المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: صدقة الفطر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: صدقة الفطر

‌ص: باب: صدقة الفطر

ش: أي: هذا باب في بيان أحكام صدقة الفطر.

وإضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه، كحجة الإِسلام.

ص: حدثنا علي بن شيبة، ثنا قبيصة بن عقبة، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:"كنا نعطي زكاة الفطر من رمضان صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط".

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله، أنه سمع أبا سعيدٍ يقول:"كنا نخرج صدقة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيدٍ قال:"كنا نخرج -إذْ كان فينا رسول الله عليه السلام صدقة الفطر إما صاعًا من طعام، واما صاعًا من تمر، وإما صاعًا من شعير، وإما صاعًا من زبيب،، وإما صاعًا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًّا أو معتمرًا، فكان فيما كلمه الناس فقال: أدّوا مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعًا من شعير".

حدثنا يونس، قال: أخبرني عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن عياض

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا داود

فذكر بإسناده مثله.

وزاد: "قال أبوسعيد: أما أنا فلا أزال أخرج كما كنت أُخرج".

ص: 186

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا روح بن القاسم، عن زيد بن أسلم، عن عياض، عن أبي سعيد قال:"كانوا في صدقة رمضان مَن جاء بصاع من أقط قُبل منه، ومن جاء بصاع من تمر قُبل منه، ومَن جاء بصاع من زبيب قُبل منه".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث. (ح)

وحدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قالا: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الله بن عثمان، أن عياض بن عبد الله حدثه، أن أبا سعيد الخدري قال:"إنما كنا نُخرج على عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاع أَقِطٍ لا نُخْرج غيره، فلما كثر الطعام في زمن معاوية جعلوه مُدَّين من حنطة".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوهبي، قال: ثنا ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان، عن عياض بن عبد الله قال: سمعت أبا سعيد رضي الله عنه وهو يسأل عن صدقة الفطر قال: "لا أُخرج إلا ما كنت أُخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقطٍ، فقال له رجل: أو مُدَّين من قمح؟ فقال لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها.

ش: هذه تسع طرق صحاح:

الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة شيخ البخاري، عن سفيان الثوري

إلى آخره.

والكل رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة.

فأخرجه البخاري (1) نحوه: ثنا عبد الله بن منير، سمع يزيد العدني، ثنا سفيان، عن زيد بن أسلم قال: حدثني عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد

(1)"صحيح البخاري"(2/ 548 رقم 1437).

ص: 187

الخدري قال: "كنا نعطيها في زمان النبي عليه السلام صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب

إلى آخره.

وكل رجاله رجال الصحيح.

وأخرجه مسلم (1): حدثني يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن زيد بن أسلم

إلى آخره نحوه سواء.

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن عبد الرحمن بن مهدي العنبري اللؤلؤي البصري، عن داود بن قيس الفراء الدباغ

إلى آخره.

والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عبد الله بن مسلمة، ثنا داود -يعني ابن قيس- عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال:"كنا نُخرج- إذ كان فينا رسول الله عليه السلام زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعًا من طعام، صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًّا أو معتمرًا، فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر. فأخذ بذلك الناس، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدًا ما عشت".

الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن نافع الصائغ القرشي المدني

إلى آخره.

والكل رجال الصحيح.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): عن وكيع، عن داود بن قيس

إلى آخره نحوه.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 678 رقم 985).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 113 رقم 1616).

(3)

"مسند أحمد"(3/ 98 رقم 11951).

ص: 188

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمرو بن فارس البصري

إلى آخره.

والكل رجال الصحيح ما خلا ابن مرزوق.

وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): أنا عثمان بن عمر، ثنا داود بن قيس، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري، قال:"كنا نُخرج زكاة الفطر -إذْ كان فينا رسول الله عليه السلام- عن كل صغير وكبير حر ومملوك، صاعًا من طعام، أو من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب، فلم يزل ذلك كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة حاجًّا أو معتمرًا فقال: إني أرى مُدَّين من سمراء الشام يعدل صاعًا من التمر، فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه".

السادس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن المنهال التميمي شيخ الشيخين وأبي داود

إلى آخره.

والكل رجال الصحيحين ما خلا إبراهيم.

وأخرجه البزار في "مسنده" ثم قال: وهذا الحديث رواه جماعة عن زيد، عن عياض، وأَجَلُّ مَن رواه عن زيد: الثوري.

السابع: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث بن سعد، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن عبد الله بن عثمان هو عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام القرشي، عن عياض

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): من طريق عبد الله بن عبد الله بن عثمان.

(1)"سنن الدارمي"(1/ 481 رقم 1663).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 113 رقم 1616) تقدم ذكره.

ص: 189

الثامن: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف [التنيسي](1) شيخ البخاري، عن الليث

إلى آخره.

التاسع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن خالد الكندي الوهبي شيخ البخاري في غير الصحيح، عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن عبد الله بن عبد الله ابن عثمان

إلى آخره.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا القاضي الحسن بن إسماعيل المحاملي وعبد الملك بن أحمد الدقاق، قالا: ثنا يعقوب الدورقي، ثنا ابن علية، عن محمَّد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن عبد الله بن أبي سَرْح قال:"قال أبو سعيد وذكروا عنده صدقة رمضان، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أُخْرج في عهد رسول الله عليه السلام: صاعًا من تمر، أو صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط. فقال له رجل من القوم: أو مُدَّين من قمح؟ قال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3) نحوه.

والحاكم أيضًا في "مستدركه"(4): ثنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم الصيدلاني العدل إملاءً، ثنا الحسن بن الفضل البجلي، ثنا أبو عبد الله أحمد بن حنبل، ثنا إسماعيل بن علية، عن محمَّد بن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله

إلى آخره نحوه.

قوله: "زكاة الفطر" أراد بها صدقة الفطر، تطلق الزكاة على الصدقة كما تطلق الصدقة على الزكاة.

قوله: "صاعًا من طعام" تفسير الصاع يأتي في بابه إن شاء الله.

(1) في "الأصل، ك": الفريابي، وهو وهم أو سبق قلم من المؤلف رحمه الله. فالفريابي هو: محمَّد بن يوسف، وليس عبد الله، وكلاهما شيخ للبخاري.

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 145 رقم 30).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 164 رقم 7487).

(4)

"المستدرك" للحاكم (1/ 570 رقم 1495).

ص: 190

وأراد بالطعام: القمح، وقيل: أراد به: التمر وهو أشبه؛ لأن البر كان قليلًا عندهم لا يتسع لإخراج زكاة الفطر، وقال الخليل: إن الغالب في كلام العرب أن الطعام هو البُرّ خاصة، والطعام في أصل اللغة عام في كل ما يقتات من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك.

قوله: "من أقطٍ". بفتح الهمزة وكسر القاف وفي آخره طاء مهملة، وهو لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به.

