المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان

‌ص: باب: الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان

ش: أي هذا باب في بيان حكم الصوم بعد انتصاف شعبان إلى أول رمضان، وسمي شهر شعبان بذلك لتشعبهم فيه أي لتفرقهم في طلب المياه، قاله ابن دريد. وفي "المحكم": سمي بذلك لتشعبهم في الغارات.

وقال ثعلب: قال بعضهم: إنما سمي شعبان لأنه شَعَب أي ظهر بين رمضان ورجب، وذكر أبو عمر الزاهد عن ثعلب: كان شعبان شهرًا تتشعب فيه القبائل أي تتفرق لقصد الملوك والتماس العطية، وقيل: إنما سمي به لتشعب الخيرات فيه، وهذا أحسن؛ لأن هذا من الأسماء الإِسلامية، ويقولون: شعبان وشعبانان وشعبانات في الجمع، ويقال: شعابين أيضًا، قاله الأزهري في "التهذيب".

فإن قيل: الصوم في شعبان قد جاء فيه أحاديث صحيحة، ولكن الصلاة التي يصلونها ليلة النصف ما حكمها؟ وهل لها أصل؟ قلت: ذكر أبو الخطاب أن الأحاديث التي في صلاة النصف منه موضوعة، وفيها حديث عند الترمذي مقطوع، وقد قال أهل التعديل والتجريح: ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يصح، وذكر الطرطوشي في كتاب "الحوادث والبدع" عن أبي محمَّد القدسي: لم يكن عندنا ببيت المقدس قط صلاة الرغائب هذه التي تصل في رجب وشعبان، وأول ما حدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وبين الشيخ تقي الدين ابن الصلاح والشيخ عز الدين ابن عبد السلام في هذه الصلاة مقاولات، فابن الصلاح يزعم أن لها أصلًا من السنة، والشيخ عز الدين ينكره.

وأما الوقود في تلك الليلة فزعم ابن دحية أن أول ما كان ذلك زمن يحيى بن خالد بن برمك؛ لأنهم كانوا مجوسًا، فأدخلوا في دين الإِسلام ما يموهون به على

ص: 447

الطعام، ولما اجتمعت بالملك الكامل وذكرت له ذلك؛ قطع دابر هذه البدعة المجوسية من سائر أعمال البلاد المصرية.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان ويعقوب بن إسحاق، قالا: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم القاص، قال: ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام قال:"لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان".

ش: "حَبَّان" بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة بن هلال، روى له الجماعة.

ويعقوب بن إسحاق بن أبي عباد العبدي المصري وثقه ابن يونس، وعبد الرحمن ابن إبراهيم القاص الكرماني قال يحيى: ليس بشيء. وحكى البخاري أنه ثقة.

والعلاء بن عبد الرحمن المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وأبوه عبد الرحمن بن يعقوب المدني، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

وأخرج أبو داود (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا عبد العزيز بن محمَّد، قال:"قدم عباد بن كثير المدينة فمال إلي مجلس العلاء، فأخذ بيده فأقامه، ثم قال: اللهم إن هذا يحدث عن أبيه عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، فقال العلاء: اللهم إن أبي حدثني عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام بذلك.

والترمذي (2): ثنا قتيبة، قال: نا عبد العزيز بن محمَّد، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا".

وابن ماجه (3): أنا أحمد بن عبدة، نا عبد العزيز بن محمَّد، وثنا هشام بن عمار،

(1)"سنن أبي داود"(2/ 300 رقم 2337).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 115 رقم 738).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 528 رقم 1651).

ص: 448

ثنا مسلم بن خالد، قالا: ثنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا حتى يجيء رمضان".

ولما أخرجه الترمذي قال: حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من هذا الوجه على هذا اللفظ.

وحكى أبو داود عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر، قال: وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث به.

ويحتمل أن يكون الإِمام أحمد إنما أنكره من جهة العلاء بن عبد الرحمن؛ فإن فيه مقالا لأئمة هذا الشأن، وقد تفرد بهذا الحديث.

وقال المنذري: والعلاء وإن كان فيه مقال فقد حدث عنه الإِمام مالك مع شدة انتقاده للرجال وتحريه في ذلك، وقد احتج به مسلم في "صحيحة"، وذكر له أحاديث، ويجوز أن يكون تركه لأجل تفرده به، وللحفاظ في الرجال مذاهب يقبل كل منهم ما أدى إليه اجتهاده من القبول والرد.

قوله: "لا صوم بعد النصف" أي: لا صوم مستحب بعد نصف شعبان، وأراد به نفي جنس الصيام من التطوع.

قوله: "حتى رمضان" كلمة "حتى"، ها هنا بمعنى "إلى" التي للغاية، أي: إلى رمضان.

قال الترمذي: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطرًا فإذا بقي شيءٌ من شعبان أخذ في الصوم كحال شهر رمضان، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام ما يشبه قولهم حيث قال:"لا تقدموا شهر رمضان بصيام إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم"(1).

(1)"جامع الترمذي"(3/ 69 رقم 685).

ص: 449

وقد دل هذا الحديث على أن الكراهية على من تعمد الصيام كحال رمضان، وقال الخطابي: يشبه أن يكون حديث العلاء على معنى كراهية صوم يوم الشك أن يكون في ذلك اليوم مفطرًا أو يكون استحباب إجمام الصائم في بقية شعبان ليتقوى بذلك على صوم الفرض في شهر رمضان، كما كره للحاج الصوم بعرفة ليتقوى بالإفطار على الدعاء، وقد قيل: فيه نظرة فإن نصف شعبان إذا أضعفه عن صوم رمضان كان شعبان كله أحرى أن يُضعف، ومع هذا ورد أن النبي عليه السلام كان يصوم شعبان كله.

أخرجه النسائي (1) وغيره (2).

ص: قال أبو جعفر رحمه الله فذهب قوم إلى كراهة الصوم بعد النصف من شعبان إلى رمضان، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وعبد الرحمن بن يعقوب المدني؛ فإنهم قالوا بكراهة الصوم بعد النصف من شعبان، واحتجوا فيه بظاهر الحديث المذكور، وهو مذهب بعض أهل الظاهر، وحمله ابن حزم على اليوم السادس عشر من شعبان.

وقال في "المحلى"(3): ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان أصلًا، ولا لمن صادف يوما كان يصومه، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: والعلاء ثقة روى عنه شعبة وسفيان الثوري ومالك وسفيان بن عيينة ومسعر بن كدام وأبو العميس، وكلهم يحتج بحديثه، فلا يضره غمز ابن معين له، ولا يجوز أن يظن لأبي هريرة مخالفة ما روي عن النبي عليه السلام، ثم قال: وقد كره قوم الصوم بعد النصف من شعبان جملة إلا أن الصحيح المتيقن من مقتضى لفظ هذا الخبر النهي عن الصوم بعد النصف

(1)"المجتبى"(4/ 152 رقم 2186).

