لأن الرِّدَّة ليست بملة؛ ثبت أن حكم ميراثهم حكم ميراث المسلمين.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى: أن ذلك الكافر الذي عناه -أي قصده- النبي عليه السلام في الحديث المذكور. . . إلى آخره.

أراد أن لفظ "الكافر" في قوله: "لا يرث المسلم الكافر" لفظ مُجمل لم يبيّن منه المراد أي كافر هو؟ فقد يجوز أن يكون المراد منه أي كافر كان ممن كانت لهم ملة أو لم تكن، ويجوز أن يكون الكافر الذي له ملة.

ص: 428

فإذا كان محتملًا للمعنيين لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين إلا بدليل يدل عليه، فنظرنا في ذلك فوجدنا رواية أخرى عن أسامة بن زيد تدل على أن المراد من الكافر هو الذي له ملة، فإذا كان كذلك، والردة ليست بملة؛ كان حكم ميراث المرتدين كحكم ميراث المسلمين.

ثم إسناد الحديث المذكور صحيح، وهشيم هو ابن بشير.

وأخرجه النسائي (1): عن علي بن حجر، عن هشيم، عن الزهري، عن علي، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد نحوه.

ص: فإن قال قائل: فأنت لا تورثهم من المسلمين، فكذلك لا تورث المسلمين منهم.

قيل له: ما في هذا دليل على ما ذكرت؛ لأنَّا قد رأينا من يمنع الميراث بفعل كان منه ولا يمنع ذلك الفعل أن يورث، من ذلك: أنا رأينا القاتل لا يرث من قتله، ورأيناه لو جرح جراحةً ثم مات الجارح ثم مات المجروح من الجراحة والجارح أبو المجروح أنه يرثه، فقد صار المقتول يرث من قتله ولا يرث القاتل ممن قتل؛ لأن القاتل عوقب بقتله بمنع الميراث ممن قتل، ولم يمنع المقتول من الميراث ممن جرحه الجراحة التي قتلته إذا كان لم يفعل شيئًا، فكذلك المرتد منع من ميراث غيره عقوبة لما أتى، ولم يمنع غيره من الميراث منه إذا لم يكن منه ما يعاقب عليه، فثبت بذلك قول من يورث من المرتد ورثته من المسلمين.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن المرتدون لا يرثون من المسلمين بلا نزاع؛ لأجل الارتداد المانع من الإرث، فكان ينبغي أن لا يرث المسلمون المرتدين أيضًا لوجود العلة المانعة من الإرث.

وتقرير الجواب: منع صحة القياس -أعني قياس عدم توريث المسلمين من

(1)"سنن النسائي الكبرى"(4/ 82 رقم 6382).

ص: 429

المرتدين على عدم توريث المرتدين من المسلمين- والدليل على ذلك قوله: من ذلك أنا رأينا القاتل. . . إلى آخره. وهو ظاهر يُعلم بالتأمل.

ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين أيضًا:

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، قال: أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي عمرو السيباني، عن علي رضي الله عنه:"أنه جعل ميراث المستورد لورثته من المسلمين".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: أنا شريك، عن سماك، عن ابن عبيد بن الأبرص:"أن عليًّا رضي الله عنه قال للمستورد: على دين من أنت؟ قال: على دين عيسى. قال علي رضي الله عنه: وأنا على دين عيسى، فمن ربك؟ فزعم القوم أنه قال: إنه ربه، فقال: اقتلوه، ولم يعرض لماله".

حدثنا فهد، قال: ثنا محمد -يعني ابن سعيد- قال: ثنا محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود أنه قال:"إذا مات المرتد ورثه ولده".

حدثنا علي بن زيد الفرائضي، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: أنا ابن المبارك، قال: ثنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، أن ابن مسعود قال:"ميراثه لورثته من المسلمين".

حدثنا فهد، ثنا محمد بن سعيد، أنا شريك، عن موسى بن أبي كثير قال:"سألت سعيد بن المسيب عن ميراث المرتد فقال: هو لأهله".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن أبي كثير قال:"سألت سعيد بن المسيب قال: نرثهم ولا يرثونا".

حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا شعبة وسفيان، عن موسى بن أبي كثير، عن سعيد بن المسيب، مثله.

ص: 430

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن موسى بن الصباح -وقال مرة: عن أبي الصباح- عن سعيد بن المسيب، مثله.

حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن أشعث، عن الحسن "في المرتد يلحق بدار الحرب، قال: ماله بين ولده من المسلمين على كتاب الله".

حدثنا علي بن زيد، قال: ثنا عبدة، قال: أنا ابن المبارك، قال: أنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، أن الحسن قال:"ميراثه لوارثه من المسلمين إذا ارتدَّ عن الإِسلام".

فهؤلاء الذين ذكرنا قد جعلوا ميراث المرتد لورثته من المسلمين وشدَّ ذلك من قولهم ما قد وصفته في هذا الباب مما يوجبه النظر.

ش: أي: قد روي توريث المسلمين من المرتدين عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة: عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود.

ومن التابعين: عن سعيد بن المسيب والحسن البصري.

