المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الصيام في السفر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الصيام في السفر

‌ص: باب: الصيام في السفر

ش: أي: هذا باب في بيان أحكام الصوم في السفر.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال:"كان رسول الله عليه السلام في سفر فرأى زحامًا، ورجل قد ظلِّل عليه فسأل: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال رسول الله عليه السلام: ليس من البر أن تصوموا في السفر".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شعبة

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن يحيى قال: حدثني محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: ثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "مرَّ النبي عليه السلام برجل في سفر في ظل شجرة يُرَشُّ عليه الماء، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: صائم يا رسول الله، قال: ليس من البر الصيام في السفر، فعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي

إلى آخره.

ورجاله كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، نا شعبة، نا محمَّد بن عبد الرحمن الأنصاري، قال: سمعت محمَّد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:"كان رسول الله عليه السلام في سفر فرأى زحامًا ورجلًا قد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر أن تصوموا في السفر".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 687 رقم 1844).

ص: 324

وأخرجه مسلم (1): عن أبي بكر، عن غندر، عن شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن سعد، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال:"كان رسول الله عليه السلام في سفر فرأى رجلًا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّلَ عليه، فقال: ما له؟ قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله عليه السلام: ليس من البر أن تصوموا في السفر".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شعبة

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن -يعني: ابن أسعد بن زرارة- عن محمَّد بن عمرو بن الحسن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام رأى رجلًا يُظلَّل عليه والزحام عليه، قال: ليس من البر الصيام في السفر".

الثالث: عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني السكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): أخبرني شعيب بن شعيب بن إسحاق، قال: ثنا عبد الوهاب بن سعيد، قال: ثنا شعيب، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني محمَّد بن عبد الرحمن، قال: أخبرني جابر بن عبد الله: "أن رسول الله عليه السلام مر برجل إلى ظل شجرة يُرَش عليه الماء، قال: ما بال صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله صائم، قال: إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 786 رقم 1115).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 317 رقم 2407).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 99 رقم 2566).

ص: 325

قوله: "ليس من البر" أي: ليس من الطاعة والعبادة أن تصوموا في حالة السفر، و"البِرُّ": بكسر الباء الإحسان أيضًا، ومنه بِرُّ الوالدين، يقال: بَرَّ يَبِرُّ فهو بَارٌّ وجمعه بررة، وجمع "البَر" -بفتح الباء- أبرار، والبر بالفتح بمعنى الجيد والخَيِّر، ومنه قوله عليه السلام:"صلوا خلف كل بَرٍّ وفاجر"، ويجيء بمعنى العطوف، وفي أسماء الله: البَرُّ: العطوف على عباده ببره ولطفه، والبَرُّ والبارُّ بمعنى، وإنما جاء في اسم الله تعالى البَرُّ دون البار.

والبَرّ -بالفتح- خلاف البِرِّ أيضًا وجمعه برور، ويقال: إن كلمة "مِنْ" في قوله: "ليس من البر" أي ليس البر، كما في قولهم: ما جاءني من أحد، أي: ما جاءني أحد.

قلت: لا خلاف في زيادة "مِنْ" في النفي، وإنما الخلاف في الإثبات، فأجازه قوم، ومنعه آخرون.

قوله: "ورجل قد ظُلِّلَ عليه" قيل: اسم هذا الرجل أبو إسرائيل، ذكره الخطيب في كتاب "المبهمات".

قوله: "أن تصوموا" في محل الرفع على أنه اسم "ليس"، و"أن" مصدرية، وتقديره: ليس من البر صومكم في السفر، وإذا جعلنا "مِنْ" زائدة يكون البر هو اسم "ليس" وتكون "أن تصوموا" في محل النصب على الخبرية، أي: ليس البر صومكم، فافهم.

قوله: "يُرش عليه" على صيغة المجهول في محل النصب على الحال.

قوله: "ما بال هذا؟ " أي: ما شأنه وما حاله.

قوله: "صائم" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو صائم.

قوله: "برخصة الله" الرخصة في اللغة عبارة عن الإطلاق والسهولة والسعة، ومنه رخص السعر إذا تراجع وخف على الناس، واتسعت السلع وكثرت وسهل وجودها، وفي الشريعة تنبئ عن معناها اللغوي؛ إذ هي الأحكام الثابتة بناء على أعذار العباد تيسيرًا.

ص: 326

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا محمَّد بن مصفى، قال: ثنا محمد بن حرب الأبرش، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه السلام: "ليس من البر الصيام في السفر".

ش: إسناده صحيح.

ومحمد بن مُصفَّى بن بهلول القرشي أبو عبد الله الحمصي شيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، قال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالح. وقال ابن حبان: ثقة وكان يخطئ.

ومحمد بن حرب الخولاني أبو عبد الله الحمصي المعروف بالأبرش كاتب الزُّبَيْدي، روى له الجماعة، والأبرش كناية عن الأبرص وهو من البرش، وهو أن يكون في شعر الفرس نكت صغار تخالف سائر لونه.

وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العمري أبو عثمان المدني، روى له الجماعة.

والحديث أخرجه ابن ماجه (1): عن محمَّد بن المصفى الحمصي .. إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، أخبره عن أم الدرداء، عن كعب ابن عاصم الأشعري الصحابي رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال: "ليس من البر أن

تصوموا في السفر".

حدثنا علي، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم قال: قال رسول الله عليه السلام: "ليس من البر الصيام في السفر".

حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا الحميدي قال: ثنا سفيان، قال: سمعت الزهري يقول: أخبرني صفوان بن عبد الله

فذكر بإسناده مثله.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 532 رقم 1665).

ص: 327

قال سفيان: فذكر لي أن الزهري كان يقول ولم أسمع منه: "ليس من أَمْ بِر أمْ صيام في أمْ سفر".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء الصغرى زوج أبي الدرداء اسمها هجيمة، ويقال: جهيمة، الوصابية، روى لها الجماعة، عن كعب بن عاصم الأشعري الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه النسائي (1): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن الزهري

إلى آخره نحوه. ولفظه: "ليس من البر الصيام في السفر".

الثاني: عن عليّ ورَوْح، عن محمَّد بن أبي حفصة -واسم أبي حفصة ميسرة روى له الشيخان

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا عبد الله بن محمَّد بن حنبل، حدثني أبي، نا روح، قال: ثنا محمَّد بن أبي حفصة

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن محمد بن النعمان السقطي، عن عبد الله بن الزبير بن عيس بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حُميد الحُميدي المكي شيخ البخاري، عن سفيان بن عيينة

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (3): عن معاذ بن المثنى، عن مسدد، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري

إلى آخره.

(1)"المجتبى"(4/ 174 رقم 225).

(2)

"المعجم الكبير"(19/ 175 رقم 397).

(3)

"المعجم الكبير"(19/ 172 رقم 388).

ص: 328

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا ابن أبي شيبة ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم قال: قال رسول الله عليه السلام: "ليس من البر الصوم في السفر".

قوله: "قال سفيان بن عيينة: فذُكِرَ لي" على صيغة المجهول أن محمَّد بن مسلم الزهري كان يقول

إلى آخره. وأشار بهذا إلى لغة طيئ فإنهم يبدلون اللام ميمًا.

وقال الزمخشري: هي لغة طيئ، وذلك في نحو ما روى النمر بن تولب عن رسول الله عليه السلام، وقيل: إنه لم يرو غيره: "ليس من امبر امصيام في امسفر".

قلت: النمر بن تولب بن زهير بن أقيش العكلي، يقال: إنه وقد على النبي عليه السلام بشعر أوله:

إنا أتيناك وقد طال السفر

تطعمنا اللحم إذا عز الشجر

وقال الأصمعي: النمر بن تولب من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإِسلام، وكان شاعرًا مشهورًا والله أعلم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى الإفطار في شهر رمضان في السفر، وزعموا أنه أفضل من الصيام. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار، حتى قال بعضهم: إن صام في السفر لم يجزه الصوم وعليه قضاؤه في أهله، ورووا عن عمر- رضي الله عنه:

حدثنا ابن أبي عقيل، قال: ثنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم، عن عبد الله بن عامر:"أن عمر رضي الله عنه أمر رجلًا صام في السفر أن يعيد".

ورووه عن أبي هريرة:

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال:"صمت رمضان في السفر، فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصيام في أهلي".

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 532 رقم 1664).

ص: 329

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشعبي ومجاهدًا وقتادة وأبا جعفر محمَّد بن علي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: الفطر في السفر أفضل من الصوم. واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة.

وقال ابن العربي: قالت الشافعية: الفطر أفضل في السفر.

وقال أبو عمر: قال الشافعي: هو مخيرَّ، ولم يفضل وكذلك قال ابن علية.

وقال الترمذي (1): قال الشافعي: وإنما معنى قول النبي عليه السلام: "ليس من البر الصوم في السفر"، وقوله حين بلغه أن ناسًا صاموا فقال:"أولئك العصاة"

فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة الله تعالى، فأما مَن رأى الفطر مباحًا وصام وقوي على ذلك فهو أعجب إليَّ.

وقال القاضي: مذهب الشافعي أن الصوم أفضل.

وقال أبو عمر: وروي عن ابن عمر وابن عباس أن الرخصة أفضل. وممن كان لا يصوم في السفر حذيفة، وروي عن ابن عباس من وجوه:"إن شاء صام، وإن شاء أفطر".

قوله: "حتى قال بعضهم" أراد به الحسن البصري والظاهرية، فإنهم قالوا: إن صام في السفر لم يَجُزْ صومه وعليه أن يعيده إذا أقام.

وقال ابن حزم في "المحلى": من سافر في رمضان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية ففرضٌ عليه الفطر إذا جاوز ميلًا أو بلغه أو واراه، وقد بطل صومه حينئذٍ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر، وله أن يصومه تطوعًا، أو عن واجب لزمه، أو قضاء عن رمضان، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره.

وقالت الظاهرية: إذا لم يكن الصوم في السفر من البر يكون من الإثم.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 89 رقم 710).

ص: 330

وقال أبو عمر: يروى ذلك عن عمر وابن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس على اختلاف عنه.

قلت: قد ذكر الطحاوي عن عمر وأبي هريرة.

أما الذي روي عن عمر: فقد أخرجه عن عبد الغني بن رفاعة بن عبد الملك بن أبي عقيل المصري شيخ أبي داود أيضًا، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني فيه مقال، قال أحمد: ليس بذاك. وعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث مضطرب الحديث، ليس له حديث يعتمد عليه. وقال الدراقطني: مدني يترك وهو مغفل. وقال العجلي: لا بأس به. وروى له الأربعة: النسائي في "اليوم والليلة".

