الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: صوم يوم عاشوراء
.
ش: أي هذا باب في بيان صوم يوم عاشوراء.
وعاشوراء على وزن فاعولاء، وهو من أبنية المؤنث صفة لليوم والليلة يضاف إليها.
وقال الخليل: هو اليوم العاشر، ويقال: التاسع، فعلى هذا هو صفة لليوم وهو في التاسع من إضافة الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع.
وقال أبو عمر الزهد في كتاب "يوم وليلة": إن العرب تقدم في الأشهر النهار إليها قبل الليل، وتجعل الليلة المستقبلة لليوم الماضي. وهذا هو الوجه في وقوع عاشوراء صفة للتاسع.
وقال بعضهم: إضافته لليلة أصح. وقال الحربي وغير واحد: هو العاشر.
وقيل: سمي التاسع عاشوراء على عادة العرب في الورد، وأنه مأخوذ من إعشار الإبل، وكانت إذا وَرَدَت لتسعة أيام سموه عِشْرًا؛ وذلك أنهم يحسبون في الإظماء يوم الوِرد، فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا: وردت رِبْعًا، وإن رعَتْ ثلاثًا ووردت في الرابع قالوا: وردت خِمْسًا؛ لأنهم حسبوا في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه قبل الشرعي، وأول اليوم الذي ترد فيه بعده.
وقال ابن الأثير: عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وهو اسم إسلامي، وليس في كلامهم فاعولاء بالمد غيره، وقد أُلحق به تاسوعاء وهو تاسع المحرم، وقيل: إن عاشوراء هو التاسع مأخوذ من العِشر في أوراد الإبل، تقول العرب: وردت الإبل عِشْرًا إذا وردت اليوم التاسع.
وقال الجوهري: ويوم عاشوراء وعَشُوراء أيضًا ممدودان.
وحكى أبو عمرو الشيباني فيه القصر. وقال أبو منصور اللغوي: عاشوراء ممدود ولم يجيء فاعولاء في كلام العرب إلا عاشوراء، والضاروراء اسم للضراء، والساروراء اسم للسراء، والدالولاء اسم للدالة، وحابوراء اسم موضع.
ثم العاشوراء في المشهور هو اليوم العاشر من المحرم كما ذكرناه، وقال ابن عباس وآخرون: إنه اليوم التاسع، وقال أبو الليث السمرقندي بعد أن ذكر القولين: وقال بعضهم: هو يوم الحادي عشر، وفي "الأحكام" لابن بزيرة: وقد اختلف الصحابة فيه هل هو اليوم التاسع أواليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر؟ وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وفيه استوت السفينة على الجوديّ، وفيه تاب الله سبحانه على آدم، وفيه وُلد عيسى عليه السلام، وفيه نجَّى الله يونس من بطن الحوت، وفيه تاب الله على قومه، وفيه أخرج يوسف عليه السلام من الجب، وفيه تكسى الكعبة، وفيه صامت الوحوش. ولا يبْعُد أن يجعل الله لها صيامًا خاصُّا كما كان صيام بعض الأمم قبلنا بترك الكلام فقط.
وبالجملة هو يوم عظيم معلوم القدر عند الأنبياء عليهم السلام والنفقة فيه مخلوفة، وقد روينا بالإسناد إلى، جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام: "من وسَّع على أهله يوم عاشوراء وسَّع الله عليه بقية عامه. قال لجابر: جربناه فوجدناه صحيحًا. وقال الراوي عن جابر: جربناه فوجدناه كما قال جابر رضي الله عنه"(1) انتهى.
(1) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(3/ 365 رقم 3791) من طريق محمَّد بن المنكدر، عن جابر، به مختصرًا. وقال البيهقي: هذا إسناد ضعيف. ورواه ابن عبد البر في "الاستذكار"(10/ 140 رقم 14294) من طريق شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر، بلفظ المؤلف.
وروي من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري.
وبعد أن سرد البيهقي طرقه قال: وهذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فهي إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة، والله أعلم.
ونقل العجلوني في "كشف الخفاء"(2/ 392 رقم 2642) عن العراقي قال: وله طريق عن جابر، على شرط مسلم، أخرجها ابن عبد البر في "الاستذكار"، ثم قال العراقي: وقد جمعت طرقه في جزء. وانظر: "كشف الخفاء" فإن فيه كلامًا جيدًا.
وذكر الاختلاف في تسمية عاشوراء، فقال بعضهم: إنما سمي عاشوراء لأنه عاشر المحرم، وقال بعضهم: لأن الله أكرم فيه عشرةً من الأنبياء بعشر كرامات، وقال بعضهم: لأنه عاشر كرامة أكرم الله تعالى بها هذه الأمة.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء، عن أبيه قال: "بعثني رسول الله عليه السلام إلى قومي مِن أسلم فقال: قل لهم: فليصوموا يوم عاشوراء، فمن وجدت منهم قد أكل
في صدر يومه فليصم آخره".
ش: الوهبي: هو أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير الصحيح.
وابن إسحاق هو محمَّد بن إسحاق المدني، روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا ومسلم في المتابعات.
وعبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني روى له الجماعة.
وحبيب بن هند بن أسماء الأسلمي، وثقه ابن حبان.
وأبوه هند بن أسماء بن هند بن حارثة الأسلمي الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسند"(1): ثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن محمَّد، عن حبيب بن هند، عن أبيه
…
إلى آخره نحوه.
غير أن في لفظه: "قد أكل في أول يومه"، وهذا يدل على أن صوم يوم عاشوراء كان واجبًا.
وقد اختلف العلماء في هذا الباب فقيل: كان صوم يوم عاشوراء فرضًا فنسخ برمضان، وقيل: لم يكن فرضًا ولكنه كان مرغبًا فيه فخفف أمره وحصل التخيير في صيامه بعد ذلك، والحديث مما يقوي مقالة أهل المقالة الأولى، وروي عن بعض
(1)"مسند أحمد"(3/ 484 رقم 16004).
السلف أن فرضه باقٍ لم ينسخ، وقد انقرض القائلون بهذا، وحصل الإجماع على خلافه، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما كراهة قصد تعيينه بالصوم.
وقال أبو عمر: لم يختلف العلماء أن يوم عاشوراء ليس بفرض صيامه، ولا فرض إلا صوم رمضان، وقد قال طائفة من العلماء: إنه كان فرضًا ثم نسخ برمضان، ولما فرض رمضان صامه رسول الله عليه السلام على وجه التبرك وأمر بصيامه على ذلك وأخبر بفضل صومه، وفعل بعد ذلك أصحابه، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى الحارث بن هشام:"إن غدًا يوم عاشوراء فصم وَأْمُر أهلك أن يصوموا".
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثله.
قال أبو عمر: وكان طاوس لا يصومه لأنه -والله أعلم- لم يبلغه ما جاء فيه من الفضائل عن النبي عليه السلام وليس فيمن خفى عليه ما علمه غيره حجة، انتهى.
وفيه دلالة على أن النية تجوز في النهار في صوم يوم عليه صومه بعينه، ولم يكن نوى صومه من الليل. وهو حجة على من يشترط التبييت.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة الخزاعي -هو ابن المنهال- عن عمه قال:"غدونا على رسول الله عليه السلام صبيحة يوم عاشوراء وقد تغذينا، فقال: أصمتم هذا اليوم؟ فقلنا: قد تغدينا. فقال: فأتموا بقية يومكم".
ش: عبد الرحمن بن سلمة، ويقال: ابن مسلمة الخزاعي، ويقال: ابن المنهال بن سلمة الخزاعي، ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى له أبو داود والنسائي هذا الحديث الواحد.
وعمه صحابي لم يذكر اسمه. وجهالة الصحابي لا تضر صحة الحديث، وبهذا سقط تضعيف البيهقي بعد الحديث بقوله: عبد الرحمن هذا مجهول ومختلف في اسم أبيه، ولا يُدرَى مَنْ عمه.
وأخرجه النسائي (1): من حديث عبد الرحمن هذا، عن عمه أسلم "أتيت النبي عليه السلام فقال: أصمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: فأتموا بقية يومكم واقضوا".
وقال النسائي في "الكنى": أبو المنهال عبد الرحمن بن سلمة بن المنهال.
وقد استدل به مَن كان يقول: إن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا؛ لأنه عليه السلام أمرهم بإتمام بقية يومهم ذلك بعد أن تغدوا في أول يومهم، فهذا لم يكن إلا في الواجب.
وقد أجيب عن هذا بأن هذا كان حكمًا خاصًّا بعاشوراء، ورخصة ليست لسواه، وزيادة في فضله وتأكيد صومه. وذهب إلى ذلك ابن حبيب المالكي.
وقال الخطابي: كان ذلك على معنى الاستحباب والإرشاد لأوقات الفضل؛ لئلا يغفل عنه عند مصادفة وقته.