(2)

رواه ابن ماجه في "سننه"(1/ 528 رقم 1649)، وأحمد في "مسنده"(6/ 233 رقم 26006).

(3)

"المحلى"(7/ 25).

ص: 450

من شعبان، ولا يكون الصيام في أقل من يوم، ولا يجوز أن يحمل على النهي عن صوم باقي الشهر إذ ليس ذلك بينا، ولا يخلو شعبان من أن يكون ثلاثين أو تسعًا وعشرين، فإن كان ثلاثين فانتصافه بتمام خمسة عشر يومًا، وإن كان تسعًا وعشرين، فانتصافه في نصف اليوم الخامس عشر، ولم ينه إلا عن الصيام بعد النصف، فجعل من ذلك النهي عن صيام السادس عشر بلا شك.

قلت: هذا كلام فيه تخبيط، والنص صريح ينفي الصوم من بعد النصف إلى رمضان بقوله: حتى رمضان، ثم يعتبر اليوم السادس عشر، وتخصيصه بالنهي تحكم باطل، وقول بلا دليل يقبله العقل، فافهم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بصوم شعبان كله وهو غير منهي عنه.

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم مجاهدا والأوزاعي والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا والشافعي وأحمد وأصحابهم وجماهير العلماء من التابعين ومَن بعدهم، فإنهم قالوا: لا بأس بصوم شعبان كله وهو مستحب غير منهي عنه، وروي ذلك عن أنس وأسامة بن زيد وعائشة وأم سلمة وعطاء بن يسار رضي الله عنهم.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني فضيل بن عياض، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر قال:"كان رسول الله عليه السلام يقرن شعبان برمضان".

ش: أي: احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عمر.

وإسناده حسن ورجاله ثقات.

وليث هو ابن أبي سليم، احتج به الأربعة.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده": ثنا محمَّد بن عون، نا فضيل بن عياض

إلى آخره نحوه سواء.

ص: 451

ص: حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم، عن أبي سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:"ما رأيت رسول الله عليه السلام صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان".

ش: إسناده صحيح، وأبو حذيفة موسى بن مسعود شيخ البخاري.

وسالم هو ابن أبي الجعد الكوفي، روى له الجماعة.

وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

وأم سلمة أم المؤمنين اسمها هند بنت أبي أمية.

والحديث أخرجه الترمذي (1): ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن ابن أبي الجعد، عن أبي سلمة، عن أم سلمة

إلى آخره نحوه.

وقال: حديث أم سلمة حديث حسن.

وأخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) أيضًا.

ص: حدثنا محمَّد بن خريمة، قال: ثنا القعنبي، قال: ثنا أبو الغصن ثابت بن زيد، عن أبي سعيد المقبرى، عن أسامة بن زيد قال: "كان رسول الله عليه السلام يصوم يومين من كل جمعة لا يدعهما، فقلت: يا رسول الله رأيتك لا تدع صوم يومين من كل جمعة، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: ذاك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم.

ش: القعنبي هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 113 رقم 736).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 713 رقم 7336).

(3)

"المجتبى"(4/ 150 رقم 2175).

ص: 452

وأبو الغصن ثابت بن قيس الغفاري المدني، وثقه أحمد، وعن يحيى: ليس به بأس. وعنه: ليس بذاك، وهو صالح. وقال ابن حبان: لا يحتج به. روى له أبو داود والنسائي.

وأبو سعيد المقبري اسمه كيسان، والد سعيد الليثي المدني، روى له الجماعة.

وأسامة بن زيد بن حارثة حِبّ رسول الله عليه السلام ومولاه من أبويه.

والحديث أخرجه النسائي (1): أنا عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن ثابت بن قيس -وهو أبو الغصن شيخ من أهل المدينة- قال: حدثني أبو سعيد المقبري، قال: حدثني أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".

ويستفاد منه: فضيلة صوم يوم الإثنين والخميس، وإباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان من غير كراهة؛ لأن النصف لا يخلو من الإثنين والخميس، وعلى أن الأعمال من الخير والشر تعرض في هذين اليومين، وفيه دلالة على استحباب تكثير الخيرات واجتناب المعاصي فيهما وإن كان الاجتناب عنها واجبا في كل الأيام وكل الساعات.

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا ثابت

فذكر بإسناه مثله، وزاد قال:"وما رأيت رسول الله عليه السلام يصوم شهرا ما يصوم من شعبان، فقلت: يا رسول الله، رأيتك تصوم من شعبان ما لا تصوم من غيره من المشهور؟ قال: هو شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

ش: هذا طريق آخر، وهو أيضًا حسن.

(1)"المجتبى"(4/ 201 رقم 2358).

ص: 453

وأخرجه النسائي (1) أيضًا: أنا عمرو بن علي عن عبد الرحمن، قال: نا ثابت بن قيس أبو الغصن -شيخ من أهل المدينة- قال: حدثني أبو سعيد المقبري، قال: حدثني أسامة بن زيد قال: "قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

قوله: "ترفع فيه الأعمال" أي: أعمال بني آدم من الخير والشر والطاعة والمعصية وقد قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (2) أي: في الليلة المباركة، قيل: ليلة النصف من شعبان يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمرهم، منها إلى الأخرى القابلة.

وقيل: يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد، أن ابن الهاد حدثه -يعني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد- أن محمَّد بن إبراهيم حدثه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"ما كان رسول الله عليه السلام يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان، كان يصوم كله إلا قليلًا، بل كان يصومه كله".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود الطيالسي، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، حدثتني عائشة رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام كان لا يصوم من السنة أكثر من صيامه في شعبان، فإنه كان يصومه كله.

(1)"المجتبى"(4/ 201 رقم 2357).

(2)

سورة الدخان، آية:[4].

ص: 454

حدثنا يونس، قال: ثنا بشر، عن الأوزاعي، قال: حدثنى يحيى، قال: حدثنى أبو سلمة، قال: حدثتني عائشة

فذكر مثله.

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي، قال: ثنا أسامة بن يزيد الليثي، قال: ثنا محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال:"سألت عائشة عن صيام رسول الله عليه السلام، قالت: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وكان يصوم شعبان أو عامة شعبان".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح قال: ثنا شعبة، قال: ثنا يزيد، عن معاذة العدوية قالت:"سئلت عائشة: أكان رسول الله عليه السلام يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم، فقيل لها: مِن أيِّه؟ قالت: ما كان يبالي من أي الشهر صامها".