وهو يروي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي، وهو أدرك النبي عليه السلام ومات وهو ابن خمس سنين. قال ابن منده: وهو يروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يزيد بن هارون، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن رجل، عن أبيه:"أن رجلًا صام في رمضان في السفر، فأمره عمر- رضي الله عنه أن يعيد".

وأما الذي روي عن أبي هريرة: فأخرجه عن فهد، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن عبد الكريم بن مالك الجزري الحراني، عن عطاء بن أبي رباح، عن المحرَّر -براءين مهملتين الأولى مشددة مفتوحة- عن أبي هريرة.

وهذا إسناد حسن.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): نا الفضل بن دكين، عن زهير، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرر بن أبي هريرة قال:"صمت في رمضان في السفر، فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصيام في أهلي".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 282 رقم 8998).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 282 رقم 8996).

ص: 331

وأما الذي روي عن ابن عمر: فأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): من طريق حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر:"أن امرأة صحبت ابن عمر في سفر، فوضع الطعام فقال لها: كلي. قالت: إني صائمة، قال: لا تصحبينا".

وأما الذي روي عن عبد الرحمن بن عوف: فأخرجه ابن حزم (2) أيضًا: من طريق أبي معاوية، ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر".

ثم قال: هذا إسناد في غاية الصحة.

وأما الذي روي عن ابن عباس: فأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا أبو داود الطيالسي، عن عمران القطان، عن عمار مولى بني هاشم، ابن عباس:"أنه سئل عن رجل صام رمضان في سفر، فقال: لا يجزئه".

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، ولم يفضلوا في ذلك فطرًا على صوم ولا صومًا على فطر.

ش: أي: خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عبد الله بن المبارك والثوري ومالك بن أنس وسليمان الأعمش والشافعي في رواية البعض عنه؛ فإنهم قالوا: المسافر في رمضان مخيرَّ بين الصوم والإفطار ولا يفضل أحدهما على الآخر، ويروى ذلك عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وعائشة وأصحاب ابن مسعود رضي الله عنهم.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى فيما احتجوا به عليهم من قول النبي عليه السلام: "ليس من البر الصيام في السفر": أنه قد يحتمل غير ما حملوه عليه؛ يحتمل ليس من البر الذي هو أبَرُّ البر وأعلى مراتب البر الصوم في

(1)"المحلى"(6/ 257).

(2)

"المحلى"(6/ 257).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 281 رقم 8995).

ص: 332

السفر، وإن كان الصوم في السفر برًّا إلا أن غيره في البر أبَرُّ منه، كما قال عليه السلام:"ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي يستحيي أن يسأل، ولا يجد ما يغنيه، ولا يُفطَن له فيعطَى".

حدثنا بذلك ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عمر الحوضي، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله عن النبي عليه السلام بذلك.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم الهجري

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن أبي الوليد، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام نحوه.

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا علي بن عياش، قال: ثنا ابن ثوبان، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.

فلم يكن معنى قوله: "ليس المسكين بالطواف" على معنى إخراجه إياه من أسباب المسكنة كلها، ولكنه أراد بذلك: ليس هو المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس، ولا يُعْرَفُ فيتصدق عليه، فكذلك قوله:"ليس البر الصيام في السفر" ليس ذلك على إخراج الصوم في السفر من أن يكون برًّا، ولكنه على معنى: ليس من البر الذي هو أبر البر الصوم في السفر؛ لأنه قد يكون الإفطار هناك أبر فيه إذا كان على التَّقْوَي للقاء العدو وما أشبه ذلك، فهذا معنى صحيح، وهو أولى ما حمل عليه معنى هذه الآثار حتى لا تتضاد هي وغيرها مما قد روي في هذا الباب؛ فإنه حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام".

ص: 333

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك وابن جريج، قالا: ثنا ابن شهاب

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا علي، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام مثله، غير أنه قال:"حتى أتى عُسْفان".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا أبو الأسود، عن عكرمة مولى ابن عباس، حدثه عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، فبلغه أن الناس شق عليهم الصيام، فدعى رسول الله عليه السلام بقدح من لبن فأمسكه في يده حتى رآه الناس -وهو على راحلته- حوله، ثم شرب رسول الله عليه السلام فأفطر، فناوله رجلًا إلى جنبه فشرب".

فصام رسول الله عليه السلام في السفر وأفطر.

حدثنا علي، قال: ثنا روح، قال: ثنا حماد، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام سافر في رمضان، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجر، فأخبر النبي عليه السلام بأمره فدعى بإناء، فلما رآه الناس على يده أفطروا".

حدثنا محمد بن خزيمة وفهد، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: ثنا ابن الهاد، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جابر قال:"خرج رسول الله عليه السلام عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس قد شق عليهم الصيام ينظرون فيما بلغت، فدعى بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون، فبلغه أن ناسًا صاموا بعد ذلك، فقال: أولئك العصاة".

ص: 334

حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن قزعة قال:"سألت أبا سعيد عن صيام رمضان في السفر؟ فقال: خرجنا مع رسول الله عليه السلام في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله عليه السلام يصوم حتى بلغ منزلًا من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر، ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال: إنكم تُصَبِّحون عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله عليه السلام، ثم لقد رأيتني أصوم مع رسول الله عليه السلام قبل ذلك وبعد ذلك".

حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا يحيى بن أيوب، قال: ثنا حميد الطويل، أن بكر بن عبد الله حدثه قال: سمعت أنسًا يقول: "إن رسول الله عليه السلام كان في سفر ومعه أصحابه، فشق عليهم الصوم، فدعى رسول الله عليه السلام بإناء فشرب وهو على راحلته، والناس ينظرون إليه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعنيبم، قال: ثنا مالك، عن سمي، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب رسول الله عليه السلام قال:"لقد رأيت رسول الله بالعَرْج في الحرِّ وهو يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر، ثم إن رسول الله عليه السلام لما بلغ الكَدِيدَ أفطر".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: ثنا عطية بن قيس، عن قزعة بن يحيى، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام لليلتين مضتا من رمضان، فخرجنا صوَّامًا حتى بلغ الكديد فأمرنا بالإفطار، فأصبحنا ومنا الصائم ومنا المفطر، فلما بلغنا مر الظهران أعلمنا بلقاء العدو، وأمرنا بالإفطار".

قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذه الآثار إثبات جواز الصوم في السفر، وأن رسول الله عليه السلام إنما كان تركه إياه إبقاءً على أصحابه، أفيجوز لأحد أن يقول في ذلك الصوم أنه لم يكن برًّا لا يجوز هذا؟! ولكنه بر، وقد يكون الإفطار أبر منه إذا كان يراد

ص: 335

به القوة للقاء العدو الذي أمرهم رسول الله عليه السلام بالفطر من أجله، ولهذا المعنى قال لهم النبي عليه السلام:"ليس من البر الصوم في السفر" على هذا المعنى الذي ذكرنا.

ش: أي: وكان من الحجة لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى: في الذي احتجوا به عليهم من قوله عليه السلام: "ليس البر الصيام في السفر" وأراد بها الجواب عن ذلك.

بيانه أن يقال: إن استدلالهم بهذا الحديث لا يتم؛ لأنه ليس المراد من نفي البر نفي نفس البر، وإنما هو نفي أعلي مراتب البر، والمعنى: ليس أبر البر وأعلى مراتب البر الصيام في السفر؛ لأنه وإن كان الصوم في السفر برًّا فقد يكون الفطر أبر منه فيما إذا كان في حج أو جهاد، ليقوى عليه، فيكون هذا من نظير قوله عليه السلام: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان

" الحديث (1)، ومعلوم أن مَن يطوف مسكين، وأنه من أهل الصدقة إذا لم يكن له شيء، وقال عليه السلام: "ردوا المسكين ولو بكراع محرق" (2).

وقالت عائشة رضي الله عنها: "إن المسكين ليقف على بابي

" الحديث (3)، فعلم أن قوله عليه السلام: "ليس المسكين بالطواف" معناه: ليس السائل بأشد الناس مسكنة؛ لأن المتعفف الذي لا يسأل ولا يفطن له فيعطى هو أشد الناس مسكنة، فلم يخرج المسكين بالطواف من أسباب المسكنة كلها، ولكنه خرج عن حد المسكين المتكامل المسكنة الذي لا يسأل الناس ولا يعرف فيتصدق عليه، وكذلك قوله عليه السلام: "ليس من البر الصيام في السفر" ليس معناه إخراج الصوم في السفر من أن يكون برًّا، ولكن معناه: ليس من البر الذي هو أبو البر وأكمله وأتمه الصوم في السفر؛ لأنه قد يكون الإفطار أبو فيه من غيره إذا كان في حج أو جهاد، أو لمن كان يريد أخذ الرخصة التي تصدق الله بها على عبيده، وقد مر الكلام فيه مرةً في

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه"(2/ 719 رقم 1039) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 923 رقم 1646) من حديث أم بجيد.

(3)

أخرجه أحمد في "مسنده"(6/ 382 رقم 27192).

ص: 336

باب: "التسمية على الوضوء"، وقد تكلم ابن حزم (1) في هذا الموضع بكلام سخيف من غير تروي ولا فهم صحيح فقال: وقال بعض أهل الجهل والجرأة على القول بالباطل في الدين معنى قوله: عليه السلام "ليس من البر الصيام في السفر" مثل قوله: عليه السلام "ليس المسكين بهذا الطواف لا هذا تحريف للكلم عن مواضعه، وكذب على رسول الله عليه السلام،وتقويل له ما لم يقل، وفاعل هذا يتبوأ مقعده من النار بنص قوله عليه السلام

إلى غير ذلك من الهذيانات والخرفات.

قلت: هذا الكلام السخيف كله لأجل تمشية مذهبه الباطل، وليس ما ذكروه تحريف للكلم عن مواضعه، وإنما هو تأويل صحيح لأجل التوفيق بينه وبين غيره من الأحاديث التي تعارضه؛ وذلك لأنه رويت أحاديث صحيحة بصوم رسول الله عليه السلام في السفر، فإذا لم يؤول الحديث المذكور بهذا التأويل يقع التضاد بين الأخبار، ودفع التعارض والتضاد مهما أمكن واجب؛ لتصحيح معاني الأخبار والعمل بكلها، وابن حزم حفظ شيئًا وقد غابت عنه أشياء، حيث لم يجوِّز الصوم في السفر، والحال أنه عليه السلام قد صام فيه، وكذلك صام جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

فإن قيل: يجوز أن يكون صومه عليه السلام في رمضان في سفره تطوعًا.