قلت: بل الظاهر أن هذا كان لأجل فرضية صوم يوم عاشوراء، ولهذا جاء في رواية أبي داود والنسائي:"فأتموا بقية يومكم واقضوه" فهذا صريح في دلالته على الفرضية؛ لأن القضاء لا يكون إلا في الواجبات، فصار كرمضان إذا أفطروا في أول يوم منه عند عدم ثبوت الرؤية، ثم ثبت في أثناء النهار، فإن الواجب عليهم إمساك بقية يومهم ثم قضاء يوم آخر.
ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا المنهال يحدث، عن عمه -وكان من أسلم- "أن ناسًا أتوا النبي عليه السلام -أو بعضهم- يوم عاشوراء، فقال: صمتم اليوم؟ فقالوا: لا، وقد أكلنا، فقال: فصوموا بقية يومكم".
ش: هذا طريق آخر في الحديث المذكور.
وعبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، وثقه ابن حبان.
(1)"السنن الكبرى"(2/ 160 رقم 2851).
وأبو المنهال هو عبد الرحمن بن سلمة المذكور في الإسناد السابق.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه:"أن أسلم أتت النبي عليه السلام فقال: صمتم يومكم هذا؟ قالو: لا. قال فأتموا بقية يومكم واقضوه". قال أبو داود: يعني عاشوراء.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذه الآثار وجوب صوم يوم عاشوراء، وفي أمر النبي عليه السلام إياهم بصومه بعد ما أصبحوا دليل على من كان في أول يوم عليه صوم بعينه ولم يكن نوى صومه من الليل أنه يجزئه أن ينوي صومه بعد ما أصبح إذا كان
ذلك قبل الزوال، على ما قال أهل العلم في ذلك".
ش: أشار بهذا الكلام إلى أن الأحاديث المذكورة يستفاد منها حكمان:
الأول: وجوب صوم يوم عاشوراء.
والثانى: جواز النية في صوم يوم عليه صومه بعينه من النهار كرمضان والنذر المعين. وقد ذكرناهما عن قريب.
وقال عياض: ذهب الكوفيون إلى أن كل ما فرض من الصوم في وقت معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت، لهذا الحديث، ويجزئه إذا نواه قبل الزوال. وهو قول الأوزاعي وعبد الملك بن ماجشون.
وقال الخطابي: وقد يحتج أهل الرأي بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته، إلا أن قوله عليه السلام:"واقضوه" يفسد هذا الاستدلال؛ لأن وجوب القضاء لم يكن لأجل عدم وجود النية من الليل بل لأجل وجود الإفطار في أول النهار، فإذا كانوا هم مأمورين بإتمام بقية يومهم بدون اشتراط نية أصلًا، فبالأحرى أن يصوموا ذلك اليوم بدون اشتراط النية من الليل.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 327 رقم 2447).
ص: وقد روي في صوم عاشوراء ما زاد على ما ذكرنا:
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا يوسف بن يزيد، قال: ثنا خالد بن ذكوان، عن الرُّبيِّع بنت معوذ قال:"سألتها عن صوم يوم عاشوراء، فقالت: بعث رسول الله عليه السلام في الأنصار: مَن كان أصبح صائمًا فليتم على صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم آخر يومه، فلم نزل نصومه بعد، ونصومه صبياننا وهم صغار، ونتخد لهم اللعبة من العهن، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة".
ففي هذا الحديث أنهم كانوا يمنعون صبيانهم الطعام ويصوِّمُونهم يوم عاشوراء. وهذا عندنا غير جائز؛ لأن الصبيان غير متعبدين بصيام ولا صلاة ولا بغير ذلك، وكيف يكونون متعبدين بشيء من ذلك وقد رفع الله عز وجل عنهم القلم؟!
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: أراد بالزيادة المذكورة في هذا الحديث على الأحاديث السابقة هي قولهم: "ونصومه صبياننا وهم صغار" وهذا غاية تأكيد من كون صوم يوم عاشوراء فرضًا.
وأخرجه بإسناد صحيح.
والحماني هو يحيى بن عبد الحميد الحماني أبو زكرياء الكوفي، وثقه ابن معين وغيره.
ويوسف بن يزيد أبو معشر البَرَّاء العطار، كان يبري النبل، وقيل: كان يبري العود، روى له الشيخان.
وخالد بن ذكوان المديني أبو الحسن، ويقال: أبو الحسن روى له الجماعة غير ابن ماجه (1).
والرُّبَيِّع -بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة- بنت معوذ بن عفراء الأنصارية الصحابية.
وأخرجه البخاري (2): ثنا مسدد، قال: ثنا بشر بن المفضل، نا خالد بن ذكوان، عن الرُّبَيَعّ بنت معوذ قالت:"أرسل النبي عليه السلام غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: مَن أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه، ومَن أصبح صائمًا فليصم، فكنا نصومه بعد ونُصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار".
وأخرجه مسلم (3): ثنا يحيى بن يحيى، قال: نا أبو معشر العطار، عن خالد بن ذكوان، قال: "سالت الرُّبَيَعّ بنت معوذ عن صوم عاشوراء، قالت: بعث رسول الله عليه السلام في قرى الأنصار
…
" إلى آخره نحوه.
قوله: "فلم نزل نصومه بعد" أي فلم نزل نصوم يوم عاشوراء بعد ذلك.
قوله: "ونُصَوِّمه" من التصويم، أي: فنصوِّم يوم عاشوراء صبياننا.
قوله: "وهم صغار" جملة وقعت حالًا كاشفة وموضحة، وهي التي يستغني الكلام عنها؛ وذلك لأن الصبيان هم الصغار، وإنما جاءت هذه الجملة كشفا وتوضيحا لمعناه.
قوله: "اللُّعبة" بضم اللام اسم لكل ما يلعب به، ومنه لُعْبة الشطرنج والنرد، واللَّعبة -بفتح اللام- المرة الواحدة من اللعب، واللِّعبة -بالكسر- نوع منه مثل الرِّكبة والِجلْسة.
(1) كذا في "الأصل، ك"، والصواب أن ابن ماجه روى له أيضًا كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" وفروعه.
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 692 رقم 1859).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 799 رقم 1136).
والعِهْن -بكسر العين- الصوف، جمع عهنة مثل صوف وصوفة، وقيل: لا يقال للصوف: عِهْنٌ إلا إذا كان مصبوغًا، وقال ابن الأثير: العِهْنُ: الصوف الملون، الواحدة عِهْنة.
ويستفاد منه أحكام: وجوب صوم يوم عاشوراء، وهو ظاهر، وإباحة اتخاذ اللُّعْبة من العهن ونحوه لأجل إشغال الصغار، وعدم اشتراط النية من الليل في الصوم المفروض المؤقت.
قوله: "وهذا عندنا غير جائز" أي: الفعل المذكور وهو تصويم الصبيان غير جائز؛ لأنهم كانوا غير متعبدين أي غير مكلفين بالعبادات؛ لأن القلم مرفوع عنهم، ولهذا قال القرطبي: ولعل النبي عليه السلام لم يعلم بذلك، وبعيد أن يكون أَمَرَ بذلك؛ لأنه تعذيب صغير بعبادة شاقة، ومراد الطحاوي من قوله: وهذا غير جائز؛ هو ما إذا فعل بهم ذلك على سبيل الوجوب، وأما إذا فعل بهم ذلك على سبيل التدريب على العبادات فلا بأس به إذا لم تحصل لهم مشقة.
وقال ابن بطال: أجمع العلماء أنه لا تلزم العبادات والفرائض إلا عند البلوغ، إلا أن أكثر العلماء استحبوا تدريب الصبيان على العبادات رجاء البركة، وأنهم يعتادونها فتسهل عليهم إذا لزمتهم، وأن مَن يفعل ذلك معهم مأجور. انتهى.
وعن أحمد روايتان: إحداهما: أنه يجب على مَن بلغ عشر سنين كالصلاة.
وذكر ابن المنذر في "الإشراف": واختلفوا في الوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصيام، فكان ابن سيرين والحسن والزهري وعطاء وقتادة والشافعي يقولون: يؤمر به إذا أطاقه.
وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يضعف فيهن؛ حمل على صوم رمضان.
وقال ابن الماجشون: إذا أطاقوا الصيام أُلزموه، فإن أفطروا لغير عذر ولا علة فعليهم القضاء.
وقال أشهب: يستحب لهم إذا أطاقوه. وقال إسحاق: إذا بلغ ثنتي عشرة سنة أحببت له أن يكلف الصيام للعادة.
وقال عياض: وقيل: إنهم مخاطبون بالطاعات على الندب، وهذا لا يصح؛ لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة
…
" الحديث.
قوله: "حدثنا يونس
…
إلى آخره" بيان لقوله: وقد رفع الله عز وجل عنهم القلم.
وأخرجه من حديث علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما.