ش: هذه خمس طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن نافع بن يزيد أبي يزيد المصري مولى شرحبيل بن حسنة الكلابي، روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، روى له الجماعة، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث العمي المدني روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة (1) بأسانيد مختلفة وألفاظ متتابعة.

وأخرجه مسلم (2): من حديث ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:"إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله عليه السلام فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله عليه السلام حتى يأتي شعبان، ما كان رسول الله عليه السلام يصوم من شهر ما كان يصوم من شعبان، كان يصومه كله إلا قليلا، بل كان يصومه كله".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 695 رقم 1868)، "صحيح مسلم"(2/ 811 رقم 1156)، "جامع الترمذي"(3/ 113 رقم 736)، و"سنن أبي داود"(2/ 324 رقم 2434)، و "المجتبى"(4/ 199 رقم 2350)، و"سنن ابن ماجه"(1/ 545 رقم 1710).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 803 رقم 1146).

ص: 455

الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله عليه السلام استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان".

وأخرجه مسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى البصري، عن بشر بن بكر التنيسي البجلي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة.

وأخرجه الترمذى (3): ثنا هناد، قال: ثنا عَبدة عن محمَّد بن عمرو، قال: نا أبو سلمة، عن عائشة قالت:"ما رأيت رسول الله عليه السلام يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان".

الرابع: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري ابن أخي عبد الله بن وهب -المعروف ببحشل- عن عمه عبد الله بن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي المدني، عن محمَّد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي المدني، عن أبي سلمة عبد الله.

وأخرجه النسائي (4): أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، قال: ثنا عمي، قال: نا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت:"لم يكن رسول الله عليه السلام لشهر كر صيامًا منه لشعبان، كان يصومه أو عامته".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 695 رقم 1868).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 810 رقم 1156).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 114 رقم 737).

(4)

"السنن الكبرى"(2/ 120 رقم 2663).

ص: 456

الخامس: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن يزيد بن أبي يزيد الضبعي أبي الأزهر البصري المعروف بيزيد الرِّشْك -بكسر الراء وسكون الشين المعجمة وفي آخره كاف- وهو القسام بلغة أهل البصرة، وكان يقسم الدُّور، روى له الجماعة.

عن معاذة بنت عبد الله العدوية أم الصهباء البصرية- روى لها الجماعة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا شيبان بن فروخ، قال: ثنا عبد الوارث، عن يزيد الرشك قال: حدثتني معاذة العدوية: "أنها سألت عائشة زوج النبي عليه السلام: أكان رسول الله عليه السلام يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقلت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيِّ أيام الشهر يصوم".

وأخرجه أبو داود (2) والنسائي (3) أيضًا.

قوله: "بل كان يصومه كله" إضراب عن الأول، أي: بل كان رسول الله عليه السلام يصوم شعبان كله.

وقال ابن المبارك: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره.

قال الترمذي: كأن عبد الله رأى كلا الحدثين متفقين، يقول: إنما معنى هذا الحديث: أنه كان يصوم أكثر الشهر، وقيل: كان يصومه كله في سنة، وبعضه في أخرى، وقيل كان يصوم تارةً من أوله وتارةً من آخره وتارة بينهما لا يخل منه شيئًا بلا صيام، وخصصه بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه الأعمال.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 818 رقم 1160).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 328 رقم 2453).

(3)

كذا في "الأصل، إلى" ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف"(12/ 435 رقم 17966) إلا لمسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والحديث عند الترمذي (3/ 135 رقم 763) وابن ماجه (1/ 545 رقم 1709).

ص: 457

وقال ابن بطال: وقد روي في بعض الحديث أن هذا الصيام كان لأنه كان يلتزم صومه ثلاثة أيام من كل شهر كما قال لابن عمرو، فربما شغل عن صيامها أشهرًا، فيجتمع كل ذلك في شعبان فيدركه قبل رمضان.

وقال ابن الجوزي: وورد في حديث أن النبي عليه السلام سئل عن صومه فيه، فقال:"إن الآجال تكتب فيه، فأحب أن يكتب أجلي وأنا في عبادة ربي".

وقال العلماء: إنما لم يستكمل غير رمضان بالصيام لئلا يظن وجوبه.

فإن قيل: قد جاء في "الصحيح": "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم؟.

قلت: قد قيل: لعله لم يعلم بفضل المحرم إلا في آخر حياته قبل التمكن من صومه، أو لعله كانت تعرض له فيه أعذار من سفر أو مرض أو غير ذلك.

قوله: "أكان" الهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "ما كان يبالي" أي: ما كان يهتم من أي أيام الشهر صامها.

ص: قالوا: ففي هذه الآثار دليل على أن لا بأس بصوم شعبان كله.

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن ابن عمر وأم سلمة وأسامة ابن زيد وعائشة رضي الله عنهم، وفيها دليل واضح على أنه لا بأس بصوم شعبان كله.

ص: وكان من حجة الأولين عليهم: أن الذي روي في هذه الأخبار إنما هو إخبار عن فعله عليه السلام وما قبل ذلك مما فيه النهى إخبارٌ عن قوله: فكان ينبغي أن يصحح الحديثان جميعًا فيجعل ما فعله رسول الله عليه السلام مباحًا له، وما نهى عنه كان محظورًا على غيره، فيكون حكم غيره في ذلك خلاف حكمه حتى يصح الحديثان ولا يتضادان.

فكان من الحجة عليهم في ذلك: أن في حديث أسامة عن رسول الله عليه السلام أنه قال في شعبان: "هو شهر يغفل الناس عن صومه" فدل ذلك أن صومه إياه أفضل من الإفطار.

ص: 458

ش: أي: وكان من حجة أهل المقالة الأولى على أهل المقالة الثانية، وهذا اعتراض منهم يرد على أهل المقالة الثانية، بيانه: أن ما رويتم من الأحاديث التي تدل على أن لا بأس بالصوم في النصف الأخير من شعبان إنما هو إخبار عن فعل رسول الله عليه السلام وحكاية عن حاله.

وما روينا من الحديث الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان إنما هو إخبار عن قوله، فوقع التعارض بينهما، فينبغي أن يصحح الحديثان على وجه يرتفع التضاد والتعارض على ما هو الأصل في ذلك، وذلك بأن يجعل ما هو إخبار عن فعله مباحًا له على الخصوصية، وما فيه إخبار عن نهيه عليه السلام يُجعل محظورًا على غيره، يعني ممنوعًا مكروهًا في حق غيره، فيكون حكم غير النبي عليه السلام في ذلك خلاف حكم النبي عليه السلام.

