المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الخرص - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الخرص

‌ص: باب: الخرص

ش: أي: هذا باب في بيان الخرص، وهو الحزر، يقال: خرَص النخلة والكرمة إذا حزَر ما عليهما من الرطب تمرًا ومن العنب زبيبًا، مِن خَرَصَ يَخْرِصُ -من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ- خَرصًا بالفتح، والاسم الخِرص بالكسر، وأصل الخرص الظن؛ لأن الحزر إنما هو تقدير بظن، والخرَّاص الحزَّار، ويقال: خَرَصَ العدد يخرُصه ويخرِصه -من باب نَصَرَ يَنْصُر وضَرَبَ يَضْرِبُ- خَرصًا وخِرصًا: حزَره.

وقال الجوهري: هو حزر ما على النخل من الرطب تمرًا.

وقال ابن السكيت: الخَرْصُ والخِرْصُ لغتان في الشيء المخروص. وقال عياض: وذلك لا يكون إلا عند طيب الثمرة.

ص: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو بكر الحنفي، قال: ثنا عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت المزارع تكرى على عهد النبي عليه السلام على أن لربّ الأرض ما على المساقي من الأرض وطائفةً من التبن لا أدري كم هو.

قال نافع: فجاء رافع بن خديج وأنا معه فقال: إن رسول الله عليه السلام أعطى خيبر يهودًا على أنهم يعملونها ويزرعونها على أن لهم نصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع على ما نقركم فيها ما بدا لنا. قال: فخرصها عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فصاحوا إلى رسول الله عليه السلام من خرصه، فقال: أنتم بالخيار إن شئتم فهي لكم وإن شئتم فهي لنا، نخرصه ونؤدي إليكم نصفها. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".

ش: أبو بكر الحنفي اسمه عبد الكبير بن عبد المجيد أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وعبد الله بن نافع القرشي مولى عبد الله بن عمر، فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وهو أضعف وُلْد نافع. وقال النسائي: متروك الحديث. روى له ابن ماجه.

ص: 166

وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2): من حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال:"كان ابن عمر يكري مزارعه على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وصدرًا من زمان معاوية، فأتاه رجل فقال: إن رافعًا يزعم أن النبي عليه السلام نهى عن كراء الأرض، فانطلق ابن عمر إلى رافع وانطلقت معه، فقال: ما الذي بلغني عنك تذكر عن النبي عليه السلام في كراء المزارع؟ قال: نعم، نهى رسول الله عليه السلام عن كراء المزارع، فكان ابن عمر إذا سئل عنه بعد ذلك قال: زعم نافع أن نبي الله نهى عنه. قال نافع: فقال ابن عمر لما ذكر رافع ما ذكر: كنت أعلم أنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله عليه السلام بما على الأرْبِعَاء وشيء من التبن لا أحفظه".

قوله: "كانت المزارع" جمع مزرعة وهي الأرض التي يزرع فيها.

قوله: "ما على المساقي" جمع مسقاة وهو موضع السقي، وفي بعض النسخ: ما على السواقي.

قوله: "وطائفة من التبن" أراد بها قطعةً من التبن. "والأَرْبِعاء": بكسر الباء جمع ربيع، وهو الجدول.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو عون الزيادي، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال:"أفاء الله خيبر على رسوله فأقرهم رسول الله عليه السلام كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ثم قال: يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليَّ؛ قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إيكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت بعشرين ألف وسق من تمر، فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي".

ش: أبو عون الزيادي اسمه محمَّد بن عون بن أبي عون مولى آل زياد بن أبي سفيان، وثقه أبو زرعة وابن حبان.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 825 رقم 2218).

(2)

"صحيح مسلم"(3/ 1180 رقم 1547).

ص: 167

وإبراهيم بن طهمان الخراساني أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وأبو الزبير محمَّد بن مسلم بن تدرس المكي، روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1) وقال: قرئ على ابن منيع وأنا أسمع: ثنا أبو خيثمة، ثنا محمَّد بن سابق، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير

إلى آخره نحوه سواء.

غير أن في لفظه: "وإن أبيتم فلي، قالوا: بهذا قامت السموات والأرض، قد أخذناها. قال: فأخرجوا عنا".

وأخرجه أبو داود (2) مختصرًا: ثنا ابن أبي خلف، قال: نا محمَّد بن سابق، عن إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال:"ثم أفاء الله على رسوله خيبر، فأقرهم رسول الله عليه السلام كما كانوا وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم".

ثنا (3) أحمد بن حنبل، قال: ثنا عبد الرزاق ومحمد بن بكر، قالا: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:"خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خَيَّرَهُم ابن رواحة أخذوا الثمر وعليهم عشرون ألف وسق".

قوله: "أفاء الله خيبر على رسوله" يعني: جعلها غنيمةً له، والفيء الغنيمة، تقول منه: أفاء الله -على المسلمين مال الكفار- يُفيءُ إفاءةً.