وقال الجوهري: الأقط معروف وربما سُكِّن في الشعر وتنقل حركة القاف إلى ما قبلها، قال الشاعر:

رُوَيْدَك حتى يَنْبُتَ البقْلُ والغضى

فَيَكْثُرَ إقْطٌ عندهم وحَلِيبُ

وائتقطت أي: اتخذت الأقط، وهو افتعلت، وأقط طعامه يأقطه أقطًا عمله بالأقط فهو مأقوط، وهو بالفارسية ماسْتينَه.

قوله: "إذْ كان فينا". أي حين كان بيننا.

قوله: "حاجًّا". نصب على الحال.

قوله: "أو معتمرا". عطف عليه.

قوله: "من سمراء الشام". أراد به بُرّ الشام، وتطلق السمراء على كل بُرّ، وهو بفتح السين المهملة وبالمد.

قوله: "مُدَّين". المُدّ بضم الميم رطل وثلث بالعراقي عند الشافعي وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة وأهل العراق.

وقيل: إن أصل المُدّ مقدر بأن يَمُدَّ الرجل يديه فيملأ كفيه.

ويستفاد من حديث أبي سعيد أحكام:

الأول: استدل به بعضهم على أن صدقة الفطر فريضة كالزكاة بظاهر اللفظ، والجمهور على أنها واجبة، وقد قلنا: إن الزكاة تطلق ويراد بها الصدقة، وليس في هذا الحديث ما يدل على الوجوب ولا على عدم الوجوب؛ لأنه إخبار عما كانوا يفعلونه، ولكن الوجوب ثبت بدلائل أخرى على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ص: 191

وقيل: إن صدقة الفطر منسوخة بالزكاة وتعلقوا بخبر يروى عن قيس بن سعد أنه قال: "أمرنا بها رسول الله عليه السلام قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا بها ولم ينهنا، فنحن نفعله".

وقال الخطابي: وهذا لا يدل على زوال وجوبها؛ وذلك أن الزيادة في جنس العبادة لا توجب نسخ الأصل المزيد عليه، غير أن محل سائر الزكوات الأموال ومحل زكاة الفطر الرقاب.

قلت: غير أن الفقير يستثنى منه لقوله عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى". رواه أحمد (1).

وفي رواية مسلم (2): "وخير الصدقة عن ظهر غنى".

وهو حجة على الشافعي في قوله: تجب على مَن يملك زيادة على قوت يومه لنفسه وعياله.

الثاني: يدل على أن صدقة الفطر هي صاع من طعام، وقد احتج به الشافعي أن الفطرة عن القمح صاع، وقال: المراد بالطعام البُرّ في العُرف، وقال أصحابه ولا سيما في رواية الحاكم:"صاعًا من حنطة".

أخرجها في "المستدرك"(3): من طريق أحمد بن حنبل، عن ابن علية، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن عبد الله قال:"قال أبو سعيد -وذكر عنده صدقة الفطر- فقال: لا أُخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من تمر، أو صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير. فقال له رجل من القوم: أو مُدَّين من قمح. فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها".

وصححه الحاكم.

(1)"مسند أحمد"(2/ 278 رقم 7727).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 717 رقم 1034).

(3)

"المستدرك" للحاكم (تقدم ذكره).

ص: 192

ورواه الدارقطني في "سننه"(1): من حديث يعقوب الدورقي، عن ابن علية به سندًا ومتنًا كما ذكرناه، ومن الشافعية مَن جعل هذا الحديث حجة لنا من جهة أن معاوية جعل نصف صاع من الحنطة عدل صاع من التمر والزبيب.

وقال النووي: هذا الحديث معتمد أبي حنيفة، ثم أجاب عنه بأنه فعل صحابي وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبةً منه وأعلم بحال النبي عليه السلام، وقد أخبر معاوية بأنه رأي رآه، لا قول سمعه من النبي عليه السلام.

قلنا: أما قولهم: إن الطعام في العرف هو البُرّ فممنوع، بل الطعام يطلق على كل مأكول كما ذكرناه، بل أريد به ها هنا غير الحنطة، والدليل عليه ما وقع في رواية أبي داود:"صاعًا من طعام، صاعًا من أقط" فإن قوله: "صاعًا من أقط" بدل من قوله: "صاعًا من طعام" أو بيان عنه، ولو كان المراد من قوله:"صاعًا من طعام" هو البُرّ لقال: أو صاعًا من أقط بحرف "أو" الفاصلة بين الشيئين.

فإن قيل: ها هنا في رواية الطحاوي بـ"أو" الفاصلة بين الشيئين.

قلت: كفى لنا حجةً رواية أبي داود على ما ادعينا مع صحة حديثه بلا خلاف (2).

ومما يؤيد ما ذكرنا ما جاء فيه عند البخاري (3): عن أبي سعيد قال: "كنا نُخرج في عهد رسول الله عليه السلام يوم الفطر صاعًا من طعام، قال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر".

وأما ما رواه الحاكم (1) فيه: "أو صاعًا من حنطة" فقد قال أبو داود أن هذا ليس بمحفوظ، وقال ابن خزيمة فيه: وذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم، وقول الرجل له:"أو مُدَّين من قمح" دالّ على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ ووهم؛ إذ لو كان صحيحًا لم يكن لقوله: "أوْ مدَّين من قمح" معنًى، وقد

(1) تقدم ذكره.

(2)

الذي عند أبي داود في النسخة المطبوعة بذكر "أو".

(3)

"صحيح البخاري"(2/ 548 رقم 1439).

ص: 193

عرف تساهل الحاكم في تصحيح الأحاديث المدخولة.

وأما قول النووي: إنه فعل صحابي.

قلنا: قد وافقه غيره من الصحابة الجمّ الغفير؛ بدليل قوله في الحديث: "فأخذ الناس بذلك".

ولفظ "الناس" للعموم، فكان إجماعًا.

الثالث: فيه دلالة على أن صدقة الفطر من الشعير صاع، وهذا لا خلاف فيه.

الرابع: فيه دلالة على أنها من الأقط صاع أيضًا، وبه استدل مالك رحمه الله: على أنه يخرج من الأقط صاعًا، واعتبر أصحابنا فيه القيمة على ما عرف في فروعهم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إك هذه الآثار، فقالوا في صدقة الفطر: من أحب أن يعطيها من الحنطة أعطاها صاعًا، وكذلك إن أحب أن يعطيها من الشعير أو التمر أو الزبيب.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا العالية ومسروقًا وأبا قلابة ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم ذهبوا إلى الأحاديث المذكورة، وقالوا: صدقة الفطر صاعٌ سواءٌ كانت من الحنطة أو الشعير أو التمر أو الزبيب.

وقال أبو عمر: قال الأوزاعي: يؤدي كل إنسان مدَّين من قمح بمد أهل بلده، وقال الليث: مدَّين من قمح بمد هشام وأربعة أمداد من التمر والشعير والأقط.