أما حديث علي: فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب المصري، عن جرير بن حازم بن زيد البصري، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان حصين بن جندب الحنيني الكوفي، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
وهذا إسناد صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا ابن السرح، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان بن مهران، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "مرَّ عَلَيَّ عَلِيُّ بن أبي طالب
…
" الحديث، وفيه أن رسول الله عليه السلام قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم".
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ أحمد، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد، عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
(1)"سنن أبي داود"(4/ 140 رقم 4401).
(2)
"السنن الكبرى"(4/ 323 رقم 7343).
وأخرجه أبو داود (1) أيضًا: ثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، أن رسول الله عليه السلام قال:"رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر".
وأخرجه النسائى (2) وابن ماجه (3) أيضًا.
ص: وقد روي في نسخ صوم يوم عاشوراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار صحيحة.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا المبارك بن فضالة، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن شقيق بن سلمة قال:"دخلت على ابن مسعود يوم عاشوراء وعنده رطب، فقال: ادنه، فقلت: إن هذا يوم عاشوراء وأنا صائم، فقال: إن هذا اليوم أمرنا بصيامه قبل رمضان".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبيه، عن عمارة بن عمير، عن قيس بن السكن، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"أتاه رجل وهو يأكل، فقال له: هَلُمَّ، فقال: إني صائم، فقال له عبد الله: كنا نصومه ثم تُرك" يعني: عاشوراء.
ش: لما بيَّن الأحاديث التي فيها الأمر بصيام يوم عاشوراء؛ شرع يبيِّن الأحاديث التي يبيِّن فيها انتساخ صومه.
فمنها ما أخرجه عن عبد الله بن مسعود من طريقين صحيحين:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن المبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشيءٌ البصري، وعن يحيى: ثقة، وعنه: لا بأس به. وعن أبي داود: إذا قال: حدثنا فهو
(1)"سنن أبي داود"(4/ 139 رقم 4398).
(2)
"السنن الكبرى"(3/ 60 س رقم 5625).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 658 رقم 2041).
ثبت، استشهد به البخاري في "الصحيح" وروى له في "الأدب"، وروى له الترمذي وأبو داود وابن ماجه.
عن إبراهيم بن إسماعيل الكوفي وثقه ابن حبان، عن شقيق بن سلمة أبي وائل.
وأخرجه البخاري في "تاريخه"(1): ثنا عمرو بن علي، قال: ثنا أبو عاصم، ثنا مبارك بن فضالة، حدثني إبراهيم الكوفي، حدثني شقيق قال: "دخلت على ابن مسعود يوم عاشوراء
…
" إلى آخره نحوه.
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به.
عن سفيان الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق الثوري الكوفي روى له الجماعة، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي روى له الجماعة، عن قيس بن السكن الأسدي الكوفي روى له مسلم والنسائي، عن ابن مسعود.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثني وكيع ويحيى بن سعيد القطان، عن سفيان.
وحدثني محمَّد بن حاتم -واللفظ له- قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني زُبَيْد الأيامي، عن عمارة بن عمير، عن قيس بن السكن:"أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله بن مسعود يوم عاشوراء وهو يأكل فقال: يا أبا محمَّد ادن فكل، قال: إني صائم: قال: كنا نصومه ثم ترك".
ص: حدثنا نصر بن مرزوق وابن أبي داود، قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث، قال: ثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة أخبرته:"أن رسول الله عليه السلام أمر بصيام عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان فقال: من شاء صام عاشوراء، ومن شاء أفطر".
(1)"التاريخ الكبير"(1/ 314).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 794 رقم 1127).
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ وشعيب، قالا: ثنا الليث، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، أن عراكًا أخبره، أن عروة بن الزبير أخبره عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله عليه السلام مثله.
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن نصر بن مرزوق وإبراهيم بن أبي داود البرلسي، كلاهما عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (1): ثنا حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يأمر بصيامه قبل أن يفرض رمضان، فلما فُرِضَ رمضان كان مَن شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء أفطر".
الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى وشعيب بن الليث، كلاهما عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عراك بن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (2): ثنا قتيبة، نا اليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن عراك بن مالك حدثه، أن عروة بن الزبير أخبره، عن عائشة:"أن قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله عليه السلام بصيامه حتى فُرِضَ رمضان، فقال رسول الله عليه السلام: مَن شاء فليصمه، ومَن شاء أفطره".
وأخرجه أبو داود (3) والترمذي (4) والنسائي (5).
(1)"صحيح مسلم"(2/ 792 رقم 1125).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 670 رقم 1794).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 326 رقم 2442).
(4)
"جامع الترمذي"(3/ 12713 رقم 753).
(5)
"السنن الكبرى"(2/ 157 رقم 2837).
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شيبان، عن الأشعث، عن جعفر بن أبي ثور، عن جابر بن سمرة قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا بصوم يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عليه، فلما فُرِضَ رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عليه".
ش: إسناده صحيح.
وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وشيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي أبو معاوية البصري روى له الجماعة.
والأشعث بن أبي الشعثاء سليم الكوفي روى له الجماعة، وجعفر بن أبي ثور عكرمة -وقيل: مسلم، وقيل: مسلمة- السوائي أبو ثور الكوفي.
روى عن جده جابر بن سمرة وهو جده من قبل أمه، وقيل: من قبل أبيه، روى له مسلم وابن ماجه.
والحديث أخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا شيبان، عن أشعث بن أبي الشعثاء
…
إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه:"عندما" موضع: "عليه" في الموضعين.
قوله: "يحثنا عليه" أي: يحضنا على صوم يوم عاشوراء ويرغبنا فيه.
قوله: "ويتعاهدنا" بمعنى يعهدنا عليه أي يوصينا، وقال القاضي: وقوله: "فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا" يحتج به مَنْ يحمل الأوامر على الوجوب.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: سمعت شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد بن عبادة قال:"أمِرنا بصوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، فلما نزل رمضان لم نؤمر ولم نُنْه عنه، ونحن نفعله".
(1)"صحيح مسلم"(2/ 794 رقم 1128).
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت الحكم، قال: سمعت القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد مثله.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: هذه ثلاث طرق رجالها ثقات:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن سلمة، عن القاسم، عن أبي عمار واسمه عَرِيب -بفتح العين وكسر الراء المهملتن وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء موحدة- بن حميد الهمداني، عن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن سفيان، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي عمار، عن قيس بن سعد قال:"أمر رسول الله عليه السلام بصيام عاشوراء، فَلَمَّا نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله".
الثاني: عن علي، عن روح، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل الهمداني أبي ميسرة الكوفي، عن قيس بن سعد.
وأخرجه النسائي (2): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: أنا شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد بن عبادة قال:"كنا نصوم عاشوراء ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه، وكنا نفعله".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي
…
إلى آخره.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 312 رقم 9366).
(2)
"السنن الكبرى"(2/ 26 رقم 2285).
وأخرجه ابن ماجه نحوه (1).
ص: ففي هذه الآثار نسخ وجوب صوم يوم عاشوراء، ودليل أن صومه قد رد إلى التطوع بعد أن كان فرضًا.
ش: أشار به إلى الأحاديث التي أخرجها عن ابن مسعود وعائشة وجابر بن سمرة وقيس بن سعد رضي الله عنهم، وفيها بيان انتساخ صوم يوم عاشوراء بعد ما كان فرضًا، وأن صومه صار تطوعًا، فمن شاء صامه ومن شاء تركه.
واختلف أهل الأصول أن ما كان فرضًا إذا نُسخ هل تبقى الإباحة أم لا؟ وهي مسألة مشهورة بينهم.
ص: وقد رُويت عن رسول الله عليه السلام أثار أخر فيها دليل على أن صومه كان اختيارًا لا فرضًا.
فمنها: ما حدثنا أبو بكرة وعلي بن شيبة، قالا: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لما قدم رسول الله عليه السلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله عز وجل فيه موسى عليه السلام على فرعون، فقال: أنتم أولى بموسى منهم فصوموا".
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام إنما صامه شكرًا لله عز وجل في إظهاره موسى على فرعون، فذلك على الاختيار لا على الفرض.
ش: أي: رويت أحاديث أخرى عن النبي عليه السلام تدل على أن صوم يوم عاشوراء كان اختيارًا -يعني تطوعًا وتبرعًا- لا فرضًا، منها حديث ابن عباس.
أخرجه بإسناد صحيح.
وأبو بشر هو جعفر بن إياس اليشكري.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 585 رقم 1828) مقتصرًا على ذكر زكاة الفطر فقط.
وأخرجه النسائي في "الكبرى"(2/ 158 رقم 2841) مقتصرًا على الصيام.
وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو معمر، نا عبد الوارث، نا أيوب، نا عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"قدم النبي عليه السلام المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم؛ فصامه موسى عليه السلام، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"قدم رسول الله عليه السلام المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيمًا له، فقال النبي عليه السلام: نحن أولى بموسى عليه السلام منكم، فأمر بصومه".
