الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: ذي المرة السويّ الفقير هل تحل له الصدقة أم لا
؟
ش: أي: هذا باب في بيان ذي المرة السوي هل يجوز له أخذ الصدقة أم لا يجوز؟ ويجيء الآن تفسير المرة والسويّ.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت ريحان بن يزيد -وكان أعرابيًّا صدوقًا- قال: قال عبد الله بن عمرو: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرةٍ سوي قوي".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد، عن رجل من بني عامر، عن عبد الله بن عمرو، يقول ذلك.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذه أربع طرق:
الأول: موقوف، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن المنهال الأنماطي شيخ البخاري، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، روى له الجماعة- عن ريحان بن يزيد العامري البدوي وثقه يحيى وابن حبان، وقال أبو حاتم: شيخ مجهول، روى له أبو داود والترمذي هذا الحديث الواحد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
ورواه الترمذي (1) معلقًا، وقال: وقد روى شعبة عن سعد بن إبراهيم هذا الحديث بهذا الإسناد ولم يرفعه.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 42 رقم 652).
الثاني: موقوف أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن رجل من بني عامر -وهو ريحان بن يزيد- عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
الثالث: مرفوع، وهو حسن: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى ابن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا أبو داود الطيالسي، قال: نا سفيان، عن سعد.
وثنا محمود بن غيلان قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
وقال أبو عيسى: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن.
وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(2) وسكت عنه.
الرابع: مرفوع أيضًا، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن سفيان
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (3): ثنا عباد بن موسى الختلي الأبناوي، نا إبراهيم -يعني ابن سعد- أخبرني أبي، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
وقال البيهقي: ورواه إبراهيم بن سعد، عن أبيه، فاختلف عليه في رفعه، ووقفه شعبة مرة.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 42 رقم 652).
(2)
"المستدرك"(1/ 565 رقم 1478).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 118 رقم 1634).
قوله: "ولا لذي مرة سويّ" المِرَّة: بكسر الميم وتشديد الراء: القوة. والسوي: الصحيح الأعضاء.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن سماك أبي زُميل، عن رجل من بني هلال، قال: سمعت رسول الله عليه السلام
…
فذكر مثله.
ش: إسناده حسن جيد، ورجاله ثقات.
وعكرمة بن عمار اليمامي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا.
وسماك هذا هو ابن الوليد اليمامي أبو زُميل -بضم الزاي المعجمة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره لام- روى له الجماعة البخاري في "الأدب".
والحديث أخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، نا عكرمة، نا أبو زُميل سماك، حدثني رجل من بني هلال، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "لا تصلح الصدقة لغنيّ ولا لذي مرة سويّ".
ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا أبو بكر
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذه ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معلى بن منصور الرازي روى له الجماعة، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الأسدي الحناط -بالنون- المقرئ ففي اسمه أقوال، والصحيح أن اسمه كنيته، روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه.
(1)"مسند أحمد"(4/ 62).
عن أبي حَصين -بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، واسمه عثمان بن عاصم الكوفي، روى له الجماعة، عن أبي صالح السمان ذكوان روى له الجماعة.
وقال البيهقي (1): ورواه غير ابن مجشر، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة
…
إلى آخره.
وقال الذهبي في "مختصر السنن": ما سمى المؤلف راويَه عن أبي بكر.
قلت: هذا مسمى في رواية الطحاوي، وهو معلى بن منصور.
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي الكوفي، روى له الجماعة، واسم أبي الجعد رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا محمد بن الصباح، أنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حَصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
قال صاحب "التنقيح": رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة.
قلت: قال غيره: سمع منه.
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفة"(3): ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 14 رقم 12940).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 589 رقم 1839).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 424 رقم 10664).
وأخرجه الحكم من طريق آخر في "مستدركه"(1): أنا أبو بكر أحمد بن سليمان الموصلي، ثنا علي بن حرب، ناسفيان.
وحدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه -واللفظ له- أنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة يبلغ به:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي".
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه البزار في "مسنده": عن إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة.
وقال البزار: وهذا الحديث رواه ابن عيينة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، والصواب حديث إسرائيل، وقد تابع إسرائيل على روايته أبو حصين فرواه عن سالم، عن أبي هريرة.
ولما أخرج الترمذي حديث عبد الله بن عمرو المذكور قبل حديث أبي هريرة قال: وفي الباب عن أبي هريرة وحبشي بن جنادة وقبيصة بن مخارق.
قلت: وفي الباب عن جابر وطلحة بن عبيد الله ورجلين، عن النبي عليه السلام.
أما حديث أبي هريرة فقد مر ذكره.
وأما حديث حبشي وقبيصة والرجلين، عن النبي عليه السلام فسيذكره الطحاوي.
وأما حديث جابر فأخرجه الطبراني (2) عن الوازع بن نافع، عن أبي سلمة، عن
(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 565 رقم 1477).
(2)
كذا في "الأصل، ك"، ولم أعثر عليه عند الطبراني في جميع كتبه ولعله تصحيف، فقد عزاه الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 400) -وعليه يعتمد كثيرا المؤلف رحمه الله- للدارقطني في "سننه"(2/ 119 رقم 6)، وأظنه انتقال نظر من المؤلف: من الحديث الذي قبله في "نصب الراية"، وباقي كلامه منقول منه.
جابر بن عبد الله قال: "جاءت رسول الله عليه السلام صدقة فركبه الناس، فقال: إنها لا تصلح لغني ولا لصحيح سوي، ولا لعاقل قوي".
وقال ابن حبان: الوازع بن نافع يروي الموضوعات عن الثقات على قلة روايته.
ورواه أيضًا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في "تاريخ جرجان"(1): من حديث محمَّد بن الفضل بن حاتم، نا إسماعيل بن بهرام الكوفي، حدثني محمَّد بن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن جابر مرفوعًا:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
وأما حديث طلحة فأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(2): من حديث إسماعيل بن يحيى بن أمية الثقفي، عن نافع، عن أسلم مولى، عمر، عن طلحة بن عبيد الله، عن النبي عليه السلام قال:"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سويّ".
ورواه ابن عدي في "الكامل"(3) وقال: لا أعلم أحدًا رواه بهذا الإسناد غير أبي أمية بن يعلى، وضعفه عن ابن معين والنسائي، وليَّنه عن البخاري، ووثقه عن شعبة، ثم قال: وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الصدقة لا تحل لذي المرة السوي وجعلوه فيها كالغني، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد في رواية وإسحاق وبعض المالكية وأبا عبيد القاسم بن سلام؛ فإنهم قالوا: ذو المرة السوي كالرجل الغني في حرمة الصدقة عليهما.
واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث المذكورة.
(1)"تاريخ جرجان"(1/ 367)، وانظر "نصب الراية"(2/ 400).
(2)
انظر "نصب الراية"(2/ 400).
(3)
"الكامل لابن عدي"(1/ 316).
وقال عياض: قيل: الشاب القوي على الكسب أنه لا يحل له أخذ الصدقة ولا يجزئ وهو قول بعض أصحابنا، وقاله الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث، وقال الترمذي: مَن ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فالصدقة عليه حرام. وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق.
وقال قوم: إذا كان عنده خمسون درهمًا أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة.
وهو قول الشافعي وغيره من أهل العلم والفقه.
وفي "المغني" واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها. ونقل عن أحمد فيه روايتان:
إحداهما: وهي أظهرهما: ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام من كسب أو تجارة أو أجر عقار، أو نحو ذلك ولو من العروض، أو الحبوب أو السائمة أو العقار، ما لا تحصل به الكفاية لم يكن غنيًّا وإن ملك نصابا.
هذا الظاهر من مذهبه، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق.
والرواية الثانية: أن الغنى ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلت له الصدقة وإن ملك نصابًا والأثمان وغيرها في هذا سواء.
وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري، وقول مالك والشافعي.
وقال الحسن وأبو عبيد: الغِنى ملك أوقية وهي أربعون درهمًا.
وقال ابن حزم في "المحلى": من كان له مال مما تجب فيه الزكاة كمائتي درهم أو أربعين مثقالًا أو خمس من الإبل أو أربعين شاةً أو خمسين بقرة، أو أصاب خمسة أوسق من بر أو شعير أو تمر وهو لا يقوم معه بعولته لكثرة عياله، أو لغلاء السعر فهو مسكين يعطى من الصدقة المفروضة، ويؤخذ منه فما وجبت فيه من ماله.
وروينا عن الحسن أنه يُعطي من الصدقة الواجبة من له الدار والخادم إذا كان محتاجًا. وعن إبراهيم نحو ذلك، وعن سعيد بن جبير: يُعطَى منها مَن له الفرس والدار والخادم. وعن مقاتل بن حيان: يُعطَى منها مَن له العطاء في الديوان وله فرس.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل فقير من قويّ وزمن فالصدقة له حلال.
ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية، ومالكًا وابن جرير الطبري؛ فإنهم قالوا: كل مَن كان فقيرًا فالصدقة له حلال سواء كان صحيحًا ذا قوة أو زمنًا أو مقعدًا. وحاصل هذا: أن مَن لم يملك مائتي درهم فصاعدًا يجوز له أخذ الصدقة؛ لأن المراد من الغِنى هو الغنى الشرعي وهو أن يملك نصابًا فما فوقه، وقال أصحابنا: المراد من قوله: "لذي مرة سويّ": هو أن يسأل مع قدرته على اكتساب القوت، وأما إذا أُعطي من غير سؤال فلا يحرم له أخذها؛ لدخوله في الفقراء، وقد ثبت بالنص أن أحد المصارف الفقراء.
ص: وذهبوا في تأويل هذه الآثار المتقدمة إلى أن قول النبي عليه السلام: "لا تحل الصدقة لذي مرة سويّ" أنها لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غيرها فيأخذها على الضرورة وعلى الحاجة من جميع الجهات منه إليها، فليس مثله ذو المرة
السوي القادر على اكتساب غيرها في حلها له؛ لأن الزمن الفقير تحل له من قِبل الزمانة ومِن قِبل عدم قدرته على غيرها، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصة وإن كانا جميعًا قد يحل لهما أخذها؛ فإن الأفضل لذي المرَّة السويّ تركها والاكتساب بعمله، وقد يغلظ الشيء من هذا فيقال: لا يحل أو لا يكون كذا على أنه غير متكامل للأسباب التي بها يحل ذلك المعنى، وإن كان ذلك المعنى قد يحل بها دون تكامل تلك الأسباب.
فمن ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: "ليس المسكين بالطواف ولا بالذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن للسكين الذي لا يسأل ولا يُفطن له فيتصدق عليه".
فلم يكن المسكين الذي يسأل خارجًا من أسباب المسكنة وأحكامها حتى لا يحل له أخذ الصدقة، وحتى لا يجزئ من أعطاه منها شيئًا مما أعطاه من ذلك، ولكن ذلك على أنه ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة، فكذا قوله:"لا تحل الصدقة لذي مرَّة سوي" أي أنها لا تحل له من جميع الأسباب التي تحل بها الصدقة وإن كانت قد تحل له ببعض تلك الأسباب.
ش: أي: وذهب الآخرون وهم أهل المقالة الثانية في تأويل الأحاديث المذكورة التي احتجت بها أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وأشار بهذا إلى أن استدلالهم بالأحاديث المذكورة غير تام؛ لأنهم صرفوها عن تأويلها الذي هو المراد، وهو أن قوله عليه السلام:"لا تحصل الصدقة لذي مرة سوي" معناه: لا تحل له كما تحل للفقير الذي لا يقدر على غير الصدقة وإنما يأخذها لأجل ضرورته وحاجته إليها من سائر الجهات بخلاف ذي المرة السوي؛ فإنه قادر على اكتساب غير الصدقة.
وحاصله: أن ذا المرة السوي له جهتان: جهة الفقر، وجهة القوة والقدرة على الاكتساب، فقوله عليه السلام:"لا تحل لذي مرة سوي قوي" مصروف إلى هذه الجهة يعني بالنظر إلى قوته وقدرته على الاكتساب تحرم له الصدقة، وأما بالنظر إلى الجهة الأخرى وهي جهة الفقر يحل له أخذها؛ لأنه في هذه الجهة كسائر الفقراء، وهو معنى قوله: لأن الزمِن الفقير تحل له من قبل الزمانة، ومن قِبَل عدم قدرته على غير الصدقة، وذو المرة السوي إنما تحل له من جهة الفقر خاصةً يعني لا مِن جهة القوة والقدرة على الاكتساب وإن كانا جميعًا قد يحل لهما أخذها أي: أخذ الصدقة، يعني بالنظر إلى جهة الفقر والاحتياج، فيكون قوله عليه السلام:"لا تحل لذي مرة سوي" من باب التغليظ والتشديد؛ لأنه لم يجمع أسباب المسكنة كلها التي بها تحل الصدقة، فلم يكن كالفقير الذي جمع أسباب حل أخذ الصدقة.