وقال أبو ثور: الذي يخرج في زكاة الفطر صاع من تمر أو شعير أو طعام أو زبيب أو أقط إن كان بدويًا، ولا يعطى قيمة شيء من هذه الأصناف وهو يجدها.

وقال أبو عمر: سكت أبو ثور عن ذكر البر، وكان أحمد بن حنبل يستحب إخراج التمر.

والأصل في هذا الباب: اعتبار القوت، وأنه لا يجوز إلا الصاع منه. وهذا قول مالك والشافعي.

والوجه الآخر: اعتبار التمر والشعير والزبيب أو قيمتها على ما قاله الكوفيون.

ص: 194

وقال القاضي: واختلف في النوع المخرج، فأجمعوا أنه يجوز البر والشعير والزبيب والتمر إلا خلافًا في البر لمن لا يُعْتد بخلافه، وخلافًا في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع، مردود قوله به.

وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن، واختلف فيه قول الشافعي.

وقال أشهب: لا يخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على هذه الخمسة كل ما هو عيش أهل بلده من القطاني وغيرها. وعن مالك قول آخر: أنه لا يجزئ غير المنصوص عليه في الحديث وما في معناه، ولم يُجِزْ عامة العلماء إخراج القيمة، وأجازه أبو حنيفة.

وقال النووي: قال أصحابنا: جنس كل حب يجب فيه العشر، ويجزئ الأقط على المذهب، والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت البلدة.

الثاني: يتعين قوت نفسه.

والثالث: يتخير بينهما، فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه أجزأه، وإن عدل إلى أدناه لم يجزه.

قلت: قال أصحابنا: دفع الحنطة أفضل في الأحوال كلها سواء كان أيام الشدة أو لم يكن، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة، ودقيق الشعير وسويقه كالشعير، وإن أراد أن يعطي من الحبوب من جنس آخر يعطى بالقيمة؛ لأنه ليس بمنصوص عليه.

وقال ابن حزم في "المحلى"(1): زكاة الفطر في رمضان فرض واجب على كل مسلم كبير أو صغير ذكر أو أنثى حرٌّ أو عبد، وإن كان جنينًا في بطن أمه، عن كل واحد صاع من تمر أو شعير. والصاع أربعة أمداد بمد النبي عليه السلام، ولا يجزئ شيء

غير ما ذكرنا لا قمح ولا دقيق قمح أو شعير، ولا خبز ولا قيمته، ولا شيء، غير ما

(1)"المحلى"(6/ 118).

ص: 195

ذكرنا. ثم قال: وأجاز قوم أشياء غير ما أمر به رسول الله عليه السلام فقال قومٌ: يجزئ فيها القمح، وقال آخرون: والزبيب والأقط.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، قالوا: يعطي من الحنطة نصف صاع، وما سوى الحنطة من الأصناف التيم ذكرنا صاعًا.

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء وسعيد بن جبير وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومُصعب بن سعد وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وسعيد بن المسيب ومجاهدًا والشعبي وطاوسًا وعلقمة والأسود وإبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأهل الكوفة فإنهم قالوا: صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومن غيرها من الأصناف التي ذكرت صاع.

ويروى ذلك عن أبي بكر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وجابر وابن الزبير ومعاوية رضي الله عنهم.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى: أن حديث أبي سعيد الذي احتجوا به عليهم إنما فيه إخبار عما كانوا يعطون، وقد يجوز أن يكون يعطون من ذلك ما عليهم ويزيدون فضلًا ليس عليهم.

ش: أي: وكان من الدليل والبرهان، وأراد بها الجواب عن حديث أبي سعيد الذي احتجت به أهل المقالة الأولى لما ذهبوا إليه.

بيانه: أن الاستدلال بهذا الاسم ولا تقوم به حجة؛ لأنه إخبار عما كانوا يُعطون من الحنطة وغيرها، وقد يحتمل أن يكون الواجب عليهم من الحنطة نصف صاع، ولكن كانوا يعطون صاعًا ويزيدون على نصفه؛ فضلًا وطلبًا لزيادة الثوب، لا لكونه واجبًا عليهم.

ومرجع هذا الكلام إلى أنه حكايته تقال فتدل على الجوز وبه نقول.

فيكون الواجب نصف صاع، وما زاد يكون تطوعًا.

ص: 196

ص: وقد روي عن غير أبي سعيد في الحنطة خلاف ما روي عن أبي سعيد، فمن ذلك:

ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد. (ح)

وحدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم -قال أسد: حدثنا ابن لهيعة. وقال ابن أبي مريم: أخبرنا ابن لهيعة- عن أبي الأسود، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:"كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله مُدَّين من قمح".

حدثنا فهد وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، أن هشام بن عروة حدثه، عن أبيه، أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أخبرته:"أنها كانت تخرج على عهد رسول الله عليه السلام عن أهلها -الحر منهم والمملوك- مُدَّين من حنطة أو صاعًا من تمر بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عزيز، قال: ثنا سلامة، عن عُقيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء قالت:"كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام مُدَّين".

فهذه أسماء تخبر أنهم كانوا يؤدون في عهد النبي عليه السلام زكاة الفطر مُدَّين من قمح، ومحالٌ أن يكونوا يفعلون هذا إلا بأمر النبي عليه السلام؛ لأن هذا لا يؤخذ حينئذٍ إلا من جهة توقيفه إياهم على ما يجب عليهم من ذلك، فتصحيح ما روي عن أسماء وما روي عن أبي سعيد: أن يجعل ما كانوا يؤدون على ما ذكرت أسماء هو الفرض، وما كانوا يؤدون على ما ذكره أبو سعيد زيادةً على ذلك هو التطوع.

ش: أشار بهذا إلى صحة ما ذكره من التأويل في حديث أبي سعيد، وإلى وجه التوفيق بين ما روي عن أبي سعيد وبين ما روي عن غيره مما يخالفه ظاهرًا.

بيانه: أن أسماء رضي الله عنها تخبر في حديثها أنهم كانوا يؤدون في عهد النبي عليه السلام صدقة الفطر مُدَّين من قمح وهو نصف صاع، ولا شك أن هذا لم يكن إلا بأمر النبي عليه السلام؛ لأن ذلك مما لا يوقف عليه إلا من جهة التوقيف، وحديث أبي سعيد

ص: 197

يخبر أنهم كانوا يعطون صاعًا من قمح فبينهما تنافٍ، وتصحيح ذلك أن يجعل حديث أسماء على ما كانوا يؤدونه على سبيل الفرض وهو نصف صاع من القمح.

وحديث أبي سعيد على ما كانوا يزيدونه على الفرض طلبًا للفضل؛ فحينئذٍ يتفق الحديثان في المعنى، وهو أن الواجب نصف صاع.

ثم إنه أخرج حديث أسماء عن أربعة طرق:

الأول: عن ربيع بن سليمان المرادي المؤذن، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام القرشية الأسدية زوجة هشام بن عروة، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها.