قلت: هذا وإن كان محتملًا ولكنه لم يثبت أنه صام تطوعًا، على أن الأقرب أن صومه كان من رمضان؛ لأنه لا يترك الفرض إلى أيام أخر مع كون الإدراك مظنونًا ويصوم التطوع.

ثم إنه أخرج حديث "ليس المسكين

" إلى آخره في هذا الكتاب في موضعين قبل هذا الموضع:

أحدهما: في باب: "التسمية على الوضوء".

والثاني: في باب: "من صلى خلف الصف وحده".

(1)"المحلى"(6/ 256 - 257).

ص: 337

أما في باب التسمية على الوضوء فقد أخرجه من خمس طرق:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي عمر حفص بن عمر الحوضي شيخ البخاري وأبي داود، عن خالد بن عبد الله الطحان الواسطي، عن إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الكوفي، عن عبد الله بن مسعود.

الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة السوائي، عن سفيان الثوري، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي عليه السلام.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن أبي الوليد عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري نسيب محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه الجماعة (1) غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة.

الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن علي بن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة والشين المعجمة- الحمصي، عن عبد الرحمن بن ثوبان العنسي، عن عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث القرشي المدني، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله عليه السلام.

وهذا الطريق معلول بابن ثوبان؛ لأن يحيى ضعفه، وعنه: لا شيء. وعن النسائي: ليس بثقة. وعن دُحيم: ثقة يرمى بالقدر.

فهذه الأربعة أخرجها بعينها ها هنا فاعتبر ذلك.

الخامس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام.

(1) البخاري (2/ 538 رقم 1409)، ومسلم (2/ 719 رقم 1039)، وأبو داود (2/ 719 رقم 1631)، والنسائي (5/ 85 رقم 2572).

ص: 338

وهذا الطريق غير مذكور في بعض النسخ ها هنا، وفي بعضها موجودٌ وهو الأقرب والأظهر.

وأما في باب: "من صلى خلف الصف وحده" [

] (1).

قوله: "وهو أولى ما حمل عليه" أي المعنى الصحيح الذي ذكره هو أولى ما تحمل عليه هذه الآثار، وأراد بها أحاديث:"ليس المسكين" حتى لا تتضاد هي -أي هذه الآثار- وغيرها من الآثار التي رويت في هذا الباب، أي في باب الصوم والإفطار في السفر؛ وذلك لأنه إذا تأوَّل هذه الآثار بالتأويل الذي ذكره يعارضها ما رواه عبد الله بن عباس وغيره، فيقع بين الأحاديث تعارض وتنافي، فبالتأويل المذكور تتفق معاني الأحاديث الواردة في هذا الباب.

وبيَّن الأحاديث التي فيها الصوم في السفر بقوله: فإنه حدثنا يونس

إلى آخره، أي: فإن الشأن قد حدثنا

إلى آخره.

وأخرج ها هنا عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك ورجل من أصحاب النبي عليه السلام.

أما حديث ابن عباس فأخرجه من ست طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى

إلى آخره.

ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه البخاري (2): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام خرج إلى مكة في رمضان فصام، حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس". والكديد ما بين عسفان

وقديد انتهى".

وليس في روايته: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام".

(1) بيض له المؤلف رحمه الله، فراجعه هناك.

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 686 رقم 1842).

ص: 339

وهو في رواية مسلم (1): ثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح، قالا: أنا الليث.

وثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه أخبره: "أن رسول الله عليه السلام خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر. قال: وكان صحابة رسول الله عليه السلام يتبعون

الأحدث فالأحدث من أمره".

وحدثئا (2) يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن الزهري، بهذا الإسناد مثله.

قال يحيى: قال سفيان: لا أدري من قول مَن هو. يعني كان يؤخذ بالآخِر من قول رسول الله عليه السلام.

وحدثئي (1) محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، بهذا الإسناد.

قال الزهري: وكان النظر آخر الأمرين، وإنما يؤخذ من أمر رسول الله عليه السلام بالآخر فالآخر. قال الزهري: فصبح رسول الله عليه السلام مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان.

وحدثني حرملة بن يحيى قال (3): أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث.

قال ابن شهاب: "فكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام ويرونه الناسخ المحكم" انتهى.

وقال القاضي عياض في "شرح مسلم": قال ابن شهاب: وكانوا يتبعون الأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام. وقد بيَّن في حديث أبي رافع أنه من كلام ابن شهاب، وفسر فيه ما أبهمه ابن عيينة من قوله: لا أدري من قول مَن هو؛

(1)"صحيح مسلم"(2/ 784 رقم 1113).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 784 رقم 1113).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 785 رقم 1113).

ص: 340

ولذلك أدخل مسلم هذا الطريق المفسر بعد حديث ابن عيينة؛ تفسيرًا لمبهمه، وهو دليل إحسانه في التأليف.

قال الإِمام أبو عبد الله: يحمل قول ابن شهاب على أن النسخ في غير هذا الموضع، وإنما أراد أن الأواخر من أفعاله عليه السلام تنسخ الأوائل إذا كان مما لا يمكن فيه البناء، إلا أن يقول قائل: إنه من ابن شهاب ميل إلى القول بأن الصوم لا ينعقد في السفر، فيكون كمذهب بعض أهل الظاهر، وهو غير معروف عنه.

الثاني: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وعبد الملك بن جريج، كلاهما عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أبنا خالد بن مخلد، نا مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال:"خرج رسول الله عليه السلام عام الفتح فصام وصوّم الناس، حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من فعل رسول الله عليه السلام".

الثالث: عن علي بن شيبة أيضًا

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"سافر رسول الله عليه السلام في رمضان فصام حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فيه شراب فشربه نهارًا ليراه الناس، ثم أفطر حتى دخل مكة. قال ابن عباس: فصام رسول الله عليه السلام وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر".

وأخرجه البخاري (3) نحوه.

قلت: فهذا كما ترى عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. وكذا

(1)"سنن الدارمي"(2/ 16 رقم 1708).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 785 رقم 1113).

(3)

"صحيح البخاري"(4/ 1559 رقم 4029).

ص: 341

وقع في رواية أبي داود والنسائي. ورواية الطحاوي عن مجاهد عن ابن عباس بدون ذكر طاوس بينهما.

وكذا أخرجه البزار "مسند"، ثم قال: وقد روي عن ابن عباس من غير هذا الوجه بغير هذا الإسناد وبغير هذا اللفظ.

الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، قال: نا أبو عوانة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"خرج النبي - عليه لسلام - من المدينة إلى مكة حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فرفعه إلى يده ليريه الناس، وذلك في رمضان. فكان ابن عباس يقول: قد صام النبي عليه السلام وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر".

الخامس: عن فهد، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (2): أخبرنا محمَّد بن قدامة، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"سافر رسول الله عليه السلام في رمضان حتى بلغ عُسْفان، ثم دعى بإناء فشرب نهارًا يراه الناس ثم أفطر".

السادس: عن ربيع بن سليمان الجيزي شيخ أبي داود والنسائي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده" مختصرًا، ولفظه: عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم في السفر ويفطر".

وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين:

(1)"سنن أبي داود"(2/ 316 رقم 2404).

(2)

"المجتبى"(4/ 184 رقم 2291).

ص: 342

الأول: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه الحكم في "مستدركه"(1): أخبرني عبد الله بن الحسن القاضي بمرو، ونا الحارث بن أبي أسامة، ثنا يزيد بن هارون، أنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام سافر في رمضان، فاشتد الصوم على رجل من أصحابه، فجعلت راحلته تهيم به تحت الشجرة، فأُخبر النبي عليه السلام بأمره، فأمره أن يفطر، ثم دعى النبي عليه السلام بإناء فوضعه على يده ثم شرب والناس ينظرون".

هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وأخرج أحمد في "مسنده"(2): ثنا روْح، ثنا زكرياء، ثنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:"كنا مع النبي عليه السلام في غزوة غزاها وكان في رمضان، فصام رجل من أصحاب النبي عليه السلام فضعف ضعفًا شديدًا وكاد العطش أن يقتله، وجعلت ناقته تدخل تحت العضاه، فأُخبر به النبي عليه السلام فقال: ائتوني به، فأتي به فقال: ألستَ في سبيل الله ومع رسول الله؟ أفطر، فأفطر".

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد وفهد بن سليمان، كلاهما عن عبد الله بن صالح وراق الليث، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب المدني الصادق، عن أبيه محمَّد بن علي الباقر، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه مسلم (3): حدثني محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب -يعني: ابن عبد المجيد- قال: ثنا جعفر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله عليه السلام خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم

(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 598 رقم 1582).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 329 رقم 14569).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 785 رقم 1114).

ص: 343

دعى بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة".

وأما حديث أبي سعيد الخدري، فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني وثقه يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حدير الحمصي قاضي الأندلس روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

عن ربيعة بن يزيد الدمشقي أبي شعيب الإيادي القصير روى له الجماعة، عن قزعة بن يحيى -ويقال: ابن الأسود- أبي غادية البصري روى له الجماعة، عن أبي سعيد سعد بن مالك الخدري.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا أحمد بن صالح ووهب بن بيان -المعنى- قالا: نا ابن وهب، قال: حدثني معاوية، عن ربيعة بن يزيد، أنه حدثه عن قزعة قال:"أتيت أبا سعيد الخدري وهو يفتي الناس وهو مكثور عليه، فانتظرت خلوته، فلما خلى سألته عن صيام رمضان في السفر، فقال: خرجنا مع رسول الله عليه السلام في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله عليه السلام يصوم ونصوم، حتى بلغ منزلا من المنازل فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال: ثم سرنا فنزلنا منزلًا فقال: إنكم تصبِّحون عدوكم والفطر أقوى لكم، فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله عليه السلام. قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي عليه السلام قبل ذلك وبعد ذلك".

وأخرجه مسلم (2): عن محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن قزعة، عن أبي سعيد، نحوه.

الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى التنوخي أبي محمَّد الدمشقي، فقيه الشام

(1)"سنن أبي داود"(2/ 316 رقم 2406).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 789 رقم 1120).

ص: 344

ومفتيهم بعد الأوزاعي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

عن عطية بن قيس الكلابي أبي يحيى الحمصي الدمشقي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن قزعة بن يحيى المذكور آنفًا، عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري قال: "أمرنا رسول الله عليه السلام بالرحيل عام الفتح في ليلتين خلتا من شهر رمضان، فخرجنا صُوَّامًا حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله عليه السلام بالفطر فأفطرنا أجمعين.

وفي رواية أبي يوسف التنيسي عن سعيد: "حتى إذا بلغ الظهران آذنا بلقاء العدو، وأمرنا بالفطر، فأصبح الناس شَرْجين، منهم الصائم والمفطر، حتى إذا بلغنا المنزل الذي نلقى العدو فيه أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعين".