والأسباب هي: الفقر والعجز وعدم القدرة على الاكتساب، ونظير ذلك قوله عليه السلام: "ليس المسكن بالطوّاف
…
" (1) الحديث، فإنه لا يدل على أن المسكن الذي يسأل يخرج عن حد المسكنة بحيث لا يجوز له أخذ الصدقة، بل هو مسكين يجوز له أخذ الصدقة، ولكن نفى عنه المسكنة في حالة السؤال؛ للتغليظ والزجر حيث لم يجمع أسباب المسكنة كلها، فالمعنى: المسكن الذي يسأل ليس بمسكين متكامل أسباب المسكنة، فكذلك قوله عليه السلام: "ولا تحل لذي مرة سويّ" معناه: لا تحل له الصدقة من جميع الأسباب التي تحل بها للفقير الذي لا يقدر على غيرها، وإنما تحل له ببعض تلك الأسباب، وهو كونه فقيرًا مع قطع النظر عن قوته وقدرته على الاكتساب.
وقوله عليه السلام: "ليس المسكين بالطوَّاف
…
" إلى آخره قد أخرجه الطحاوي: في باب: "التسمية على الوضوء" عن عبد الله بن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقد استوفينا الكلام فيه هناك.
قوله: "وإن كانا جميعًا" واصل بما قبله، وجميعًا يعني مُجْتَمِعَيْنِ.
قوله: "حتى لا تحل له" بنصب اللام؛ لأنه جواب النفي، وهو قوله: فلم يكن المسكن الذي يسأل.
وقوله: "وحتى لا تجزئ" عطف على قوله: "حتى لا تحل له" داخل في حكمه، فافهم.
وقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأن الصدقة إنما لا تحل لذي مرة سوي إذا سأل وإن لم يسأل يحل له أخذها؛ لأنه فقير كسائر الفقراء، وأن هذا القيد مراد في الحديث، والله أعلم.
ص: واحتج أهل المقالة الأولى لمذهبهم أيضًا بما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي، قال:
(1) تقدم.
حدثنيم رجلان من قومي: "أنهما أتيا النبي عليه السلام وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع البصر وخفضه، فرآهما جلدين قويين فقال: إن شئتما، فعلت ولا حق فيها لغني ولا لقويّ مكتسب".
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، والليث بن سعد، عن هشام بن عروة
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد وهمام، عن هشام
…
فذكر بإسناده مثله.
فقالوا: فقد قال لهما: "لا حق فيها لقوي مكتسب".
فدل ذلك على أن القوي المكتسب لا حظ له في الصدقة ولا تجزى من أعطاه منها شيئًا.
ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه أيضًا بما رواه عبيد الله بن عدي عن رجلين من الصحابة رضي الله عنهم.
وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن جعفر بن عون بن جعفر بن عمرو بن حريث القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي أحد التابعين الكبار المولودين في زمن النبي عليه السلام، عن رجلين من الصحابة.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أخبرني رجلان:"أنهما أتيا النبي عليه السلام في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 118 رقم 1633).
الثانى: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري والليث بن سعد، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة وهمام بن يحيى، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا عبد الرحيم وابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال:"أخبرني رجلان أتيا النبي عليه السلام يسألانه من الصدقة، قال: فرفع البصر وصوبه، فقال: إنكما لجلدان، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب".
قوله: "جَلْدين". بفتح الجيم وسكون اللام تثنية جَلْد، وهو الرجل القوي، من الجَلَد -بفتح اللام- وهو القوة والصبر، تقول منه: جَلُد الرجل -بالضم- فهو جَلْد وجَلِيد بيِّن الجلَد والجلادة والجلودة.
قوله: "فقالوا" أي: أهل المقالة الأولى، "فقد قال" أي: النبي عليه السلام "لهما" أي لهذين الرجلين "لا حق فيها" أي في الصدقة "لقوي مكتسب"، فدل على أنه لا حظ له في الصدقة وأن من عليه الصدقة إذا أعطاه منها شيئًا لا يجزئه ذلك.
وقال الخطابي: هذا الحديث أصل في أن مَن لم يُعلم له مال فأمره محمول على العدم، وفيه أنه لم يعتبر في منع الزكاة ظاهر القوة والجلد دون أن يضم إليه الكسب
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 14 رقم 12942).
(2)
"المجتبى"(5/ 99 رقم 2598).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 424 رقم 10666).
فقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة الكسب، وقد يكون من الناس من يرجع إلى قوة بدنه ويكون مع ذلك أخرق اليد لا يعتمل، فمن كان هذا سبيله لم يمنع الصدقة، بدلالة الحديث، وقد استظهر عليه السلام مع هذا في أمرهما بالإنذار، وقلدهما الأمانة فيما بطن من أمرهما.
ص: فالحجة للآخرين عليهم في ذلك: أن قوله: "إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني". أي: أن غناكما يخفى عليَّ، فإن كنتما غنيين فلا حق لكما فيها، "وإن شئتما فعلت" لأني لم أعلم بغناكما فمباح لي إعطاؤكا، وحرام عليكما أخد ما أعطيتكما إن كنتما تعلمان من حقيقة أموركما في الغنى خلاف ما أرى من ظاهركما الذي استدللت به على فقركما، فهذا معنى قوله:"إن شئتما فعلت ولا حق فيها لغني".
وأما قوله: "ولا لقوي مكتسب" فذلك على أنه لا حق فيها للقوي المكتسب من جميع الجهات التي بها يجب الحكم فيها، فعاد معنى ذلك إلى معنى ما ذكرنا من قوله:"ولا لذي مرة قوي"، وقد يقال: فلان عالم حقًّا إذا تكاملت فيه الأسباب التي بها يكون الرجل عالمًا، ولا يقال: هو عالم حقًّا إذا كان دون ذلك وإن كان عالمًا، فكذلك لا يقال: فقير حقًّا إلا لمن تكاملت فيه الأسباب التي يكون بها الفقير فقيرًا وإن كان فقيرًا؛ ولهذا قال لهما: "ولا حق فيها لقوي مكتسب" أي: ولا حق له فيها حتى يكون به من أهلها حقًّا وهو قوي مكتسب، ولولا أنه يجوز للنبي عليه السلام إعطاؤه للقوي المكتسب إذا كان فقيرًا لما قال لهما: دن شئتما فعلت" وهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار؛ لأنها إن حملت على ما حملها عليه أهل المقالة الأولى؛ ضادت سواها مما قد روي عن رسول الله عليه السلام، فمن ذلك:
ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن قال: "نزلتُ دار أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بالمدينة فضمني وإياه المجلس، فقال: أصبحوا فات يوم وقد عصَّب على بطنه حجرًا من الجوع، فقالت له أمرأته أو أمه: لو أتيت النبي عليه السلام فسألته، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، وأتاه فلان فسأله فأعطاه، فقلت: لا والله حتى أطلب، فطلبت فلم أجد شيئًا، فاستبقت
إليه وهو يخطب وهو يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه، ومن استعف عنا واستغنى أحب إلينا ممن سألنا. قال: فرجعت فما سألت أحدًا بعد، فما زال الله يرزقنا حتى ما أعلم أهل بيت في المدينة أكثر أموالًا منا".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زُريع، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن هلال بن مرة، عن أبي سعيد، قال:"أعوزنا مرةً فأتيت النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، فقال النبي عليه السلام: مَن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله، ومَن سألنا أعطيناه. قال: قُلتُ فلأستعففن فيعفَّني الله، ولأستغنين فيغنيني الله، قال: فوالله ما كان إلا أيام حتى إن رسول الله عليه السلام قسم زبيبًا فأرسل إلينا منه، ثم قسم شعيرًا فأرسل منه، ثم سالت علينا الدنيا فغرقتنا إلا من عصم الله".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن هلال بن حِصن -أخي بني مرة بن عُبَاد- عن أبي سعيد، عن النبي عليه السلام مثله.
قال ابن أبي داود: هذا هو الصحيح.
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا رسول الله عليه السلام يقول: "مَن سألنا أعطيناه" ويخاطب بذلك أصحابه، وأكثرهم صحيح لا زمانة به إلا أنه فقير، فلم يمنعهم منها، فقد دل ذلك على ما ذكرنا، وفضل من استعف ولم يسأل على مَن سأل، فلم يسأله أبو سعيد لذلك، ولو سأله لأعطاه، إذ قد كان بذل ذلك له ولأمثاله من الصحابة رضي الله عنهم.
ش: أي: فالدليل للجماعة الآخرين وهم أهل المقالة الثانية "عليهم" أي على أهل المقالة الأولى.
وأراد بذلك الجواب عما استدلوا به من حديث عبيد الله بن عدي عن رجلين من الصحابة وهو ظاهر.
قوله: "وأما قوله: ولا لقوي مكتسب
…
إلى آخره" فأول بما أول قوله: "ولا لذي مرة سوي" وهو أيضًا ظاهر.
قوله: "ولولا أنه يجوز". أي: ولولا أن الشأن يجوز، أراد أن قوله عليه السلام:"إن شئتما فعلت" يدل على جواز إعطاء الصدقة للقوي المكتسب؛ إذ لو لم يجز لما قال ذلك؛ وذلك لأنه فقير وإن لم يكن جمع أسباب التكامل في الفقر على ما قلنا فيما مضى.
قوله: "وهذا أولى ما حملت عليه هذه الآثار
…
إلى آخره" جواب عما يقال: ما الداعي إلى هذا التأويل الصارف عن المعنى الظاهر؟
تقريره أن يقال: إن لم تأول هذه الأحاديث بما ذكرنا من التأويل يلزم التضاد والتعارض بينها وبن أحاديث أخر رويت في هذا الباب، منها حديث أبي سعيد الخدري فإن فيه يقول عليه السلام:"مَن سأل أعطيناه" ويخاطب بذلك أصحابه، ومع هذا كان أكثرهم أصحاء لا زمانة بهم قادرين على الاكتساب إلا أنهم كانوا فقراء فلم يمنعهم من الصدقة، فقد دل ذلك على أن القوي المكتسب تحل له الصدقة ولكن باعتبار جهة الفقر؛ لأنه فيه كسائر الفقراء، وبهذا تتوافق معاني الآثار ويرتفع التضاد، فالحاصل أن حديث أبي سعيد دل على شيئين:
أحدهما: جواز دفع الصدقة للقوي المكتسب بالنظر إلى فقرة.
وأما معنى قوله في حديث عبيد الله بن عدي: "ولا لقوي مكتسب" يعني: بالنظر إلى قدرته على الاكتساب كما ذكرنا فيما مضى.
والآخر: يدل على فضل من استعف وترك السؤال على مَن سأل، فلأجل ذلك ترك أبو سعيد السؤال، ولو سأل رسول الله عليه السلام لأعطاه ولما منعه؛ لأنه قد أعطى لأمثاله من الصحابة رضي الله عنهم.
ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني الأزدي البصري روى له الجماعة، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي
المعجمة- القصاب بياع القصب واسمه عمران بن أبي عطاء، وثقه يحيى بن معين وابن حبان، وروى له مسلم، عن هلال بن حِصْن -بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين- وثقه ابن حبان، عن أبي سعيد الخدري، واسمه سعد بن مالك.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا غندر، عن شعبة، قال: سمعت أبا حمزة يحدث، عن هلال بن حصن قال:"نزلت دار أبي سعيد الخدري، فضمني وإياه المجلس، فحدثني أنه أصبح ذات يوم وقد عصَّب على بطنه من الجوع. قال: فأتيت النبي عليه السلام فأدركت من قوله وهو يقول: مَن يستعف يعفه الله، ومَن يستغن يُغنه الله، ومَن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه، ومن يستغن أو يستعف عنا خير من أن يسألنا. قال: فرجعت فما سألت شيئًا".
الثانى: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال الضرير الحافظ البصري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زُريع العيشي البصري، عن سعيد بن أبي عروبة مهران، عن قتادة بن دعامة، عن هلال بن مرة، عن أبي سعيد.
وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا أحمد بن المقدام العجلي، قال: نا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدث، عن قتادة، عن هلال أخي بني مرة بن عُبَاد، عن أبي سعيد الخدري.
ونا هدبة بن خالد، نا أبان بن يزيد، عن قتادة، قال: حدث هلال بن حصن أخو بني مرة بن عُبَاد وهو رجل من أهل البصرة، عن أبي سعيد الخدري قال:"أعوزنا مرة إعوازًا شديدًا فأمرني أهلي أن آتي رسول الله عليه السلام فأسأله شيئًا، فأقبلت فكان أول ما سمعت نبي الله عليه السلام يقول: من استغنى أغناه الله، ومن استعفف أعَفَّه الله، ومَن سألنا لم ندخر عنه شيئًا إن وجدناه. قال: قلت في نفسي: لأستعفن فيعفني الله فلم أسأله شيئًا".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 426 رقم 10689).
ولا نعلم أسند هلال بن حصن عن أبي سعيد إلا هذا الحديث.
وقد رواه عن قتادة جماعة فاقتصرنا على التيمي وأبان.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي أيضًا، عن محمَّد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن هلال بن حصن أخي بني مرة بن عُبَاد، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن جعفر وحجاج، قالا: ثنا شعبة، سمعت أبا حمزة يحدث، عن هلال بن حصن قال:"نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس، قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجرًا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه: ائت النبي عليه السلام فسله فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه وأتاه فلان فسأله فأعطاه. قال: قلت: حتى ألتمس شيئًا. قال: فالتمست فأتيته -قال حجاج: فلم أجد شيئًا فأتيته -وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول: من استعف يعفه الله ومن استغن يغنه الله، ومَن سألنا إما أن نبذل له وإما أن نواسيه -أبو حمزة الشاكّ- ومَن يستعف عنا أو يستغني أحبّ إلينا ممن سألنا. قال: فرجعت فما سألته شيئًا، فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالًا منا".
قوله: "المجلس" مرفوع؛ لأنه فاعل لقوله: "فضمني".
قوله: "لا والله حتى أطلب" أي: لا أسأل والله رسول الله عليه السلام حتى أطلب شيئًا من غير هذا الوجه، فطلبت فلم أجد شيئًا.
قوله: "وهو يخطب". جملة اسمية وقعت حالًا، وكذلك قوله:"وهو يقول".
قوله: "إما أن نبدل له" أي: إما أن نعطي له، من البذل وهو العطاء.
(1)"مسند أحمد"(3/ 44 رقم 11419).
قوله: "وإما أن نواسيه". شك من أبي حمزة الراوي كما صرح به في رواية أحمد، وهو من المواساة، وأصله من قولهم: آسيته بمالي مواساة. قال الجوهري: وواسيته لغة ضعيفة فيه، ومادة هذه الكلمة: ألف وسين وألف.
قوله: "ومَن يستعف عنا" في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله:"أحب إلينا".
قوله: "أعوزنا" أي: افتقرنا. قال الجوهري: الإعواز: الفقر، والعوز: العدم، وأعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه، والمعوز: الفقير، وعوز الشيء عوزًا إذا لم يوجد، وعوز الرجل وأعوز افتقر وأعوزه الدهر: أحوجه.
قوله: "قال ابن أبي داود: هذا هو الصحيح". أراد أن ما رواه هشام، عن قتادة، عن هلال بن حصن أخي بني مرة بن عباد هو الصحيح، وما رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن هلال بن مرة غير صحيح.
أراد أن نسبة هلال إلى حصن هو الصحيح، ونسبته إلى مرة غير صحيح، وإنما حصن أخو بني مرة بن عُباد -بضم العين وتخفيف الباء الموحدة- فافهم.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا من غير هذا الوجه ما يدل على ما ذكرنا.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نُعيم، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول:"أَمَّرني رسول الله عليه السلام على قومي، فقلت: يا رسول الله أعطني من صدقاتهم ففعل، وكتب لي بذلك كتابًا، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله أعطني من الصدقة. فقال رسول الله عليه السلام: ان الله عز وجل لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو من السماء، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتك منها".
قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا الصدائي قد أمَّره رسول الله عليه السلام على قومه ومحال أن يكون أمره وبه زمانة، ثم قد سأله من صدقة قومه وهي زكواتهم فأعطاه منها، ولم
يمنعه منه لصحة بدنه، ثم سأله الرجل الآخر بعد ذلك، فقال له رسول الله عليه السلام: إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم أعطيتك منها، فرد رسول الله عليه السلام بذلك حكم الصدقات إلى ما ردها الله عز وجل بقوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1). الآية. فكل من وقع عليه اسم صنف من تلك الأصناف فهو من أهل الصدقة الذين جعلها الله عز وجل لهم في كتابه، ورسوله في سنته زمِنًا كان أو صحيحًا، وكان أولى الأشياء بنا في الآثار التي رويناها عن رسول الله عليه السلام في الفصل الأول من قوله:"لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" ما حملناها عليه؛ لئلا يخرج معناها من الآية المحكمة التي ذكرنا، ولا من هذه الأحاديث الآخر التي روينا، ويكون معنى ذلك كله معنى واحدًا يصدق بعضه بعضًا.
ش: ذكر حديث زياد بن الحارث الصدائي شاهدًا لما ذكره من التأويل في الأحاديث التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، ولكونه موافقًا في المعنى لحديث أبي سعيد الخدري.
بيان ذلك: أن زياد بن الحارث كان ذا مرة سويًّا ولم تكن به زمانة، وقد أمَّره رسول الله عليه السلام على قومه وجعل له من صدقاتهم شيئًا، فهذا أدل دليل على صحة التأويل المذكور.
ثم لما سأل رسول الله عليه السلام ذلك الرجل الآخر قال له عليه السلام: "إن كنت من الأجزاء الذين جزأ الله الصدقة فيهم -يعني الأصناف الذين قسم الله الصدقة فيهم- أعطيتك منها" وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (1) الآية، فبيَّن الله تعالى أن كل مَن صدق عليه اسم صنف من تلك الأصناف يكون من أهل الصدقة الذين أثبت الله لهم في كتابه ورسوله في سنته سواء كان زمنًا أو صحيحًا؛ لأن الله تعالى ذكر مطلِقًا ولم يقيد إلا كونه من أهل تلك الأصناف كما هو ظاهر لا يخفى فمتى ما حمل معنى الأحاديث المذكورة في استدلال أهل المقالة الأولى على ما
(1) سورة التوبة، آية:[60].
حملوه عليه يخالف معناها معنى الآية الكريمة ومعنى الأحاديث الآخر، فإذا حملتا على ما ذكرنا من التأويل تتفق معاني الكتاب والأحاديث كلها، ويصدق بعضها بعضًا، أشار إلى ذلك كله بقوله: "وكان أولى الأشياء بنا
…
إلى آخره".
قوله: "قد أمَّره". بتشديد الميم، أي: جعله أميرًا.
قوله: "ومحال". مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ تقدم عليه، وهو قوله:"أن يكون"، "وأن" مصدرية تقديره: وكون تأمير النبي عليه السلام إياه والحال أن به زمانة محال.
ثم إنه أخرج حديث زياد بن الحارث عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم -بضم العين- الإفريقي قاضيها، ضعفه الترمذي والنسائي، وقال ابن خراش: متروك. وعن أحمد: ليس بشيء. وعنه: منكر الحديث. قال أبو داود: قلت لأحمد بن صالح: يحتج بحديث الإفريقي؟ قال: نعم. قلت: صحيح الكتاب؟ قال: نعم. وقال يعقوب بن شيبة: ثقة صدوق رجل صالح. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وهو يروي عن زياد بن نعيم، وهو زياد بن ربيعة بن نعيم بن ربيعة بن عمرو الحضرمي المصري، قال العجلي: تابعي ثقة. روى له هؤلاء هذا الحديث الواحد.
عن زياد بن الحارث الصُّدَائي الصحابي، ونسبته إلى صُداء -بضم الصاد وتخفيف الدال- وهو حيٌّ من اليمن.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عبد الله -يعني ابن عمر بن غانم- عن عبد الرحمن بن زياد أنه سمع زياد بن نعيم الحضرمي، أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي، قال: "أتيت رسول الله عليه السلام فبايعته
…
" فذكر حديثًا طويلًا: "فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال له رسول الله عليه السلام: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 117 رقم 1630).
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) مطولًا: ثنا بشر بن موسى، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، عن زياد بن الحارث الصدائي، قال: "أتيت النبي عليه السلام فبايعته، فبلغني أنه يريد أن يرسل جيشًا إلى قومي. فقلت: يا رسول الله ردَّ الجيش وأنا لك بإسلامهم وطاعتهم. فقال: افعل، فكتبت إليهم، فأتى وفدٌ منهم النبي عليه السلام بإسلامهم وطاعتهم، فقال: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك. قلت: بك هداهم الله وأحسن إليهم، قال: أفلا أؤمرك عليهم؟ قلت: بك، فأمَّرني عليهم فكتب لي بذلك كتابًا، وسألته من صدقاتهم ففعل، وكان النبي عليه السلام في بعض أسفاره، فنزلنا منزلًا فأعرسنا من أول الليل فلزمته، وجعل أصحابه ينقطعون حتى لم يبق معه رجل منهم غيري، فلما تحين الصبح أمرني فأذَّنت، ثم قال لي: يا أخا صداء معك ماء؟ قلت: نعم، قليل لا يكفيك، قال: صبه في الإناء ثم ائتني به، فأتيته به، فأدخل يده، فيه فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينًا تفور، قال: يا أخا صداء، لولا أني أستحيي من ربي لسقينا واستقينا، نادِ في الناس: مَن كان يريد الوضوء، قال: فاغترف من اغترف، وجاء بلال ليقيم، فقال النبي عليه السلام: إن أخا صداء أذَّن ومن أذَّن فهو يقيم، فلما صلى الفجر أتاه أهل المنزل يشكون عاملهم ويقولون: يا رسول الله حدثنا بما كان بيننا وبين قومنا في الجاهلية، فالتفت إلى أصحابه وأنا فيهم وقال: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، فوقعت في نفسي، وأتاه سائل فسأله فقال: من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن، قال: فأعطني من الصدقات، فقال: إن الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى جعلها ثمانية أجزاء، فإن كنت منهم أعطيتك حقك، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله أقِل إمارتك فلا حاجة لي فيها. قال: ولمَ؟ قلت: سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مؤمن، وقد آمنت، وسمعتك تقول: مَن سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن، وقد سألتك وأنا غني، قال: هو ذاك فإن
(1)"المعجم الكبير"(5/ 262 رقم 5285).
شئت فخذ وإن شئت فدع. قلت: بل أدع، قال: فدلني على رجل أولِّيه، فدللته على رجل من الوفد فولاه، قالوا: يا رسول الله إن لنا بئرًا إذا كان الشتاء وسِعَنا ملؤها فاجتمعنا عليه، وإذا كان الصيف قلَّ وتفرقنا على مياه حولنا، وإنا لا نستطيع اليوم أن نتفرق، كل مَن حولنا عدو، فادع الله يسعُنا ماؤها، فدعى بسبع حصيات ففركهن في كفيه ثم قال: إذا أتيتموها فألقوا واحدةً واحدةً واذكروا اسم الله، فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعد. انتهى.
وقال الخطابي: في قوله: "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". دليل على أنه لا يجوز حكم جمع الصدقة كلها في صنف واحد، وأن الواجب تفرقتها على أهل السهمان بحصصهم، ولو كان في الآية بيان الجُمَل دون بيان الحصص لم يكن للتجزئة معنى، ويدل على صحة ذلك قوله:"أعطيتك حقك" فبين أن لأهل كل جزء على حدة حقًّا. وإلى هذا ذهب عكرمة، وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم النخعي: إذا كان المال كثيرًا يحتمل الأجزاء قَسَّمه على الأصناف، وإذا كان قليلًا جاز أن يضع في صنف واحد.
وقال أحمد بن حنبل: تفريقه أولى، ويجزئه أن يجعله في صنف واحد.
وقال أبو ثور: إن قسمه الإِمام قسمه على الأصناف الثمانية. وإن تولى قسمَه رب المال فوضعه في صنف واحد رجوت أن يسعه.
وقال مالك بن أنس: يجتهد ويتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الفاقة والخلة، فإن رأى الخلَّة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآها في أبناء السبيل في عام آخر أكثر حولها إليهم.