والكل ثقات غير ابن لهيعة فإن فيه خلافًا كما ذكرناه غير مرة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عتاب، نا عبد الله بن المبارك، أنا ابن لهيعة

إلى آخره نحوه سواء، غير أن في آخره:"بالمد الذي تقتاتون به".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحاكم المعروف بابن أبي مريم المصري شيخ البخاري، عن عبد الله لهيعة

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني (2): ثنا بكر بن سهل، نا عبد الله بن يوسف، ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت:"كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام مُدَّين من قمح بالمد الذي يقتات به".

الثالث: عن فهد وعلي بن عبد الرحمن المعروف بعلان، كلاهما عن سعيد بن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أسماء

إلى آخره.

وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري.

(1)"مسند أحمد"(6/ 346 رقم 26981).

(2)

"المعجم الكبير"(24/ 129 رقم 352).

ص: 198

وأخرجه الطبراني (1): ثنا أحمد بن حماد بن زغبة، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب

إلى آخره نحوه سواء.

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ومحمد بن عُزَيْز بن عبد الله الأيلي، كلاهما عن سلامة بن روح بن خالد الأيلي، عن عمه عُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، عن هشام بن عروة

إلى آخره.

وهذا أيضًا صحيح.

وأخرجه الطبراني (2) أيضًا: ثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح المصري، ثنا محمَّد بن عزيز الأيلي، ثنا سلامة بن روح، حدثني عقيل، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "أنهم كانوا يخرصون زكاة الفطر على عهد

رسول الله عليه السلام بالمد الذي يقتات به أهل البيت، يفعل ذلك أهل المدينة كلهم".

فإن قيل: قال ابن الجوزي: هذا الحديث معلول بابن لهيعة، فكيف تجعله معارضًا لحديث أبي سعيد الصحيح ثم تُوفق بما ذكرته؟!.

قلت: قد بينت لك غير مرة أن ابن لهيعة ثقة عند جماعة منهم أحمد، على أنَّا وإن سلمنا ذلك من طريق ابن لهيعة، ولكن الحديث صحيح من غير طريقه كما أخرجه الطحاوي من الطريقين الآخرين، على أن صاحب "التنقيح" قد قال: حديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيما إذا كان من رواية إمام مثل ابن المبارك عنه.

وأشار بذلك إلى ما رواه أحمد في "مسنده"(3): ثنا عتاب بن زياد، ثنا عبد الله- يعني ابن المبارك، أنا ابن لهيعة

الحديث.

وها هنا قد روي عنه مثل ابن أبي مريم شيخ البخاري على ما مرَّ.

ص: والدليل على صحة ما ذكرنا من هذا: أن أبا بكرة قد حدثنا، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا حماد، عن يونس، عن الحسن: "أن مروان بعث إلى

(1)"المعجم الكبير"(24/ 82 ر ق م 218).

(2)

"المعجم الكبير"(24/ 83 رقم 219).

(3)

"مسند أحمد"(6/ 355 رقم 27040).

ص: 199

أبي سعيد أن ابعث إليَّ بزكاة رقيقك. فقال أبو سعيد للرسول: إن مروان لا يعلم أنما علينا أن نعطي لكل رأسٍ عند كل فطرٍ صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُرّ".

فهذا أبو سعيد قد أخبر في هذا بما عليه أن يؤديه في زكاة الفطر عن عبيده، فدلَّ ذلك على ما ذكرنا، وأن ما روي عنه ما زاد على ذلك كان اختيارًا ولم يكن فرضًا.

ش: أي: الدليل على صحة ما ذكرنا من التوفيق بين حديثي أبي سعيد وأسماء: أن أبا بكرة بكار القاضي قد حدثنا، قال: ثنا الحجاج بن منهال الأنماطي، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عبيد البصري، عن الحسن البصري.

وهذا إسناد صحيح.

فهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قد أخبر في هذا الحديث أن الواجب عليه نصف صاع من بُرٍّ، وهذا بالتصريح والتنصيص عليه، فدلَّ قطعًا أن ما ذكره في حديثه الأول من الزيادة على نصف صاع كان بطريق الاختيار؛ طلبًا للفضل لا بطريق الفرض.

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): من طريق حماد بن سلمة

إلى آخره، نحو رواية الطحاوي سواء.

ص: وقد جاءت الآثار عن رسول الله عليه السلام بما فرضه في زكاة الفطر موافقة لهذا أيضًا.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عارم. (ح)

وحدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"أمر النبي عليه السلام بصدقة الفطر عن كل صغير وكبير، حرٍّ وعبد، صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر. قال: فَعَدَله الناس بمُدَّين من حنطة".

(1)"المحلى"(5/ 227).

ص: 200

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام بمثله.

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الوليد وبشر بن عمر، قالا: ثنا ليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله، غير أنه لم يذكر التعديل.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره. (ح)

وحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله، غير أنه قال:"عن كل حر وعبد، ذكر أو أنثى من المسلمين".

حدثنا فهد، قال: ثنا عمرو بن طارق، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن يونس بن يزيد، أن نافعًا أخبره، قال: قال عبد الله بن عمر: "فرض رسول الله عليه السلام زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل إنسان ذكر حرٍّ أو عبد من المسلمين. وكان عبد الله بن عمر يقول: جعل الناس عِدله مدَّين من حنطة".

فقول ابن عمر: "جعل الناس عِدْله مُدَّين من حنطة" إنما يريد أصحاب رسول الله عليه السلام الذين يجوز تعديلهم ويجب الوقوف عند قولهم، فإنه قد روي عن عمر مثل ذلك في كفارة اليمين أنه قال ليساربن نُمير:"إني أحلف أن لا أعطي أقوامًا شيئًا ثم يبدو لي فأفعل، فإذا رأيتني فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ، أو صاعًا من تمر أو شعير".

وروي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك، وسنذكر ذلك في موضعه من كتابنا إن شاء الله تعالى، مع أنه قد روي عن عمر وعن أبي بكر رضي الله عنهما أيضًا.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه في صدقة الفطر: أنها من الحنطة نصف صاع.

وسنذكر ذلك أيضًا في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

ص: 201

فدلَّ ذلك على أنهم هم المعدلون لما ذكرنا من الحنطة بالمقدار من الشعير والتمر الذي ذكرنا، ولم يكونوا يفعلون ذلك إلا بمشاورة أصحاب النبي عليه السلام واجتماعهم لهم على ذلك، فلو لم يكن رُوي لنا في مقدار ما يُعطى من الحنطة في زكاة الفطر إلا

هذا التعديل؛ لكان ذلك عندنا حجة عظيمة في ثبوت ذلك المقدار من الحنطة، وأنه نصف صاع، فكيف وقد روي مع ذلك عن أسماء أنها كانت تخرج ذلك المقدار على عهد رسول الله عليه السلام أيضًا.

ش: أي: وقد جاءت الأحاديث عن النبي عليه السلام بالذي فرضه في صدقة الفطر حال كونها موافقة في المعنى لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، ولما روي من أثر أبي سعيد الخدري.