و"خيبر" اسم لقلعة بينها وبين المدينة ست مراحل.

قوله: "يا معشر اليهود" أي: جماعة اليهود.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 133 رقم 23).

(2)

"سنن أبي داود"(3/ 264 رقم 3414).

(3)

"سنن أبي داود"(3/ 264 رقم 3415).

ص: 168

قوله: "قتلتم أنبياء الله" فيه مجاز؛ لأنهم لم يقتلوا الأنبياء وإنما أجدادهم هم الذين قتلوهم.

قوله: "أن أحيف عليكم" من الحيف وهو الجَوْر والظلم.

قوله: "وقد خرصت" أي: حزرت وقدرت، وقد مرَّ أن الوسق ستون صاعًا.

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إبراهيم بن المنذر، قال: ثنا عبد الله بن نافع، قال: ثنا محمد بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتَّاب بن أَسِيد:"أن رسول الله عليه السلام أمره أن يخرص العنب زبيبًا كما يخرص الرطب".

ش: إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الحزامي المدني، شيخ أبي زرعة وأبي حاتم والبخاري في غير "الصحيح"، وثقه يحيى، وقال النسائي: لا بأس به.

وعبد الله بن نافع الصائغ المدني، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

ومحمد بن صالح بن دينار التمار المدني. قال أحمد وأبو داود: ثقة. وروى له الأربعة.

وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم الزهري.

والحديث أخرجه أبو داود (1): ثنا عبد العزيز بن السريّ الناقط، نا بشر بن منصور، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عتَّاب بن أسيد:"أمر النبي عليه السلام أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا كما تؤخذ صدقة النخل تمرًا".

ثنا (2) محمَّد بن إسحاق المسيبي، ثنا عبد الله بن نافع، عن محمَّد بن صالح التمار، عن ابن شهاب

بإسناده ومعناه.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 110 رقم 1603).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 110 رقم 1604).

ص: 169

وأخرجه الترمذي (1): ثنا أبو عمرو مسلم بن عمرو الحذاء المدائني، قال: ثنا عبد الله بن نافع الصائغ، عن محمَّد بن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد: "أن النبي عليه السلام كان يبعث على الناس مَن يخرص

عليهم كرومهم وثمارهم".

وبهذا الإسناد: "أن النبي عليه السلام قال في زكاة الكرم: إنها تخرص كما يخرص النخل، ثم يؤدوا زكاته زبيبًا كما يؤدوا زكاة النخل تمرًا".

وأخرجه النسائي (2) وابن ماجه (3) أيضًا.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة. وسألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا، فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أصح، انتهى.

وذكر غيره أن هذا الحديث منقطع. وقال أبو داود: سعيد لم يسمع من عتاب ابن أسيد.

قلت: هذا ظاهر جدًّا فإن عتاب بن أسيد توفي في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، ومولد سعيد بن المسيب في خلافه عمر رضي الله عنه سنة خمس عشرة على المشهور، وقيل: كان مولده بعد ذلك، والله أعلم.

وقال أبو علي بن السكن: لم يُرْو هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام من وجه غير هذا، وهو من رواية عبد الله بن نافع عن محمَّد بن صالح، عن ابن شهاب، عن سعيد.

وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وخالفهما صالح بن كيسان فرواه عن الزهري، عن سعيد:"أن النبي عليه السلام أمرَ عتابًا" ولم يقل: عن عتاب.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 36 رقم 644).

(2)

"المجتبى"(5/ 109 رقم 2618).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 582 رقم 1819).

ص: 170

وسئل أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -فيما ذكره أبو محمَّد الرازي- عنه فقالا: هو خطأ. قال أبو حاتم: الصحيح: عن سعيد أن النبي عليه السلام، مرسل، كذا رواه بعض أصحاب الزهري. وقال أبو زرعة: الصحيح عندي: عن الزهري أن النبي عليه السلام، ولا أعلم أحدًا تابع عبد الرحمن بن إسحاق في هذه الرواية.

وزعم الدارقطني أن الواقدي رواه عن عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد، عن المِسور بن مخرمة، عن عتاب قال: "أمر رسول الله عليه السلام أن تخرص أعناب ثقيف كخرص النخل ثم تؤدى زبيبًا كما تؤدى زكاة النخل تمرًا.

فهذه الرواية سالمة من الانقطاع الذي في الرواية الأولى. وقال أبو بكر بن العربي في "المسالك": لم يصح حديث سعيد ولا سهل بن أبي حثمة.

قوله: "زبيبًا" نصب على التمييز. وقال الخطابي: إنما يخرص من الثمر ما يحيط به البصر بارزًا لا يحول دونه حائل ولا يخفى موضعه في خلال ورق الشجر، والعنب في هذا المعنى كثمر النخل، فأما سائر الثمار فإنه لا يجري فيها الخرص؛ لأن هذا المعنى فيها معدوم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن الثمرة التي يجب فيها العشر هكذا حكمها، تخرص وهي رطبٌ تمرًا فيعلم مقدارها، فتُسلّم إلى ربها ويملك بذلك حق الله فيها، ويكون عليه مثلها بكيله ذلك تمرًا، وكذلك يُفعل بالعنب.

واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري وعطاء والحسن وعمرو بن دينار وعبد الكريم ابن أبي المخارق ومروان والقاسم بن محمَّد ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور وأبا عبيد بن سلام، فإنهم ذهبوا إلى إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحهما.

وقال ابن رُشد: يخلى بينها وبين أهلها يأكلونه رطبًا.

ص: 171

وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط.

وقال الشافعي: إذا بدا صلاح ثمار النخل والكرم فقد تعلق وجوب الزكاة بهما، ووجب خرصهما للعلم بقدر زكاتهما فيخرصهما رطبًا، وينظر الخارص كم يصير ثمرًا فيثبتها تمرًا، ثم يخيَّر رب المال فيها فإن شاء كانت في يده مضمونةً وله التصرف فيها، فإذا تصرف فيها ضمنها.

فيستفاد بالخرص العلم بقدر الزكاة فيها واستباحة رب المال التصرف في الثمرة بشرط الضمان.

وقال الماوردي عن الشافعي: إنه سنة في الرطب والعنب، ولا خرص في الزرع. وهو قول أحمد.

وقال الخطابي: الخارص يترك لهم الثلث أو الربع من عرض المال؛ توسعةً عليهم، فلو أُخِذوا باستيفاء الحق كله لأضرَّ ذلك بهم، وقد يكون منها السقاطة وينتابها الطير ويخترقها الناس للأكل، فترك لهم الربع توسعةً عليهم.

والأصل في ذلك حديث سهل بن أبي حثمة الذي أخرجه أبو داود (1) والترمذي (2) والنسائي (3) قال: "أمرنا رسول الله عليه السلام قال: إذا خرصتم فجدّوا، فإن لم تدعوا أو تجدّو الثلث فدعوا الربع".

قال الخطابي: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الخراص بذلك، وبهذا قال إسحاق وأحمد.

وذهب غير هؤلاء إلى أنه لا يترك لهم شيئًا شائعًا في جملة النخل ويفرد لهم نخلات معدودة، قد علم مقدار تمرها بالخرص.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 110 رقم 1605).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 35 رقم 643).

(3)

"المجتبى"(5/ 42 رقم 2491).

ص: 172

وقال ابن حزم في "المحلى": وأما التمر ففرض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو وأهله رطبًا على التوسعة ولا يكلف عنها بزكاة.

وهو قول الشافعي والليث بن سعد.

وقال مالك وأبو حنيفة: لا يترك له شيئًا.

وذكر ابن بزيزة في "مطامح الأفهام": قال الجمهور: يقع الخرص في النخل والكرم، واختلف مذهب مالك هل يخرص الزيتون أم لا؟ وفيه قولان: الجواز؛ قياسًا على الكرم.

والمنع؛ لوجهين:

الأول: لأن أوراقه تستره.

الثاني: أن أهله لا يحتاجون إلى أن يأكلوه رطبًا فلا معنى لخرصه.

وقد اختلف العلماء في الخرص هل هو شهادة أو حكم. فإن كان شهادةً لم يكتف بخارص واحد، وإن كان حكمًا اكتفى به.

وكذلك اختلفوا في القائف، والطبيب يشهد في العيوب، وحاكم الجزاء في الصيد.

واختلف الفقهاء هل يحاسَبُ أصحاب الزروع والثمار بما أكلوا قبل التصفية والجداد أم لا؟

وكذلك اختلفوا هل يترك لهم قدر العواري والضيف وما في معناه أم لا؟

واختلفوا أيضًا إذا غلط الخارص، ومحصَّل الأمر فيه: إن لم يكن من أهل المعرفة بالخرص فالرجوع إلى الخارج لا إلى قوله، وإن كان من أهل المعرفة ثم تبيَّن أنه أخطأ فهل يؤخذ بقوله أو بما تبيَّن فيه خلاف، على اختلافهم في المجتهد يخطئ هل ينقض حكمه أم لا؟

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فكرهوا ذلك وقالوا: ليس في شيء من هذه الآثار أن الثمرة كانت رطبًا في وقت ما خرصت في حديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهم،

ص: 173

وكيف يجوز أن تكون رطبًا حينئذٍ فيجعل لصاحبها حق الله فيها بكيله ذلك تمرًا يكون عليه نسيئة؟! وقد نهى رسول الله عليه السلام عن بيع التمر في رءوس النخل بالتمر كيلًا، ونهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة. وجاءت بذلك عنه الآثار المروية الصحيحة، قد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع من كتابنا، ولم يستثن رسول الله عليه السلام في ذلك شيئًا، فليس وجه ما رويناه في الخرص عندنا ما ذكرتم، ولكن وجه ذلك عندنا -والله أعلم- أنه إنما أريد بخرص ابن رواحة ليُعلم به مقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار، فيؤخذ مثله بقدره في وقت الصرام، لا أنهم يملكون منه شيئًا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل عنهم، وكيف يجوز ذلك وقد يجوز أن تصيب الثمرة بعد ذلك أفة فَتُتْلفها أو نار فتحرقها فيكون ما يؤخذ من صاحبها بدلًا من حق الله تعالى مأخوذًا منه بدلًا مما لم يسلم له، ولكنه إنما أريد بذلك الخرص ما ذكرنا، وكذلك في حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه فهو على ما وصفنا من ذلك.