أما ما روي عن علي رضي الله عنه فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي عمرو زرعة السيباني -بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف، بعدها باء موحدة- نسبة إلى سيبان بن الغوث بن سعد بن عوف، وثقه ابن حبان وقال: هو من أهل الرملة.

وقال غيره: هو شامي حمصي. وهو عمّ عبد الرحمن الأوزاعي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن عيينة، ثنا سليمان، عن أبي عمرو السيباني:"أن عليًّا رضي الله عنه أتي بالمستورد العجلي فقتله، وجعل ميراثه لأهله من المسلمين، فأعطاه النصارى بجيفته ثلاثين ألفًا، فأبى أن يبيعهم إياه وأحرقه".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 254 رقم 12241).

ص: 431

وأخرجه أيضًا (1): من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن السيباني، عن علي:"أنه أتي بمستورد وقد ارتدَّ، فعرض عليه الإِسلام فأبى، فقتله وجعل ميراثه بين ورثته من المسلمين".

وقال البيهقي: قال الشافعي: ويزعم بعض أهل الحديث أنه غلط، يعني آخر الخبر.

وروي عن أحمد بن حنبل أنه ضعف الحديث الذي روي عن علي رضي الله عنه "أن ميراث المرتدّ لورثته من المسلمين".

وقال البيهقي: وقد رويت القصة عن علي وليس فيها هذه اللفظة.

قلت: قد صحح ابن حزم ذلك عن علي رضي الله عنه، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (2) وعبد الرزاق (3) في "مصنفيهما".

وأبو عمر السيباني أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فروايته عن علي رضي الله عنه محمولة على الاتصال.

الثاني: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن سماك بن حرب، عن ابن عبيد بن الأبرص وهو دثار -بالثاء المثلثة- ابن عبيد بن الأبرص الأسدي، وثقه ابن حبان.

عن علي رضي الله عنه.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من حديث شريك، عن سماك، عن ابن عبيد بن الأبرص قال: "كنت عند علي رضي الله عنه جالسًا حين أتي برجل من بني عجل يقال له: المستورد، كان مسلمًا فتنصر، فقال له علي: ما ذاك؟ قال: وجدت دينهم

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 254 رقم 12242).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 279 رقم 31384).

(3)

"مصنف عبد الرزاق"(6/ 105 رقم 10139).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(6/ 254 رقم 12243).

ص: 432

خيرًا من دينكم، قال: وما دينك؟ قال: دين عيسى، قال: علي رضي الله عنه: وأنا على دين عيسى، ولكن ما تقول في عيسى؟ فقال كلمة خفيت علي لم أفهمها، فزعم القوم أنه قال: إنه ربه، فقال علي رضي الله عنه: أقتلوه، فتوطأه القوم حتى مات، قال: فجاء أهل الحيرة فأعطوا -يعني بجيفته- اثني عشر ألفًا فأبى عليهم علي رضي الله عنه، وأمر بها فأحرقت بالنار، ولم يعرض لماله".

ورواه أيضًا الشعبي وعبد الملك بن عمير، عن علي رضي الله عنه دون ذكر المال.

وأما ما روى عن عبد الله بن مسعود: فأخرجه أيضًا من طريقين:

الأول: عن فهد، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن محمد بن فضيل بن غزوان الضبي الكوفي، عن الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي، عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي الدمشقي، عن عبد الله بن مسعود.

وهؤلاء كلهم ثقات.

وقال أبو حاتم: رواية القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود وعلي وعائشة مرسلة، ويقال: لم يسمع من أحد من الصحابة سوى أبي إمامة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله أنه قال:"إذا ارتدَّ المرتد ورثه ولده".

الثاني: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان الكلابي، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن مسعود.

وهذا منقطع.

وأما ما روي عن سعيد بن المسيب: فأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن فهد، عن محمد بن سعيد الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله، عن موسى بن أبي كثير الأنصاري أبي الصباح الكوفي، عن سعيد بن المسيب.

(1)"مصنف ابن أبي شيبه"(6/ 279 رقم 31383).

ص: 433

وأخرجه ابن أبي شيبة (1): نا وكيع، نا مسعر، عن أبي الصباح موسى بن أبي كثير قال:"سمعت سعيد بن المسيب يقول: المرتدون نرثهم ولا يرثوننا".

الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبي كثير.

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (2): ثنا وكيع، عن سفيان، عن موسى بن أبي كثير قال:"سألت سعيد بن المسيب عن ميراث المرتد هل يوصل؟ قال: وما يوصل؟ قلت: يرثه بنوه، قال: نرثهم ولا يرثونا".

الثالث: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، عن شعبة وسفيان كلاهما، عن موسى بن أبي كثير.

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن موسى بن الصباح -وقال مرةً: عن أبي الصباح.

وأما ما روي عن الحسن البصري: فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ بن نصر العنبري قاضي البصرة، عن أشعث بن عبد الملك، عن الحسن.

الثاني: عن علي بن زيد الفرائضي، عن عبدة بن سليمان الكلابي، عن عبد الله بن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا علي بن مسهر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال:"يُقتل، وميراثه لورثته من المسلمين".