وفي لفظ له (3): "أن النبي عليه السلام قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله عليه السلام: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى عليه السلام شكرًا، فنحن نصومه. فقال رسول الله عليه السلام: فنحن أحق وأول بموسى عليه السلام، فصامه رسول الله عليه السلام وأمر بصيامه".
وأخرجه أبو داود (4): نا زياد بن أيوب، قال: نا هشيم، قال: أنا أبو البشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"لما قدم النبي عليه السلام المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، فنحن نصومه تعظيمًا له، فقال رسول الله عليه السلام: نحن أولى بموسى منكم وأمر بصيامه".
(1)"صحيح البخاري"(2/ 702 رقم 1900).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 795 رقم 1130).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 796 رقم 1130).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 326 رقم 2444).
وأخرجه ابن ماجه (1): نا سهل بن أبي سهل، ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"قدم النبي عليه السلام المدينة فوجد اليهود صيامًا، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون، فصامه موسى عليه السلام شكرًا، فقال رسول الله عليه السلام: نحن أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
فإن قيل: خبر اليهود غير مقبول، فكيف عمل عليه السلام بخبرهم؟
قلت: يحتمل أن يكون عليه السلام أُوحي إليه بصدقهم فيما حكوا من قصة هذا اليوم، أو يكون قد تواتر عنده عليه السلام خبره حتى وقع له العلم بذلك.
وقال القاضي عياض: قد ثبت أن قريشًا كانت تصومه، وأن النبي عليه السلام كان يصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يُحدث له صوم اليهود حكمًا يحتاج إلى التكلم عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، فدل أن قوله في الحديث "فصامه" ليس
أنه ابتدأ صومه حينئذ، ولو كان هذا لوجب أن يقال: صحح هذا من أسلم من علمائهم، ووثقه مَن هداه الله من أحبارهم كابن سلام وبني سعية وغيرهم.
وقد ذهب بعضهم إلى الجمع بين هذين الحديثين بأنه يحتمل أنه عليه السلام كان يصومه بمكة على مقتضى الحديث الأول، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب من فضل صومه فصامه.
قوله: "ففي هذا الحديث" أي: حديث ابن عباس المذكور: أن رسول الله عليه السلام إنما صامه شكرًا لله عز وجل في إظهاره موسى عليه السلام على فرعون، فذلك على الاختيار لا على الفرض.
وفيه بحث؛ لأن لقائل أن يقول: لا نسلم أن ذلك على الاختيار دون الفرض؛ لأن قوله عليه السلام: "فصوموا" أمر، والأمر المجرد عن القرائن يدل على الوجوب،
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 552 رقم 1734).
وكونه صامه شكرًا لا ينافي كونه للوجوب، كما في سجدة "ص"، فإن أصلها للشكر مع أنهما واجبة.
ص: وقد حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: ثنا عبيد الله بن أبي يزيد، أنه سمع ابن عباس يقول:"ما علمت رسول الله عليه السلام يتحرى صيام يوم على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وشهر رمضان".
حدثنا ربيع الجيزى، قال: ثنا أحمد بن محمَّد الأزرقي، قال: ثنا عبد الجبار بن الورد، قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: حدثنا عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام قال:"ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء".
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا حاجب بن عمر، قال: سمعت الحكم بن الأعرج يقول: "قلت لابن عباس: أخبرني عن يوم عاشوراء. قال: عن أبيّ حالة تسأل؟ قلت: أسال عن صيامه أيّ يوم أصوم؟ قال: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائمًا. قلت: كذلك كان يصوم محمَّد عليه السلام؟ قال: نعم".
فهذا ابن عباس رضي الله عنهما قد روي عنه عن رسول الله عليه السلام أنه كان يصوم يوم عاشوراء، وقد دَلَّك على صومه ذلك أنه كان اختيارًا لا فرضًا: ما قد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس في إخباره بالعلة التي من أجلها صام رسول الله عليه السلام يومئذٍ.
ش: هذه ثلاث طرق صحاح، أخرجها لبيان أن النبي عليه السلام كان يصوم يوم عاشوراء، ثم قال:"وقد دَلَّك على صومه" أي: قد دل على صوم النبي عليه السلام يوم عاشوراء ما رواه سعيد بن جبير المذكور آنفا لا أنه كان اختيار" أي: على سبيل التطوع لا على سبيل الوجوب والفرض.
والمناقشة التي ذكرناها آنفًا تأتي ها هنا خصوصًا قوله: "ما علمت رسول الله عليه السلام يتحرى صيام يوم على غيره" يدل على الوجوب منه، وهذا ظاهر لا يخفى.
ثم الطريق الأول: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد المكي مولى آل قارظ بن شيبة الكناني روى له الجماعة.
وأخرجه البخاري (1): ثنا عبيد الله بن موسى، عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس قال:"ما رأيت النبي عليه السلام يتحرى صيام يوم فَضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان".
وأخرجه مسلم (2) والنسائي (3) أيضًا نحوه.
قوله: "يتحرى" من التحري، وهو القصد والاجتهاد والطلب والعزم على تخصيص الشيء بالشيء بالفعل والقول.
الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أحمد بن محمَّد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق الأزرقي أبي محمَّد المكي شيخ البخاري، عن عبد الجبار بن الورد بن أبي الورد القرشي المخزومي المكي، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة -واسمه زهير- أبي محمَّد الأحول المكي قاضي عبد الله بن الزبير ومؤذنه، روى له الجماعة
…
إلى آخره.
وهذا الحديث يدل على أن سائر الأيام متساوية في فضيلة الصوم فيها إلا أيام رمضان ويوم عاشوراء، وأن لهما مزية على غيرهما في الفضيلة وكثرة الثواب.
الثالث: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن روح بن عبادة، عن حاجب بن عمر الثقفي البصري روى له مسلم وأبو داود والترمذي، عن الحكم بن عبد الله بن إسحاق الأعرج البصري عم حاجب بن عمر المذكور، روى له هؤلاء.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 705 رقم 1902).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 797 رقم 1132).
(3)
"المجتبى"(4/ 204 رقم 2370).
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع بن الجراح، عن حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج قال:"انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: هكذا كان محمَّد رسول الله عليه السلام يصومه؟ قال: نعم".
وأخرجه أبو داود (2): نا مسدد، قال: نا إسماعيل، قال: أخبرني حاجب بن عمر، عن الحكم بن الأعرج قال:"أتيت ابن عباس وهو متوسد رداءه في المسجد الحرام، فسألته عن صوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدُدْ، فإذا كان يوم التاسع فأصبح صائمًا، قلت: كذا كان محمَّد عليه السلام يصوم؟ قال: كذا كان محمَّد يصوم". انتهى.
وفي هذا الحديث ما يدل على أن عاشوراء هو اليوم التاسع، وإليه ذهب جماعة، منهم: أبو رافع صاحب أبي هريرة ومحمد بن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا على ذلك بالحديث المذكور.
وقالت الجمهور -منهم أبو حنيفة ومالك والحسن وسعيد بن المسيب-: إنه هو اليوم العاشر، وهو الذي يدل عليه أكثر الأحاديث، ومنها قوله عليه السلام:"لأصومن التاسع"، فهذا صريح على أن صومه عليه السلام كان العاشر.
فإن قيل: ما وجه هذا الحديث الذي نص فيه على أنه هو التاسع مع أنه هو الذي روى أيضًا عن النبي عليه السلام أنه هو اليوم العاشر؟!
وأخرج الترمذي (3) أيضًا بإسناده عنه: "أمر رسول الله عليه السلام بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر"؟.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 797 رقم 1133).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 327 رقم 2446).
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 128 رقم 755).
قلت: أراد ابن عباس من قوله: "فإذا أصحبت من تاسعه فأصبح صائما" أي: صم التاسع مع العاشر، وأراد بقوله:"نعم"؛ ما روي من عزمه عليه السلام على صوم التاسع من قوله: "لأصومن التاسع".
وقال القاضي: ولعل ذلك على طريق الجمع مع العاشر؛ لئلا يتشبه باليهود كما ورد في رواية أخرى: "فصوموا التاسع والعاشر".
قلت: ذكر رزين هذه الرواية عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: "صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود".
قال القاضي: وإلى هذا أيضًا ذهب جماعة من السلف، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
وروى عبد الرزاق (1): عن ابن جريج، أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء:"خالفوا اليهود وصوموا التاسع والعاشر".
وقال عبد الحق في "أحكامه": وذكر أبو أحمد من حديث داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، وصوموا يومًا قبله، ويومًا بعده". هكذا رواه ابن أبي ليلى، عن داود (2).
ورواه ابن حي عن داود، عن أبيه، عن جده، أن النبي عليه السلام قال:"لئن بقيت إلى قابل لأصومن يومًا قبله ويومًا بعده" يعني: يوم عاشوراء (3).