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الشعبي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم كرهوا الخرص، حتى قال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري: خرص الثمار لا يجوز. وفي "أحكام ابن بزيزة": وقال أبو حنيفة وصاحباه الخرص باطل، قال تعالى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (1) ثم قال: واحتج أبو حنيفة وصاحباه والكوفيون على منع الخرص بنهيه عليه السلام عن المزابنة، والخرص يؤدي إليها؛ لأن فيه بيع التمر بالتمر كيلًا، ففيه التفاضل والنَّساء.

وقد أشار الطحاوي إلى ذلك بقوله: وقد نهى رسول الله عليه السلام عن بيع التمر في رءوس النخل بالتمر كيلًا.

والحاصل أنهم قالوا: ليس في الأحاديث المذكورة وهي ما رواه ابن عمر وجابر ما يدل على أن الثمرة كانت رطبًا في الوقت الذي خرصت فيه، وكيف يجوز أن

(1) سورة الذاريات، آية:[10].

ص: 174

تكون رطبًا حينئذٍ لأنه يكون تضمينًا لرب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز؛ لأنه بيع رطب بتمر وبيع حاضر بغائب، وذا لا يجوز، وهو من المزابنة المنهيّ عنها وهي بيع الثمرة في رءوس النخل بالتمر كيلًا، وهو أيضًا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة.

وهو أيضًا لا يجوز على ما ثبت في الأحاديث الصحيحة.

وقد ذكرها الطحاوي: في كتاب البيوع من هذا الكتاب؛ ولأن هذا تخمين وقد يخطئ، ولو جوَّزنا ذلك لجوَّزنا خرص الزرع وخرص الثمار بعد جدادها أقرب إلى الأبصار من خرص ما على الأشجار، فلما لم يجز في القريب لم يجز في البعيد، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن معنى الخرص في الأحاديث المذكورة على ما ذكر هؤلاء القوم، وإنما معناه أنه أريد بخرص عبد الله بن رواحة في حديث ابن عمر: أن يُعلم به مقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار فيؤخذ مثل ذلك بقدره وقت الصرام والجداد على حسب ما يجب فيها، وإنما أمر بذلك خوفًا أن يخونوا.

هذا معناه، لا أنه يلزم به حكم شرعي، أشار إليه بقوله: لا أنهم لا يملكون منه شيئًا مما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل عنهم.

أي: ليس معناه أن أصحاب الثمر يملكون من الثمر شيئًا مما يجب عليهم من الزكاة ببدل لا يزول البدل عنهم أصلًا، وكيف يجوز هذا المعنى، والحال أنه قد يجوز أن تصيب الثمرة بعد ذلك آفة سماوية مثل المطر يُتلفها، وهبوب الريح السموم فتحرقها، ووقوع النار فيها فتستأصلها.

أو غير سماوية بأن يسرقها سارق يذهب بها، ونحو ذلك.

فحينئذ يكون ما يؤخذ منه بدلًا مما لم يسلم له وذلك لا يجوز؛ لأنه ظلم وعدوان، وكذلك معنى الخرص في حديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه على ما ذكرنا لا على المعنى الذي ذكروا.

وقد قيل: إن قضية خيبر مخصوصة؛ لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأراد عليه السلام أن يعلم ما بأيديهم من الثمار فيترك لهم منها قدر نفقاتهم؛ ولأنه عليه السلام أقرهم ما

ص: 175

أقرهم الله، فلو كان على وجه المساقاة لوجب ضرب الأجل والتقييد بالزمان؛ لأن الإجارة المجهولة محرمة.

ص: وقد دل على ذلك ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن خُبَيب بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، عن سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعو الربع".

فقد علمنا أن ذلك لا يكون إلا في وقت ما تؤخذ الزكاة؛ لأن ثمرته لو بلغت مقدار ما تجب فيه الزكاة لم يحط عنه شيء مما وجب عليه فيها وأخذ منه مقدار ما وجب عليه فيها بكماله، هذا مما قد اتفق عليه المسلمون، ولكن الحطيطة المذكورة في هذا الحديث إنما هي ما قبل ذلك في وقت ما يكل من الثمرة أهلها قبل أوان أخذ الزكاة منها، فأُمِر الخُراص أن يلقوا مما يخرصون المقدار المذكور في هذا الحديث؛ لئلا يحتسب به على أهل الثمار في وقت أخذ الزكاة منهم.