وقال أصحاب الرأي: هو غير يضعه في أي الأصناف شاء.
قلت: كذلك قال الثوري، وهو قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح، ويروى ذلك عن ابن عباس.
روى الطبري (1) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (2) الآية: أنا عمران بن عيينة عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (2) الآية، قال:"في أي صنف وضعته أجزأك".
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3) عن جرير، عن ليث، عن عطاء، عن عمر بن الخطاب أنه قال:" {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (2) الآية. قال: أيما صنف أعطيته من هذا أجزأك".
وكذلك أخرج (4) عن حذيفة وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد صحيحة.
ولا نسلم صحة ما ادعاه الخطابي؛ لأن قول عليه السلام: "فإن كنت من تلك الأجزاء
…
" الحديث. يبين أنه إن كان موصوفا بما وصف به أحد الأصناف الثمانية فإنه يستحق من الصدقات شيئًا؛ لأن الآية لبيان الأصناف التي يتعين الدفع إليهم دون غيرهم، وليس فيها ما يقتضي حصرها عليهم جملة واحدةً فافهم.
وقال الخطابي أيضًا: إن في قوله: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها" دليلًا على أن بيان الشريعة قد يقع من وجهين:
أحدهما: ما تولى الله بيانه في كتابه العزيز وأحكم فرضه فيه فليس به حاجة إلى زيادة من بيان النبي عليه السلام وبيان شهادة الأصول.
(1)"تفسير الطبري"(10/ 167).
(2)
سورة التوبة، آية:[60].
(3)
لم أجده في "المصنف" بهذا الإسناد، وعزاه الزيلعي في "نصب الراية"(2/ 397) للطبري في تفسيره، وهو في تفسير الطبري (10/ 166)، ولعله سبق قلم من المصنف رحمه الله، أو يكون هذا الإسناد قد سننه من النسخة المطبوعة، والله أعلم.
(4)
"تفسير الطبري"(10/ 167)، وكذا أخرج عنهم ابن أبي شيبة في "مصنفة"(2/ 405 رقم 10445 - 10455).
والوجه الآخر: ما ورد ذكره في الكتاب مجملًا ووُكِل بيانه إلى النبي عليه السلام فهو يفسره قولًا وفعلًا أو يتركه على إجماله ليبينه فقهاء الأمة ويستدركوه استنباطًا واعتبارًا بدلائل الأصول، وكل ذلك بيان مصدره عن الله تعالى وعن رسوله عليه السلام.
ص: ثم قد روى قبيصة بن المخارق عن النبي عليه السلام ما قد دل على ذلك أيضًا.
حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن هارون بن رئاب، عن كنانة بن نُعيم، عن قبيصة بن المخارق:" [أنه تحمل بحمالة، فأتى النبي عليه السلام فيها، فقال: نخرجها عنك من إبل الصدقة أو نَعم الصدقة، يا قبيصة إن] (1) المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت بماله فحلت له المسألة حتى يُصيب قِوامًا من عيش أو سِدادًا من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن قد حلت له المسألة، حتى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد، عن هارون بن رئاب، عن كنانة بن نعيم العدوي، عن قبيصة بن المخارق، عن النبي عليه السلام نحوه.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب
…
فذكر بإسناده مثله. وزاد: "رجل تحمل حمالة عن قومه أراد بها الإصلاح".
فأباح رسول الله عليه السلام في هذا الحديث لذي الحاجة أن يسأل لحاجته حتى يصيب قِوامًا من عيش أو سِدادًا من عيش، فدل ذلك أن الصدقة لا تحرم بالصحة إذا أراد بها الذي تُصدق بها عليه سد فقره، وأنها تحرم عليه إذا كان يريد بها غير ذلك من التكثر ونحوه، ومَن يريد بها ذلك فهو ممن يطلبها لسوى المعاني الثلاثة التيم ذكرها رسول الله عليه السلام في حديث قبيصة الذي ذكرنا، فهي عليه سحت.
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
ش: أي: قد روى قبيصة عن النبي عليه السلام ما قد دل على ما ذكرنا من التأويل في قوله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لذي مرة سوي"، وفي قوله عليه السلام:"ولا لقوي مكتسب".
وأخرجه من ثلاث طرق:
الأول: موقوف، إسناده صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن هارون بن رِئَاب -بكسر الراء بعدها همزة وفي آخره باء موحدة- التميمي أبي الحسن البصري، وثقه النسائي وغيره، وروى له مسلم وأبو داود والنسائي.
عن كنانة بن نعيم العدوي أبي بكر البصري، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له هؤلاء المذكورون عن قبيصة [بن](1) المخارق الهلالي الصحابي رضي الله عنه.
الثاني: مرفوع بإسناد على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن هارون
…
إلى آخره.
وروي أيضًا عن حماد بن سلمة، عن هارون.
وأخرجه مسلم (2) ثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، كلاهما عن حماد بن زيد -قال يحيى: أنا حماد بن زيد- عن هارون بن رئاب، قال: حدثني كنانة بن نعيم العدوي، عن قبيصة بن مخارق الهلالي، قال:"تحملت حمالة، فأتيت رسول الله عليه السلام أسأله فيها فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجل من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش -أو قال: سِدادًا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها سحتًا".
(1) تكررت في "الأصل".
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 722 رقم 1044).
الثالث: أيضًا مرفوع بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب
…
إلى آخره.
وأخرج أبو داود (1): عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن هارون بن رئاب
…
إلى آخره نحو رواية مسلم.
وأخرجه النسائي (2) والدارقطني (3) والطبراني (4) وابن أبي شيبة (5) نحوه أيضًا.
قوله: "رجلٌ" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأول: رجل.
قوله: "تحمل حمالةً" الحمالة -بفتح الحاء وتخفيف الميم-: هي المال الذي يتحمله الإنسان أي: يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البَيْن، كالإصلاح بين القبيلتين ونحو ذلك.
وقال الخطابي: الحمالة: الكفالة، والحميل: الكفيل والضمين، وتفسير الحمالة: أن يقع بين القوم التشاجر في الدماء والأموال، وتجذب بسببه العداوة والشحناء، ويخاف منها الفتن العظيمة، فيتوسط الرجل بينهم ويسعى في إصلاح ذات البَيْن ويضمن ما لأصحاب الدم أو المال يترضاهم بذلك حتى تسكن الثائرة وتعود بينهم الألفة.
فهذا رجل صنع معروفًا وابتغى بما أتاه إصلاحًا، فليس من المعروف أن تورك الغرامة عليه في ماله، ولكن يُعان على أداء ما تحمله منه، ويعطى من الصدقة قدر ما تبرأ به ذمته ويخرج عن عهدة ما تضمنه.
قوله: "ثم يمسك" عن السؤال.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 120 رقم 1640).
(2)
"المجتبى"(5/ 89 رقم 2580).
(3)
"سنن الدارقطني"(2/ 19 رقم 1).
(4)
"المعجم الكبير"(18/ 371 رقم 948).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 426 رقم 10685).
قوله: "جائحة" بالجيم أولًا ثم بالحاء المهملة، وهي في غالب العرف ما ظهر أمره من الآفات كالسَّيْل يغرق متاعه، والنار تحرقه، والبرد يفسد زرعه وثماره، ونحو ذلك.
فإذا أصاب الرجل شيء من ذلك وافتقر حلت له المسألة ووجب على الناس أن يعطوه الصدقة من غير بينة يطالبونه بها على ثبوت فقره واستحقاقه إياها.
قوله: "قِوامًا" بكسر القاف وهو ما يقوم بحاجته ويستغني به.
و"السداد": بكسر السين المهملة: ما يُسد به خلته، والسِّداد -بالكسر أيضًا- كل شيء سددت به حالًا، ومنه سداد الثغر وسداد القارورة، والسَّداد بالفتح إصابة المقصد.
قوله: "حاجة" أي: فقر وفاقة.
قوله: "من ذوي الحجى". بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم مقصور، وهو العقل، وقال النووي: إنما شرط الحجى تنبيهًا على أنه يشترط في الشاهد التيقظ، فلا يقبل من مغفل، وأما اشتراط الثلاثة فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار فلا يقبل إلا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث.
وقال الجمهور: يُقبل مِن عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب، وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلا ببينة، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال.
وقال الخطابي.: وليس هذا من باب الشهادة لكن من باب التبين والتعرف؛ وذلك لأنه لا مدخل لعدد الثلاثة في شيء من الشهادات، فإذا قال نفر من قومه أو جيرانه أو من ذوي الخبرة بشأنه: إنه صادق فيما يدَّعيه؛ أعطي الصدقة.
قلت: الصواب ما قاله الخطابي؛ لأنه أراد أن يخرج بالزيادة عن حكم الشهادة إلى طريق انتشار الخبر واشتهاره، وأن القصد بالثلاثة ها هنا الجماعة التي أقلها أقل الجمع لا نفس العدد.
قوله: "من قومه" إنما قال هذا لأن قومه من أهل الخبرة بباطنه، والمال مما يخفى في العادة فلا يعلمه إلا من كان خبيرًا بصاحبه.
قوله: "فهو سحت" أي: حرام.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: أن السؤال عند عدم الحاجة حرام وأخذه سحت.
الثاني: أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة هو الكفاية التي يكون بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يُعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته ليس فيه حد معلوم.
الثالث: أن مجرد دعوى الإعسار لا تقبل، اللهم إلا إذ كان مشهورًا بين قومه بالفقر والفاقة؛ فإن القول قوله حينئذٍ.
الرابع: فيه دليل على وجوب المساعدة من أصحاب الأموال والنظر في حق من ابتلي بالحاجة، أو أصيب بالجائحة، أو تحمل بالحمالة.
الخامس: أنه يدل على أن الصدقة تحل للفقير الصحيح القادر على الاكتساب؛ لأنه لم يشترط في هذه الصور الثلاث التي يحل فيها السؤال: أن يكون السائل عاجزًا عن الكسب لأجل الزمانة ونحوها، وإليه أشار بقوله: فأباح رسول الله عليه السلام في هذا الحديث
…
إلى آخره.
قوله: "فدل ذلك أن الصدقة" أي: دلَّ ما أباحه النبي عليه السلام من السؤال لذي الحاجة إلى أن يصيب قوامًا من عيش أو سداد من معيشة على أن الصدقة لا تحرم بالصحة والقدرة على الاكتساب، ولكن بشرط أن يكون مراد المتصدق عليه: سدّ الفقر ودفع الحاجة، وأما إذا أراد بها التكثر والتجمل وغير ذلك فهو حرام؛ لأنه يكون ممن يطلب الصدقة لغير المعاني الثلاثة المذكورة في الحديث.
ص: وقد روى سمرة رضي الله عنه، مثل ذلك عن رسول الله عليه السلام.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان بن مسلم، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، قال: سمعت سمرة بن جندب، عن النبي عليه السلام قال:"المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومَن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان، أو يسأل [في] (1) أمرٍ لا يجد منه بدًّا".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عَوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، عن رسول الله عليه السلام مثله.
قال أبو جعفر رحمه الله: فقد أباح هذا الحديث المسألة في كل أمرٍ لا بد من المسألة فيه، فدخل في ذلك ما أبيحت فيه المسألة في حديث قبيصة، وزاد هذا الحديث عليه ما سوى ذلك من الأمور التي لا بد منها، وفي ذلك إباحة المسألة بالحاجة الخاصة لا بالزمانة.
ش: أي: قد روى سمرة بن جندب رضي الله عنه حديث قبيصة بن المخارق في دلالته على عدم تقييد جواز السؤال بزمانة ونحوها، بل زاد سمرة في حديثه على حديث قبيصة، فإن حديثه أباح المسألة في كل أمر لا يجد منه بدًّا، فقد دخل فيه ما في
حديث قبيصة وزاد عليه ما هو من الأمور التي لا بد منها، وفي هذا أيضًا إباحة السؤال بالحاجة خاصةً لا بالزمانة ونحوها، فافهم.
ثم إنه أخرج حديث سمرة من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مُسلم الصفار، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير بن سُويد القرشي الكوفي، عن زيد بن عقبة الفزاري وثقه العجلي والنسائي وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي والترمذي.
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(1) تكررت في "الأصل".
وأخرجه أبو داود (1): ثنا حفص بن عمر النمري، ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه الترمذي (2) وقال: حديث حسن صحيح.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق أيضًا، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير
…
إلى آخره.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا وكيع، نا سفيان وابن جعفر، قالا: نا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن هذه المسائل كدّ يكد بها أحدكم وجهه، وقال ابن جعفر: كدوح يكدح بها الرجل إلا أن يسأل ذا سلطان أو في أمر لا بد منه".