فمن ذلك حديث عبيد الله بن عمر.

أخرجه من ثمانية طرق:

الأول: إسناده صحيح. عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم وهو محمَّد بن الفضل السدوسي البصري شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، ثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:"فرض النبي عليه السلام صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، فَعَدَل الناس به نصف صاع من بر، فكان ابن عمر يُعطي التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان ليعطي عن بنُيّ، وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين".

الثاني: أيضًا صحيح. عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد

إلى آخره.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 549 رقم 1440).

ص: 202

وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال:"فرض رسول الله عليه السلام صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير. قال: فعدل الناس إلى نصف صاع من بُرّ".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

الثالث: أيضًا صحيح. عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة السوائي الكوفي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر العمري المدني، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (2): عن مسدد، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر نحوه. غير أنه لم يذكر التعديل.

الرابع: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الكوفي الجرار، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن نافع، عن ابن عمر

إلى آخره.

وهذا إسناد ليِّن من جهة ابن أبي ليلى.

الخامس: صحيح. عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، وبشر بن عمر بن الحكم الزهراني، كلاهما عن ليث بن سعد

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (3) وذكر فيه التعديل، وقال: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا ليث.

وثنا محمَّد بن رمح، قال: أنا الليث، عن نافع، أن عبد الله بن عمر قال:"إن رسول الله عليه السلام أمر بزكاة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير، قال ابن عمر: فجعل الناس عِدْله مدين من حنطة".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 61 رقم 675).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 549 رقم 1441).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 678 رقم 984).

ص: 203

وأخرجه ابن ماجه (1) نحوه.

السادس: صحيح أيضًا. عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (2): ثنا عبيد الله بن يوسف، أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حرٍّ أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين".

السابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسلمة شيخ الشيخين وأبي داود، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (3): ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد، قالا: ثنا مالك، وثنا يحيى واللفظ له، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين".

وأخرجه بقية الجماعة (4).

الثامن: عن فهد بن سليمان، عن عمرو بن طارق هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي الكوفي نزيل مصر وشيخ الشيخين، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن نافع

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

وأخرجه الطحاوي أيضًا في "مشكله" من حديث يونس بن يزيد، عن نافع

إلى آخره.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 584 رقم 1825).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 547 رقم 1433).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 677 رقم 984).

(4)

"سنن أبي داود"(2/ 112 رقم 1611)، "جامع الترمذي"(3/ 61 رقم 676)، "المجتبى"(5/ 48 رقم 2503)، "سنن ابن ماجه"(1/ 584 رقم 1826).

ص: 204

قوله: "إنما يريد أصحاب رسول الله عليه السلام" أراد: إنما يريد عبد الله بن عمر من قوله: "جعل الناس عِدْله" أصحاب رسول الله عليه السلام، الذين يجوز تعديلهم في مثل هذا الأمر، ويجب الوقوف عند قولهم لعلمهم موارد النصوص، ووقوفهم على المراد منها.

والعَدْل: بفتح العين ما عادَل الشيء وكافأه من غير جنسه، فإن كان من جنسه فهو عِدل بالكسر، وقيل: كلاهما لغتان بمعنى المثل مطلقًا.

قوله: "فإنه روي عن عمر- رضي الله عنه مثل ذلك" أي: فإن الشأن: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل ما ذكر من التعديل، حيث عَدَل نصف صاع من بُرّ بصاع من شعير في كفارة اليمين.

وأخرجه مسندًا في كتاب الأيمان من طرق كثير؛ على ما يأتي إن شاء الله تعالى، منها ما رواه عن أبي بشر الرقي، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن يسار بن نمير قال: قال لي عمر- رضي الله عنه: "إني أحلف أن لا أُعطي أقوامًا ثم يبدو لي أن أعطيهم، فإذا رأيتني فعلت ذلك فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكينين صاعًا من تمر".

حدثنا ابن مرزوق، قال: نا بشر بن عمر، قال: نا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن يسار بن نمير، عن عمر مثله.

غير أنه قال: "عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع حنطة أو صاع تمر".

قوله: "وروي عن علي مثل ذلك" أي: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه التعديل مثل ما روي عن عمر بن الخطاب، أخرجه مسندًا أيضًا في كتاب الأيمان عن ابن أبي عمران، عن بشر بن الوليد، وعن علي بن صالح، كلاهما عن أبي يوسف، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي رضي الله عنه في كفارات الأيمان

فذكر نحوًا مما روي عن عمر رضي الله عنه.

قوله: "مع أنه قد روي عن عمر وعن أبي بكر وعن عثمان رضي الله عنه في صدقة الفطر أنها من الحنطة نصف صاع" أشار بهذا إلى أنه قد روي عن عمر بن الخطاب صريحا

ص: 205

أن صدقة الفطر نصف صاع من الحنطة غير ما روي عنه من التعديل المذكور في كفارة اليمين، وكذا روي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، على ما يجيء جميع ذلك عن قريب في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

قوله: "فدل ذلك على أنهم هم المعدلون" أي: فدل ما ذكرنا من تعديل عمر وعلي، وإخراج عمر وعثمان وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم صدقة الفطر من القمح نصف صاع، على أن هؤلاء هم المعدلون من الحنطة بنصف صاع نظير الصاع من الشعير والتمر، وأنهم لم يكونوا فعلوا ذلك إلا بمشورة من أصحاب النبي عليه السلام من غير إنكار أحد منهم، فصار ذلك إجماعًا منهم على ذلك، فلو لم يكن المرويّ في مقدار ما يخرج من الحنطة لأجل الفطرة إلا هذا التعديل من هؤلاء الصحابة؛ لكان ذلك كافيًا في الاحتجاج؛ لأن الإجماع من أقوى الحجج، أشار إلى ذلك بقوله: لكان ذلك عندنا حجة عظيمة، فكيف وقد روي مع هذا التعديل المنقول عنهم والتصريح بأن بعضهم كانوا يخرجون نصف صاع من الحنطة، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها:"أنها كانت تخرج نصف صاع من الحنطة على عهد النبي عليه السلام".

فاجتمع في ذلك ما فُعل في عهد النبي، وما نقل من التعديل عن بعض الصحابة، وما روي عن بعضهم بما ذكرنا أيضًا، وما حكي من اجتماعهم على ذلك، فصار حجةً قويةً لا مساغ للخلاف فيها.

ثم اعلم أن ما وقع في رواية مالك بن أنس من لفظة: "من المسلمين" تكلم العلماء فيه.

قال الشيخ في "الإِمام": وقد اشتهرت هذه اللفظة من رواية مالك حتى قيل: إنه تفرد بها.

قال أبو قلابة عبد الملك بن محمَّد: ليس أحد يقول فيه: "من المسلمين" غير مالك.

وقال الترمذي بعد تخريجه له: زاد فيه مالك "من المسلمين"، وقد رواه غير واحد عن نافع فلم يقولوا فيه:"من المسلمين". انتهى.