ش: أي: وقد دل على ما قلنا من أن المراد من خَرْص ابن رواحة للعلم بمقدار ما في أيدي كل قوم من الثمار حتى لا يؤخذ في وقت الصرام أكثر من ذلك: ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن خُبَيب -بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة- بن عبد الرحمن بن خُبيب بن يساف الأنصاري الخزرجي المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار -بكسر النون وتخفيف الياء آخر الحروف- الأنصاري المدني روى له أبو داود والترمذي والنسائي هذا الحديث، ووثقه ابن حبان.

عن سهل بن أبي حثمة -واسم أبي حثمة عبد الله، وقيل: عامر- بن ساعدة الأنصاري، قال الواقدي: مات النبي عليه السلام وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: بايع تحت الشجرة، وكان دليل النبي عليه السلام ليلة

أحد، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا. وهذا منافٍ لما قاله الواقدي.

ص: 176

وأخرجه الثلاثة:

فأبو داود (1): عن حفص بن عمر، نا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن بن مسعود قال:"لما جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا قال: أمرنا رسول الله عليه السلام قال: إذا خرصتم فجدُّوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجدّوا الثلث فدعوا الربع".

والترمذي (2): عن محمود بن غيلان، قال: نا أبو داود الطيالسي، أنا شعبة، قال: أخبرني خُبيب بن عبد الرحمن، قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود بن نيار يقول: "جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدث أن رسول الله عليه السلام كان يقول: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع".

والنسائي (3).

وأخرجه البزار (4) وقال: لم يروه عن سهل إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار وهو معروف.

وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام":

عبد الرحمن هذا لا يعرف له حال.

وقال أبو بكر بن العربي لم يصح حديث سهل بن أبي حثمة، وقال أيضًا: ليس في الخرص حديث يصح.

إلا حديث البخاري (5): عن أبي حميد الساعدي: "غزونا مع رسول الله عليه السلام غزوة تبوك

". الحديث.

قال: ويليه حديث ابن رواحة في الخرص على اليهود (6).

(1)"سنن أبي داود"(2/ 110 رقم 1605).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 35 رقم 643).

(3)

بيض له المؤلف رحمه الله، وهو في "المجتبى"(5/ 42 رقم 2491).

(4)

"مسند البزار"(6/ 279 رقم 2305).

(5)

"صحيح البخاري"(2/ 539 رقم 1411).

(6)

تقدم.

ص: 177

قلت: أخرج الحاكم (1) حديث سهل وقال: صحيح الإسناد.

قوله: "فخذوا" من الأخذ، وكذا في رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود "فجُدُّوا" بضم الجيم وتشديد الدال، من جدَّ يَجُدُّ -بضم العين في المستقبل- وكسرها، ومعناه: اجتهدوا في الخرص.

قوله: "ودعوا الثلث" أي: اتركوا، فإن لم تتركوا الثلث فاتركوا الربع.

وقد علم من هذا أن ذلك لا يكون في وقت أخذ الزكاة؛ لأن ثمرته لو بلغت مقدار ما تجب فيه الزكاة لم يجز حط شيء من الذي وجب عليه، بل يؤخذ عنه ما وجب عليه فيها على التمام والكمال، وهذا لا خلاف فيه لأحد، وهو معنى قوله: هذا ما اتفق عليه المسلمون، والمراد من الحطيطة المذكورة في قوله:"ودعوا الثلث أو الربع" إنما هي قبل أخذ الزكاة؛ لتكون توسعةً لهم؛ لأنهم يأكلون منها، والطير أيضًا تأكل، ويتلف منها شيء أيضًا؛ فأمرهم النبي عليه السلام أن يحطوا المقدار المذكور عنهم حتى لا يتضررون بحساب ذلك وقت أخذ الزكاة منهم، وهو معنى قوله:"فأمر الخُرَّاص" بضم الخاء وتشديد الراء جمع خارص "أن يُلقوا" من الإلقاء، وهو الطرح.

وقوله: "المقدار المذكور". بالنصب مفعوله، والمقدار المذكور في الحديث هو الثلث والربع.

ص: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أنه كان يأمر الخراص بذلك".

حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار، عن سعيد بن المسيب، قال:"بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهل بن أبي حثمة يخرص على الناس، فأمره إذا وجد القوم في نخلهم أن يخرص عليهم ما يأكلونه".

فهذا أيضًا دليل على ما ذكرنا.

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 560 رقم 1464).

ص: 178

ش: أي: قد روي عن عمر أنه كان يأمر الذي يخرص بترك ثلث أو ربع توسعةً لهم، فهذا أيضًا دليل على أن ذلك إنما كان قبل أخذ الزكاة على ما ذكرنا.