فبهذا التوفيق يرتفع التضاد.

وأجاب عنه بقوله: "فكان من الحجة عليهم في ذلك

" إلى آخره.

بيانه: أن حديث أسامة بن زيد رضي الله عنها يدل على أن صوم غير النبي عليه السلام أيضًا في شعبان أفضل من الإفطار فيه؛ حيث قال: "هو شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترتفع فيه الأعمال

" الحديث؛ وذلك لأن هذا حث وتحضيض وترغيب أن لا يغفلوا عن صوم شهر شعبان ليكونوا صائمين وقت ارتفاع أعمالهم إلى الله، كما أشار إليه في آخر الحديث: "أحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

فإن قيل: فعلى هذا: التعارض باقٍ ولم يندفع بما ذكرتم.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن حديث أبي هريرة الذي فيه النهي عن الصوم بعد انتصاف شعبان محمول على أنه قد خرج على سبيل الإشفاق على صوَّام رمضان؛ لئلا يدخلهم ضعف في صوم رمضان، وقد مرَّ الكلام فيه مستوفى في أول الباب.

ص: وقد روى عن رسول الله عليه السلام أيضًا ما يدل على ما ذكرنا:

ص: 459

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس، أن النبي عليه السلام قال:"أفضل الصيام بعد رمضان شعبان".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، قال: ثنا يزيد بن هارون، عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس قال:"سئل رسول الله عليه السلام: أيّ الصوم أفضل -يعني بعد رمضان-؟ قال: صوم شعبان؛ تعظيمًا لرمضان".

ش: أي: قد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا ما يدل على أن الصوم في شعبان أفضل من الإفطار، فمن ذلك: حديث أنس، وأخرجه من طريقين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي شيخ البخاري وأبي داود، عن صدقة بن موسى الدقيقي فيه مقال؛ فقال يحيى: ليس حديثه بشيء. وعنه: ضعيف. وكذا ضعفه النسائي وأبو داود.

عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا يزيد بن هارون، قال: أنا صدقة بن موسى، قال: أنا ثابت البناني، عن أنس قال:"سئل رسول الله عليه السلام عن أفضل الصيام، فقال: صيام شعبان تعظيمًا لرمضان".

فإن قيل: قد جاء في الحديث الصحيح: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم"(2) فما التوفيق بين الحديثين؟.

قلت: قد مرَّ الجواب عنه عن قريب عند حديث عائشة رضي الله عنها.

الطريق الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي الكوفي قال أبو زرعة: صدوق. وتكلم فيه النسائي لأجل التشيع، وروى له في "مناقب علي رضي الله عنه" حديثًا واحدًا.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 346 رقم 9763).

(2)

رواه مسلم (2/ 821 رقم 1163)، وأبو داود (2/ 323 رقم 2429)، والترمذي (3/ 117 رقم 740).

ص: 460

عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد، عن صدقة بن موسى

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبدة بن عبد الله، أنا يزيد بن هارون، أنا صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام سئل عن أفضل الصيام، قال: أفضل الصيام صيام شعبان تعظيمًا لرمضان، وأفضل الصدقة صدقة في رمضان".

وهذا الحديث لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا صدقة بن موسى.

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد التيمي، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن مطرف بن عبد الله، عن عمران بن الحصين: "أن رسول الله عليه السلام قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت من رمضان فصم

يومين".

حدثنا أحمد، قال: ثنا عبيد الله، قال: ثنا حماد، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف بن عبد الله -هو ابن الشخير- عن عمران، عن النبى عليه السلام مثله. غير أنه قال:"صم يومًا".

قال أبو جعفر رحمه الله: وهذا في آخر شعبان.

ففي هذه الآثار من أمر رسول الله عليه السلام أمته ما قد وافق فعله.

ش: هذان طريقان صحيحان:

الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد بن حفص التيمي البصري -المعروف بالعيشي والعائشي وبابن عائشة- شيخ أبي داود، وعن أبي حاتم: صدوق ثقة.

عن حماد بن سلمة، عن مطرف بن عبد الله بن الشخيى العامري البصري -روى له الجماعة- عن عمران بن الحصين.

ص: 461

وأخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، قال: نا حماد، عن ثابت، عن مطرف، عن عمران بن حصين:"أن رسول الله عليه السلام قال لرجل: هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: إذا أفطرت فصم يومين".

وأخرجه مسلم (2): ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مطرف -ولم أفهم مطرفًا من هداب- عن عمران بن حصين أن رسول الله عليه السلام قال له أو لآخر:"أصمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين".

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن عبيد الله بن محمَّد التيمي، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجُرَيْري -بضم الجيم وفتح الراء- عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أخيه مطرف بن عبد الله بن الشخير -بكسر الشين وتشديد الخاء المعجمتين- عن عمران بن حصين.

وأخرجه أبو داود (1): عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عمران بن حصين أن رسول الله عليه السلام قال لرجل:"هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومًا".

وهذا الحديث أخرجه البخاري (3) أيضًا: ثنا الصلت بن محمَّد، قال: أنا مهدي، عن غيلان (ح).

وثنا أبو النعمان، نا مهدي بن ميمون، قال: ثنا غيلان بن جرير، عن مطرف، عن عمران بن حصين، عن النبي عليه السلام:"أنه سأله -أو سأل رجلًا وعمران يسمع- فقال: يا أبا فلان أما صمت سرر هذا الشهر؟ قال: أظنه قال: -يعني رمضان- قال الرجل: لا يا رسول الله، قال: فإذا أفطرت فصم يومين" لم يقل الصلت: أظنه يعني رمضان.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 298 رقم 2328).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 820 رقم 1161).

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 700 رقم 1882).

ص: 462

قوله: "من سرر شعبان" السَّرَر -بفتح السنن المهملة والراء- ليلة يستسر الهلال، يقال: سِرار الشهر وسَراره -بالكسر والفتح- وسَرَرَه.

قال ابن الأثير: في الحديث: "صوموا الشهر وسره"، أي: أوله، وقيل: مستهله، وقيل: وسطه، وسِرُّ كل شيء جوفه، فكأنه أراد الأيام البيض، قال الأزهري: لا أعرف السِّرَّ بهذا المعنى، إنما يقال: سِرار الشهر وسَراره وسَرَرَهُ وهو آخر ليلة يستسر الهلال بنور الشمس، ومنه الحديث:"هل صمت من سرار هذا الشهر شيئًا"؟ (1).