قال أبو أحمد داود بن علي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن معين: أرجو أنه لا يكذب. انتهى.
قلت: فهذا يدل على أن المستحب أن يصام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر عملا بالأحاديث كلها وخروجًا عن عهدة الخلاف، وقال قوم من أهل العلم: من
(1)"مصنف عبد الرزاق"(4/ 287 رقم 7831).
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 188) وقال: وفيه محمَّد بن أبي ليلى وفيه كلام.
(3)
"الكامل في ضعفاء الرجال" لابن عدي (3/ 89).
أحب صوم عاشوراء صام يومين: التاسع والعاشر، وممن روي ذلك عنه: ابن عباس، وابن سيرين، وقاله الشافعي.
ويقال: معنى قول ابن عباس: "نعم" في جواب الحكم بن الأعرج حين قال: "كذلك كان يصوم محمَّد عليه السلام" أي: نعم كان يصوم التاسع لو عاش إلى العام المقبل جمعا بينه وبين قوله: "فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع".
قال أبو عمر: وفي هذا دليل على أنه عليه السلام كان يصوم العاشر إلى أن مات، ولم يزل يصومه حتى قدم المدينة وذلك محفوظ من حديث ابن عباس، والآثار في هذا الباب مضطربة عن ابن عباس.
ص: وقد حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور، قال: ثنا الهيثم بن جميل، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم يوم عاشوراء".
فقد يجوز أن يكون ذلك أيضًا من أجل المعنى اللي ذكره ابن عباس.
وقد حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، قال: سمعت عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يقول: "هذا يوم عاشوراء فصوموه؛ فإن رسول الله عليه السلام كان يأمر بصومه".
فقد يجوز أن يكون ذلك للعلة التي ذكرناها أيضًا.
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا عبيد الله بن ميسرة الواسطي، قال: ثنا مزيدة بن جابر، عن أمه:"أن عثمان رضي الله عنه استعمل أبا موسى رضي الله عنه على الكوفة، فقال يوم عاشوراء: صوموا هذا اليوم؛ فإن رسول الله عليه السلام كان يصومه".
فهذا الحديث يحتمل ما في حديث ابن عباس أيضًا.
حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الحر بن الصيَّاح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم نصف ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر".
فهذا أيضًا مثل الذي قبله.
حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا أبو عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال: قال النبي عليه السلام: "قد كان يوم عاشوراء يومًا تصومه اليهود ويتخذونه عيدًا، فصوموه أنتم".
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أمر بصومه؛ لأن اليهود كانت تصومه، وقد أخبر ابن عباس في حديثه بالعلة التبم من أجلها كانت اليهود تصومه، أنها على الشكر منهم لله تعالى في إظهاره موسى عليه السلام على فرعون، وأن رسول الله عليه السلام أيضًا صامه كذلك، والصوم للشكر اختيار لا فرض.
ش: ذكر هذه الأحاديث -وهي حديث علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير وعثمان بن عفان وبعض أزواج النبي عليه السلام وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم- إيذانًا بأنها محمولة على المعنى الذي ذكره ابن عباس في حديثه من أن رسول الله عليه السلام صامه شكرًا لله عز وجل في إظهاره موسى عليه السلام على فرعون، وأن الصوم الذي يكون للشكر اختيار لا فرض. وفيه ما ذكرناه من المنافشة، على أن جماعة قد احتجوا بحديث أبي موسى أن صوم يوم عاشوراء كان فرضًا.
أما حديث علي رضي الله عنه: فأخرجه عن الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب أبي علي الأنطاكي المعروف بالبالسي، عن الهيثم بن جميل البغدادي أبي سهل الحافظ نزيل أنطاكية، وثقه العجلي وابن حبان والدارقطني.
عن شريك بن عبد الله النخعي، عن جابر بن يزيد الجعفي فيه مقال كثير، عن سَعْد بن عبيدة السلمي أبي حمزة الكوفي ختن أبي عبد الرحمن السلمي على ابنته روى له الجماعة.
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب بن رُبَيْعة -بالتصغير- السلمي الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة، روى له الجماعة.
وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا تميم بن المنتصر الواسطي، نا إسحاق بن يوسف، عن شريك.
ونا الفضل بن يعقوب الرخامي، قال: ثنا الهيثم بن جَمِيل، عن شريك
…
إلى آخره نحوه.
وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن ثوير بن أبي فاختة واسمه سعيد بن علاقة القرشي الكوفي فيه مقال، وعن سفيان: كان ثوير من أركان الكذب. وعن يحيى بن معين: ليس بشيء، وعنه ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. وقال يونس بن أبي إسحاق: كان رافضيًّا، روى له الترمذي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا حسين بن محمَّد، نا إسرائيل، عن ثوير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو على المنبر يقول: "هذا يوم عاشوراء فصوموا؛ فإن رسول الله عليه السلام أمر بصومه".
وأما حديث عثمان رضي الله عنه: فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم القصاب البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الله بن ميسرة أبي ليلى الحارثي الكوفي ويقال: الواسطي، فيه مقال، قال أحمد وابن معين: ضعيف الحديث. وقال
أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".
عن مزيدة بن جابر من أهل هجر، ذكر ابن حبان في "الثقات" عن أمه، وفي بعض نسخ الطحاوي: عن أبيه وهو الأكثر، وقال في "التكميل": مزيدة بن جابر، عن أبيه وأمه، قال أحمد: معروف. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وأبوه جابر ذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وأما أمه فلم يقع لي اسمها ما هو ولا حالها.
(1)"مسند البزار"(2/ 213 رقم 600، 601).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 6 رقم 16177).
وأما حديث بعض أزواج النبي عليه السلام: فأخرجه عن الربيع بن سليمان الجيزي، عن أسد بن موسى أسد السنة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري روى له الجماعة، عن الحر بن الصَّيَّاح -بفتح الصاد المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخرها حاء مهملة- النخعي الكوفي، قال يحيى وأبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له أبو داود والنسائي، عن هنيدة -بضم الهاء وفتح النون، وسكون الياء آخر الحروف- بن خالد الخزاعي ويقال: النخعي، وكانت أمه تحت عمر بن الخطاب، روى عن أمه وقيل: عن امرأته على اختلاف في ذلك، وهما مجهولتان، قاله المنذري.
والحديث أخرجه النسائي (1): أخبرني أحمد بن يحيى، عن أبي نعيم قال: ثنا أبو عوانة، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة بن خالد عن امرأته، عن بعض أزواج النبي عليه السلام:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم تسعًا من ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، أول إثنين من الشهر وخَمِيسَيْن".
وأخرجه أبو داود (2) من حديث هنيدة الخزاعي عن أمه قالت: "دخلت على أم سلمة رضي الله عنه فسألتها عن الصيام فقالت: كان رسول الله عليه السلام يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر أولها الإثنين والخميس والخميس".
وأما حديث أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن أبي أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي عميس عتبة بن عبد الله المسعودي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة، عن قيس بن مسلم الجدلي أبي عمرو الكوفي روى له الجماعة، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبي عبد الله الكوفي الصحابي، قال أبو داود: رأى النبي عليه السلام ولم يسمع منه شيئًا.
(1)"السنن الكبرى"(2/ 135 رقم 2725).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 328 رقم 2452).
وأخرجه البخاري (1): ثنا علي بن عبد الله، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال:"كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدًا، قال النبي عليه السلام: فصوموه أنتم".
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير، قالا: ثنا أبو أسامة، عن أبي عميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى قال:"كان يوم عاشوراء يومًا تعظمه اليهود وتتخذه عيدًا، فقال رسول الله عليه السلام: صوموه أنتم". وفي لفط له قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدًا ويُلْبِسُون فيه نساءهم حليهم وشارتهم، فقال رسول الله عليه السلام: فصوموه أنتم".
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا عبد الله بن عمر والليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله عليه السلام قال:"من أحب منكم أن يصوم يوم عاشوراء فليصمه، ومن لم يحب فليدعه".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في يوم عاشوراء: "إن هذا [يوم] (3) كانت قريش تصومه في الجاهلية، فمن شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة قال: قلت: الأنصاري؟ قال: الأنصاري، عن النبي عليه السلام -أنه قال في صوم يوم عاشوراء:"أني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا أبي، قال: سمعت غيلان
…
فدكر بإسناده مثله.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 704 رقم 1901).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 796 رقم 1131).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا مَهْديّ بن ميمون وحماد بن زيد، عن غيلان
…
فذكر بإسناده مثله.
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بصومه احتسابًا لما ذكره فيه من الكفارة، وليس هو بمخالف عندنا لحديث ابن عباس؛ لأنه قد يجوز أن يكون يصومه شكرًا لله لما أظهر موسى عليه السلام على فرعون، فيشكر الله به ما شكره من ذلك، فيكفر به عنه السنة الماضية.