وأخرجه الترمذي (2) من طريق ابن المبارك عن سعيد وصححه.

وأما حديث أنس رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن حُميد بن أبي حميد الطويل البصري روى لي المجاعة، عن بكر بن عبد الله المزني البصري روى له الجماعة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

وأما حديث رجل من أصحاب النبي عليه السلام فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم ابن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري وأبي داود، عن مالك بن أنس، عن سمي القرشي المخزومي أبي عبد الله المدني روى له الجماعة، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي المدني أحد الفقهاء السبعة بالمدينة قيل: اسمه محمَّد، وقيل: اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن روى له الجماعة، عن رجل من أصحاب النبي عليه السلام.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 241 رقم 7937).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 198 رقم 1684).

ص: 345

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث مالك، عن سمي، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله عليه السلام:"أن النبي عليه السلام أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر وقال: تقووا لعدوكم، وصام النبي عليه السلام. قال أبو بكر: قال الذي حدثني: لقد رأيت النبي عليه السلام بالعَرْج يصب فوق رأسه الماء من العطش أو من الحر، فقيل: يا رسول الله إن طائفة من الناس صاموا حين صمت، فلما كان بالكديد دعى بقدح فشرب، فأفطر الناس".

ثم نتكلم في معاني الأحاديث المذكورة وما يستنبط منها من الأحكام:

الأول: فقوله: "عام الفتح" أي فتح مكة، كان في سنة تسع من الهجرة.

قوله: "حتى بلغ الكديد" بفتح الكاف وهي عين جارية، بها نخيل كثيرة، بينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلًا، وفي رواية البخاري:"إن الكديد ما بين عُسفان وقديد"، وعُسفان: قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلًا من مكة؛ سميت بها لتعسف السيول فيها.

"وقُدَيد": بضم القاف وفتح الدال موضع قريب من عُسْفان فكأنها في الأصل تصغير قِدّ، قال القاضي: قال في رواية: "حتى بلغ الكديد"، وفي رواية:"حتى بلغ عُسفان"، وفي الأخرى:"حتى بلغ كراع الغميم" وهذا كله في سفر واحد في غزاة الفتح، وسميت هذه المواضع في هذه الأحاديث لتقاربها، وإن كانت عسفان متباعدة شيئًا عن هذه المواضع، فكلها مضافة إليها، ومن عملها، فاشتمل عليها اسمُها، وقد يكون أنه كلَّم الناس بحال الناس ومشقة ذلك عليهم، وكان فطرهم بالكديد، ويعضده ما جاء في حديث "الموطأ":"فقيل لرسول الله عليه السلام: إن ناسًا صاموا حين صمتَ. فلما كان بالكديد دعى بقدح فأفطر الناس".

و"الغميم": بفتح الغين المعجمة وادي أمام عسفان بثمانية أميال، يضاف إليها هذا الكراع، وهو جبل أسود متصل به.

(1)"السنن الكبرى للبيهقي"(4/ 242 رقم 7939).

ص: 346

و"الكراع": كل أنفٍ سال من جبل أو حرة.

قوله: "تهيم به تحت الشجر" أي: تتقلب به حتى تدخل تحت الشجر من عدم تماسكه، ومنه الرمل الأهيم وهو الذي لا يثبت ولا يتماسك.

وفي رواية أحمد: "وجعلت ناقته تدخل تحت العِضَاه" وهو كل شجر ذي شوك، واحده عضة (1)، حذفت منه الهاء كَشِفَّه، ردت في الجمع فقالوا: عِضاه كما قالوا: شفاه، ويقال: عضاهه أيضًا وعضهة أيضًا.

قوله: "أولئك العصاة" جمع عاصي كالقضاة جمع قاضي.

قوله: "فكانت عزيمةً من رسول الله عليه السلام" أي: وقعت عزيمة منه، أو وجدت، فتكون "كانت" تامة، فلهذا لا تحتاج إلى خبر.

قوله: "ثم لقد رأيتني" بضم التاء أي: لقد رأيت نفسي.

قوله: "بالعَرْج" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم، وهي قرية جامعة من عمل الفرع، على أيام من المدينة، وأيضًا العرج: عقبة بين مكة والمدينة على جادة الحاج، وهذه هي المرادة ها هنا، والعرج أيضًا: بلد بين المحالب والمهجم.

قوله: "صُوَّامًا" بضم الصاد وتشديد الواو: جمع صائم، وانتصابه على الحال من الضمير الذي في "فخرجنا".

قوله: "مُرّ الظهران" بضم الميم وتشديد الراء، وهي التي يقال لها: بطن مُرّ أيضًا، وهي موضع قريب من مكة على طريق الحاج.

قوله: "شَرْجين" بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح الجيم، معناه نصفين نصف صيام ونصف مفاطير.

والثاني: وهو الأحكام على وجوه: الأول: في أحاديث ابن عباس بيان صريح أنه عليه السلام صام في السفر، وفيها ردّ على

(1) في "النهاية"(3/ 255): الواحدة: عِضَةٌ، وأصلها: عِضَهَةٌ، وقيل: واحدته: عِضاهة، وعَضَهْتُ العِضَاة إذا قطعتها.

ص: 347

من لم يجوز الصوم في السفر، وفيها بيان إباحة الإفطار في السفر، وفيها أن الاتباع في أفعال النبي عليه السلام وأقواله بالأحدث فالأحدث، وبالآخِر فالآخر.

الثاني: من حديث جابر، استدل به من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر، وكذلك استدل به ابن حزم حتى قال: إن كان صومه لرمضان فقد نسخه بقوله: "أولئك العصاة" وصار الفطر فرضًا، والصوم معصيةً، ولا سبيل إلى خبر ناسخ لهذا، وإن كان صومه تطوعًا فهذا أحرى للمنع من صيام رمضان لرمضان في السفر.

قلنا: هذا تخبيط؛ فليس ها هنا نسخ ولا فرضية الفطر ولا صوم النبي عليه السلام كان تطوعًا، وإنما قال:"أولئك العصاة"؛ لأن الصوم كان قد شق عليهم فأمرهم بالإفطار دفعًا لتلك المشقة، فصار الصوم في ذلك الوقت في تلك الحالة منهيًّا عنه، فلما بلغه أن بعضهم قد صاموا قال: أولئك العصاة؛ لارتكابهم المنهيّ، ويؤيد هذا التأويل قوله:"إن الناس قد شق عليهم الصيام".

الثالث: في حديث أبي سعيد أمور منها: أن فيه ردًّا على من يقول: إنه إذا أنشأ السفر في رمضان لم يَجُز له أن يُفطر، واحتجوا بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1).

وقال البخاري: ومعنى الآية شهود الشهر كله ومن شهد بعضه ولم يشهد كله فإنه لم يشهد الشهر. ومنها قال القاضي: فيه بيان جواز الفطر لمن بيَّت الصوم في السفر. وهو قول مطرف من أصحابنا واحد قولي الشافعي خلافًا للجمهور في أن ذلك لا يباح له، واستدل هؤلاء على جواز ذلك بفطر النبي عليه السلام.

وأجاب الجمهور عن ذلك أنه يحتمل أن يكون عليه السلام قد بيَّت الفطر.

وقال القاضي: وظاهره غير ذلك، وأنه ابتدأ الفطر حينئذٍ، وقد يحتمل أنه للضرورة اللاحقة به وبهم، والشقة التي نالتهم، أو فعل هو وهم ذلك لضرورة

(1) البقرة، آية:[185].

ص: 348

التَّقَوِّي على عدوهم كما جاء في الحديث أيضًا منصوصًا، فلا يكون هذا بحكم الاختيار.

وقال المهلب: يحتمل أن يكون فطرهم في يومهم بعد تبييتهم الصوم، ويحتمل أن يكون فيما يأتي ويستقبلون بعد يومهم ويبيِّنون فطرهم.

قال القاضي: ثم اختلف المانعون للفطر بعد عقد الصوم فيه: هل عليه كفارة أم لا؟ وعن مالك وأصحابه في ذلك قولان، وبسقوط الكفارة قال جمهور أصحابه وكافة أئمة الفتوى وعلماء الأمصار. وفرَّق ابن الماجشون في فطره فأوجب الكفارة إن كان بجماع، وأسقطها بغيره، وهو أحد قولي الشافعي على أصله في أنه لا يكفر إلا المجامع.

وكذلك اختلفوا في يوم خروجه:

فذهب مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وجمهور العلماء أنه لا يفطر إذا خرج صائمًا ولا يوم خروجه وقد لزمه الصوم، وقد ذهب بعض السلف وأحمد وإسحاق والمزني إلى جواز ذلك له.

وقال الحسن: له الفطر في بيته إذا أراد السفر في يومه. واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه عندنا في هذين الوجهين إنْ هو أفطر قبل خروجه أو هو أفطر بعده.

ومنها أن فيه جواز الصوم في السفر ردًّا على مَن منعه.

الرابع: في حديث رجل من أصحاب النبي عليه السلام جواز صبّ الماء على رأسه في نهار الصوم، وأن ذلك لا يضر صومه، والله أعلم.

ص: فإن قال قائل: إن فِطر رسول الله عليه السلام وأمَره أصحابه بذلك بعد صومه وصومهم الذي لم يكن ينهاهم عنه ناسخٌ لحكم الصوم في السفر أصلًا.

قيل له: وما دليلك على ما ذكرت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي قد ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا أنه كان يصوم مع رسول الله عليه السلام في السفر بعد ذلك؟ فدل هذا الحديث على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي عليه السلام المذكور في هذه

ص: 349

الآثار مباحًا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وهو أحد من رُوي عنه في إفطار النبي عليه السلام ما ذكرنا.

ما حدثنا يونس، قال: ثنا علي بن معبد، قال: حدثني عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم بن مالك، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"إنما أراد عز وجل بالفطر في السفر التيسير عليكم، فمن يُسِّر عليه الصيام فليصم، ومَن يُسِّر عليه الفطر فليفطر".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن شاء صام وإن شاء أفطر".

فهذا ابن عباس لم يجعل إفطار النبي عليه السلام في السفر بعد صيامه فيه ناسخًا للصوم في السفر، ولكنه جعله على جهة التيسير.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إن فطر رسول الله عليه السلام في سفره بعد صومه، وأمَره أيضًا للناس بالفطر بعد صومهم يدلان على أن الصوم في السفر منسوخ.

وهذا السؤال من جهة مَن يقول بعدم جواز الصوم في السفر، وهو قول الظاهرية أيضًا، ولهذا صرَّح ابن حزم بانتساخ حكم الصوم في السفر.