أخرج ذلك بإسناد صحيح: عن روح بن الفرج القطَّان المصري، عن يوسف ابن عدي بن زُرَيق الكوفي شيخ البخاري عن أبي بكر بن عياش بن سالم الحناط -بالنون- المقرئ، وقد تكرر ذكره، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بُشير -بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف- بن يسار -بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة- الحارثي الأنصاري المدني- روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار:"أن عمر رضي الله عنه كان يبعث أبا خيثمة خارصًا للنخل، فقال: إذا أتيت أهل البيت في حائطهم فلا تخرص عليهم قدر ما يأكلون".

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(2): ثنا أبو بكر بن إسحاق، نا أبو المثنى، نا مسدد، نا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه على خرص التمر، وقال: إذا أتيت أرضًا فاخرصها ودعْ لهم قدر ما يأكلون".

قوله: "يخرص على الناس" جملة وقعت حالًا، وهو من الأحوال المقدرة.

قوله: "فهذا" أي: أثر عمر رضي الله عنه أيضًا يدل على أن الخرص إنما كان لإعلام مقدار ما في أيديهم من الثمار حتى يؤخذ مثله بقدره وقت الصرام، وإنما أمر بذلك خوفا عن الخيانة كما ذكرناه، والله أعلم.

ص: وقد روي عن أبي حميد الساعدي أيضًا في صفة خرص رسول الله عليه السلام ما يدل على ما ذكرنا.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 414 رقم 10560).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 560 رقم 1465).

ص: 179

حدثنا إبراهيم بن أبي داود وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قالا: ثنا الوحاظيّ. (ح) وحدثنا علي بن عبد الرحمن وأحمد بن داود، قالا: ثنا القعنبي، قالا: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا عمرو بن يحيى المازني، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال:"خرجنا مع رسول عليه السلام في غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة امرأة، فقال رسول الله عليه السلام: اخرصوها، فخرصها رسول الله عليه السلام وخرصناها عشرة أوسق وقال: أحصيها حتى أرجع إليك إن شاء الله، فلما قدمناها سألها رسول الله عليه السلام عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ قالت: عشرة أوسق".

ففي هذا أيضًا أنهم خرصوها، وأمروها بأن تحصيها حتى يرجعوا إليها، فذلك دليل على أنهما لم تملك بخرصهم إياها ما لم تكن مالكةً له قبل ذلك، وإنما أرادوا بذلك أن يعلموا مقدار ما في نخلها خاصةً، ثم يأخذون منها الزكاة في وقت الصرام على حسب ما يجب فيها، فهذا هو المعنى في هذه الآثار عندنا، والله أعلم.

ش: أي: وقد روي عن أبي حميد الصحابي واسمه عبد الرحمن -وقيل: المنذر- ابن سعد الساعدي أيضًا في صفة خرص رسول الله عليه السلام ما يدل على أن المراد من الخرص إنما كان للعلم بمقدار ما في النخل من الثمر، لئلا يخونوا فيها، وهو معنى قوله: "وإنما أرادوا بذلك أن يعلموا

" إلى آخره.

ثم إنه أخرج هذا الحديث من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي وعبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ شيخ الشام في وقته وشيخ أبي داود والطبراني، كلاهما عن يحيى بن صالح الوحاظيّ أبي زكرياء الشامي الدمشقي وقيل: الحمصي، أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري، ونسبته إلى وُحَاظة بن سعد بطن من حمير.

عن سليمان بن بلال القرشي التيمي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة، عن عمرو بن يحيى المازني الأنصاري روى له الجماعة، عن عباس بن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري المدني روى له الجماعة سوى النسائي، عن أبي حميد رضي الله عنه.

ص: 180

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمَّد بن المغيرة الكوفي ثم المصري شيخ أبي عوانة الإسفراييني أيضًا، قال ابن أبي حاتم: كتبتُ عنه وهو صدوق.

وأحمد بن داود المكي كلاهما، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن بلال

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): ثنا سهل بن بكار، أبنا وهيب، عن عمرو بن يحيى، عن عباس الساعدي، عن أبي حميد الساعدي قال:"غزونا مع رسول الله عليه السلام غزوة تبوك، فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة تسقيها، فقال النبي عليه السلام: اخرصوا، وخرص رسول الله عليه السلام عشرة أوسق، فقال: أَحْصي ما يخرج منها، فلما أتينا تبوك قال: أما إنها ستهبُّ الليلة ريحٌ شديدة فلا يقومنَّ أحدٌ، ومن كان معه بعيرٌ فليعقله، فعقلناها، وهبَّت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبلَيْ طيء، وأهدى ملك أيلة للنبي عليه السلام بغلةً بيضاء وكساه بُرْدًا وكتب له ببحرهم فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: كم جاءت حديقتك؟ قالت: عشرة أوسق، خرص رسول الله عليه السلام، قال النبي عليه السلام: إني متعجل إلى المدينة فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل. فلما -قال ابن بكار كلمةً معناها- أشرف على المدينة قال: هذه طابة، فلما رأى أحدًا قال: هذا جبل يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلى. قال: دُور بني النجار، ثم دُور بني عبد الأشهل، ثم دُور بني ساعدة أو دور بني الحارث بن الخزرج، وفي كل دُور الأنصار -يعني- خيرا". انتهى.