وقال القاضي: وأنكر بعضهم ما قال أبو عبيد: إن سرر الشهر آخره حين يستسر الهلال، وقال: لم يأت في صيام آخر الشهر من شعبان حضّ، والسرار من كل شيء وسطه.

وقال أبو داود عن الأوزاعي: سِرُّه: أوله، ولم يعرف الأزهري سره أوله، وقال الهروي: والذي يعرف الناس أن سرَّه آخره، وكذا رواه الخطابي عن الأوزاعي أيضًا من غير طريق أبي داود: سرُّه: آخره.

ويقال: سرارُهُ وسررُه وسرُّه، ويعضد قول من قال: إنه وسطه رواية من روى في الحديث من رواية عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي "سرَّته" وعند شيخنا القاضي الشهيد في حديث ابن أبي شيبة "سُرره" بالضم، ولغيره بالكسر، والسُّرر جمع سرة، وسُرارة الوادي وسطه، وخير موضع فيه، وقال ابن السكيت: سرار الأرض: أكرمها ووسطها، وسرار كل شيء وسطه وأفضله، وقد يكون سِرار الشهر من هذا، أي: أفضل أيامه.

قال القاضي: والأظهر في تصير سرار الشهر أنه آخره بدليل قوله عليه السلام: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يوما أو يومين" والشهر المشار إليه هو شعبان، كذا جاء مفسرا في "الأم" وغيرها، وإن كان وقع في البخاري فيه أنه رمضان، فهو وهم بيِّن

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 115 رقم 222).

ص: 463

من رواته؛ لأن صوم رمضان كله مستحق، ولا يختص بسرره دون غيره، وإن كان السرر أول شعبان أو وسطه لم يفته قضاؤها في بقيته ولم يحتج أن ينتظر تمام صيام رمضان، فالأظهر أنه آخر أيامه على ما قال أبو عبيد، وأكثرهم وإن كان يحتمل ذلك أن النبي عليه السلام قال ذلك في انسلاخه أو بعد تمامه، ولا سيما على رواية "أصمت من سرر شعبان شيئًا".

فإن قيل: هذا الحديث يعارضه ويخالفه قوله عليه السلام: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين".

قلت: قد أجيب عن هذا بأنه محمول على أن الرجل كان ممن اعتاد الصوم في سرر الشهر أو نذر ذلك وخشي أن يكون إذا صام آخر شعبان دخل في النهي فيكون فيما قال عليه السلام دليل على أنه لا يدخل في هذا الذي نهى عنه مِنْ تقدم الشهر بالصوم، وأن المراد بالنهي مَن هو على غير حالته.

وقال الخطابي: كان بعض أهل العلم يقول في هذا: إن سؤاله زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بصوم يوم أو يومين. قال: ويشبه أن يكون هذا الرجل قد أوجبه على نفسه بنذرة فلذلك قال له في سياق الحديث: "إذا أفطرت -يعني من رمضان- فصم يومين" فاستحب له الوفاء بهما.

ص: وقد روي عنه في ذلك أيضًا ما قد حدثنا أبو بكرة، قال حدثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صيامًا فليصمه".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

فذكر مثله.

ص: 464

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا حسين المعلم وهشام بن أبي عبد الله، عن يحيى

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي -يعني يحيى بن صالح- قال: ثنا سليمان ابن بلال، قال: ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا محمَّد بن عمرو

فذكر بإسناده مثله.

فلما قال رسول الله عليه السلام: "إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم فليصمه" دل ذلك على دفع ما قال أهل المقالة الأولى، وعلى أن ما بعد النصف من شعبان إلى رمضان حكم صومه حكم صوم سائر الدهر المباح صومه، فلما ثبت هذا المعنى الذي ذكرنا دل ذلك أن النهى الذي كان من رسول الله عليه السلام في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا في أول الباب لم يكن إلا على الإشفاق منه على صوَّام رمضان، لا لمعنى غير ذلك، وكذلك يؤمر من كان الصوم بقرب رمضان يدخله به ضعف يمنعه من صوم رمضان أن لا يصوم حتى يصوم رمضان؛ لأن صوم رمضان أولى به من صوم ما ليس عليه صومه، فهذا هو المعنى اللي ينبغي أن يحمل عليه معنى ذلك الحديث؛ حتى لا يضاد غيره من هذه الأحاديث.

ش: أي: قد روي عن النبي عليه السلام في عدم كراهة الصوم بعد انتصاف شعبان؛ وذلك لأن قوله: "إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صيامًا فليصمه" فدل على أن ما بعد النصف من شعبان إلى رمضان حكمه في الصوم كحكم الصوم في سائر الأزمان المباح

صومه فإذا كان المعنى على ما ذكرنا؛ دل أن النهي المذكور في حديث

ص: 465

أبي هريرة الذي احتج به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه، وهو منعهم الصوم فيما بعد النصف من شعبان لم يكن إلا لأجل الشفقة على الذين يصومون رمضان كيلا يدخلهم ضعف، ولم يكن لمعنى غير ذلك، والله أعلم.

قوله: "وكذلك يؤمر مَن كان الصوم

إلى آخره" فقوله: "مَنْ" مفعول يؤمر في محل نصب، وهي موصولة، وقوله: "كان الصوم بقرب رمضان يدخله به ضعف" صلته

وقوله: "الصوم"، مرفوع؛ لأنه اسم كان، وقوله:"يدخله" خبره، وقوله:"ضعف" مرفوع؛ لأنه فاعل، والضمير في "يدخله" يرجع إلى "من" وفي قوله:"به إلى الصوم" الباء فيه للسببية، وقوله:"يمنعه" جملة في محل الرفع؛ لأنها صفة لقوله: "ضعف" والباء في قوله: "بقرب رمضان" في محل النصب على الحال من الصوم، وقوله:"أن لا يصوم" أي: بأن لا يصوم، أي: يترك الصوم، وهو يتعلق بقوله:"يؤمر"، وقوله:"حتى يصوم" أي: حتى أن يصوم.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور من سبع طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة

إلى آخره.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أنا وهب بن جرير، قال: ثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تقدموا قبل رمضان يومًا ولا يومين، إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صومًا فليصمه".

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري، عن هشام الدستوائي

إلى آخره.

(1)"سنن الدارمي"(2/ 8 رقم 1689).

ص: 466

وأخرجه البخاري (1): ثنا مسلم بن إبراهيم، نا هشام، نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه، فليصم ذلك اليوم".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن هشام الدستوائي، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

وأخرجه الترمذى (2): نا أبو كريب، قال: نا عبدة بن سليمان، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال النبي عليه السلام: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته؛ فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا".

قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي شيخ الشافعي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن ماجه (3): أنا هشام بن عمار، نا عبد الحميد بن حبيب والوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تقدموا صيام رمضان بيوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فيصومه".

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عَن رَوْح بن عبادة، عن حسين المعلم وهشام الدستوائي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 676 رقم 1815).

(2)

"سنن الترمذي"(3/ 68 رقم 684).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 528 رقم 1650).

ص: 467

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1).

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي، عن سليمان بن بلال القرشي، محمَّد بن عمرو الليثي، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا ابن صاعد وابن غيلان، قالا: ثنا أبو هشام الرفاعي، ثنا أبو بكر بن عياش، ثنا محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا تعجلوا شهر رمضان بيوم ولا بيومين".

السابع: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة (3) من وجوه مختلفة.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام فيما أمر به عبد الله بن عمرو ما يدل على ذلك.

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس -رجل من ثقيف- عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبى عليه السلام: "أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا".

حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم. (ح)

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا رَوْح قال: ثنا شعبة، عن زياد بن الفيَّاض، قال: سمعت أبا عياض، قال: سمعت عبد الله بن عمرو يحدث، عن رسول الله عليه السلام مثله.

(1)"مسند أحمد"(2/ 52 رقم 10765).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 160 رقم 16).

(3)

البخاري (2/ 676 رقم 1815)، ومسلم (2/ 762 رقم 1082)، وأبو داود (2/ 300 رقم 2335)، والترمذي (3/ 69 رقم 685)، والنسائي (4/ 149 رقم 2173)، وابن ماجه (1/ 528 رقم 1650).

ص: 468

حدثنا أبو بكرة وعلي بن شيبة، قالا: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله عليه السلام قال:"أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم نصف الدهر".

حدثنا ابن مرزوق -يعني إبراهيم- قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص:"أنه أتي النبي عليه السلام -يعني فسأله عن الصيام- فقال له: صم يومًا ولك عشرة أيام، قال: زدني يا رسول الله فإن بي قوة، قال: صم يومين ولك تسعة أيام، قال: زدني فإن بي قوة. قال: صم ثلاثة أيام ولك ثمانية أيام".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو قال: قال له رسول الله: "إن من حسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام بكل حسنة عشر أمثالها، فذلك صوم الدهر كله، فشددت على نفسي فشدد علي. فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، فقال: صم صوم نبي الله داود عليه السلام. قلت: وما صوم داود نبي الله؟ قال: نصف الدهر".

حدثنا يونس، قال: ثنا بشر، عن الأوزاعي، قال: ثنا يحيى

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوح بن عبادة، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة، قال: ثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبى سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو قال:"بلغ رسول الله عليه السلام أني أقول: لأصومن الدهر، فقال: صم ثلاثة أيام من كل شهر. قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومين. قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، فذلك صوم داود عليه السلام وهو أعدل الصيام".

حدثنا نصر بن مرزوق، وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال:

ص: 469

حدثني الليث، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، أن سعيدًا أخبره وأبا سلمة، أن عبد الله بن عمرو قال:"أخبر رسول الله عليه السلام .... " فذكر مثله.

حدثنا محمَّد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب ورَوْحٌ، قالا: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة بن هلال -أو هلال بن طلحة- قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: "قال لي رسول الله عليه السلام: يا عبد الله صم ثلاثة أيام من كل شهر {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (1).

قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صُمْ صوم داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا عبد العزيز بن المختار، قال: ثنا خالد الحذاء، قال: حدثني أبو قلابة، قال: حدثني أبو المليح قال: "دخلت مع أبيك زبد بن عمرو على عبد الله بن عمرو بن العاص، فحدثنا أن رسول الله عليه السلام ذكر له صومه، قال: فدخل علي، فألقيت له وسادةً من أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض، وقال لي: إنما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فخمسة أيام، قلت: يا رسول الله، قال: فسبعة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فتسعة أيام. قلت: يا رسول الله، قال: فأحد عشر يومًا. قلت: يا رسول الله، قال: أظنه قال: ثلاثة عشر يومًا. قلت: يا رسول الله، قال: لا صيام فوق صيام داود عليه السلام شطر الدهر، صيام يوم وإفطار يوم".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "قال له رسول الله عليه السلام:

(1) سورة الأنعام، آية:[160].

ص: 470

كيف تصوم؟ قلت: أصوم فلا أفطر. قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى من ذلك. فلم يزل يناقصني وأناقصه حتى قال: صُمْ أحب الصيام إلى الله عز وجل صوم داود عليه السلام صوم يوم وإفطار يوم".

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن قادم، قال: ثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال له رسول الله عليه السلام: "ألم أنبأ أنك تصوم الدهر وتقوم الليل، قال: قلت: إني أقوى، قال: إنك إذا فعلت نفهت له النفس وهجمت له العين، قال: قلت: إني أقوى، قال: فصم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: قلت: إني أقوى، قال: فصم صوم أخي داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى".

حدثنا يونس، قال: ثنا أسد، قال: ثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس -رجلًا من أهل مكة وكان شاعرا، وكان لا يتهم في الحديث- قال: سمعت عبد الله بن عمرو

فذكر مثله.

حدثني أبو أمية، قال: حدثنا سريج، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين ومغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله عليه السلام قال له: "صُمْ من كل شهر ثلاثة أيام

" ثم ذكر مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد الزمان، عن أبي قتادة:"سئل رسول الله عليه السلام عمن يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: ذاك صوم داود عليه السلام، قال: يا رسول الله كيف من يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك".

فلما أباح رسول الله عليه السلام فى هذه الآثار المتواترة صوم يوم وإفطار يوم من سائر الدهر دلك ذلك أن صوم ما بعد النصف من شعبان مما قد دخل في إباحة النبى عليه السلام لعبد الله بن عمرو، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ص: 471

ش: أي: قد روي عن رسول الله عليه السلام في الذي أمر به عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ما يدل على إباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان؛ وذلك لأنه عليه السلام لما أباح فيها صوم يوم وإفطار يوم من سائر أيام الدهر، دل على إباحة الصوم فيما بعد النصف من شعبان؛ لدخوله في تلك الإباحة.

ثم إنه أخرج ما روي عن عبد الله بن عمرو من ستة عشر طريقا:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار المكي، عن عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال "الصحيح".

وهذا الحديث أخرجه الجماعة (1) بطرق مختلفة وألفاظ متباينة.

وبهذا الطريق أخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قال زهير: نا سفيان بن عيينة، عن عمرو -يعني ابن دينار- عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن أحب الصيام إلى الله: صيام داود،

وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يوما".