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا روح، قال: ثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أنه سمع معاوية عامَ حَجَّ وهو على المنبر يقول:"يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟! سمعت رسول الله عليه السلام يقول في هذا اليوم: هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومَن شاء فليفطر".
فقد يجوز أن يكون أراد بقوله: "ولم يكتب عليكم صيامه" أي صيام ذلك اليوم في ذلك العام، وليس في هذا نفي أن يكون قد كان كُتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام ثم نسخ بعد ذلك على ما تقدم من الأحاديث، فقد ثبت نسخ صوم يوم عاشوراء الذي كان فرضًا وأمر بذلك على الاختيار، وأخبر بما في ذلك من الثواب، فصومه حسن، وهو اليوم التاسع قد قال ذلك ابن عباس في حديث الحكم بن الأعرج، وذكر ذلك أيضًا عن رسول الله عليه السلام.
ش: أخرج أحاديث عبد الله بن عمر وأبي قتادة الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم إيذانًا بأنه ليس بينها وبين الأحاديث المتقدمة عن ابن عباس وغيره منافاة؛ لأن التخيير المذكور في حديث ابن عمر والكفارة المذكورة في حديث أبي قتادة لا ينافيان ما ذكر في حديث ابن عباس من أنه كان يصومه شكرًا لله لإظهاره موسى عليه السلام على فرعون، وكذا قوله في حديث معاوية:"لم يكتب عليكم صيامه" لا ينافي كونه قد كتب ذلك عليهم فيما تقدم ذلك العام من الأعوام؛ لأن معنى
كلامه: لم يكتب عليكم صيام ذلك اليوم من ذلك العام، ويجوز أن يكون قد كان كتب عليهم فيما تقدم ثم نسخ بهذه الأحاديث، وأمر بذلك بعد ذلك على الاستحباب والندب لما فيه من الثواب العظيم.
أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني الثقة، والليث بن سعد، كلاهما عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم (1): ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا الليث.
وحدثنا ابن رمح، قال: أنا الليث، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه ذكر عند رسول الله عليه السلام يوم عاشوراء، فقال رسول الله عليه السلام: كان يوم يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه"، وفي لفظ له:"فمن أحب أن يصومه فليصمه ومن أحب أن يتركه فليتركه، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صيامه".
وأخرج البخاري (2): عن أبي عاصم، عن عمر بن محمَّد، عن سالم، عن أبيه قال: قال النبي عليه السلام يوم عاشواء: "من شاء صام".
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي شيخ البخاري في غير "الصحيح"، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(3): ثنا يعلى، عن محمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "هذا يوم عاشوراء كانت قريش تصومه في
(1)"صحيح مسلم"(2/ 792 رقم 1126).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 703 رقم 1896).
(3)
"سنن الدارمي"(2/ 36 رقم 1762).
الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومَن أحب منكم أن يتركه فليتركه، وكان ابن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صيامه".
وأما حديث أبي قتادة الحارث بن ربعيم الأنصاري رضي الله عنه فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة بن الحجاج، عن غيلان بن جرير المعولي الأزدي البصري، عن عبد الله بن مَعبد الزماني البصري، عن أبي قتادة.
وأخرجه مسلم (1) مطولا: ثنا يحيى بن يحيى التميمي وقتيبة بن سعيد، جميعًا عن حماد -قال يحيى: أنا حماد بن زيد- عن غيلان، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة قال:"أتى رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله كيف نصوم؟ فغضب النبي عليه السلام من قوله، فلما رأى عمر رضي الله عنه غضبه قال: رضينا بالله ربًّا وبالإِسلام دينًا وبمحمد عليه السلام نبيًّا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، فجعل عمر رضي الله عنه يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه، فقال عمر: يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر -أو قال: لم يصم ولم يفطر- قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يومًا؟ قال: ويطيق ذلك أحد؟ قال: كيف من يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: ذلك صوم داود عليه السلام، قال: كيف مَن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: وددت أني طوقت ذلك، ثم قال رسول الله عليه السلام: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" انتهى.
وقد ذكر الطحاوي هذا الإسناد بعينه في الباب الذي قبله مقتصرًا فيه على ذكر الصوم بعرفة.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 818 رقم 1162).
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن غيلان.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1).
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن مهدي بن ميمون الأزدي البصري وحماد بن زيد، كلاهما عن غيلان.
وأخرجه أبو داود (2): نا سليمان بن حرب ومسدد، قالا: نا حماد بن زيد، عن غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني، عن أبي قتادة: "أن رجلًا أتى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله كيف تصوم؟
…
" إلى آخره، نحو رواية مسلم.
وأخرجه أيضًا من طريق آخر (3) قال: نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا مهدي، قال: ثنا غيلان
…
الحديث.
وأما حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (4): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه مالك في "موطإه"(5) أيضًا.
وقال أبو عمر في "شرحه": لم يختلف العلماء أن عاشوراء ليس بفرض صيامه، ولا فرض إلا صوم رمضان، وفيه دليل على فضل صوم يوم عاشوراء؛ لأنه لم يخصه بقوله:"وأنا صائم" إلا لفضل فيه، وفي رسول الله عليه السلام الأسوة الحسنة.
(1)"مسند أحمد"(5/ 10 رقم 22703).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 321 رقم 2425).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 322 رقم 2426).
(4)
"صحيح البخاري"(2/ 704 رقم 1899).
(5)
"موطأ مالك"(1/ 299 رقم 663).
قوله: "وهو اليوم التاسع" أي يوم عاشوراء هو اليوم التاسع، قد قال ذلك عبد الله بن عباس فيما رواه الحكم بن الأعرج عنه حيث قال: قلت لابن عباس: "أخبرني عن يوم عاشوراء، قال: عن أي حالة تسأل؟ قلت: أسأل عن صيامه أي يوم أصوم؟ قال: إذا أصبحت في تاسعه فأصبح صائمًا، قلت: كذلك كان يصوم محمَّد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم".
وقد تقدم فيما مضى.
قوله: "وذكر ذلك أيضًا" أي: وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن ما قاله للحكم بن الأعرج عن النبي عليه السلام، وهو قوله:"نعم"، لما سأله الحكم:"كذلك كان يصوم محمد عليه السلام؟ ".
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام قال:"لئن عشت إلى العام القابل لأصومن يوم التاسع، يعني: عاشوراء".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر وأبو داود، قالا: ثنا ابن أبي ذئب
…
فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"لأصومن عاشوراء يوم التاسع".
حدثنا ابن مرزوق وعلي بن شيبة، قالا: ثنا روح، قال: ثنا ابن أبي ذئب
…
فذكر مثل حديث سليمان بن شعيب.
فقوله: "لأصومن عاشوراء يوم التاسع" إخبار منه على أنه يكون ذلك اليوم يوم عاشوراء، وقوله:"لأصومن يوم التاسع" يحتمل لأصومن يوم التاسع مع العاشر، أي: لئلا أقصد بصومي إلى يوم عاشوراء بعينه كما تفعله اليهود، ولكن أخلطه بغيره، فكون قد صمته بخلاف ما تصومه يهود.
ش: أي: قد روي عن رسول الله عليه السلام في كون يوم عاشوراء التاسع من المحرم، رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام بلفظين:
أحدهما: "لأصومن يوم التاسع".
والآخر: "لأصومن عاشوراء يوم التاسع".
فهذا إخبار منه على أن التاسع هو يوم عاشوراء، والأول إخبار منه عن صوم يوم التاسع مع العاشر لئلا يكون صومه يومًا بعينه كما عينه اليهود، ولكن يخلطه بالعاشر ليكون مخالفا لما فعله اليهود، وإنما وفق بين اللفظن بهذا لما بينهما من المخالفة ظاهرًا.
وأخرجه ذلك من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة؛ بن الحارث بن أبي ذئب المدني، عن القاسم بن عباس بن معتب بن أبي لهب القرشي المدني، عن عبد الله بن عمير أبي محمَّد مولى أم الفضل بنت الحارث امرأة العباس، وقيل: مولى ابن عباس.
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: نا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع"، وفي رواية أبي بكر:"يعني: يوم عاشوراء".
الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، كلاهما عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب
…
إلى آخره.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق وعلي بن شيبة بن الصلت، كلاهما عن روح بن عبادة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب
…
إلى آخره.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 798 رقم 1134).
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، نا ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع".
ص: وقد روي عن ابن عباس ما يدل على هذا المعنى:
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء، أنه سمع ابن عباس يقول:"خالفوا اليهود وصوموا يوم التاسع والعاشر".
فدل ذلك على أن ابن عباس قد صرف قول رسول الله: "لئن عشت إلى قابل لأصومن يوم التاسع" إلى ما صرفناه إليه.
ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عباس ما يدل على المعنى الذي ذكرناه، وأراد به التوفيق الذي ذكره، وهو أن قوله:"لأصومن يوم التاسع" هو أن يصومه مع العاشر مخالفة لليهود فيما عيَّنوا يوم العاشر.
وأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن روح بن عبادة، عن عبد الملك بن جريج المكي، عن عطاء بن أبي رباح المكي، عن ابن عباس.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس
…
إلى آخره نحوه.
ص: وقد جاء عن رسول الله عليه السلام في ذلك أيضًا: ما حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن عمران بن أبي ليلى، قال: حدثني أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس، عن النبي عليه السلام في صوم يوم عاشوراء:"صوموه وصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا، ولا تشبهوا باليهود".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو شهاب، عن ابن أبي ليلى
…
فذكر بإسناده مثله.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 552 رقم 1736).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(4/ 287 رقم 7839).
فثبت بهذا الحديث ما ذكرنا أن رسول الله عليه السلام إنما أراد بصوم التاسع أن يُدخل صومه يوم عاشوراء في غيره من الصيام حتى لا يكون مقصودًا إلى صومه بعينه كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة.
ش: أي: وقد جاء عن رسول الله عليه السلام فيما ذكرناه من أنه يصوم التاسع مع العاشر قصدًا لمخالفة اليهود، وأشار بهذا أيضًا إلى أن ما قال ابن عباس من قوله:"صوموا يوم التاسع والعاشر" ليس من رأيه بل هو من النبي عليه السلام.
وأخرجه من طريقين:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن عمران بن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي شيخ البخاري في كتاب "الأدب" وثقه ابن حبان، وقال أبو حاتم: كوفي صدوق.
عن أبيه عمران بن محمَّد وثقه ابن حبان، وقال الأزدي: ليس بذاك.
وهو يروي عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه لين.
عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس القرشي الهاشمي أبي سليمان الشامي ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ.
عن أبيه علي بن عبد الله بن عباس وثقه ابن حبان والعجلي وأبو زرعة روى له الجماعة البخاري في "الأدب".
وأخرجه أحمد (1): من حديث ابن أبي ليلى عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده
…
إلى آخره. وقد ذكرناه عن قريب.
الثاني: عن فهد أيضًا، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي شهاب الحفاظ الكوفي عبد ربه بن نافع الكناني -وهو الأصغر، روى له الجماعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن داود
…
إلى آخره.
(1) تقدم.
وأخرجه البيهقي (1) نحوه: من حديث هشيم، عن ابن أبي ليلى، ولفظه:"صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوما أو بعده يوما".
قال البيهقي: وفي رواية: "وبعده" بدل: "أو"، وكذا رواه أبو شهاب عن ابن أبي ليلى.
قلت: هذا يدل على أن رواية الطحاوي: "وصوموا قبله وبعده يوما" بالواو العاطفة بين قبله وبعده دون "أو" ولكن الموجود في النسخ بـ "أو" التي للتخيير، وكذا في رواية أبي أحمد بالواو العاطفة، فعل رواية "الواو" يستحب أن يصوم ثلاثة أيام: التاسع، والعاشر، والحادي عشر، وعلى رواية "أو" التي للتخيير يستحب أن يصوم يومين: التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر؛ فافهم.
قوله: "ولا تشبهوا" أصله ولا تتشبهوا، حذفت إحدى التاءين للتخفيف، كما في قوله:{نَارًا تَلَظَّى} (2).
قوله: "كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة" أي: كما جاء عن النبي عليه السلام عدم القصد في الصوم إلى يوم معين في صوم يوم الجمعة، فإنه نهى عن قصد صوم يوم الجمعة بعينه، على ما نبينه الآن.
ص: فإنه قد حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قال: ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما، قال:"دخل النبي عليه السلام على جويرية يوم الجمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أفتصومين غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري إذا".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا أيوب العتكي يحدث، عن جويرية: "أن النبي عليه السلام دخل عليها
…
" ثم ذكرمثله.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 287 رقم 8189).
(2)
سورة الليل، آية:[14].
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة وحماد بن سلمة وهمام، عن قتادة
…
فذكر بإسناه مثله.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا روح، قال: ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا قبله يوما أو بعده يوما".
حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا أدم، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت رجلًا من بني الحارث بن كعب يحدث، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام بمثل معناه.
حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: نا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القاسم بن سلام بن مسكين، قال: ثنا أبي، قال:"سالت الحسن عن صيام يوم الجمعة، فقال: نُهي عنه إلا في أيام متتابعة، ثم قال: حدثني أبو رافع، عن أبي هريرة، أن رسول الله عليه السلام نهى عن صيام يوم الجمعة إلا في أيام قبله أو بعد".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: حدثني ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، أن أبا خير حدثه، أن حذيفة البارقي حدثه، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي حدثه:"أنهم دخلوا على رسول الله عليه السلام في يوم جمعة، فقرب إليهم طعامًا، فقال: كلوا، فقالوا: نحن صيام، فقال: أصمتم أمس؟ قالوا: لا قال: أفتصومون أنتم غدا؟ قالوا: لا، قال: فأفطروا".
حدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر الأشعري:"أنه سأل أبا هريرة عن صيام يوم الجمعة فقال: على الخبير وقعت، سمعت رسول الله عليه السلام يقول: إن يوم الجمعة عيدكم، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده".
فكما كره أن يقصد إلى يوم الجمعة بعينه بصيام إلا أن يخلط بيوم قبله أو بيوم بعده، فيكون قد دخل في صوم قد صار منه، فكذلك عندنا سائر الأيام لا ينبغي أن يقصد إلى صوم يوم منها بعينه، كما لا ينبغي أن يقصد إلى صوم يوم عاشوراء أو يوم الجمعة لأعيانهما، ولكن يقصد إلى الصيام في أي الأيام كان، ولكن إنما أريد بما ذكرنا من الكراهة التي وصفنا: التفرقة بين شهر رمضان وبين سائر ما يصوم الناس غيره؛ لأن شهر رمضان مقصود بصومه إلى شهر بعينه؛ لأن فريضة الله عز وجل على عباده صومهم إياه بعينه إلا من عذر منهم بمرض أو سفر، وغيره من المشهور ليس كذلك، فهذا وجه ما روي في صوم يوم عاشوراء عن رسول الله عليه السلام، قد بيناه في هذا الباب وشرحناه.
ش: "الفاء" في "فإنه" للتعليل، والضمير للشأن، وأشار به إلى بيان الدليل لقوله "كما جاء عنه في صوم يوم الجمعة".
وأخرج في ذلك عن عبد الله بن عمرو وجويرية بنت الحارث وأبي هريرة وجنادة بن أبي أمية رضي الله عنهم، وأخبر في أحاديثهم كراهة القصد إلى صوم يوم الجمعة بعينه إلا أن يكون يوم قبله أو يوم بعده حتى يكون هو في صوم يكون صوم يوم
الجمعة جزء منه، وهو معنى قوله:"فيكون قد دخل في صوم قد صار منه" وفي بعض النسخ: "حتى صار منه" والأول أقرب.
وكذا سائر الأيام إذا أراد أن يصوم فيها لا ينبغي أن يقصد يومًا بعينه لما فيه من التشبيه لأهل الكتاب؛ لأن من عادتهم الصوم في يوم بعينه قصدًا، ولا سيما كانوا يفعلون ذلك في يوم عاشوراء، وكذلك صوم يوم الجمعة بقصد بعينه؛ لما فيه من التشبيه لهم أيضًا، اللهم إلا إذا صام يوما قبله أو يوما بعده، ولكن يستثنى من هذا الحكم شهر رمضان؛ لأن الله تعالى فرض صومه علينا بعينه إلا فيمن كان معذورا بمرض أو سفر، فقصد تعيينه لا يؤثر شيئا في الكراهة؛ لأنه بتعيين الشارع، وذلك لا يوصف بالكراهة، بخلاف غيره من المشهور والأيام حيث يؤثر التعين فيه قصدا في الكراهة لما ذكرنا.
وقال المهلب: وجه النهي عن صوم يوم الجمعة وحده: خشية أن يستمر عليه فيفرض عليه، أو خشية أن يلزم الناس من تعظيمه ما التزم اليهود والنصارى في سبتهم وأَحَدِهِم، من ترك العمل، والله أعلم.
أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن عبدة بن سليمان الكلابي أبي محمَّد الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي عروبة
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "على جويريه" وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية أم المؤمنين، سباها رسول الله عليه السلام يوم المريسيع -وهي غزوة بني المصطلق، وكانت في السنة الخامسة في قول الواقدي، وفي السادسة في قول خليفة بن خياط- وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله عليه السلام جويرية، توفيت سنة خمسين ولها خمس وستون سنة.