وتقرير الجواب أن يقال: لا نسلِّم صحة دعوى النسخ، وما دليلك على هذا؟ بل الدليل يدل على أن الصوم في السفر بعد إفطار النبي عليه السلام فيه مباح، وذلك قول أبي سعيد الخدري في حديثه الذي رواه عنه قزعة بن يحيى المذكور عن قريب: "ثم

لقد رأيتني أصوم مع رسول الله عليه السلام قبل ذلك وبعد ذلك".

قوله: "بعد ذلك" يدل على أنه كان يصوم مع النبي عليه السلام بعده إفطاره عليه السلام في السفر وأمره الناسَ بذلك؛ فدل على أن حكم الصوم في السفر باقٍ، وأنه غير منسوخ.

ثم أكد ذلك بقوله: وقد قال ابن عباس وهو أحد من روي عنه.

أي: والحال أنه أحد من روي عنه في إفطار النبي عليه السلام ما ذكرنا.

ص: 350

وهو الذي أخرجه من طرق عديدة فيها إفطار النبي عليه السلام في السفر.

قوله: "ما حدثنا يونس" مَقول القول، أي: وقد قال ابن عباس ما حدثنا يونس ابن عبد الأعلى، عن عليّ بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقي روى له الجماعة، عن عبد الكريم بن مالك الجزري روى له الجماعة، عن طاوس بن كيسان اليماني روى له الجماعة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه الجصاص في "أحكامه"(1): من رواية عبد الكريم، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"لا يُعْتب (2) على من صام ولا على من أفطر؛ لأن الله تعالى قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (3) ".

والأثر الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه البخاري (4) ومسلم (5): من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"سافر رسول الله عليه السلام في رمضان حتى بلغ عُسفان، ثم دعى بإناء من ماء فشرب نهارًا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، فكان ابن عباس يقول: صام رسول الله عليه السلام في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومَن شاء أفطر".

وقد أخرجه الطحاوي أيضًا فيما مضى.

فهذا ابن عباس رضي الله عنهما لم يجعل إفطار النبي عليه السلام في السفر بعد صيامه فيه -أي في السفر- ناسخًا للصوم في السفر، ولكن جعله على جهة التيسير، وأخبر في أثره المذكور أن اليسر المذكور فيه أُريد به التخيير، فلولا احتمال الآية لما تأولها عليه.

(1)"أحكام القرآن"(1/ 265).

(2)

كذا في "الأصل، ك" وفي "أحكام القرآن" للجصاص، و"مصنف عبد الرزاق" (2/ 570 رقم 4498):"نعيب".

(3)

سورة البقرة، آية:[185].

(4)

"صحيح البخاري"(4/ 1559 رقم 4029).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 785 رقم 1113).

ص: 351

وقال الجصاص: في هذه الآية دلالة واضحة على أن الإفطار في السفر رخصة يسر الله بها علينا، ولو كان الإفطار فرضًا لازمًا لزال فائدة قوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1). لأن قوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} يدل على أن المسافر يتخير بين الإفطار وبين الصوم، كقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2)، وقوله:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (3) فكل موضع ذكر فيه التيسير ففيه الدلالة على التخيير.

ص: فإن قال قائل: فما معنى قول ابن عباس في حديث عبيد الله بن عبد الله الذي ذكرته عنه في ذلك: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام"؟.

قيل له: معنى ذلك عندنا -والله أعلم- أنهم لم يكونوا علموا قبل ذلك أن للمسافر أن يُفطر في السفر كما ليس له أن يُفطر في الحضر، وكان حكم الحضر والسفر في ذلك عندهم سواء، حتى أحدث لهم رسول الله عليه السلام ذلك الفعل الذي أباحه لهم من الإفطار في أسفارهم، فأخذوا بذلك على أن لهم الافطار على الإباحة، ولهم ترك الإفطار.

فهذا معنى حديث ابن عباس هذا، ويدلك على ذلك ما قد ذكرناه عنه من قوله الذي وصفنا، وقد ذكرنا عن أنس بن مالك ما يدل على أن معنى ذلك عنده مثل معناه الذي ذكرناه عن ابن عباس.

حدثنا إبراهيم بن محمَّد بن يونس، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن عاصم -وهو الأحول- قال:"سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن صوم شهر رمضان في السفر، فقال: الصوم أفضل".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن عاصم، عن أنس قال:"إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فالصوم أفضل".

(1) سورة البقرة، آية:[185].

(2)

سورة المزمل، آية:[20].

(3)

سورة البقرة، آية:[196].

ص: 352

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عاصمًا يحدث، عن أنس قال:"إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم أفضل".

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقولون بأن حكم الصوم في السفر باق وأنه مباح، وقد روي في حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله عليه السلام خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام.

فهذا يدل على أن الفطر آخر الأمرين، وأنهم أخذوا به، فيكون ناسخًا لحكم الصوم الذي كانوا يصومونه في السفر.

وتقرير الجواب أن يقال: إن معنى قوله: "وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله عليه السلام" ليس مثل ما فهمتم من كونه دالًّا على النسخ، وإنما معناه أنهم لم يكونوا عالمين قبل ذلك بعدم إباحة الإفطار للمسافر كما كان ذلك غير مباح للمقيم، وكان حكم السفر والإقامة في ذلك سواء عندهم، حتى أحدث لهم رسول الله عليه السلام ذلك الفعل الذي أباحه لهم من الإفطار في السفر؛ فأخذوا بذلك، على أن لهم الإفطار على الإباحة ولهم ترك الإفطار.

قوله: "ويدل على ذلك ما قد ذكرناه عنه" أي: ويدل على ما ذكرنا من المعنى ما قد ذكرناه عن ابن عباس من قوله: "إنما أراد عز وجل بالفطر في السفر التيسير عليكم، فمن يُسِّر عليه الصيام فليصم، ومن يُسِّر عليه الفطر فليفطر".

قوله: "وقد ذكرنا عن أنس بن مالك، عن النبي عليه السلام في ذلك قريبًا مما ذكرناه عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام" وأراد به ما رواه بكر بن عبد الله المزني، عن أنس: "أن رسول الله عليه السلام كان في سفر ومعه أصحابه، فشق عليهم الصوم

" الحديث، وقد مَرَّ عن قريب، ومعنى هذا قريب من معنى حديث ابن عباس؛ لأن فيه أن النبي عليه السلام طلب الإناء وشرب وهو على راحلته.

فهذا يدل على أنه أحدث لهم حكم إباحة الإفطار في السفر؛ لأنهم كانوا عالمين بذلك.

ص: 353

قوله: "ثم قد روي عن أنس ما يدل على أن معنى ذلك عنده" أي: ما يدل على أن معنى ما رواه عن النبي عليه السلام عنده مثل معنى ما روي عن ابن عباس من التخيير بين الصوم والإفطار في السفر.

وبَيَّنَ ذلك بقوله: "حدثنا إبراهيم بن محمَّد

" إلى آخره.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن محمَّد بن يونس مولى عثمان بن عفان، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

الثاني: عن فهد، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين، عن الحسن بن صالح بن صالح بن حي الكوفي، عن عاصم الأحول، عن أنس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو معاوية ومروان بن معاوية، عن عاصم قال:"سئل أنس عن الصوم في السفر، فقال: من أفطر فرخصة، ومن صام فالصوم أفضل".

الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن عاصم الأحول، عن أنس.

ص: وكان مما احتج به أيضًا أهل المقالة الأولى في رفعهم الصوم في السفر ما قد ذكرنا في غير هذا الموضع من قول رسول الله عليه السلام: "إن الله قد وضع عن المسافر الصيام".

قالوا: فلما كان الصيام موضوعًا عنه كان إذا صامه فقد صامه وهو غير مفروض عليه فلا يجزئه.

فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون ذلك الصيام

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 280 رقم 8974).

ص: 354

الذي قد وضعه عنه هو الصيام الذي لا يكون له منه بُدّ في تلك الأيام كما لابُدّ للمقيم من ذلك.

وفي هذا الحديث ما دلَّ على هذا المعنى، ألا تراه يقول:"وعن الحامل والمرضع"، أفلا ترى أن الحامل والمرضع إذا صامتا رمضان أن ذلك يُجزئهما، وأنهما لا يكونان كمن صام قبل وجوب الصوم عليه، بل جُعِلَتا يجب الصوم عليهما بدخول الشهر، فجعل لهما تأخيره للضرورة؟ والمسافر في ذلك مثلهما. وهذا أولى ما حمل عليه هذا الأثر حتى لا يضادّ غيرَه من الآثار التي قد ذكرناها في هذا الباب.

ش: أي: وكان من الذي احتج به أيضًا أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن الصوم مرفوع عن المسافر حتى إنه إذا صام لا يجوز عند بعضهم، كما قد مَّر بيانه.

قوله: "ما قد ذكرناه" في محل الرفع؛ لأنه اسم كان، وأراد بـ"غير هذا الموضع" باب صلاة المسافرة فإنه أخرج فيه من حديث عبد الله بن الشخير، عن رجل من بلحريش، أن النبي عليه السلام قال:"إن الله قد وضع عن المسافر الصيام" ورواه بوجوه مختلفة هناك، واحتج به هؤلاء وقالوا: لما كان الصيام موضوعًا عن المسافر كان إذا صامه فقد صامه والحال أنه غير مفروض عليه؛ فلا يجزئه، وقد استدل ابن حزم أيضًا بهذا الحديث على أن الإفطار في السفر فرض في شهر رمضان، فقال: أسقط الله تعالى بهذه الأخبار عن المسافر الصوم ونصف الصلاة، فإذا صامه لم يجزئه عن رمضان.

وأجاب عن ذلك بقوله: "فكان من الحجة للآخرين عليهم"، أي: فكان من الجواب للآخرين وهم الذين ذهبوا إلى تخيير المسافر في الصوم والإفطار "عليهم" أي: على أهل المقالة الأولى "في ذلك" أي: فيما احتجوا به "أنه" أي: أن الشأن "قد يجوز أن يكون ذلك الصيام الذي قد وضعه عنه" أي: عن المسافر "هو الصيام الذي لا يكون له منه بُدّ في تلك الأيام " وأراد بها: الأيام التي لم تكن رخصة الإفطار فيها مشروعة يعني: أن الصيام الذي وضعه الله عن المسافر في هذا الحديث هو الصيام الذي كان

ص: 355

عليه فرضًا في السفر كما كان فرضًا على المقيم، ثم لما رخص الله بالإفطار للمسافر وضع عنه الصيام إلى وقت آخر. وقد دل على هذا المعنى قوله في الحديث:"عن الحامل والمرضع" أي: وضع الصوم أيضًا عن الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدهما، ومع هذا لو صامتا عن رمضان فإنه يجزئهما عنه؛ لأن الصوم وجب عليهما بدخول الشهر، غير أنه أبيح لهما الإفطار للضرورة، فإذا أقدمتا عليه جاز عن فرضهما، وكذلك المسافر وجب عليه الصوم بدخول الشهر، غير أنه أبيح له الإفطار لمشقة السفر، فإذا أقدم

عليه جاز عن فرضه.