قوله: "أحب الصيام إلى الله" أي: أكثره ثوابًا وأعظمه أجرًا.

الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن زياد بن فياض الخزاعي الكوفي، عن أبي عياض عمرو بن الأسود العَنْسي الشامي الدمشقي، عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

(1) البخاري (3/ 1257 رقم 3238)، ومسلم (2/ 816 رقم 1159)، وأبو داود (2/ 327 رقم 2448)، والنسائي (3/ 214 رقم 1630)، وابن ماجه (1/ 546 رقم 1712).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 816 رقم 1159).

ص: 472

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن زياد بن فياض، قال: سمعت أبا عياض، عن عبد الله بن عمرو:"أن رسول الله عليه السلام قال له: صم يومًا ولك أجر ما بقي. قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم أفضل الصيام عند الله: صوم داود عليه السلام؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن زياد بن فياض

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2) أيضًا نحوه: ثنا محمد بن مثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن زياد بن فياض

إلى آخره نحو روايته الأولى.

الرابع: عن أبي بكرة بكار وعلي بن شيبة السدوسي، كلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (3) أيضًا: حدثني محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: نا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن عمرو بن أوس أخبره، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبي عليه السلام قال: "أحب الصيام إلى الله: صيام داود عليه السلام؛ كان يصوم نصف الدهر

" الحديث.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 817 رقم 1159).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 817 رقم 1159).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 816 رقم 1159).

ص: 473

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وهذا إسناد صحيح.

وشعيب هو ابن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وثقه ابن حبان، وذكر البخاري وأبو داود وغيرهما أنه سمع من جده عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا حماد. (ح)

قال: وأخبرني زكرياء بن يحيى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا حماد، عن ثابت، عن شعيب بن عبد الله بن عمرو، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام "صم يوما ولك أجر عشرة. فقلت: زدني، فقال: ثم يومين ولك أجر تسعة، قلت: زدني، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ثمانية، قال ثابت: فذكرت ذلك لمطرف، قال: ما أراه إلا يزاد في العمل وينقص في الأجر" اللفظ لمحمد.

السادس: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن حسين بن ذكوان المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (2): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير

إلى آخره نحوه.

قوله: "إن من حسبك أن تصوم" أيْ: إن من كفايتك: صومك من كل شهر ثلاثة أيام.

(1)"المجتبى"(2134 رقم 2396).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 814 رقم 1159).

ص: 474

السابع: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن بشر بن بكر التنيسي الدمشقي، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن عبد الله ابن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البخاري (1): ثنا ابن مقاتل، قال: أنا عبد الله، قال: أبنا الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله ابن عمرو بن العاص قال: قال له رسول الله عليه السلام: "يا أبا عبد الرحمن، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام؛ فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها؛ فإن ذلك صيام الدهر كله، فشددت فشُدِّد عليّ. قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: صم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد. قلت: وما كان صيام نبي الله داود؟ قال: نصف الدهر، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي عليه السلام".

الثامن: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن محمَّد بن أبي حفصة ميسرة البصري، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (2): حدثني أبو الطاهر، قال: سمعت عبد الله بن وهب يحدث، عن يونس، عن ابن شهاب.

وحدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن

(1)"صحيح البخاري"(2/ 697 رقم 1874).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 812 رقم 1159).

ص: 475

عمرو بن العاص قال: "أُخبر رسول الله عليه السلام أنه يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت، فقال رسول الله عليه السلام: أنت الذي تقول ذلك؟ فقلت له: قد قلته يا رسول الله، فقال رسول الله عليه السلام: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قال: قلت: فإني أطيق [أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومين، قال: قلت: فإني أطيق] (1) أفضل من ذلك يا رسول الله، قال: صُمْ يومًا وأفطر يومًا، وذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام. قال: قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك. قال رسول الله عليه السلام: لا أفضل من ذلك. قال عبد الله بن عمرو: لأَنْ أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله عليه السلام، أحب إليَّ من أهلي ومالي".

التاسع: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن عُقَيل -بضم العين وفتح القاف- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عمرو قال:"أُخبر رسول الله عليه السلام أني أقول: والله لأصومن الدهر ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته؛ بأبي أنت وأمي، قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فصم يومًا وأفطر يومًا ذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال النبي عليه السلام: لا أفضل من ذلك".

(1) سقط من "الأصل، إلى" والمثبت من "صحيح مسلم".

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 697 رقم 1875).

ص: 476

العاشر: عن محمَّد بن خزيمة وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن محمَّد بن إبراهيم التيمي المدني، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو.

هذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه النسائي (1): من حديث محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:"دخلت على عبد الله بن عمرو، قلت: أيْ عم، حدثني عمَّا قال لك رسول الله عليه السلام، قال: يا ابن أخي قد كنت أجمعت على أن أجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن في كل يوم وليلة، فسمع بذلك رسول الله عليه السلام، فأتاني حتى دخل عليّ في داري، فقال: إنك قلت: لأصومن الدهر ولأقرأن القرآن؟ فقلت: قد قلت ذلك يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صُمْ من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم من الجمعة يومين الاثنين والخميس. قلت: إني أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم صيام داود عليه السلام، فإنه أعدل الصيام عند الله يومًا صائمًا ويومًا مفطرًا، لأنه كان إذا وعد لم يخلف، وإذا لاقى لم يفر".

الحادي عشر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير ورَوْح بن عبادة، كلاهما عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن طلحة بن هلال العامري -أو هلال بن طلحة- وثقه ابن حبان، عن عبد الله بن عمرو.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه": ثنا عمر بن محمَّد الهمداني، ثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، ثنا محمد بن بكر البُرْساني، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت طلحة بن هلال -رجلًا من بني عامر- سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله عليه السلام: "يا عبد الله بن عمرو صوم ثلاثة أيام صيام الدهر، مَن

(1)"المجتبى"(4/ 211 رقم 2393).

ص: 477

جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. فقلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صُمْ صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا".

وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا أحمد بن محمَّد السوطي، ثنا عفان، نا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن هلال بن طلحة -أو طلحة بن هلال- عن عبد الله بن عمرو

إلى آخره نحوه.