وأخرجه النسائي (4) أيضًا.
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن منصور الخراساني، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد القرشي، روى له الجماعة.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(5): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا عارم أبوالنعمان، ثنا أبو عوانة، عن عبد الملك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله عليه السلام: "هذه المسائل كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل ذا سلطان، أو في أمر لا يجد منه بدًّا".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 199 رقم 1639).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 65 رقم 681).
(3)
"مسند أحمد"(5/ 19 رقم 20232).
(4)
"المجتبى"(5/ 100 رقم 2599).
(5)
"المعجم الكبير"(7/ 183 رقم 6769).
قوله: "المسائل" مبتدأ، وخبره قوله:"كدوح". أي: كدوح في وجهه، كما في حديث آخر:"جاءت مسألته كدوحًا في وجهه"(1).
فإن قيل: كيف تكون عين المسائل كدوحًا؟
قلت: التقدير: المسائل جالبة للكدوح، فلما كانت المسائل جالبة للكدوح قطعًا جعلت عين الكدوح للمبالغة، كما في قولهم: رجل عدل.
والكدوح: جمع كدح، وهو كل أثرٍ من خدشٍ أو عضٍّ، ويجوز أن يكون مصدرًا سمي به الأثر، فعلى هذا تقدير الكلام: المسائل كادحة، ذُكر المصدر وأريد به الفاعل للمبالغة.
فإن قيل: ما معنى تخصيص الوجه بالذكر من بين سائر الأعضاء؟
قلت: لأن السائل أول ما يستقبل بوجهه فلذلك اختص بهذا الفعل؛ ولأن الكدوح في الوجه أبشع وأفظع.
قوله: "إلا أن يسأل الرجل ذا سلطان" أي: ذا يد وقوة، مثل الخلفاء والملوك ومَن يلي من جهتهم.
قوله: "لا يجد منه بدًّا" أي: فراقًا أراد أمرًا لا يستغني عنه.
ويستفاد منه: حرمة السؤال لغير الحاجة والضرورة، وأنه حرامٌ وعذابٌ يوم القيامة.
وجواز السؤال من ذي سلطان وإن كان غنيًّا.
قال الخطابي: وهو أن يسأل حقه من بيت المال الذي في يده، وليس هذا على معنى استباحة الأموال التي تحويها أيدي بعض السلاطين من غصب أموال الناس.
قلت: اللفظ عام، يدل على أن الرجل إذا سأل سلطانًا ومَن في معناه يباح له ذلك،
(1) أخرجه ابن ماجه (1/ 589 رقم 1840)، وأحمد في "مسنده"(1/ 441 رقم 4207) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
سواء كان حقه من بيت المال أو من غيره بعد أن يعرف أن غالب أمواله من وجه حِلّ، وكذلك يجوز قبول هدية السلاطن والأمراء إذا كان غالب أموالهم حلالًا.
وأما إذا كان غالب أموالهم حرامًا أو كلها لا يجوز السؤال منهم ولا قبول هديتهم.
ص: وقد روي عن أنس، عن النبي عليه السلام في هذا المعنى ما قد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك، أن رجلًا من الأنصار أتى النبي عليه السلام فسأله، فقال: إن المسألة لا تصلح إلا لثلاث: لغرم موجع، أو دمٍ مفظع، أو فقر مدقع".
قال أبو جعفر رحمه الله: وكل هذه الأمور مما لا بد منه، فقد دخل ذلك أيضًا في معنى حديث سمرة.
ش: أي: قد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه في معنى حديث سمرة، لأن الأشياء الثلاثة المذكورة في حديث أنس داخلة في قوله:"أوْ يسأل في أمرٍ لا يجد منه بدًّا" في حديث سمرة، غاية ما في الباب صرَّح في حديث أنس ببعض عَمَّ في حديث سمرة إما لكثرة وقوعها، وإما لشدة أمرها أو نحو ذلك.
ثم إنه أخرج حديث أنس بإسناد حسن عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن محمَّد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري شيخ البخاري، عن الأخضر بن عجلان الشيباني البصري وثقه ابن معين، وضعفه الأزدي، وقال أبو حاتم: ليس بمشهور (1)، وروى له الأربعة.
عن أبي بكر الحنفي الكبير واسمه عبد الله، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة عن مالك بن أنس.
(1) كذا في "الأصل، ك"، ولم أجد هذا القول لأبي حاتم، وإنما قال فيه: يكتب حديثه، كذا في "الجرح والتعديل"(2/ 340) وكذا هو عند كل من نقل عنه مثل "تهذيب الكمال"، و"تهذيبه"، و"الميزان" وغير ذلك.
وأخرجه أبو داود (1) مطولًا: ثنا عبد الله بن مسلمة، نا عيسى بن يونس، عن الأخضر بن عجلان، عن أبي بكر الحنفي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن رجلًا من الأنصار أتى النبي عليه السلام يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى، حلس نلبس بضعه ونبتسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء. قال: ائتني بهما. فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله عليه السلام بيده وقال: مَن يشتري هذين؟ قال رجل: أنا أخذهما بدرهم، قال مَن يزيد علي درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- فقال رجل: آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فأتني بها. فأتاه بها، فشد فيه رسول الله عليه السلام عودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، فقال رسول الله عليه السلام: هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع".
وأخرجه الترمذي (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان.
قوله: "إلا لثلاث" أي: لثلاث خلال.
قوله: "لِغُزم موجع" الغُرم -بضم الغين وسكون الراء- وهو الدَّيْن ونظير ذلك في الوزن العُدْم -بضم العين وسكون الدال- وهو الفقر، وكذلك العَدَم -بفتحتين- وهما كالرُّشْد والرَّشَد والحُزْن والحَزَن.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 120 رقم 1641).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 522 رقم 1218).
(3)
"المجبتى"(7/ 259 رقم 4508).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 740 رقم 2198).
وأما كون الغرم موجعًا فظاهر؛ لأن المديون دائمًا موجوع القلب.
قوله: "أو دم مفظع" من أفظع، يقال: أفظعني الأمر إذا اشتد علي، والأمر الفظيع هو الشديد والشنيع الذي جاوز المقدار، وكون الدم فظيعًا شديدًا ظاهر.
قوله: "أو فقر مدقع" من أَدْقع من الدَّقع، وهو الفقر الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب لا يكون عنده ما يقيه من التراب.
وقال ابن الأعرابي: الدقع: سُوء احتمال الفقر.
ص: وقد روي عن أبي سعيد الخدري في ذلك أيضًا ما حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو إسحاق، عن سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني إلا أن تكون في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو يكون له جار فيتصدق عليه فيهدي له أو يدعوه".
حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي عليه السلام مثله.
فأباح رسول الله عليه السلام الصدقة للرجل إذا كان في سبيل الله أو ابن السبيل، فقد أجمع ذلك الصحيح وغير الصحيح؛ فدل ذلك أيضًا على أن الصدقة إنما تحل بالفقر، كانت معه الزمانة أو لم تكن.
ش: أي: وقد روي عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري، عن النبي عليه السلام فيما ذكرنا من أن الصحة والقدرة على الكسب لا تمنع حلّ الصدقة إذا كان سؤاله عن حاجة.
وأخرجه من طريقين:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن الربيع بن سليمان القسري الكوفي شيخ الجماعة غير الترمذي، عن أبي إسحاق الفزاري واسمه إبراهيم بن محمَّد بن
الحارث الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن عمران البارقي وثقه ابن حبان، وروي له أبو داود عن عطية بن سعد بن جُنادة العوفي ضعفه النسائي وأحمد وأبو حاتم، وعن يحيى: صالح. وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن عوف الطائي، ثنا الفريابي، عن سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه، فيهدي لك أو يدعوك".
والثاني: عن عبد الرحمن بن الجارود بن عبد الله الكوفي، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي الكوفي شيخ البخاري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعن يحيى: ليس بذاك. وعنه لين. روى له الأربعة.
عن عطية بن سعد، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا وكيع، نا ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله، وابن السبيل، ورجل كان له جار فتصدق عليه، فأهدى له".
قوله: "في سبيل الله" هو منقطع الغزاة عند أبي يوسف؛ لأنه المتفاهم عند الإطلاق وعند محمَّد: منقطع الحاج.
قوله: "أو ابن السبيل" وهو مَن له مال في وطنه وهو في مكان لا شيء له فيه، وإنما سمي ابن السبيل لأنه لزم السفر، ومَن لزم شيئًا نُسب إليه، كما يقال: ابن الغني وابن الفقير.
قوله: "فَيُتَصدق عليه" على صيغة المجهول.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 119 رقم 1637).
(2)
"مسند أحمد"(3/ 31 رقم 11286).
قوله: "فيهدي" أي: فيهدي ذلك الجار الذي يتصدق عليه له -أي: للغني- أو يدعوه إلى ضيافته.
قوله: "فقد أباح رسول الله عليه السلام
…
إلى آخره" بيانه: أنه عليه السلام أباح الصدقة لمن يكون في سبيل الله أو ابن السبيل، ولم يقيد ذلك بالصحة، بل جمع بين الصحيح وغيره؛ فدلَّ ذلك أن الصدقة إنما تحل للفقر سواء كانت معه زمانة أو لم تكن، وقد ذكر في هذا الحديث ثلاثة أصناف:
الأولان: يجوز لهما أخذ الصدقة وإن كانا غنيين في الواقع، ولكنهما فقيران في الحال.
وأما الثالث: فكذلك يجوز له أخذ الصدقة وإن كان غنيًّا؛ لأنها خرجت من ملك المتصدق بقبول الفقير، فخرجت عن حكم سائر الصدقات، فحل للغني حينئذٍ أن يقبل ذلك إذا أهدي إليه، أو يأكل منها أن عُزِم عليه، فافهم.
ص: وقد روي عن وهب بن خَنْبَش، عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا أبو أمية، قال: ثنا المعلى بن منصور، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أخبرني مجالد، عن الشعبي، عن وهب قال:"جاء رجل إلى رسول الله عليه السلام وهو واقف بعرفة، فسأله رداءه فأعطاه إياه، فذهب به، ثم قال النبي عليه السلام: إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع، أو غرم مُفظِع، ومن سأل الناس ليثري به ماله، فإنه خموشٌ في وجهه، ورضفٌ يأكله من جهنم إن قليل فقليل، وإن كثير فكثير".
فأخبر النبي عليه السلام أيضًا في هذا الحديث: أن المسألة تحل بالفقر والغرم، فذلك دليل على أنها تحل بهذين المعنيين خاصةً ولا يختلف في ذلك حال الزمن وغيره.
ش: أخرج هذا أيضًا شاهدًا لما ذكره من أن المسألة تحل بالفقر ولا تقيد بالزمانة ونحوها.
عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن المعلى بن منصور الرازي
أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة، والبخاري روى عنه في غير "الصحيح" وله ذكر في كتاب "الهداية".
عن يحيى بن سعيد القطان روى له الجماعة، عن مجالد بن سعيد الكوفي، فيه مقال؛ فعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ضعيف واهي الحديث. وقال النسائي: ثقة. روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة.
عن عامر الشعبي، عن وهب، قيل: هذا هو وهب بن خَنْبَش الطائي الكوفي الصحابي، وممن صرَّح بذلك الطحاوي على ما يأتي، وقيل: وهب هذا غير منسوب.
والدليل عليه ما أخرجه أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة"(1) في ترجمة وهب بن خنبش: ثنا أبو خيثمة، ثنا وكيع، ونا زيد بن أخزم، ثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قالا: نا سفيان، عن بيان، عن الشعبي، عن وهب بن خَنْبش، عن النبي عليه السلام قال:"عمرة في رمضان تعدل حجة".
ثم قال: وهب -ولم يُنْسَب- حدثني ابن الأموي، حدثني أبي، عن المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن وهب قال: "جاء أعرابي إلى النبي عليه السلام وهو واقف بعرفة فسأله رداءه
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
قوله: "إلا مِن فقر مدقع أو غرمٍ مفظع" قد مرَّ تفسير ذلك عن قريب.
قوله: "لُيثْري" من الإثراء، وهوَّ الإكثار، ومعناه: ومن سأل الناس ليكثر بسؤاله ماله، والثروة: العدد الكثير. وفي الحديث: "ما بعث الله نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثروة من قومه"(2).