قوله: "أَصُمت؟ " الهمزة فيه للاستفهام، وكذلك في قوله:"أفتصومين؟ "
قوله: "إذا" قال الجوهري: "إذا" حرف مكافأة وجواب، وهي حرف غير مركب، وقال الخليل: أصلها "إذ أن" فحذفت الهمزة وركبتا كما قيل في "لن"، والصحيح الأول، وهي تقتضي الجواب والجزاء، وتختص بجملة واقعة جوابًا لشرط مقدر، وإنما تعمل بشروط أربعة: أن تكون جوابا، وأن تصدر بها الجملة، وأن تتصل بالفعل، وأن يكون الفعل مستقبلا، وهي من النواصب للفعل المضارع نحو أن يقول لك إنسان: أنا آتيك، فتقول له: إذن أكرمك، وها هنا فقدت الشروط فلم تعمل شيئًا، وإذا وقفت على إذن أبدلت من نونها ألفا لشبهها بمنون منصوب؛ لأن نونها ساكنة بعد فتحة، وأكثر كتابتها بالألف لذلك، وذهب بعضهم إلى كتابتها بالنون فرقا بين إذا الظرفية وبينها.
(1)"مصنف ابن أبي شيبه"(2/ 301 رقم 9241).
ويستفاد منه: كراهة صوم يوم الجمعة وحده، واليه ذهب الجمهور، وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم يكرهون للرجل أن يختص يوم الجمعة بصيام لا يصوم قبله ولا بعده، وبه يقول أحمد وإسحاق.
قلت: وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، ويروى ذلك عن علي وأبي هريرة ومجاهد والشعبي وإبراهيم النخعي.
وفي "الموطأ" قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومَن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأُراه كان يتحراه، وقال أبو عمر: لم يبلغ مالكا حديث المنع من ذلك، وقد روى ابن القاسم عن مالك المنع من قصد شيء من الأيام بصوم، وقال الداودي: لم يبلغ مالكًا حديثُ المنع، ولو بلغه لم يخالفه.
وأما حديث جويرية رضي الله عنها فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي- واسمه يحيى بن مالك، ويقال: حبيب بن مالك، روى له الجماعة.
عن جويرية بنت الحارث.
وأخرجه البخاري (1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة.
وثنا غندر، نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن جويرية بنت الحارث:"أن النبي عليه السلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد البصري، عن شعبة وحماد بن سلمة وهمام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، عن أبي أيوب العتكي، عن جويرية بنت الحارث نحوه.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 701 رقم 1885).
وأخرجه أحمد (1): ثنا وكيع، نا شعبة، عن قتادة، عن أبي أيوب الهجري، عن جويرية:"أن رسول الله عليه السلام دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها: أصمتِ أمس؟ قالت: لا، قال: أفتصومين غدا؟ قا لت: لا، قال: فأفطري".
وأما حديث أبي هريرة فأخرجه من خمس طرق:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق عن روح بن عبادة، عن هشام بن حسان الأزدي القردوسي البصري، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (2): ثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: ثنا أبي، ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده".
وأخرجه مسلم (3): حدثنا يحيى بن يحيى، قال: أنا معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده".
وأخرجه بقية الجماعة (4).
الثاني: عن بكر بن إدريس بن الحجاج الأزدي، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الكوفي، عن رجل من بني الحارث بن كعب، والظاهر أنه زياد بن النضر الحارثي المذكور في الإسناد الآتي، وقال ابن عساكر: زياد بن النضر أبو الأزور، ويقال: أبو عائشة، ويقال:
(1)"مسند أحمد"(6/ 324 رقم 26798).
(2)
"صحيح البخاري"(2/ 700 رقم 1884).
(3)
"صحيح مسلم"(2/ 801 رقم 1144).
(4)
أبو داود (2/ 320 رقم 2420) من طريق مسدد، والنسائي في "السنن الكبرى"(2/ 142 رقم 2756)، والترمذي (3/ 118 رقم 742)، وابن ماجه (1/ 549 رقم 1723).
أبو عمر الحارثي من أهل الكوفة، روى عن أبي هريرة، روى عنه: الشعبي وعبد الملك بن عمير.
قوله: "بمثل معناه"، أي بمثل معنى حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.
الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن زياد الحارثي، عن أبي هريرة قال:"قال له رجل: أنت الذي تنهى عن صوم يوم الجمعة؟ قال: لا ورب هذه الحرمة أو هذه البنية، ما أنا نهيتُ، محمَّد صلى الله عليه وسلم قاله".
الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن القاسم بن سلام بن مسكين، عن أبيه سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي البصري، أنه سأل الحسن البصري
…
إلى آخره.
وهذا إسناد حسن.
وأبو رافع اسمه نفيع الصائغ المدني نزيل البصرة، مولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى له الجماعة.
الخامس: عن بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري، عن عبد الله بن وهب المصري، عن معاوية بن صالح بن حُدَير قاضي الأندلس الحمصي، عن أبي بشر مؤذن مسجد دمشق لا ندري اسمه، عن عامر بن لدين الأشعري الصحابي، أنه سأل أبا هريرة
…
وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(2): أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا زيد بن حباب، نا معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر بن لدين.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 302 رقم 9250).
(2)
"المستدرك"(1/ 603 رقم 1595).
وأنا أحمد بن جعفر القطيعي، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، نا عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن معاوية بن صالح، عن أبي بشر، عن عامر بن لدين الأشعري، أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "يوم الجمعة عيد، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده".
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إلا أن أبا بشر هذا [لم أقف](1) على اسمه وليس بيان بن بشر، ولا بجعفر بن أبي وحشية.
وأخرجه ابن شاهين: من حديث أسد بن موسى، عن معاوية بن صالح، عن أبي بشر مؤذن مسجد دمشق، عن عامر بن لدين الأشعري قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "إن الجمعة يوم عيدكم فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا يوما قبله أو بعده" ثم قال: ورواه عبد الله بن صالح، عن معاوية، فقال عامر: عن أبي هريرة.
وأما حديث جنادة بن أبي أمية: فأخرجه عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي خير مرثد بن عبد الله اليزني المصري، عن حذيفة البارقي المذكور فيمن رأى النبي عليه السلام، عن جنادة بن أبي أمية الأزدي- واسم أبي أمية كثير، قاله البخاري، وجنادة ممن نزل مصر من الصحابة.
وأخرجه ابن يونس في "تاريخه" من طريق أصح منه: ثنا أحمد بن شعيب، أبنا الربيع بن سليمان، نا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن حذيفة البارقي، عن جنادة بن أبي أمية، أنهم دخلوا على رسول الله عليه السلام في يوم جمعة
…
إلى آخره.
(1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "مستدرك الحاكم".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الله بن نمير، قال: نا محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني، عن حذيفة الأزدي، عن جنادة الأزدي:"دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر من الأزد أنا ثامنهم يوم الجمعة ونحن صيام، فدعى رسول الله عليه السلام إلى طعام بين يديه، فقلنا: إنا صيام، فقال: هل صمتم أمس؟ قلنا: لا، قال: فهل تصومون غدًا؟ قلنا: لا، قال: فأفطروا. ثم خرج إلى الجمعة، فلما جلس على المنبر دعى بإناء من ماء فشرب والناس ينظرون إليه؛ ليعلمهم أنه لا يصوم يوم الجمعة".
وأخرجه الطبراني (2) من طرق مختلفة.
فإن قيل: يعارض هذه الأحاديث ما أخرجه النسائي (3): أنا محمَّد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أخبرني أبي، قال: أنا أبو حمزة، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن مسعود قال:"كان رسول الله عليه السلام يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر، وقيل ما يفطر يوم الجمعة".
وما أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا حفص، ثنا ليث، عن عمير بن أبي عمير، عن ابن عمر قال:"ما رأيت رسول الله عليه السلام يفطر يوم جمعة قط".
وما أخرجه (5) أيضًا: عن حفص، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال:"ما رأيته مفطرا يوم جمعة قط".
قلت: لا نسلم هذه المعارضة؛ لأنه لا دلالة فيها على أنه عليه السلام صام يوم الجمعة وحده، فنهيه عن صوم يوم الجمعة وحده فيما سبق من الأحاديث يدل على أن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 301 رقم 9242).
(2)
"المعجم الكبير"(2/ 281 - 282 رقم 2173 - 2176).
(3)
"المجتبى"(4/ 204 رقم 2368).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 303 رقم 9260).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 303 رقم 9259).
صومه يوم الجمعة في هذه الأحاديث لم يكن في يوم الجمعة وحده، بل إنما كان بيوم قبله أو بيوم بعده، وذلك لأنه لا يجوز أن يحمل فعله على مخالفة أمره إلا بنص صريح صحيح، فحيئذ يكون نسخا أو تخصيصا، وكل واحد منهما منتف، فإذا كان كذلك ظهر أن صومه يوم الجمعة لم يكن منفردًا، بل إنما كان بيوم معه، فحينئذ اتفقت معاني الآثار وانتفى التعارض، والله أعلم.