ص: 206

قال: فمنهم: الليث بن سعد وحديثه عند مسلم، وعبيد الله بن عمر وحديثه أيضًا عند مسلم، وأيوب السختياني وحديثه عند البخاري ومسلم، كلهم رووه عن ابن عمر ولم يقولوا فيه:"من المسلمين".

قال: وتبعهما على هذه المقالة جماعة.

قال الشيخ: وليس بصحيح فقد تابع مالكًا على هذه اللفظة من الثقات سبعة وهم: عمر بن نافع والضحاك بن عثمان والمعلى بن إسماعيل وعبد الله بن عمر وكثير بن فرقد وعبيد الله بن عمر العمري ويونس بن يزيد.

فحديث عمر بن نافع رواه البخاري في "صحيحه"(1): عنه، عن أبيه نافع، عن ابن عمر قال:"فرض رسول الله عليه السلام زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل الصلاة".

وحديث الضحاك بن عثمان أخرجه مسلم (2): عنه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"فرض رسول الله عليه السلام زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين: حرٌّ أو عبد، رجل أو امرأة، صغير أو كبير صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير".

وحديث المعلَّى بن إسماعيل أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(3) في النوع الرابع والعشرين من القسم الأول: عنه، عن نافع، عن ابن عمر قال:"أمر رسول الله عليه السلام زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير عن كل مسلم صغير وكبير حر أو عبد. قال ابن عمر: ثم إن الناس جعلوا عدل ذلك مدين من قمح".

وحديث عبد الله بن عمر أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4): عنه، عن نافع، عن

(1)"صحيح البخاري"(2/ 547 رقم 1432).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 678 رقم 984).

(3)

"صحيح ابن حبان"(8/ 96 رقم 3304).

(4)

"مستدرك الحاكم"(1/ 569 رقم 1494).

ص: 207

ابن عمر: "أن رسول الله عليه السلام فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من بُرّ، على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وصححه.

ورواه الدارقطني في "سننه"(1)، والطحاوي في "مشكله".

وحديث كثير بن فرقد أخرجه الحاكم في "مستدرك"(2): عنه، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من بُرٍّ على كل حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". وصححه.

ورواه الدارقطني في "سننه"(3)، والطحاوي في "مشكله".

وحديث عبيد الله بن عمر العمري أخرجه الدارقطني (4): عنه، عن ابن عمر بنحوه سواء.

وحديث يونس بن يزيد أخرجه الطحاوي في "مشكله": عنه، أن نافعًا أخبره قال: قال عبد الله بن عمر: "فرض رسول الله عليه السلام على الناس زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على كل إنسان ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد من المسلمين".

وقال أبو عمر في "التمهيد": لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في متنه ولا في قوله فيه: "من المسلمين" إلا قتيبة بن سعيد وحده، فإنه روى هذا الحديث عن مالك ولم يقل فيه:"من المسلمين"، وزعم بعض الناس أنه لا يقول فيه أحد:"من المسلمين" غير مالك.

وذكره أيضًا أحمد بن خالد، عن ابن وضاح، وليس كما ظنَّ الظانّ، وقد قاله غير مالك عن جماعة، ولو انفرد به مالك لكان حجة توجب حكمًا عند أهل العلم، فكيف ولم ينفرد به؟!

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 140 رقم 9).

(2)

"مستدرك الحاكم"(1/ 569 رقم 1494).

(3)

"سنن الدارقطني"(2/ 140 رقم 8).

(4)

"سنن الدارقطني"(2/ 139 رقم 4).

ص: 208

وقال أبو عمر أيضًا: اختلفوا في العبد الكافر والغائب المسلم.

فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: ليس على أحد أن يؤدي عن عبده الكافر صدقة الفطر وإنما هي على من صام وصلى، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن، وحجتهم قوله عليه السلام في هذا الحديث:"من المسلمين"، وقال الثوري وسائر الكوفيين: عليه أن يؤدي زكاة الفطر عن عبده الكافر.

وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، والنخعي، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم، انتهى.

قلت: نذكر أولًا ما احتج به أصحابنا فيما ذهبوا إليه من وجوب صدقة الفطر عن عبده الكافر، ثم نجيب عن حديث مالك الذي فيه "من المسلمين" فنقول:

روى الدارقطني في "سننه"(1): عن سلّام الطويل، عن زيد العمي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "أدوا صدقة الفطر عن كل صغير وكبير، ذكر أو أنثى، يهودي أو نصراني حرّ أو مملوك، نصف صاع من بُر، أو صاعًا من تمر أو شعير".

فإن قيل: قال الدارقطني: لم يسند هذا الحديث غير سلام الطويل وهو متروك.

ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات" وقال: زيادة "اليهودي والنصراني" فيه موضوعة، انفرد بها سلام الطويل وكأنه تعمدها، وأغلظ فيه القول عن النسائي وابن حبان.

قلت: جازف ابن الجوزي في مقالته من غير دليل، فكان ينبغي أن يذكره مثل الدارقطني، وكيف وقد أخرج الطحاوي في "مشكله" ما يؤيد هذا عن ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:"كان يخرج زكاة الفطر عن كل إنسان يعول، من صغير وكبير، حرٍّ أو عبد ولو كان نصرانيَّا؛ مُدَّين من قمح أو صاعًا من تمر".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 150 رقم 53).

ص: 209

وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيما رواية ابن المبارك عنه.

ويؤيده أيضًا ما أخرجه الدارقطني (1): عن عثمان بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يخرج صدقة الفطر عن كل حرٍّ وعبد، صغير وكبير، ذكر وأنثى، كافر ومسلم، حتى إن كان ليخرج عن مكاتبيه من غلمانه".

قال الدارقطني: وعثمان هذا هو الوقاصي وهو متروك.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن ابن عباس قال: "يخرج الرجل زكاة الفطر عن كل مملوك له وإن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا".

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن إسماعيل بن عياش، عن عمر بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، قال: سمعته يقول: "يؤدي الرجل المسلم عن مملوكه النصراني صدقة الفطر".

ثنا (4) عبد الله بن داود، عن الأوزاعي، قال: بلغني عن ابن عمر: "أنه كان يُعطي عن مملوكه النصراني صدقة الفطر".

ثنا (5) وكيع، عن ثور، عن سليمان بن موسى، قال:"كتب إليَّ عطاء يسأله عن عبيد يهود أو نصارى: أطعم عنهم زكاة الفطر؟ قال: نعم".

ثنا (6) ابن عياش، عن عبيدة، عن إبراهيم، قال مثل قول عمر بن عبد العزيز.

نا (7) محمَّد بن بكر، عن ابن جريج قال: قال عطاء: "إذا كان لك عبيد نصارى لا يدارون -يعني: للتجارة- فزكِّ عنهم يوم الفطر".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 150 رقم 54).