(1)"معجم الصحابة"(3/ 177 - 178 رقم 1151).
(2)
أخرجه الترمذي في "جامعه"(3/ 293 رقم 3116)، أحمد في "مسند"(2/ 332 رقم 8373)، وابن حبان في "صحيحه"(14/ 86 رقم 6206)، والحاكم في "مستدركه"(2/ 611 رقم 4054) كلهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم على شرط مسلم.
قوله: "فإنه خموش" أي فإن سؤاله خموش في وجهه يوم القيامة، والخموش إما جمع خَمَش، أو مصدر من خَمَشَت المرأة وجهها تَخْمِشُه خَمْشا وخُموشًا إذا خدشت، وهو من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، ثم إن جعلناه جمعًا يكون المعنى: فإن سؤاله يصير خموشًا في وجهه، وإن جعلناه مصدرًا يكون المعنى: فإن سؤاله خامشٌ وجهه يوم القيامة، فأفهم.
قوله: "ورَضْفٌ" بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة، وهو الحجارة المحماة على النار.
قوله: "من جهنم" كلمة "من" فيه بيانية.
قوله: "إن قليل فقليل" مرفوعان بمحذوف، تقديره: إن وجد من سؤاله قليل فجزاؤه من الخمش وأكل الرضف قليل، فيكون ارتفاع "قليلٌ" الأول بالفاعلية، وارتفاع "قليلٌ" الثاني بأنه خبر مبتدأ محذوف، وكذلك الكلام في إعراب قوله:"وإن كثير فكثير" ويجوز فيه النصب "القليل" الأول "والكثير" الأول، والمعنى: إن كان سؤاله قليلًا فجزاؤه قليل، وإن كان كثيرًا فكثير نحو قولهم: الناس مجزيون بأعمالهم إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
ص: وقد حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مُخَوَّل بن إبراهيم، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل
…
فذكر بإسناده مثله.
فهذا حبشي قد حكى هذا عن النبي عليه السلام، فوافق ما حكى من ذلك ما حكاه الآخرون: أن المسألة إنما تحل بالفقر.
ش: هذان طريقان:
أحدهما: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُخَوَّل بن إبراهيم بن مُخَوَّل
النهدي الكوفي ذكره في "الميزان" وقال: رافضي بغيض، صدوق في نفسه (1).
يروي عن إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن حبشي بن جنادة الصحابي.
وأخرجه ابن الأثير (2) في ترجمة حبشي: من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبيشي بن جنادة قال: قال رسول الله عليه السلام: "من سأل من غير فقر فإنما يأكل الجمر".
الثاني: إسناده صحيح. عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي
…
إلى آخره.
وأخرج الترمذي (3) عن حبشي بن جنادة من وجه آخر: ثنا علي بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد، عن الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي قال:"سمعت رسول الله عليه السلام في حجة الوداع وهو واقف بعرفة أتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه فأعطاه وذهب، فعند ذلك حرمت المسألة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشًا في وجهه يوم القيامة، ورضفًا يأكله من جهنم، فمن شاء فَلْيُقِلّ ومن شاء فَلْيُكْثِر".
ص: وقد جاءت الآثار أيضًا عن رسول الله عليه السلام بذلك متواترة: حدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا الفريابي. (ح)
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، قالا جميعًا: عن سفيان، عن حكيم ابن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن أبيه، عن ابن مسعود
(1) وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل": صدوق. وقال ابن عدي في "الكامل"(6/ 439): له أحاديث عن إسرائيل وأكثر رواياته عنه، وقد روى عنه أحاديث لا يرويها غيره، وهو في جملة متشيعي أهل الكوفة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
(2)
"أسد الغابة"(1/ 232).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 43 رقم 653).
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل عبدٌ مسألة وله ما يُغنيه إلا جاءت شيئًا أو كدوحا أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة. قيل: يا رسول الله وماذا غناه؟ قال: خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب".
حدثنا أحمد بن خالد البغدادي، قال: ثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان
…
فذكر بإسناده مثله غير أنه قال: "كدوحا في وجهه" ولم يشك وزاد: "فقيل لسفيان: لو كانت عن غير حكيم! فقال: حدثناه زُبيْد عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد مثله".
ش: أي: قد جاءت الأحاديث أيضًا عن رسول الله عليه السلام بما ذكرنا، أن الاعتبار في السؤال وحلّ الصدقة هو الفقر والحاجة لا غير.
قوله: "متواترة" أي: متكاثرة وانتصابها على الحال من الآثار، ولم يُرد به التواتر المصطلح عليه.
ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من ثلاث طرق:
الأول: عن الحسن بن نصر بن المعارك، عن محمَّد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن حكيم بن جبير الأسدي الكوفي، ضعفه أحمد، وعن يحيى: ليس بشيء. وقال إبراهيم السعدي: كذاب. وقال الدارقطني: متروك. وروى له الأربعة.
عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي وثقه يحيى وابن حبان وروى له الأربعة- عن أبيه عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا الحسن بن علي، نا يحيى بن آدم، نا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال
(1)"سنن أبي داود"(2/ 116 رقم 1626).
رسول الله تعالى: "مَن سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش -أو كدوح أو خدوش- في وجهه. فقيل يا رسول الله وما الغنى؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن حكيم بن جبير
…
إلى آخره.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة وعلي بن حُجر -قال قتيبة: ثنا شريك، وقال علي: أنا شريك والمعنى واحد- عن حكيم بن جبير
…
إلى آخره نحو رواية أبي داود.
وقال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث.
الثالث: عن أحمد بن خالد البغدادي، عن أبي هشام الرفاعي محمَّد بن يزيد شيخ مسلم، عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي شيخ أحمد، عن سفيان
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا الحسن بن علي الخلال، نا يحيى بن آدم، ثنا سفيان، عن حكيم بن جبير، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَن سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خدوشًا أو خموشًا أو كدوحا في وجهه. قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب". فقال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: فقد حدثناه زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقال أبو داود: قال يحيى: فقال عبد الله بن عثمان لسفيان: حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير.
فقال سفيان: فقد حدثناه زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 40 رقم 650).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 589 رقم 1840).
وقال الترمذي (1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان، عن حكيم بن جبير بهذا الحديث، فقال له عبد الله بن عثمان صاحب شعبة: لو غير حكيم حدَّث بهذا [قال: وما لحكيم لا يحدث عن شعبة؟! قال: نعم، قال سفيان: سمعت زُبيدًا يحدث بهذا](2) عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد.
وقال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث للعلة التي ذكرها يحيى بن آدم.
قالوا: أما ما رواه سفيان فليس فيه بيان أنه أسنده وإنما قال: فقد حدثناه زبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد، حسب.
وحكي الإمام أحمد عن يحيى بن آدم، أن الثوري قال يومًا: قال أبو بسطام يُحَدِّث -يعني شعبة- هذا الحديث عن حكيم بن جبير.
قيل له: قال: حدثني زُبيد، عن محمَّد بن عبد الرحمن ولم يزد عليه. قال أحمد: كأنه أرسله أو كره أن يحدِّث به.
قلت: حكى الترمذي أن سفيان صرَّح بإسناده فقال: سمعت زُبيدًا يحدث بهذا عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد. وقد ذكرنا آنفًا.
وحكاه ابن عدي أيضًا، وحكي أيضًا أن الثوري قال: أخبرنا به زُبَيد. وهذا يدل على أن الثوري حدَّث به مرتين: مرةً لا يصرح فيه بالإسناد، ومرة يسنده.
وقال النسائي: لا نعلم أحدًا قال في هذا الحديث زُبَيد غير يحيى بن آدم، ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم بن جبير، وحكيم بن جُبير ضعيف، وسئل شعبة عن حديث حكيم بن جبير فقال: أخاف النار. وقد كان روى عنه قديمًا. وسئل يحيى بن معين: يَرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى: نعم، يرويه يحيى بن آدم، عن سفيان، عن زبيد ولا أعلم أحدًا يرويه إلا يحيى بن آدم وهذا وهم، لو كان كذا لحدَّث الناس به جميعًا عن سفيان، ولكنه حديث منكر.
هذا الكلام قاله يحيى أو نحوه.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 41 رقم 651)، باختصار.
(2)
سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "جامع الترمذي".
قلت: زُبيد هذا -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- ابن الحارث الأيامي، روى له الجماعة.
قوله: "وله ما يغنيه" جملة وقعت حالًا.
قوله: "إلا جاءت" أي: مسألته.
"شينًا". أي: عيبًا، يقال: شانه يشُينُه، وتفسير الكدوح والخدوش قد مرَّ.
قوله: "قلت لسفيان" قد عرفت القائل هو عبد الله بن عثمان وهو غير مذكور في متن الحديث.
ولما أخرج الترمذي هذا الحديث قال: والعمل على هذا عند بعض أصحابنا، وبه يقول الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق. قالوا: إذا كان عند الرجل خمسون درهمًا لم تحل له الصدقة.
قال: ولم يذهب بعض أهل العلم إلى حديث حكيم بن جبير ووسعوا في هذا، وقالوا: إذا كان عنده خمسون درهما أو أكثر وهو محتاج فله أن يأخذ من الزكاة، وهو قول الشافعي وغيره من أهل الفقه والعلم.
وقال ابن قدامة: استدل الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق وأحمد بهذا الحديث: أن مَن ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فإنه يحرم عليه السؤال، ولا تحل له الصدقة.
قلت: قال أصحابنا: الغني الذي يحرم به أخذ الصدقة وقبولها هو الذي تجب به صدقة الفطر والأضحية، وهو أن يملك من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حوائجه، وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب والفرش والدور والحوانيت والدواب والخدم، زيادة على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للنماء والإسامة، فإذا فضل من ذلك ما تبلغ قيمته مائتي درهم وجب عليه صدقة الفطر والأضحية وحرم عليه أخذ الصدقة (1).
(1) انظر "بدائع الصنائع"(2/ 157).
ثم قدر الحاجة ما ذكره الكرخي في "مختصره" فقال: لا بأس أن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله، وخادم، وفرس، وسلاخ وثياب البدن، وكتب العلم إن كان من أهله، فإن كان له فضل عن ذلك تبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة، لما روي عن الحسن البصري أنه قال:"كانوا يعطون من الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من السلاخ والفرس والدار والخادم".
وقوله: "كانوا" كناية عن أصحاب رسول الله عليه السلام.
وذكر في "الفتاوى" فيمن له حوانيت ودور الغلة لكن غلتها لا تكفيه لعياله، أنه فقير ويحل له أخذ الصدقة عند محمَّد، وعند أبي يوسف لا يحل، وعلى هذا إذا كان له كرم، لكن غلته لا تكفيه لعياله، وإن كان عنده طعام للقوت يساوي مائتي درهم فإن كان كفاية شهر، يحل له أخذ الصدقة، وإن كان كفاية سنة قال بعضهم: لا يحل، وقال بعضهم: يحل.
ثم جواب أصحابنا عن الحديث المذكور: أنه محمول على حرمة السؤال، معناه: لا يحل سؤال الصدقة لمن له خمسون درهمًا أو عوضها من الذهب، أو يحمل ذلك على كراهة الأخذ؛ لأن مَن له سداد من العيش فالتعفف أولى.
ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا أيوب بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: حدثني ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، قال: حدثني سهل بن الحنظلية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن سأل الناس عن ظهر غنًى فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله وما ظهر غنًى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يُغديهم أو ما يعشيهم".
ش: أبو بشر عبد الملك بن مروان الرقي، وأيوب بن سويد أبو مسعود الحميري السيباني -بفتح السين المهملة وبعد الياء آخر الحروف باء موحدة- فيه مقال؛ فقال أحمد: ضعيف. وقال يحيى: ليس بشيء يسرق الأحاديث. وقال النسائي: ليس بثقة. روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي الشامي، روى له الجماعة.
وربيعة بن يزيد الدمشقي أبو شعيب الإيادي روى له الجماعة.
وأبو كبشة السلولي الشامي قال العجلي: شامي تابعي ثقة. وقال أبو حاتم: لا أعلم أنه يسمى، وروى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
وسهل بن الحنظلية هو سهل بن عمرو، والحنظلية أمه، وقيل: أم أبيه، وقيل أم جده، واسمها أم إياس بنت أبان بن دارم، وكان سهل شهد المشاهد كلها مع رسول الله عليه السلام ما خلا بدرًا.