فهذا تحقيق ما قاله الطحاوي، وقد قال أبو بكر الرازي: إن قوله عليه السلام هذا يدل على أن الفرض لم يتعين على المسافر بحضور الشهر، وأن له أن يُفطر فيه، ولا دلالة فيه على نفي الجواز إذا صامه، كما لم ينف جواز صوم الحامل والمرضع، وفيه من المخالفة لما قاله الطحاوي على ما لا يخفى، والذي قاله الطحاوي هو التقريب؛ فافهم.

ص: وكان من الحجة على أهل المقالة الأولى التي قد ذكرناها لأهل المقالة الثانية التي قد وصفناها: أنا قد رأيناهم كانوا مع رسول الله عليه السلام بعد أن أباح لهم الإفطار في السفر يصومون فيه.

فمما روي في ذلك:

ما حدثنا يزيد بن سنان وربيع الجيزي وصالح بن عبد الرحمن، قالوا: حدثنا القعنبي، قال: ثنا هشام بن سعد، عن عثمان بن حيان الدمشقي، عن أم الدرداء، قالت: قال أبو الدرداء: "لقد رأيتنا مع رسول الله عليه السلام في بعض أسفاره في يوم شديد الحر حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه لشدة الحر وما منا صائم إلا رسول الله عليه السلام وعبد الله بن رواحة".

حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر رضي الله عنه قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يكن يعيب بعضنا على بعض".

ص: 356

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام يوم فتح مكة لتسع عشرة من رمضان، فصام صائمون، وأفطر مفطرون، فلم يعب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء".

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة

فذكر بإسناده مثله. غير أنه قال: "لثنتي عشرة".

حدثنا علي، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة

فذكر بإسناده مثله. غير أنه قال: "لثمان عشر".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب، قال: ثنا هشام

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام

فذكر بإسناده مثله. غير أنه لم يذكر فتح مكة.

حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن مورق العجلي، عن أنس قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام في سفر، فنزلنا في يوم شديد الحر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلًا في يوم حارّ وأكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنا مَن يسز الشمس بيده، فسقط الصوَّام، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله عليه السلام: ذهب المفطرون بالأجر اليوم".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال:"سافرنا مع رسول الله عليه السلام فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

فدل ما ذكرنا في هذه الآثار أن ما كان من إفطار رسول الله عليه السلام وأمره أصحابه بذلك ليس على المنع من الصوم في السفر، وأنه على الإباحة في الإفطار.

ش: أشار بهذا إلى حجج وبراهين أخرى لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى في رفعهم جواز الصوم للمسافر في شهر رمضان.

ص: 357

وقوله: "أَنَّا قد رأيناهم" بفتح الهمزة في محل الرفع؛ لأنه اسم "كان" وخبره قوله: "من الحجة" أي: أنا قد رأينا الصحابة رضي الله عنهم كانوا مع رسول الله عليه السلام يصومون في السفر بعد أن أباح لهم رسول الله عليه السلام الإفطار في السفر.

وأخرج في ذلك آثارًا تدل على أن ما كان من إفطار النبي عليه السلام في السفر وأمره به لأصحابه ليس على المنع من الصوم في السفر وأنه إنما هو على الإباحة في الإفطار، وهي أحاديث أبي الدرداء وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأنس ابن مالك رضي الله عنهم.

أما حديث أبي الدرداء فأخرجه بإسناد صحيح: عن يزيد بن سنان وربيع بن سليمان الجيزي وصالح بن عبد الرحمن، ثلاثتهم عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن هشام بن سعد أبي عباد المدني القرشي مولى آل أبي لهب روى له الجماعة إلا البخاري، عن عثمان بن حَيَّان -بتشديد الياء آخر الحروف- بن معبد المزني الدمشقي مولى أم الدرداء، روى له مسلم وابن ماجه هذا الحديث فقط، عن أم الدرداء الصغرى هجيمة، روى لها الجماعة، عن أبي الدرداء عويمر بن مالك رضي الله عنه.

وأخرجه مسلم (1): ثنا عبد الله بن مسلمة قال: ثنا هشام بن سعد

إلى آخره نحوه سواء.

وأخرجه البخاري (2) وأبو داود (3) وابن ماجه (4).

قوله: "لقد رأيتُنا" بضم التاء؛ أي: لقد رأيت أنفسنا.

قوله: "لَيَضَعُ يده" بفتح اللام؛ لأنها للتأكيد.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 790 رقم 1122).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 686 رقم 1843).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 317 رقم 2409).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 531 رقم 1663).

ص: 358

وأما حديث جابر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير روى له الجماعة، عن عاصم بن سليمان الأحول روى له الجماعة، عن أبي نضرة -بفتح النون وسكون الضاد المعجمة- المنذر بن مالك العبدي ثم العوقي البصري روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.

وأخرجه النسائي (1): أخبرني أيوب بن محمَّد، قال: نا مروان، قال: نا عاصم، عن أبي نضرة المنذر، عن أبي سعيد وجابر بن عبد الله:"أنهما سافرا مع رسول الله عليه السلام فيصوم الصائم، ويُفطر المفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

وأخرجه النسائي (2) من وجوه مختلفه. وأخرجه مسلم (3) نحوه.

وأما حديث أبي سعيد فأخرجه من خمس طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (4) بوجوه مختلفة فقال: ثنا هداب بن خالد، قال: ثنا همام بن يحيى، قال: ثنا قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال:"غزونا مع رسول الله عليه السلام لست عشرة مضت من رمضان، فمنا مَن صام، ومنا مَن أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

ثنا (4) محمَّد بن أبي بكر المقدمي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن التميمي.

وثنا (4) محمَّد بن المثنى، قال: ثنا ابن مهدي، قال: ثنا شعبة.

وقال ابن مثنى (4): ثنا أبو عامر، قال: ثنا هشام.

وقال ابن مثنى (4): ثنا سالم بن نوح، قال: ثنا عمر- يعني: ابن عامر.

وثنا (4) أبو بكر بن أبي شيبة،

(1)"المجتبى"(4/ 189 رقم 2312).

(2)

"المجتبى"(4/ 188 رقم 2309 - 2312).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 787 رقم 1117).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 786 رقم 1116).

ص: 359

قال: ثنا محمد بن بشر، عن سعيد، كلهم عن قتادة

بهذا الإسناد ونحو حديث همام، غير أن في حديث التيمي وعمر بن عامر وهشام:"لثمان عشرة خلت"، وفي حديث سعيد:"في ثنتي عشرة"، وفي حديث شعبة:"لسبع عشرة أو تسع عشرة".

قلت: هذا اختلاف كما ترى، والذي قاله أصحاب السير: أن خروج النبي عليه السلام لغزو مكة كان لعشر خلون من رمضان، ودخوله مكة في تسع عشرة، والله أعلم.

الثاني: عن عليّ أيضًا، عن رَوْح أيضًا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.

وأخرجه مسلم (1): من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، كما ذكرناه.

الثالث: عن عليّ أيضًا، عن رّوْح أيضًا، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن قتادة

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا نحوه، وقد ذكرناه الآن.

الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير، عن هشام الدستوائي، عن قتادة

إلى آخره.

الخامس: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم الأزدي القصَّاب شيخ البخاري وأبي داود، عن هشام الدستوائي، عن قتادة

إلى آخره.

وأخرجه أحمد (2) نحوه.

وأما حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن محمَّد عمرو بن يونس التغلبي، عن أبي معاوية محمَّد بن خازم الضرير، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن مُوَرّق بن مشمرج العجلي البصري- ويقال: الكوفي، روى له الجماعة.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 787 رقم 1116).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 74 رقم 11723).

ص: 360

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو معاوية

إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه:"ومنا من يتقي الشمس بيده".

وأخرجه البخاري (2) والنسائي (3) أيضًا.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال:"كنا نسافر مع النبي عليه السلام فلم يعب الصائم على المفطر ولا المُفطر على الصائم".

وأخرجه مسلم (5): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا أبو خيثمة، عن حميد، قال:"سئل أنس عن صوم رمضان في السفر، فقال: سافرنا مع رسول الله عليه السلام في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

وأخرجه أبو داود (6): ثنا أحمد بن يونس، قال: نا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس قال:"سافرنا مع رسول الله عليه السلام في رمضان فصام بعضنا وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المُفطر على الصائم".

وأخرجه مالك (7) في "موطئه".

وقال أبو عمر: هذا حديث متصل صحيح، وبلغني عن ابن وضاح أنه كان يقول: إن مالكًا لم يتابع عليه في لفظه، وزعم أن غيره يرويه عن حميد، عن أنس أنه قال:"كان أصحاب رسول الله عليه السلام يسافرون، فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم". ليس فيه ذكر رسول الله عليه السلام

(1)"صحيح مسلم"(2/ 788 رقم 1119).

(2)

"صحيح البخاري"(3/ 1058 رقم 2733).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 105 رقم 2592).

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 687 رقم 1845).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 787 رقم 1118).

(6)

"سنن أبي داود"(1/ 731 رقم 2405).

(7)

"موطأ مالك"(1/ 295 رقم 652).

ص: 361

ولا أنه كان يشاهدهم في حالهم هذه، وقد تابع مالكًا على هذا جماعة من الحفاظ، منهم: أبو إسحاق الفزاري وأبو ضمرة أنس بن عياض ومحمد بن عبد الله الأنصاري وعبد الوهاب الثقفي، كلهم رووه عن حميد، عن أنس بمعنى حديث مالك:"سافرنا مع رسول الله عليه السلام".

وما أعلم أحدًا روى حديث أنس هذا على ما قال ابن وضاح إلا ما رواه محمَّد بن مسعود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن حميد، عن أنس.

قوله: "فضربوا الأبنية" جمع بناء، وهي الخباء التي تضرب.

قوله: "وسقوا الركاب" بكسر الراء وتخفيف الكاف، وهي الرواحل من الإبل، وتجمع على رُكُب -بضمتين- ويقال: الركاب جمع راحلة وليس لها واحد من لفظها، كالنساء جمع امرأة.

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أنه صام في السفر وأفطر:

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود:"أن النبي عليه السلام كان يصوم في السفر ويفطر".

حدثنا فهد، قال: ثنا الحسن بن بشر، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن مغيرة بن زياد، عن عطاء عن عائشة قالت:"صام رسول الله عليه السلام في السفر وأفطر".