(2)

"مصنف عبد الرزاق"(3/ 324 رقم 5812).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 399 رقم 10373).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 399 رقم 10374).

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 399 رقم 10375).

(6)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 399 رقم 10376).

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 399 رقم 10377).

ص: 210

وأما الجواب عن حديث مالك فما ذكره الطحاوي في "مشكل الآثار" أن قوله عليه السلام: "من المسلمين" يعني: مَن يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه وعن غيره ولا يكون إلا مسلمًا، وأما العبد فلا يلزمه في نفسه زكاة الفطر وإنما يلزم مولاه المسلم عنه، ألا ترى إلى إجماع العلماء في العبد يُعتق قبل أن يؤدي مولاه عنه زكاة الفطر أنه لا يلزمه إذا ملك بعد ذلك مالًا إخراجها عن نفسه، كما يلزمه إخراج كفارة ما حنث فيه من الأيمان، وأنه عبد، وأنه لا يكفرها بصيام، ولو لزمته صدقة الفطر لأداها عن نفسه.

قلت: التحقيق في هذا المقام أن في صدقة الفطر نصَّين:

أحدهما: جعل الرأس المطلق سببًا، وهو الرواية التي ليس فيها "من المسلمين".

والنص الآخر: جعل رأس المسلم سببًا، ولا تنافي في الأسباب؛ إذ يجوز أن يكون لشيء واحد أسباب متعددة شرعًا وحِسًّا على سبيل البدل، كالملك يثبت بالشراء والهبة والوصية والصدقة والإرث، فإذا امتنعت المزاحمة وجب الجمع بإجراء كل واحد من المطلق والمقيد على سببه من غير حمل أحدهما على الآخر، فيجب أداء صدقة الفطر عن العبد الكافر بالنص المطلق، وعن المسلم بالمقيد.

فإن قيل: إذا لم يحمل المطلق على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد، فإن حكمه يفهم من المطلق، فإن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد، فلم يبق لذكر المقيد فائدة.

قلت: ليس كذلك، بل فيه فوائد وهي أن يكون المقيد دليلًا على الاستحباب والفضل، أو على أنه عزيمة، والمطلق رخصة، أو على أنه أهم وأشرف حيث نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق كتخصيص الصلاة الوسطى وجبريل وميكائيل بعد دخولها في مطلق الصلوات، ودخولهما في مطلق اسم الملائكة ومتى أمكن العمل بهما، واحتمال الفائدة قائم، لا يجوز إبطال صفة الإطلاق.

ص: ثم قد روى في غير هذه الآثار التي ذكرنا عن النبي عليه السلام ما يوافق ذلك أيضًا، فمن ذلك: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد،

ص: 211

عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "صاعٌ من بُرٍّ أو قمح عن كل اثنين، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد عليه ما أعطى".

حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه، قال: قال النبي عليه السلام: "أدوا زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع بر -أو قال: قمح- عن كل إنسان صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حرٍّ أو مملوك، غني أو فقير".

ش: أي: ثم قد روي في غير هذه الأحاديث -وهي التي رواها عن أسماء بنت أبي بكر الصديق وأبي سعيد وعبد الله بن عمر- ما يوافق ذلك في أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع، فمن ذلك: ما أخرجه عن ثعلبة بن أبي صعير من طريقين:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مُسدد بن مسرهد شيخ البخاري، عن حماد بن زيد روى له الجماعة، عن النعمان بن راشد الجزري الرقي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن محمَّد بن مسلم الزهري روى له الجماعة، عن ثعلبة بن أبي صُعير -بضم الصاد وفتح العين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء مهملة- هو وأبوه صحابيان.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد وسليمان بن داود العتكي، قالا: ثنا حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري -قال مسدد: عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه [وقال سليمان بن داود: عن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه، (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاع من بُر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 114 رقم 1619).

(2)

ما بين المعقوفتين ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".

ص: 212

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن عفان بن مسلم الصفار البصري روى له الجماعة، عن حماد بن زيد

إلى آخره.

وهذا الحديث له وجوه:

الأول: رواية بكر بن وائل:

أخرجها أبو داود (1): ثنا علي بن الحسن الدرابجردي، نا عبد الله بن يزيد، نا همام، نا بكر -هو ابن وائل- عن الزهري، عن ثعلبة بن عبد الله -أو قال: عبد الله بن ثعلبة- عن النبي عليه السلام.

ثنا ابن يحيى النيسابوري، نا موسى بن إسماعيل، نا همام، عن بكر الكوفي -قال ابن يحيى: هو بكر بن وائل بن داود- أن الزهري حدثهم عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، عن أبيه قال: "قام رسول الله عليه السلام خطيبًا، فأمر بصدقة الفطر صاع تمر أو

صاع شعير على كل رأس -زاد علي في حديثه: أو صاع بُر أو قمح بين اثنين ثم اتفقا-: عن الصغير والكبير والحر والعبد".

الثاني: رواية النعمان بن راشد عن الزهري، وهي التي أخرجها الطحاوي وأبو داود أيضًا.

وأخرجه الدارقطني (2) أيضًا: عن إسحاق بن أبي إسرائيل، عن حماد بن زيد به مرفوعًا: "أدوا صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو نصف صاع من بُر

" إلى آخره.

ثم أخرجه (3): عن يزيد بن هارون، عن حماد بن زيد به، قال: "أدوا عن كل إنسان صاعًا من بُر، عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير

" إلى آخره.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 114 رقم 1620).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 147 رقم 37).

(3)

"سنن الدارقطني"(2/ 147 رقم 38).

ص: 213

ثم أخرجه (1): عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه بنحو رواية يزيد بن هارون.

ثم أخرجه (2) عن خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، وقال بهذا الإسناد نحوه.

الثالث: رواية يحيى بن جرجة، عن الزهري.

أخرجها الدارقطني أيضًا (3): عنه عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير:"أن رسول الله عليه السلام خطب فقال: إن صدقة الفطر مدَّان من بُرٍّ عن كل إنسان، أو صاع مما سواه من الطعام".

ويحيى بن جرجة روى عنه ابن جريج.

وقزعة بن سويد، قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: هو شيخ. وقال الدارقطني: ليس بقوي.

الرابع: رواية ابن جريج عن الزهري.

رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(4): أنا ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن ثعلبة قال:"خطب رسول الله عليه السلام الناس قبل الفطر بيوم أو يومين فقال: أدُّوا صاعًا من بُرٍّ أو قمح بين اثنين، أو صاعًا من تمر أو شعير عن كل حرٍّ وعبد صغير وكبير".

ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في "سننه"(5) والطبراني في "معجمه".

وهذا سند صحيح قوي.

الخامس: رواية بحر بن كنيز السقاء، عن الزهري.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 148 رقم 39).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 148 رقم 40).

(3)

"سنن الدارقطني"(2/ 148 رقم 45).

(4)

"مصنف عبد الرزاق"(3/ 318 رقم 5785).