ص: وفي ذلك حجة أخرى من طريق النظر أيضًا، وهي أنَّا قد رأيناهم قد أجمعوا أن المرتد قبل رِدَّته محظورٌ دمه وماله، ثم إذا ارتدَّ فكلٌّ قد أجمع أن الحظر المتقدم قد

(1)"مصنف ابن أبي شيبه"(6/ 279 رقم 31390).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 279 رقم 31389).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(6/ 279 رقم 31387).

ص: 434

ارتفع عن دمه وصار دمه مباحًا، وماله محظور في حال الردة بالحظر المتقدم، وقد رأينا الحربيين حكم دمائهم وأموالهم سواء قتلوا أو لم يقتلوا، فلم يكن الذي يحل به أموالهم هو القتل، بل كان الكفر، وكان المرتد لا يحل ماله بكفره، فلما ثبت أن ماله لا يحل بكفره؛ ثبت أنه لا يحل بقتله.

وقد رأينا أموال الحربيين تحل بالغنائم فتملك بها، ورأينا ما هو من أموالهم في دارنا ملكناه عليهم وغنمناه بالدار وإن لم نقتلهم، فلمَّا كان مال المرتد غير مغنوم بِرِدته؛ كان في النظر أيضًا غير مغنوم بسفك دمه.

فلما ثبت أن ماله لا يدخل في حكم الغنائم لم يخل من أحد وجهين: إما أن يرثه ورثته الذين يرثونه لو مات على الإِسلام، أو يصير للمسلمين، فإن صار لورثته من المسلمين فهو ما قلنا، وإن صار لجميع المسلمين فقد ورث المسلمون مرتدًّا.

فلما كان المرتد في حال ما يرثه المسلمون ولم يخرج بِرِدَّته من ذلك، كان الذين يرثونه هم ورثته الذين كانوا يرثونه لو مات على الإِسلام لا غيرهم.

وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: وفي توريث المسلمين عن المرتد برهان آخر من طريق النظر والقياس، بيانه: أن المرتد قبل الرِّدة محظور الدم والمال بالإجماع، فإذا ارتد ارتفع الحظر عن دمه بالإجماع، ولكن ماله على ذلك الحظر المتقدم، فإذا لم يحل ماله بكفره لا يحل بقتله، بخلاف الحربي فإن حكم دمه وماله سواء؛ قتل أو لم يقتل، فإذا لم يحل ماله بقتله لا يدخل في حكم الغنائم، فإذا لم يدخل في ذلك لا يخلو إما أن يرثه ورثته المسلمون، أو يصير فيئًا للمسلمين:

فإن كان الأول فقد ثبت ما قلنا من أن مال المرتد لورثته المسلمين.

وإن كان الثاني فقد ورث المسلمون مرتدًّا، فلما كان المرتد في حال ما يرثه المسلمون ولم يخرج بِرِدَّته من ذلك؛ كان الذين يرثونه هم ورثته الذين كانوا يرثونه لو مات هو على الإِسلام لا غيرهم.

ص: 435

وهذا هو وجه النظر والقياس، وهو قول أصحابنا رحمهم الله.

ص: وإنما زال ملك المرتد باللحوق بدار الحرب لخروجه من دارنا إلى دار الحرب على طريق الاستخفاف مع كونه مقاتلًا لنا مباح الدم في دارنا، بدليل الحربي يدخل إلينا بغير أمان ثم يعود إلى دار الحرب؛ أن أملاكه ها هنا تزول لهذا المعنى.

ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن بالارتداد لا يزول الحظر المتقدم عن مال المرتد بخلاف دمه، حتى لا يزول ملكه عن ماله بناءً على ذلك، فكيف تقولون: إنه إذا لحق بدار الحرب يزول ملكه؟

وأجاب عن ذلك بقوله: وإنما زال ملك المرتد. . . إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: فإن قيل: المستأمن إلينا إذا عاد إلى داره وخلف مالاً ها هنا لم يزل عنه ملكه مع وجود هذا المعنى.

قيل له: لم يخرج مستخفًّا؛ لأنه في أماننا إلا أن يدخل في دار الحرب، والله أعلم.

ش: هذا السؤال وارد على الجواب المذكور، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: إن ملك المرتد يزول بلحاقه بدار الحرب؛ لخروجه من دارنا إلى دارهم على طريق الاستخفاف، ولم تقولوا كذلك في المستأمن إذا عاد إلى دار الحرب وخلف مالاً في دار الإِسلام، بل تقولون: إن ملكه لا يزول.

قوله: "مع وجود هذا المعنى" وهو اللحاق بدار الحرب.

وتقرير الجواب أن يقال: إن الحربي لم يخرج إلى دار الحرب على طريق الاستخفاف؛ لأنها داره، وهو في أمان المسلمين إلى أن يدخل داره، بخلاف المرتد؛ فإن دار الحرب ليست داره وإنما خرج إليها على طريق الاستخفاف بدين الإِسلام والمسلمين، فحكمنا عند ذلك بزوال ملكه؛ لارتفاع عصمته وعقوبة عليه، فافهم، والله أعلم.

***

ص: 436