وغزوة تبوك تسمى العسرة والفاضحة، وهي من المدينة على أربع عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلةً، وكانت في رجب يوم الخميس سنة تسع، وقال ابن التين: خرج رسول الله عليه السلام -في أول يوم من رجب إليها ورجع في سلخ شوال، وقيل: في شهر رمضان.

وفي "المحكم" تبوك اسم أرض، وقد تكون تبوك تفعل.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 539 رقم 1411).

ص: 181

وزعم ابن قتيبة أن رسول الله عليه السلام جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حِسْيها بِقَدحٍ فقال: ما زلتم تبوكونها بعد، فسميت تبوك، ومعنى تبوكون: تدخلون فيه السهم وتحركونه ليخرج ماؤه.

قلت: هذا يدل على أنه معتل، وذكرها ابن سيده في الثلاثي الصحيح.

وقوله: "حِسْيها" أي حسي تبوك وهو: بكسر الحاء المهملة وسكون السين المهملة، وفي آخره ياء آخر الحروف، وما تنشفه الأرض من الرمل فإذا صار إلى صلابة أمسكته فيحُفر عنه الرمل فتستخرجه، وهو الاحتساء ويجمع على أحساء.

قوله: "وادي القرى". ذكر السمعاني أنها مدينة قديمة بالحجاز فيما يلي الشام، وذكر ابن قرقول أنها من أعمال المدينة.

قوله: "على حديقة امرأة". قال ابن سيده: هي من الرياض: كل أرض استدارت، وقيل: الحديقة كل أرض ذات شجر مثمر ونخل، وقيل: الحديقة البستان والحائط، وخصَّ بعضهم به الجنة من النخل والعنب، وقيل: الحديقة حفرة تكون في الوادي تحبس الماء في الوادي، وإن لم يكن الماء في بطنه فهو حديقة، والحديقة أعمق من الغدير، والحديقة: القطعة من الزرع.

وفي "الغريبين": يقال للقطعة من النخل حديقة.

قوله: "اخرصوها". أي: احزروها.

قوله: "أحصيها". أي: احفظيها، من أحصى يحصي إحصاءً ومنه الحديث الآخر "أكلّ القرآن أحصيت" (1) أي: حفظت.

قوله: "بجبليّ طيىء". ذكر الكلبي في كتابه "أسماء البلدان" أن سلمى بنت حام بن جُمَّى بن براواة من بني عمليق كانت لها حاضنة يقال لها العوجاء وكانت الرسول بينها وبن أَجَأ بن عبد الحي من العماليق، فعشقها فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبلي طيّء وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى إخوة فجاءوا في طلبها

(1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 270 رقم 538).

ص: 182

فلحقوهم بموضع الجبلين، فأخذوا سلمى فنزعوا عينيها ووضعوها على الجبل، وكتف أجَأ -وكان أول من كتف- ووضع على الجبل الآخر، فسمي بها الجبلان أَجَأ وسلمى، ويقال: إن زوج سلمى هو الذي قتلهما.

و"أجأ" بفتح أوله وثانيه على وزن فَعَل، يهمز ولا يهمز، ويذكَّر ويؤنث، وهو مقصور في كلا الوجهين.

قوله: "وأهدى ملك أيلة". واسمه يوحنا بن رؤبة.

و"أيلة" مدينة على شاطئ البحر في منصف ما بين مصر ومكة المشرفة على وزن فَعْلَة، وقال محمَّد بن حبيب:"أيلة" شعبة من رضوى وهو جبل ينبع، والأول أصح سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم عليه السلام،وقد روي أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر.

ص: وقد قال قوم في هذا الخرص غير هذا القول، قالوا: إنه قد كان في أول الزمان يُفعل ما قال أهل المقالة الأولى من تمليك الخراص أصحاب الثمار حق الله فيها وهي رطب ببدل يأخذونه منهم تمرًا، ثم نسخ ذلك بنسخ الربا فردت الأمور أن لا يؤخذ في الزكوات إلا ما يجوز في البياعات، وذكروا في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا أبو الزبير، عن جابر:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن الخرص وقال: أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يكل مال أخيه بالباطل؟! ".

فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: طائفة من الجماعة الذين ينكرون الخرص، وأشار بهذا الخرص إلى الخرص المذكور في الأحاديث السابقة، وأشار بهذا القول إلى القول الذي ذكره أهل المقالة الثانية في الجواب عن أحاديث الخرص التي احتجت بها أهل المقالة الأولى، وأراد بذلك بيان ما قاله هؤلاء القوم في جواب أحاديث الخرص، وهو أنهم قالوا: كان في ابتداء الإِسلام يفعل ما قال أهل المقالة الأولى القائلون

ص: 183

بالخرص، وما قاله أهل المقالة الأولى: هو أن الخُراص كانوا يُمَلكون أصحاب الثمار الزكوات التي هي حق الله تعالى، ويأخذون عوض ذلك منهم تمرًا، وذلك حينما تكون ثمارهم رطبًا، وكان مثل هذا جائزًا في ذلك الزمان قبل نزول تحريم الربا، فلما أنزل الله تعالى آية الربا، وعلمهم بحرمة الربا انتسخ ذلك الحكم بانتساخ الربا، فصار الأمران لا يؤخذ في الزكوات إلا ما يجوز فعله في البياعات، وفي البياعات لا يجوز بيع الرطب بالتمر نسيئة؛ لكونه ربًا، فكذلك الخرص لا يجوز لأن فيه أخذ التمر عن الرطب نسيئة، وهو عين الربا، والدليل على ذلك حديث جابر رضي الله عنه فإنه صرَّح في حديثه أنه عليه السلام نهى عن الخرص، والحظر بعد الإباحة علامة النسخ.

وأيضًا قوله عليه السلام: "أرأيتم إن هلك الثمر، أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟ " فدل على أن الخرص ممنوع على الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى؛ فإنه على تقدير هلاك المال يكون ما أخذوه من أصحابه أخذًا باطلًا وعدوانًا ليس في مقابلة شيء، وهو أشد الربا؛ لأنه أخذ بلا بدل أصلًا.

فإن قيل: حديث جابر هذا ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن لهيعة، وقال ابن حزم: أسد بن موسى منكر الحديث، وأحاديث الخرص صحيحة، فكيف تنسخ بهذا الحديث الضعيف؟

قلت: لا نسلم انتساخ الخرص بهذا الحديث، وإنما هو بالآية الكريمة آية الربا.

والحديث من جملة الشواهد على أن كلام ابن حزم في أسد بن موسى مردود؛ لأن البخاري قال: أسد بن موسى صالح مشهور الحديث يقال له أسد السنة، وقال ابن يونس والنسائي: أسد بن موسى ثقة. وأما عبد الله بن لهيعة فإن أحمد قد وثقه وبالغ فيه، وكونه ضعيفًا ليس مجمعًا عليه؛ فإن مثل أحمد إذا رضي به في الحجة أفلا يرضي غيره في الشواهد والمتابعات؟!

ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا الزكوات تجب في أشياء مختلفة منها الذهب والفضة، والثمار التي تخرجها الأرض، والنخل والشجر والمواشي السائمة، وكلٌ قد أجمع أن رجلًا لو وجبت عليه زكاة ماله وهو ذهب أو فضة،

ص: 184

أو ماشية سائمة فسلم ذلك له المصدق على ما لا تجوز عليه البياعات أن ذلك غير جائز له، ألا ترى أن رجلًا لو وجبت عليه في دراهمه الزكاة فباع ذلك منه المصدق بذهب نسيئة أن ذلك لا يجوز، وكذلك لو باع ذلك منه بذهب ثم فارقه قبل أن يقبضه لم يجز ذلك، وكذلك لو وجبت عليه الزكاة في ماشيته ثم سلم ذلك له المصدق ببدلٍ مجهول؛ فذلك كله حرام غير جائز، فكان كل ما حرم في البياعات في بيع الناس ذلك بعضهم من بعض قد دخل فيه حكم المصدق في بيعه إياه من رب المال الذي فيه الزكاة التي يتولى المصدق أخذها منه، فلما كان ما ذكرنا كذلك في الأموال التي وصفنا؛ كان النظر على ذلك أيضًا أن يكون كذلك حكم الثمار، فكما لا يجوز بيع رطب بتمر نسيئة في غير ما فيه الصدقات فكذلك لا يجوز فيما فيه الصدقات فيما بين المصدق وبين رب ذلك المال.

فهذا هو النظر أيضًا في هذا الباب، وقد عاد ذلك إلى ما صرفنا إليه الآثار المروية عن رسول الله عليه السلام التي قدَّمنا ذكرها، فبذلك نأخذ.

وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: وأما وجه هذا الباب من طريق القياس، وملخصه: أن التصرف بين المصدق وبين أرباب الأموال الزكوية يعتبر بتصرفات المتبايعين، فكل ما لا يجوز بين المتبايعين من التصرف؛ كالبيع ببدل مجهول، أو ببدل معلوم إلى وقت مجهول، وكبيع الرطب بالتمر نسيئةً، وكبيع الدراهم بالدنانير نسيئةً، ونحو ذلك؛ لا يجوز ذلك أيضًا بين المصدق وأرباب الأموال؛ لأن الخرص على الوجه الذي ذكره أهل المقالة الأولى هو بيع الرطب بالتمر نسيئة، وبيع العنب بالزبيب كذلك، وهو عين الربا.

قوله: "فبذلك نأخذ" إشارة على أنه اختار قول أهل المقالة الثانية، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه.

ص: 185