وأخرجه أبو داود (1) مطولًا: ثنا عبد الله بن محمَّد النفيلي، نا مسكين، نا محمَّد بن المهاجر، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي كبشة السلولي، ثنا سهل بن الحنظلية قال:"قدم على رسول الله عليه السلام عيينة بن حِصن والأقرع بن حابس فسألاه، فأمر لهما بما سألاه، فأمر معاوية فكتب لهما بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه وأتى النبي عليه السلام، فقال: يا محمَّد أتراني حاملًا إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلبس؟! فأخبر معاويةُ بقوله رسول الله عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: مَن سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار- وقال النفيلي في موضع آخر: من جمر جهنم- فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه- وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ - قال: قدر ما يغديه ويعشيه- وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة أو ليلة ويوم" انتهى.
واختلف الناس في تأويل قوله: "ما يغديهم أو يعشيهم" فقال بعضهم: مَن وجد غداء يوم وعشائه لم تحل له المسألة؛ على ظاهر الحديث.
قلت: قال أصحابنا: ومَن له قوت يوم فسؤاله حرام، وقال بعضهم: إنما هو فيمن وَجَد غداء وعشاء على دائم الأوقات، فإذا كان عنده ما يكفيه لقوته المدة الطويلة حرمت عليه المسألة.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 117 رقم 1629).
وقيل: هذا منسوخ بما تقدم من الأحاديث والغداء والعشاء تحرم سؤال اليوم، والأوقية يحرم مقدار ما يسد من المسافر للسائل، ويجوز لصاحب الغداء والعشاء أن يسأل الجبة والكساء، ويجوز لصاحب الأوقية والخمسن درهمًا أن يسأل ما يحتاج إليه من الزيادة على ذلك والله أعلم.
وقال ابن حزم في "المحلى": وهذا الحديث لا شيء؛ لأن أبا كبشة السلولي مجهول.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيدبن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل وله ما يغنيه جاعت شيئا في وجهه يوم القيامة".
ش: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
وأبو عمر: حفص بن عمر الحوضي البصري شيخ البخاري وأبي داود.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا علي بن عبد العزيز، نا محمَّد بن عبد الله الرقاشي، ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن [معدان] (2) عن ثوبان قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَن سأل وله ما يغنيه فإنه شين في وجهه يوم القيامة".
قوله: "جاءت شينا" الضمير في "جاءت" يرجع إلى المسألة التي يدل عليها قوله: "مَن سأل"، وانتصاب "شينا" على الحال من الضمير الذي في "جاءت".
والشين: العيب والقبح.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن
(1)"المعجم الكبير"(2/ 91 رقم 1407).
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المعجم الكبير".
أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، أن رسول الله عليه السلام قال:"مَن سأل شيئًا وله قيمة أوقية فهو ملحف".
ش: إسناده صحيح، وعبد الله بن يوسف [التنيسي](1) شيخ البخاري.
وابن أبي الرجال هو عبد الرحمن وثقه أحمد ويحيى القطان وروي له النسائي.
وأبو الرجال -بالجيم- اسمه محمَّد بن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري.
وعمار بن غزية بن الحارث الأنصاري المدني، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.
وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.
وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار، قالا: ثنا عبد الرحمن ابن أبي الرجال، عن عمارة بن غزية، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف".
وأخرجه النسائي (3) أيضًا.
قوله: "وله قيمة أوقية" حال، أي: والحال أن له شيئًا قيمته أوقية، وهي أربعون درهمًا.
قوله: "فهو ملحف" مِن أَلْحَفَ في المسألة: إذا بالغ فيها وألحَّ، يقال: أَلَحَّ وألحف من الإلحاح والإلحاف، وقيل: ألحف شمل بالمسألة، ومنه اشتق اللحاف.
(1) في "الأصل، ك، ح": "الفريابي"، وهو وهم أو سبق قلم تكرر مرارًا من المؤلف رحمه الله، وعبد الله بن يوسف هو التنيسي شيخ البخاري، وأما الفريابي فهو محمَّد بن يوسف، وهو شيخ البخاري أيضًا.
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 116 رقم 1628).
(3)
"المجتبى"(5/ 98 رقم 2595).
واستدل الحسن وأبو عبيد بهذا الحديث على أن حد الغنى المانع من أخذ الصدقة هو أن يملك أربعين درهمًا.
والجواب عنه: أنه محمول على كراهة السؤال، وأن التعفف أولى.
وقال ابن حزم في "المحلى": عمارة بن غزية ضعيف، وأشار بذلك إلى تضعيف الحديث، وقد قلنا: إن عمارة بن غزية أخرج له مسلم والأربعة واحتجوا به، واستشهد به البخاري.
ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا محمَّد بن الفضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا؛ فإنما هو جمرٌ، فليستقلَّ منه أو ليكثر".
ش: عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي ثم البغدادي تكلم النسائي فيه لأجل التشيع وروى له في "مناقب علي" رضي الله عنه حديثًا واحدًا، وقال أبو زرعة: صدوق.
ومحمد بن غزوان الكوفي روى له الجماعة.
وعمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، روى له الجماعة.
وأبو زرعة بن عمرو بن جبير البجلي اسمه هرم أو عبد الله أو عبد الرحمن أو عمرو أو جرير، روى له الجماعة.
والحديث أخرجه مسلم (1): حدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى، قالا: ثنا ابن فضيل، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل وليستكثر".
قوله: "تكثرًا" نصب على التعليل، أي: لأجل التكثير.
قوله: "فإنما هو" أي: فإنما سؤاله جمرٌ يوم القيامة.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 720 رقم 1041).
قوله: "فليستقل" من الاستقلال من القلة، و"ليكثر" من الإكثار، وهو الأمر من قبيل التهكم والتوبيخ.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من بني أسد قال:"نزلتُ أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي: اذهب إلى رسول الله عليه السلام فسله لنا شيئًا نأكله، وجعلوا يذكرون حاجتهم فذهب إلى رسول الله عليه السلام فوجد عنده رجلًا يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجد ما أعطيك، فولى الرجل وهو مغضَب وهو يقول: لعمري إنك لتفضل مَن شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليغضب عليَّ، لا أجد ما أعطيه، مَن سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا. قال الأسدي: فقلت: لَلَقْحَة خيرٌ من أوقية -قالوا: والأوقية أربعون درهمًا- قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله عليه السلام بعد ذلك شعير وزيت، فقسم لنا منه حتى أغنانا الله".
ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وطعن ابن حزم في هذا الحديث بقوله: "فيه مَن لم يسم ولا يدري صحة صحبته" باطل ساقط؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر صحة الحديث، وقد عرف ذلك عند أهل الحديث.
وأخرجه أبو داود (1): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
غير أن في روايته: "إنك لتعطي من شئت".
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
قوله: "ببقيع الغرقد" وهو مدفن أهل المدينة، والبقيع: المكان المتسع من الأرض، وقيل: لا يسمى بقيعًا إلا إذا كان فيه شجر أو أصول شجر من ضروب شتى، والغرقد -بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف وفي آخره دال
(1)"سنن أبي داود"(2/ 116 رقم 1627).
(2)
"المجتبى"(5/ 98 رقم 2596).
مهملة- من شجر العِضَاه، والعِضَاه: شجر له شوك، وقيل: الطلح والسدر، وكان فيه غرقد فذهب وبقي اسمه.
وفي "الموعب": الغرقد شجر له شوك كان ينبت هناك، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للموضع.
وفي "الجامع"(1): للقزاز سمي بذلك لاختلاف ألوان شجره.
وقال الأصمعي: قطعت غرقدات في هذا الموضع حين دفن عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فسمي بقيع الغرقد لذلك.
وفي "المحكم": وربما قيل له: الغرقد من غير ذكر البقيع.
وقال ياقوت: وبالمدينة أيضًا بقيع الزبير وبقيع الخيل عند دار زيد بن ثابت، وبقيع الخَبْجَبَة -بفتح الخاء المعجمة وباء موحدة ثم جيم مفتوحة وباء أخرى- كذا ذكره السهيلي، وغيره يقول: الجبجبة -بجيمن- وبقيع الخضمات.
وقال أبو حنيفة: الغرقد واحدها غرقدة، وإذا عظمت العَوسجة فهي غرقدة، والعوسج من شجر الشوك، له ثمر أحمر مدور كأنه خرز العقيق.
وقال أبو الجراح الأعرابي: العوسجة ذات الشوك وهي قصيرة ولكنها ربما طالت فهي تعد من العِضَاه، وإذا طالت وعظمت فهي غرقدة.
وقال بعضهم: الغَرقد من نبات القفّ.
وقال أبو العلاء المعري في "الرسالة الإغريضية": هو نَبْت من نبات السَهْل.
وقال أبو زيد الأنصاري في كتاب "الشجر" تأليفه: والغرقد نبت بكل مكان خلا حر الرمل.
(1) وقع خطأ في ترتيب الأوراق في "الأصل"، وقد أعدت ترتيب الورقة [ق 127 ب] إلى موضعها هنا.
وذكر ابن البيطار في "جامعه" أن الغرقد اسم عربي سَمّى به بعض العرب النوع الأبيض الكبير من العوسج، وفي "الجامع" للقزاز: قال أبو عمر: والغرقد شجر يشبه العوسج وليس به، وعوده أغلظ من عود العوسج، ومضغه مر.
وفي الحديث في ذكر الدجال: "كل شجر يواري يهوديًّا ينطق إلا الغرقد؛ فإنه من شجرهم فلا ينطق".
وقال الأصمعي: الغرقد من شجر الحجاز.
قوله: "وهو مغضب" جملة حالية، ومُغضب -بفتح الضاد- مفعول من الإغضاب.
قوله: "لعمري" بفتح العن، وهو العُمْر -بالضم- ولكن لا يقال في القسم إلا بالفتح، ومعناه: وحق بقائي وحياتي، وكذا معنى قولهم: لعمر الله، أي: أحلف ببقاء الله، و"اللام" فيه للتأكيد.
قوله: "أو عَدْلها" بفتح العين، يريد قيمتها، يُقال: هذا عَدْل الشيء أي: ما يساويه في القيمة، وهذا عِدله -بكسر العين- أي: نظيره ومثله في الصورة والهيئة.
قوله: "لَلَقْحة لنا""اللام" فيه للتأكيد. اللَّقحة بفتح اللام: الناقة المرية، وهي التي تمرى أي تحلب، وجمعها: لِقَاح، وارتفاعها بالابتداء، وتخصص بالصفة، وخبره قوله:"خيرٌ من أوقية" وقد مر تفسير الأوقية.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "الأيدي ثلاث، فيد الله العُليا، ويد المُعْطي التي تليها، ويد السائل السفلي إلى يوم القيامة، فاستعفف ما استطعت ولا تعجز عن نفسك ولا تُلام على كفافٍ، وإذا آتاك الله خيرًا فلْيُرَ عليك".
ش: أبو بكرة بكار القاضي، ومؤمل هو ابن إسماعيل القرشي.
وسفيان هو الثوري، وإبراهيم هو ابن مسلم الهجري، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال ابن عدي: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد الله، وعامتها مستقيمة. وقال الأزدي: هو صدوق لكنه رفَّاع كثير الوهم.
وأبو الأحوص اسمه عوف بن مالك الأشجعي الكوفي، روى له الجماعة البخاري في غير الصحيح.
والحديث أخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث علي بن عاصم، أنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله عليه السلام: "الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها ويد السائل أسفل إلى يوم القيامة فاسْتَعِفُّوا من السؤال ما استطعتم ومَن أعطاه الله خيرًا فليُرَ عليه، وابدأ بمن تعول، وارتضخ من الفضل، ولا تلام على كفافٍ، ولا تعجز عن نفسك".
ثم قال البيهقي: تابعه إبراهيم بن طهمان، عن الهجري مرفوعًا، ورواه جعفر بن عون، عن الهجري فوقفه.
وأخرج أبو داود (2): عن أحمد بن حنبل، نا عبيدة بن حميد التيمي، حدثني أبو الزعراء، عن أبي الأحوص، عن أبيه مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيدي ثلاثة، فيد الله عز وجل العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى، فأعطه الفضل ولا تعجز عن نفسك".
قوله: "الأيدي ثلاث" كذا في رواية الطحاوي بدون التاء وهو الأظهر.