فدل ذلك على أن للمسافر أن يصوم وله أن يفطر.

ش: هذا أيضًا مما احتجت به أهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى؛ لأن فيه إخبارًا عن فعل النبي عليه السلام بأنه كان يصوم في السفر ويُفطر.

وأخرجه من وجهين:

الأول: حديث عبد الله بن مسعود: أخرجه عن علي بن شيبة، عن رَوْح بن عبادة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام وهو مجهول لا يُعرف، قاله أبو المحاسن الحسيني.

ص: 362

يروي عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن عبد الرحيم صاحب السابُري ومحمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم التستري، قالا: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن عبد السلام؛ عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم في السفر ويُفطر".

وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، ولا نعلم رواه عن عبد السلام هذا إلا ابن أبي عروبة.

الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن الحسن بن بشر شيخ البخاري، عن المعافى بن عمران الأزدي روى له البخاري وأبو داود والنسائي، عن مغيرة بن زياد البجلي أبي هشام الموصلي وثقه وكيع ويحيى والعجلي، وقال أبو داود: صالح. وقال النسائي: ليس به بأس صالح. روى له الأربعة، عن عطاء بن أبي رباح المكي، روى له الجماعة.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا المحاملي، نا سعيد بن محمَّد بن ثواب، نا أبو عاصم، نا عمر بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يقصر في السفر ويتم، ويُفطر ويصوم". ثم قال: هذا إسناد صحيح.

وأخرجه البزار بإسناد الطحاوي ولكنه اقتصر على حكم الصلاة.

ص: وقد سأل حمزة الأسلمي رسول الله عليه السلام عن الصوم في السفر فقال له: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر".

حدثنا بذلك علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا سعيد وهشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي بذلك.

(1)"مسند البزار"(4/ 350 رقم 1549).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 189 رقم 44).

ص: 363

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي، مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي عليه السلام:"أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال لرسول الله عليه السلام: أصوم في السفر؟ -وكان كثير الصيام- فقال له النبي عليه السلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

فهذا رسول الله عليه السلام قد أباح الصوم في السفر لمَن شاء ذلك.

فثبت بهذا وبما ذكرنا قبله أن صوم رمضان في السفر جائز.

ش: ذكر هذا تأكيدًا للحديث السابق؛ لأن ذاك فعل الرسول عليه السلام، وهذا قوله.

ولما اجتمع قول النبي عليه السلام وفعله في حكم قويت الحجة به، وأشار إلى ذلك بقوله:"فثبت بهذا" أي: بحديث حمزة بن عمرو "وبما ذكرنا قبله" أي: حديث ابن مسعود وعائشة "أن صوم رمضان في السفر جائز".

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة

إلى آخره.

وكلهم ثقات قد ذكروا غير مرة.

وحمزة بن عمرو بن عويمر الأسلمي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه الجماعة (1) على ما نذكره.

وأخرجه النسائي (2) بهذا الطريق: أنا محمَّد بن رافع، قال: أنا أزهر بن القاسم، قال: نا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو الأسلمي: "أنه

(1) سيأتي تخريجه الآن.

(2)

"السنن الكبرى"(2/ 107 رقم 2602).

ص: 364

سأل رسول الله عليه السلام عن الصوم في السفر، قال: إن

ثم ذكر كلمة معناها: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت".

وأخرجه (1) من وجوه متعددة.

الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز شيخ النسائي، عن أبي بكر عبد الكبير بن عبد المجيد الحنفي البصري أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ أحمد، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله المدني، عن عمران بن أبي أنس المصري العامري، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: أنا هارون بن عبد الله، قال: نا محمَّد بن بكر، قال: أنا عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن حمزة بن عمرو:"أنه سأل رسول الله عليه السلام عن الصوم في السفر، قال: إن شئت أن تصوم فصُم، وإن شئت أن تُفطر فأفطر".

أنا عمران ن بكار (3) قال: ثنا أحمد بن خالد، قال: ثنا محمَّد، عن عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار وحنظلة بن علي، قال: حدثاني جميعًا عن حمزة بن عمرو قال: "كنت أسرد الصيام على عهد رسول الله عليه السلام، فقلت: يا رسول الله إني أسرد الصيام في السفر، فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (4): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك

إلى آخره نحوه.

ومسلم (5): عن قتيبة بن سعيد، عن ليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن

(1)"السنن الكبرى"(2/ 107 رقم 2602 - 2617).

(2)

"السنن الكبرى"(2/ 109 رقم 2610).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 108 رقم 2607).

(4)

"صحيح البخاري"(686/ 2 رقم 1841).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 789 رقم 1121).

ص: 365

عائشة أنها قالت: "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله عليه السلام عن الصيام في السفر، فقال: إن شئت صم وإن شئت فأفطر".

وله في رواية (4): "إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صم إن شئت، وأفطر إن شئت".

وفي رواية (1): "يا رسول الله أجد بي قوةً على الصيام في السفر فهل عليّ جناح؟ فقال رسول الله عليه السلام: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسنٌ، ومَن أحبَّ أن يصوم فلا جناح عليه".

وأبو داود (2): عن سليمان بن حرب ومسدد، قالا: نا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن حمزة الأسلمي سأل النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله إني رجل أسردُ الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال: صُمْ إن شئت، وأفطر إن شئت". والترمذي (3): عن هارون بن إسحاق الهمداني، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن حمزة بن عمرو الأسلمي سأل رسول الله عليه السلام عن الصوم في السفر -وكان يسرد الصوم- فقال رسول الله عليه السلام: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وابن ماجه (4): عن أبي بكر بن أبي شيبة، نا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله عليه السلام فقال: إني أصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئت فَصُمْ، وإن شئت فأفطر".

فإن قيل: حديث حمزة هذا لا يدل على جواز الصوم في شهر رمضان في السفر؛ لأن سؤاله كان في صوم التطوع في السفر.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 789 رقم 1121).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 316 رقم 2402).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 91 رقم 711).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 531 رقم 1662).

ص: 366

وقال القاضي: قوله: "إني رجل أسرد الصوم"، وقوله أيضًا:"إني رجل أصوم في السفر"، يدل ظاهرًا أنه سأله عن التطوع.

وقال ابن حزم: وأما خبر حمزة فبيان جلي في أنه إنما سأله عليه السلام عن التطوع؛ لقوله في الخبر: "إني امرؤ أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام".

قلت: لا نسلم أن سؤاله كان عن التطوع، بل لم يكن سؤاله إلا عن الصوم في رمضان في السفر.

والدليل عليه ما رواه أبو داود (1): ثنا عبيد الله بن محمَّد النفيلي، قال: نا محمَّد بن عبد المجيد المدني، قال: سمعت حمزة بن محمَّد بن حمزة الأسلمي، يذكر أن أباه أخبره، عن جده:"قلت: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر عليه وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر -يعني رمضان- فأنا أجد القوة وأنا شابٌّ وأجدني أن أصوم يا رسول الله أهون عليَّ من أن أؤخره فيكون دينًا، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري أو أفطر؟ قال: أيُّ ذلك شئت يا حمزة".

ص: وذهب قوم أنه لا فضل لمن صام رمضان في السفر على مَنْ أفطر وقضاه بعد ذلك، وقالوا: ليس أحدهما أفضل من الآخر، واحتجوا في ذلك بتخيير النبي عليه السلام حمزة بن عمرو بين الإفطار في السفر والصوم، ولم يأمره بأحدهما دون الآخر.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: قتادة والأعمش وإسماعيل بن علية والشافعي في قول؛ فإنهم قالوا: المسافر في رمضان مخير بين الصوم والإفطار، ولا فضل للمفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر، والباقي ظاهر.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: الصوم في السفر في شهر رمضان أفضل من الإفطار.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 316 رقم 2403).

ص: 367

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: عمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وشقيق بن سلمة وطاوسًا وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية؛ فإنهم قالوا: الصوم أفضل للمسافر في رمضان، ويروى ذلك عن أنس وأبي موسى الأشعري وابن عمر وعثمان بن أبي العاص وحذيفة بن اليمان وعائشة رضي الله عنهم.

وكذا روي عن قيس بن عباد ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم وابن أبي مليكة رحمهم الله.

ص: وقالوا لأهل المقالة التي ذكرنا: ليس فيما ذكرتموه من تخيير النبي عليه السلام لحمزة بين الصوم في السفر والفطر دليل على أنه ليس أحدهما أفضل من الآخر، ولكن إنما خيره بما له أن يفعله من الإفطار والصوم، وقد رأينا شهر رمضان يجب بدخوله الصوم على المسافرين والمقيمين جميعًا إذا كانوا مكلفين، فلما كان دخول رمضان هو الموجب للصيام عليهم جميعًا، كان مَن عجل منهم أداء ما وجب عليه أفضل ممن آخره، فثبت بما ذكرنا أن الصوم في السفر أفضل من الفطر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي، قال هؤلاء الآخرون في جواب ما قاله أولئك القوم، وهو ظاهر غني عن زيادة البيان.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن أنس بن مالك وعن نفر من التابعين.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن حماد، عن سعيد ابن جبير قال:"الصوم أفضل، والإفطار رخصة" يعني: في السفر.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم وسعيد ابن جبير ومجاهد، أنهم قالوا في الصوم في السفر:"إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، والصوم أفضل".

ص: 368

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا حبيب، عن عمرو بن هَرِم، قال:"سئل جابر بن زيد عن صيام رمضان في السفر، فقال: يصوم مَن يشاء إذا كان يستطيع ذلك ما لم يتكلف أمرًا يشق عليه، وإنما أراد الله تعالى بالإفطار التيسير على عباده".

حدثنا يونس، قال: ثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني القاسم، عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر في الحرّ، فقلت: ما حملها على ذلك؟ فقال: إنها كانت تبادر".

فهذه عائشة رضي الله عنها كانت ترى المبادرة بصوم رمضان في السفر أفضل من تأخير ذلك إلى الحضر.

ش: أي: قد روي أن الصوم في رمضان في السفر أفضل من الفطر، عن أنس بن مالك وعن جماعة من التابعين.

أما الدي روي عن أنس: فهو الذي أخرجه فيما مضى عن إبراهيم بن محمَّد، عن أبي حذيفة، عن سفيان، عن عاصم الأحول قال:"سألت أنس بن مالك عن صوم شهر رمضان في السفر، فقال: الصوم أفضل".

وأخرجه ابن أبي شيبة (1) وقد ذكرناه فيما سلف.

وأما الذي روي عن التابعين: فهو ما أخرجه عن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وجابر بن زيد النجدي الجوفي، بالجيم والفاء.