الثاني عشر: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن المختار الدباغ البصري روى له الجماعة، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أبي المليح بن أسامة الهذلي، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة، وأبوه له صحبة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: ثنا خالد، عن خالد، عن أبي قلابة، قال: أخبرني أبو المليح قال: "دخلت مع أبيك على عبد الله بن عمرو، فحدثنا أن رسول الله عليه السلام ذُكِرَ له صومي فدخل عليَّ، فألقيت له وسادةً من أدم، حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه فقال: أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال: قلت: يا رسول الله، قال: خمسًا، قال: قلت: يا رسول الله، قال: سبعًا، قلت: يا رسول الله، قال: تسعًا، قلت: يا رسول الله قال: أحد عشر. ثم قال النبي عليه السلام: لا صوم فوق صوم داود عليه السلام؛ شطر الدهر، صم يومًا وأفطر يومًا".

وأخرجه مسلم (2) والنسائي (3) أيضًا.

قوله: "مع أبيك" خطاب لأبي قلابة واسم أبيه: زيد بن عمرو.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 699 رقم 1879).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 817 رقم 1159).

(3)

"المجتبى"(4/ 215 رقم 2402).

ص: 478

قوله: "وِسَادة" بكسر الواو، وهي المخدة. قال الجوهري: الوساد والوسادة: المخدة والجمع: وسائد ووسد.

قوله: "قال: فخمسة أيام

إلى أخره" في كل هذا دليل على إيثار الوتر ومحبته في جميع الأمور، ثم رجوعه إلى صيام يوم وإفطار يوم فيه الوتر؛ لأنه خمسة عشر يومًا من كل شهر.

وفي هذا الحديث من الفوائد: إكرام الداخل والضيف وذي الفضل وإيثاره، وما كان عليه السلام من التواضع، وأنه كان لا يحب الأثرة.

الثالث عشر: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء بن عمر الغداني شيخ البخاري، عن زائدة بن قدامة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه السائب بن مالك الثقفي الكوفي، عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه الطبراني: ثنا أحمد بن داود المكي، نا أبو معمر المقعد، نا عبد الوارث بن سعيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال:"رآني النبي عليه السلام فدعاني، فقال: في كم تقرأ القرآن؟ قلت: في يومين وليلتين، فقال: بخ، صلّ وارقد وصل، اقرأ في كل شهر، قلت: إني أقوى من ذلك، فناقصني وناقصته حتى بلغ سبعًا، قال: كيف تصوم؟ قلت: أصوم ولا أفطر. فقال: صم وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام. قلت: إني أقوى من ذلك، فناقصني وناقصته، قال: فإن أبيت فصم أحب الصوم إلى الله؛ صوم داود عليه السلام، صم يومًا وأفطر يومًا. فلأن أكون قبلت رخصة رسول الله عليه السلام أحبّ بليَّ من أهلي ومالي".

الرابع عشر: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن قادم الخزاعي الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن أبي العباس السائب بن فروخ المكي الشاعر الأعمى الثقة، عن عبد الله ابن عمرو.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

ص: 479

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، ثنا شعبة، نا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي -وكان شاعرًا وكان لا يتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قال له النبي عليه السلام: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونفهت له النفس، لا صام مَن صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله. قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفرُّ إذا لاقى".

قوله: "ألم أنبأ" على صيغة المجهول أيْ: ألم أُخبر، والهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "نفهت له النفس" أي: أعيت وكلَّت، قال الجوهري: نفهت نفسه -بالكسر- أعيت وكلَّت، والنافه: الكال المعيى من الإبل.

قلت: مادته: (نون وفاء وهاء).

قوله: "وهجمت له العين" أي: غارت ودخلت في موضعها، ومنه الهجوم على القوم وهو الدخول عليهم.

قوله: "ولا يفر إذا لاقى" أي: إذا لاقى الأعداء في الحرب، أراد أنه كان لا يفر من الزحف والقتال.

الخامس عشر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن أسد بن موسى، عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): ثنا عبد الله بن معاذ، قال: حدثني أبي، قال: نا شعبة عن حبيب، سمع أبا العباس، سمع عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله عليه السلام: "يا عبد الله بن عمرو إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له

(1)"صحيح البخاري"(2/ 698 رقم 1878).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 812 رقم 1159).

ص: 480

العين ونهكت، لا صام من صام الأبد، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر كله.

قلت: فإني أطيق أكثر من ذلك، قال: فصم صوم داود عليه السلام وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى".

السادس عشر: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم الطرسوسي، عن سريج -بضم السين المهملة وفتح الراء وفي آخره جيم- بن النعمان الجوهري شيخ البخاري، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي ومغيرة بن مقسم الضبي، كلاهما عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو.

وهذا أيضًا صحيح.

وأخرجه البخاري (1): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا غندر، ثنا شعبة، عن مغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام قال:"صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: صم يومًا وأفطر يومًا، فقال: اقرأ القرآن، في كل شهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فما زال حتى قال: في ثلاث".

وأخرجه النسائي (2) وقال فيما قرأ علينا أحمد بن منيع: قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين ومغيرة، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال رسول الله عليه السلام:"أفضل الصيام: صيام داود عليه السلام، كان يصوم أيومًا، (3) ويفطر يومًا".

وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله عليه السلام.

فأخرجه بإسناد صحيح على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب ابن جرير البصري روى له الجماعة، عن أبيه جرير بن حازم البصري، روى له

(1)"صحيح البخاري"(2/ 698 رقم 1877).

(2)

"المجتبى"(4/ 209 رقم 2388).

(3)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "المجتبى".

ص: 481

الجماعة، عن غيلان بن جرير المعولي البصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن معبد الزماني البصري، روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي قتادة.

وأخرجه مسلم (1) مطولًا: ثنا يحيى التيمي وقتيبة بن سعيد جميعًا، عن حماد

إلى آخره.

وقد ذكرناه في باب: "صوم عاشوراء"، فإن الطحاوي: أخرج هذا الحديث هناك من ثلاث وجوه، وقد حققناه.

قوله: "وددت" أي: أحببت.

"أني طُوقت ذلك" أي: قدرت على ذلك، أي: على صوم يوم وإفطار يومين.

وطوقت على صيغة المجهول.

وقال ابن الأثير: معناه: ليته جُعل داخلًا في طاقتي وقدرتي، ولم يكن عاجزًا في ذلك غير قادر عليه لضعفٍ فيه، ولكن يحتمل أنه خاف العجز للحقوق التي تلزمه لنسائه؛ فإن إدامة الصوم تخل بحظوظهن فيه.

وقال القاضي عياض: قيل: وجهه في حق غيره لا بعجز نفسه فقد كان عليه السلام يواصل ويقول: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" لكن قال هذا لما يلزمه من حقوق نسائه أو يكون هذا التمني لغيره من أمته؛ والله أعلم.

(1) تقدم.

ص: 482