قوله: "فيد الله العليا" المراد بها قدرته الباهرة الباسطة، والمراد من يد المعطي هو يد المتصدق، وقد جعل فيه اليد العليا لله تعالى، ثم للمعطي وهي يد المنفق، ويؤيد هذا ما قاله الجمهور من أن اليد العليا هي المنفقة، وكذا وقع في "صحيحي" (3) البخاري ومسلم:"اليد العليا المنفقة".
وقال الخطابي: اليد العليا هي المتعففة. وقال غيره: اليد العليا: الآخذة، والسفلى: المانعة. حكاه القاضي.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 198 رقم 7674).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 123 رقم 1649).
(3)
"صحيح البخاري"(2/ 519 رقم 1362)، و"صحيح مسلم"(2/ 717 رقم 1033)، كلاهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قلت: هو قول المتصوفة، ذهبوا إلى أن اليد العليا هي الآخذة لأنها نائبة عن يد الله تعالى.
وحديث ابن مسعود صريح في الرد عليهم.
فإن قيل: ما معنى علوّ يد المعطي؟
قلت: معناه علوّ الفضل والمجد ونيل الثواب.
قوله: "ولا تعجز عن نفسك" وصية بترك العجز والكسل في الصدقة، ووصية أيضًا بترك العجز في الاكتساب حتى لا تضطر إلى السؤال؛ لأن ترك السؤال والتعفف خير من السؤال مع القدرة على الاكتساب.
قوله: "ولا يلام على كفاف" إشارة إلى أنه إذا كان به حاجة وفقر فإنه يَسأل قدر كفايته، ولا يلام على ذلك لكونه مضرورًا فيه وإنما يلام إذا سأل زيادةً للتكثر.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكانت المسألة التي أباحها رسول الله عليه السلام في هذه الآثار كلها هي للفقر لا لغيره، وكان تصحيح هذه الآثار عندنا يوجب أن مَنْ قصد إليه النبي عليه السلام بقوله:"لا تحل الصدقة لذي مرة سوي" هو مَنْ استثناه من ذلك في حديث وهب بن خَنْبَش، بقوله:"إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع"، وأنه الذي يريد بمسألته أن يكثر ماله ويستغني بمال الصدقة حتى تصحَّح هذه الآثار وتتفق معانيها ولا تتضاد، وهذا المعنى الذي حملنا عليه وجوه هذه الآثار هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أشار بهذا الكلام إلى أن العلة في إباحة السؤال هي الفقر والحاجة لا غير، وإنما يحرم إذا كان للتكثر والاستغناء بمال الصدقة.
وهذا هو وجه تصحيح معاني الأحاديث المذكورة، وإن لم يحمل معناها على ما ذكرنا يلزم التضاد بين معانيها والاختلاف، فلذلك قلنا: إن قوله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لذي مرَّة سويّ" الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور في أول الباب؛ محمول على ما إذا سأل تكثرًا، وهو غير من استثناه عليه السلام بقوله: "إلا من فقر
مدقع أو غرم مقطع" الذي رواه وهب بن خَنْبَش وبهذا التوفيق تتفق معاني الأحاديث المذكورة ويرتفع الخلاف.
ثم اعلم أنه صرَّح أن وهبًا الذي أخرج عنه فيما مضى هو ابن خَنْبَش، وقد ذكرنا الاختلاف فيه، والله أعلم.
ص: فإن سأل سائل عن معنى حديث عمر رضي الله عنه المروي عنه عن رسول الله عليه السلام في نحوٍ من هذا، وهو ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري، قال: ثنا السائب بن يزيد، أن حويطب بن عبد العزى أخبره، أن عبد الله بن السعدي أخبره:"أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالًا، فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: نعم. فقال عمر رضي الله عنه: فما تريد إلى ذلك؟ فقلت: إن لي أفراشا وأعبدًا وأنا أتَّجر، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين. فقال عمر رضي الله عنه: فلا تفعل، فإني قد كنت أردت، الذي أردت فقد كان النبي عليه السلام يعطيني العطاء فأقول: إعطه مَن هو إليه أفقر مني، حتى أعطاني مرةً مالًا فقلت له ذلك، فقال النبي عليه السلام: خذه فتموله فما جاءك من هذا وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك".
ففي هذا تحريم المسألة أيضًا.
قيل له: ليس هذا على أموال الصدقات، إنما هذا على الأموال التي يقسمها على الناس فيقسمها على أغنيائهم وفقرائهم كما فرض عمر رضي الله عنه لأصحاب رسول الله عليه السلام حين دوَّن الدواوين، ففرض للاغنياء منهم وللفقراء، وكانت تلك الأموال التي يعطاها الناس لا من جهة الفقر ولكن لحقوقهم فيها، فكره رسول الله عليه السلام لعمر رضي الله عنه حسن أعطاه الذي كان أعطاه منها قوله:"أعطه مَن هو أفقر إليه مني" أي: إني لم أعطك ذلك لأنك فقير إنما أعطيتك ذلك لمعنى آخر غير الفقر، ثم قال له:"خذه فتموله". فدل ذلك أيضًا أنه ليس من أموال الصدقات؛ لأن الفقير لا ينبغي له أن يأخذ من
الصدقات ما يتخله مالًا، كان ذلك عن مسألة منه أو غير مسألة، ثم قال:"فما جاءك من هذا المال، الذي هذا حكمه "وأنت غير مشرف" أي: تأخذه لغير إشراف، والإشراف: أن تريد به ما قد نهيتَ عنه، وقد يحتمل قوله: "ولا سرف" أي: ولا تأخذ من الأموال أكثر مما يجب لك فيها، فيكون ذلك سرفًا فيها، "ولا سائل". أي: سائلًا منها ما لا يجب لك.
فهذا أوجه هذا الباب عندنا، والله أعلم.
فأما ما جاء في أموال الصدقات فقد أتينا بمعاني ذلك فيما تقدم من هذا الباب.
ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباح السؤال في الأحاديث المذكورة إذا كان للفقر، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحريم السؤال، فهذا ينافي ما ذكرتم.
وتقرير الجواب أن يقال: إن قوله: "ولا سائل" ليس على أموال الصدقات، وإنما هو على الأموال التي كان الناس يعطونها لا لأجل الفقر وإنما هو لأجل حقوقهم فيها من الأموال التي كانت تقسم على أغنيائهم وفقرائهم، كما كان عمر رضي الله عنه قد فرض لأصحاب رسول الله عليه السلام حين دوَّن الدواوين، وكان قد فرض للأغنياء والفقراء، ولم يخص فقراء دون الأغنياء، فافهم.
ثم إسناد الحديث المذكور صحيح، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع شيخ البخاري، وشعيب هو ابن أبي حمزة دينار الحمصي، روى له الجماعة، والزهري هو محمَّد بن مسلم، روى له الجماعة.
وفيه اجتمعت أربعة من الصحابة وهو أحد الأحاديث التي جاءت كذلك:
الأول: السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة بن الأسود بن عبد الله الكندي ويقال: الأسدي، له ولأبيه صحبة.
الثاني: حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس العامري، وهو من مسلمة الفتح، ومن المؤلفة قلوبهم.
الثالث: عبد الله بن السعدي واسمه عمرو، وقيل: قدامة؛ وقيل له: السعدي لأنه كان مسترضعًا في بني سعد، ويقال: ابن الساعدي، وله صحبة.
وقد وقع في مسلم من رواية قتيبة قال (1): عن ابن الساعدي المالكي.
وقال النووي: قوله: "المالكي" صحيح، منسوب إلى مالك بن حسل بن عامر.
وأما قوله: "الساعدي" فأنكروه عليه وقالوا: صوابه السعدي كما رواه الجمهور، منسوب إلى سعد بن بكر.
وقال المنذري: لم يكن سعديًّا وإنما قيل لأبيه: السعدي لأنه كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر.
وأما الساعدي فنسبة إلى بني ساعدة من الأنصار من الخزرج، لا وجه له ها هنا إلا أن يكون له نزول أو حلفٌ أو خؤلة أو غير ذلك.
الرابع: عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني السائب بن يزيد ابن أخت نمر، أن حويطب بن عبد العزي أخبره، أن عبد الله بن السعدي أخبره: "أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فقال له عمر رضي الله عنه ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس
…
". إلى آخره نحوه.
وأخرجه البخاري (3) ومسلم (1) وأبو داود (4) والنسائي (5) بأسانيد وألفاظ مختلفة، فقال مسلم (1): ثنا هارون بن [معروف](6) قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال:
(1)"صحيح مسلم"(2/ 723 رقم 1045).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 17 رقم 100).
(3)
"صحيح البخاري"(6/ 2620 رقم 6744).
(4)
"سنن أبي داود"(1/ 518 رقم 1647).
(5)
"المجتبى"(5/ 104 - 105 رقم 2606، 2607، 2608).
(6)
في "الأصل، ك": "هارون بن سعيد الأيلي"، والمثبت من "صحيح مسلم"، و"تحفة الأشراف"(8/ 55 رقم 10520)، وهارون بن معروف المروزي، وهارون بن سعيد الأيلي، كلاهما يروي عن ابن وهب.
وحدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "قد كان رسول الله عليه السلام يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرةً مالًا. فقلت: أعطه أفقر إليه مني. فقال رسول الله عليه السلام: خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك".
وحدثني أبو الطاهر (1) قال: أنا ابن وهب، قال عمرو: حدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب بن يزيد، عن عبد الله بن السعدي، عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله عليه السلام.
وقال أبو داود (2): نا أبو الوليد الطيالسي، نا ليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن ابن الساعدي قال:"استعملني عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه، أمر لي بعمالة، فقلت: [إنما عملت لله، وأجري على الله، فقال: خذ ما أعطيت؛ فإني قد عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعملني، فقلت] (3) مثل قولك، فقال لي رسول الله عليه السلام: إذا أعطيت شيئًا من غير أن تسأله فكل وتصدق".
قوله: "ألم أُحدَّث" على صيغة المجهول أي: لم أُخْبَر.
قوله: "العُمَالة" بضم العين هو المال الذي يُعطاه العامل على عمله.
قوله: "وأنت غير مشرف" جملة اسمية وقعت حالًا من الإشراف -بالشين المعجمة- يقال: أشرفت على الشيء: علوته، وأشرفت عليه: اطلعت عليه من فوق.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 723 رقم 1045).
(2)
"سنن أبي داود"(1/ 518 رقم 1647).
(3)
سننه من "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
أراد: ما جاءك منه وأنت غير متطلع إليه، ولا طامع فيه، ولا سائل منه، فخذه ولا ترده لأنه خير ساقه الله إليك من غير سؤال ولا تعب.
قوله: "وما لا فلا تتبعه نفسك" أي: فلا تعلقها بطلبه واتباعه.
قوله: "ولا سرف" بالسين المهملة اسم من الإسراف الذي هو بمعنى التبذير.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: فيه استحباب قبول المال الذي يجيء من غير سؤال.
قال النووي: اختلف العلماء فيمن جاءه مال من غير سؤال هل يجب قبوله أم يُندب؟ على ثلاثة مذاهب حكاها ابن جرير الطبري وآخرون.
الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أنه مستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرهها قوم، والصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في السلطان حرمت، وكذا إن أعطي ما لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ.
وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان وغيره.
وقال آخرون: هو مندوب في عطية السلطان دون غيره.
وقال غيره: اختلف العلماء فيما أمر به النبي عليه السلام عمر من ذلك بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، فقيل: هو أمر ندب من النبي عليه السلام لكل من أعطي عطية، كانت من سلطان أو من عاميّ، صالحًا كان أو فاسقًا، بعد أن يكون ممن تجوز عطيته، حكى ذلك غير واحد، وقيل: ذلك من النبي عليه السلام ندب إلي قبول عطية غير السلطان، فبعضهم منعها وبعضهم كرهها.
وقال آخرون: ذلك ندب لقبول هدية السلطان دون غيره، ورجح بعضهم الأول؛ لأن النبي عليه السلام لم يخصص وجهًا من الوجوه.
الثانى: فيه فضيلة عمر رضي الله عنه وزهده وقلة حرصه على الدنيا والتكثر منها، وإيثار غيره على نفسه.
الثالث: فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على أعمال المسلمين وولاياتهم الدينية والدنيوية من الإمارة والصدقات والقضاء والحسبة وغيرها.
الرابع: فيه دليل على جواز إعطاء الإِمام مَنْ غَيْرُه أفقر منه؛ لوجه رآه من المصلحة. قاله المهلب، والله أعلم.