ورجال آثارهم كلهم ثقات.

وأبو عامر هو عبد الملك بن عمرو العقدي، وسفيان هو الثوري، وحماد هو ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.

وحبيب هو ابن أبي حبيب الجرمي صاحب الأنماط، روى له مسلم.

وعمرو بن هَرِم الأزدي البصري، روى له مسلم.

(1) تقدم.

ص: 369

وبشر بن بكر التنيسي شيخ الشافعي.

والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل الشام.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا سهل بن يوسف، عن حميد، عن ابن أبي مليكة قال:"صحبت عائشة في السفر، فما أفطرت حتى دخلت مكة".

حدثنا أبو أسامة (2)، عن ابن عون، عن القاسم قال:"قد رأيت عائشة تصوم في السفر حتى أذلقها السموم".

ثنا غندر (3) قال: ثنا شعبة، عن أبي الشعثاء قال:"صحبت أبي وعمرو بن ميمون والأسود بن يزيد وأبا وائل، فكانوا يصومون رمضان وغيره في السفر".

وقال ابن حزم في "المحلى"(4): وعن عثمان بن أبي العاص وابن عباس: "الصوم أفضل".

وعن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، مثله.

وعن طاوس: "الصوم أفضل". وعن الأسود بن يزيد مثله.

ص: وكان أيضًا مما احتج به من كره الصوم في السفر: ما حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف. (ح)

وحدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن منصور الكلبي: "أن دحية بن خليفة خرج من قريته بدمشق إلى قدر قرية عقبة في رمضان، فأفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه: إن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 280 رقم 8975).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 280 رقم 28980).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 281 رقم 8987).

(4)

"المحلى"(6/ 247).

ص: 370

قومًا رغبوا عن هدي رسول الله عليه السلام وأصحابه، يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال: اللهم اقبضني إليك".

فكان من الحجة للذين استحبوا الصوم في السفر في هذا الحديث أن دحية إنما ذمَّ من رغب عن هدي رسول الله عليه السلام وأصحابه، فمن صام في سفره كذلك فهو مذموم، ومن صام في سفر غير راغب عن هديه بل على التمسك بهديه فهو محمود.

ش: أي: وكان أيضًا من الذي احتج به مَن كان يكره الصوم في السفر حديث دحية بن خليفة الكلبي الصحابي الذي كان جبريل عليه السلام يأتي النبي عليه السلام في صورته، ويجوز في داله الفتح والكسر.

وأخرجه من طريقين:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن منصور بن سعيد بن الأصبغ الكلبي.

وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا منصورًا وهو أيضًا ثقة وثقه ابن حبان (1).

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سعد

إلى آخره.

والطريقان صحيحان.

فإن قيل: كيف تقول ذلك، وقد قال الخطابي: وهذا الحديث ليس بالقوي، في إسناده رجل ليس بالمشهور، يشير به إلى منصور الكلبي.

(1) قلت: وقال العجلي في "الثقات": (2/ 300): مصري تابعي ثقة. وقال ابن المديني رحمه الله: مجهول لا أعرفه. ونقل الحافظ في "تهذيب التهذيب" عن ابن خزيمة قال: لا أعرفه، وقال في "التقريب": مستور. وقال الذهبي في "الكاشف": لا يعرف، وقال في "الميزان" (4/ 184): ما روى عنه سوى أبي الخير مرثد بن عبد الله. وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال"(2/ 528).

ص: 371

قلت: ليس الأمر كذلك، وإنما هو مشهور، وقد وثقه ابن حبان، وقال العجلي: تابعي ثقة.

وأخرج أبو داود حديثه (1): ثنا عيسى بن حماد، قال: أنا الليث -يعني ابن سعد- عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن منصور الكلبي:"أن دحية بن خليفة خرج من قريته من دمشق إلى قدر قرية عقبه من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال، وذلك في رمضان، ثم إنه أفطر وأفطر معه ناس، وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمرًا ما كنت أظن أن أراه؛ إن قومًا رغبوا عن هَدْي رسول الله عليه السلام وأصحابه- يقول ذلك للذين صاموا، ثم قال عند ذلك: اللهم اقبضني إليك".

وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(2) نحوه من حديث الليث بن سعد.

قوله: "خرج من قريته بدمشق" وكانت قريته هي التي تدعى اليوم قرية المزَّة.

قوله: "قدر قرية عقبة" وهو عقبة بن عامر الجهني، أراد قدر قرية عقبة من الفسطاط، وذلك ثلاثة أميال كما ذكر ذلك في رواية أبي داود، وقرية عقبة هي التي تسمى اليوم منية عقبة من بلاد جيزة، والمراد من الفسطاط هي مدينة مصر.

قوله: "عن هَدْي رسول الله عليه السلام" بفتح الهاء وسكون الدال، وهو السيرة والهيئة والطريقة، أراد أن قومًا رغبوا، أي أعرضوا عن طريقة رسول الله عليه السلام وسنته وخصلته التي كان يفعلها، يقال: هدى هدي فلان: إذا سار بسيرته، ومنه الحديث:"اهدوا هدي عمار"(3) أي: سيروا يسير ته وتهيئوا بهيئته، ومنه حديث ابن مسعود:"إن أحسن الهدي هدي محمَّد"(4).

قوله: "فكان من الحجة للذين استحبوا الصوم في السفر

إلى آخره".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 319 رقم 2413).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 241 رقم 7933).

(3)

"الاستيعاب"(3/ 989).

(4)

"سنن الدارمي"(1/ 80 رقم 207).

ص: 372

أراد بها الجواب عن ذلك، بيانه: أن دحية إنما ذمَّ مَن كان يرغب عن هدي رسول الله عليه السلام وسمْته، وعن هدي الصحابة رضي الله عنهم، فكل من صام في سفره، وهو راغب عن هَدْيه عليه السلام فهو مذموم بلا شك، وكل مَن صام وهو غير راغب عن هديه بل كائنًا على التمسك بهديه فهو محمود غير مذموم.

وقال البيهقي: وما روي عن دحية إن صح فكأنه ذهب فيه إلى ظاهر الآية في الرخصة في السفر، وأراد بقوله:"رغبوا عن هدي رسول الله عليه السلام وأصحابه"، أي: في قبول الرخصة لا في تقدير السفر.

وقال الذهبي في "مختصر سننه": بل رغبوا عن هذا مع هذا.

قلت: يمكن أن يقال: إن دحية كان يرى هذا المقدار من السفر مبيحًا للفطر، وهؤلاء الذين صاموا لا يرون ذلك، فاعتقد دحية أنهم يرون أيضًا مثل رأيه وصاموا راغبين عن الرخصة؛ فلذلك ذمهم، فافهم.

ص: حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا أبو الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث، عن أبي مراوح الأسلمي، عن حمزة بن عمرو الأسلمي صاحب رسول الله عليه السلام:"أنه قال: يا رسول الله إني أسرد الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال رسول الله عليه السلام: إنما هي رخصة من الله عز وجل للعباد، مَن قَبِلها فحسن جميل، ومن تركها فلا جناح عليه، قال: وكان حمزة يصوم الدهر في السفر والحضر، وكان أبو مراوح كذلك، وكان عروة كذلك".

فدل ما ذكرنا عن رسول الله عليه السلام أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وأن الإفطار إنما هو رخصة.

وقد حدثنا ربيع الجيزي، أنه قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير:"أن عائشة رضي الله عنها كانت تصوم الدهر في السفر والحضر".

ش: ذكر هذا أيضًا تأييدًا لقوله: "فثبت بما ذكرنا أن الصوم في السفر أفضل من الفطر".

ص: 373

وأخرجه من طريق صحيح: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المؤذن المصري، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري العابد الفقيه، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن أبي مراوح -قيل: اسمه سعد- وثقه العجلي وابن حبان، وروى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

قال القاضي: سمعناه من القاضي الشهيد وغيره: أبو مرواح وهي رواية العذري، وذكره البخاري وأصحاب الحديث: أبو مُرَاوح، وكذا ذكره مسلم في كتاب الكنى، وأبو أحمد وغيرهما.

والحديث أخرجه مسلم (1): حدثني أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي- قال هارون: ثنا، وقال أبو الطاهر: أنا- ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة بن عمرو الأسلمي، أنه قال:"يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عَلَيَّ جناح؟ فقال رسول الله عليه السلام: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".

وقال هارون: "هي رخصة" ولم يذكر: "من الله".

وأخرجه النسائي (2): أنا الربيع بن سليمان، قال: نا ابن وهب، قال: نا عمرو -وذكر آخر- عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي مُرَاوح، عن حمزة بن عمرو، أنه قال لرسول الله عليه السلام:"أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل عليَّ جناح؟ قال: هي رخصة من الله عز وجل، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه".

قوله: "إني أسرد الصوم" أي: أواليه وأتابعه، ومنه: سرد الكلام.

قوله: "فحسن" خبر مبتدأ محذوف؛ أي فهو حسن جميل.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 790 رقم 1121).

(2)

"السنن الكبرى"(2/ 109 رقم 2611).

ص: 374

قوله: "فلا جناح" أي فلا إثم عليه.

وقال القاضي في شرح حديث مسلم: قد يحتج به من يرى الفطر أفضل لقوله فيه: "حسن"، وقوله في الصوم: فلا جناح، ولا حجة في هذا؛ فإن الأخذ بالرخصة حسن كما قال، وأما قوله في الصوم:"فلا جناح"، فجواب قوله:"هل عليَّ جناح؟ " ولا يُفهم منه أنه أنزل درجة من الفطر، ولا أنه ليس بحسن، بل جاء في الحديث الآخر وصفهما جميعًا بحسن.

قلت: وبهذا خرج الجواب عما قيل: إن قول الطحاوي: "فدل ما ذكرنا عن رسول الله عليه السلام أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وأن الإفطار إنما هو رخصة" فيه نظر؛ لأنه كيف يكون الصوم أفضل وقد ذكر عليه السلام في جانبه نفي الجناح، وذكر في جانب الإفطار الحسن والجمال؛ فافهم.

قوله: "وقد حدثنا ربيع الجيزي

إلى آخره" ذكره أيضًا تأييدًا لقوله: "إن الصوم في السفر أفضل من الإفطار"، وذلك لأنه لو لم يكن أفضل لما صامت عائشة رضي الله عنها الدهر في السفر.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن ربيع الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله

إلى آخره. وقد ذكروا كلهم الآن.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث حيوة بن شريح وغيره، عن أبي الأسود، عن عروة:"أن عائشة رضي الله عنها كانت تصوم الدهر في السفر والحضر".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 301 رقم 8266).

ص: 375