(5)

"سنن الدارقطني"(2/ 150 رقم 52).

ص: 214

أخرجه الحكم في "المستدرك"(1) في كتاب الفضائل: عن بحر بن كنيز، ثنا الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة، عن أبيه، عن النبي عليه السلام:"أنه فرض صدقة الفطر عن الصغير والكبير صاعًا من تمر أو مدَّين من قمح".

وسكت عنه، ثم قال: وقد رواه أكثر أصحاب الزهري عنه عن عبد الله بن ثعلبة عن النبي عليه السلام، لم يذكروا أباه.

وقال الدارقطني في "علله"(2): هذا حديث اختلف في إسناده ومتنه.

أما سنده فرواه الزهري واختلف عليه فيه، فرواه النعمان بن راشد عنه عن ثعلبة بن أبي صعير.

وقيل: عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، عن أبي هريرة.

وقيل: عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

وقيل: عن عقيل ويونس، عن الزهري، عن سعيد مرسلًا.

ورواه معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

وأما اختلاف متنه ففي حديث سفيان بن حسين عن الزهري: "صاع من قمح"، وكذلك في حديث النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه:"صاع من قمح عن كل إنسان"، وفي حديث الباقين:"نصف صاع من قمح"، قال: وأصحها: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب مرسل انتهى.

وقال الشيخ في "الإمام": وحاصل ما تعلل به هذا الحديث أمران:

أحدهما: الاختلاف في اسم ابن أبي صُعَير فقد تقدم من جهة أبي داود (3) عن مسدد: ثعلبة بن أبي صعير.

(1)"مستدرك الحاكم"(3/ 314 رقم 5214).

(2)

"علل الدارقطني"(7/ 39 رقم 1195).

(3)

تقدم.

ص: 215

ومن جهته أيضًا عن سليمان بن داود: عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، أو ثعلبة ابن عبد الله بن أبي صعير، وكذلك أيضًا عند أبي داود (1) في رواية بكر بن وائل: ثعلبة بن عبد الله، أو قال: عبد الله بن ثعلبة على الشك.

وعنده أيضًا (1) من رواية محمَّد بن يحيى، وفيه الجزم بعبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير، وكذلك رواية ابن جريج.

وعند الدارقطني (1) من رواية مسدد: عن ابن أبي صعير عن أبيه لم يسمه.

ثم أخرجه الدارقطني (1) عن همام، عن بكر، أن الزهري حدثه، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، عن أبيه قال نحوه -يعني نحو حديث مسدد- فإنه ذكره عقيبه، وهذا يحتاج إلى نظرة فإنه ذكره (1) من رواية مسدد، عن حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن أبي صعير، عن أبيه مرفوعًا:"صدقة الفطر صاع من بُر أو قمح عن كل رأس" كذا في النسخة العتيقة الصحيحة ورواية أبي داود (1) عن مسدد فيها: "أدّوا صاعًا من بُرٍّ أو قمح عن كل اثنين". وهذا مخالف للأول، والله أعلم.

وفي رواية سليمان بن حرب، عن حماد: الجزم بثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، عند الدارقطني (1)، والجزم بعبد الله بن ثعلبة في رواية بحر بن كنيز كما تقدم عند الحاكم (1)، والشك في رواية يزيد بن هارون، عن حماد فيها: عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير أو عن ثعلبة عن أبيه، عند الدارقطني.

العلة الثانية: الاختلاف في اللفظ؛ ففي حديث سليمان بن حرب عند الدارقطني عن حماد بن زيد، عن النعمان بن راشد، عن ثعلبة بن أبي صُعَير، عن أبيه مرفوعًا "أدوا صاعًا من قمح

" الحديث.

ثم أتبعه الدارقطني برواية خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، قال: بهذا الإسناد مثله.

(1) تقدم.

ص: 216

وقد تقدم من رواية أبي داود عن مسدد: "صاع من بر أو قمح على كل اثنين".

وأخرجه الدارقطني (1): عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد، ثنا حماد بن زيد به، عن ابن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه مرفوعًا: "أدوا صدقة الفطر صاعًا من تمر أو قمح عن كل رأس

" الحديث.

وفي رواية بكر بن وائل (2) قيل: "عن كل رأس"، وذكر البيهقي عن محمَّد بن يحيى الذهلي أنه قال في كتاب "العلل": إنما هو عبد الله بن ثعلبة وإنما هو عن كل إنسان أو كل رأس، هكذا رواية بكر بن وائل، لم يَقُمْ الحديث غيره، قد أصاب الإسناد والمتن.

قال الشيخ: ويمكن أن تحرف "رأس" إلى "اثنين"، ولكن يُبْعِد هذا بعض الروايات كالرواية التي فيها:"صاع بُرٍّ أو قمح بين كل اثنين". انتهى.

وقال صاحب "تنقيح التحقيق" بعد ذكره هذا الاختلاف: وقد روي على الشك في الاثنين.

قال أحمد بن حنبل (3): ثنا عفان قال: سألت حماد بن زيد عن صدقة الفطر، فحدثني عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن ثعلبة بن أبي صعير، عن أبيه، أن رسول الله عليه السلام قال:"أدوا صاعًا من قمح أو صاعًا من بُر -وشك حماد-: عن كل اثنين، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، حرٍّ أو مملوك، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما يُعطي". انتهى.

ثم قال: قال مهنا: ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر: "نصف صاع من بُرٍّ"، فقال: ليس بصحيح، إنما هو مرسل، يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلًا.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 148 رقم 41).

(2)

"سنن الدارقطني"(2/ 148 رقم 43).

(3)

"مسند أحمد"(5/ 432 رقم 23714).

ص: 217

قلت: من قِبَلِ مَنْ هذا؟ قال: من قبل النعمان بن راشد وليس بالقوي في الحديث، وضعَّف حديث ابن أبي صُعَير، وسألته عن ابن أبي صُعَير أهو معروف؟ فقال: ومَن يعرف ابن أبي صعير؟! ليس هو بمعروف.

وذكر أحمد وابن المديني ابن أبي صُعَير فضعفاه جميعًا.

وقال ابن عبد البر: ليس دون الزهري مَن تقوم به الحجة.

والنعمان بن راشد قال معاوية عن ابن مَعين: ضعيف، وقال عباس عنه: ليس بشيء. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مضطرب الحديث. وقال البخاري: في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق.

وقال ابن حزم في "المحلى": والنعمان بن راشد ضعيف كثير الغلط.

وهذا الحديث راجع إلى رجل مجهول الحال مضطرب عنه يختلف في اسمه: مرةً عبد الله بن ثعلبة، ومرة ثعلبة بن عبد الله، ولا خلاف أن الزهري لم يلقَ ثعلبة بن أبي صُعَير، وليس لعبد الله بن ثعلبة صحبة. انتهى.

قلت: ثعلبة بن عبد الله بن صُعَير، ويقال: ثعلبة بن صُعَير، ويقال: ابن أبي صُعَير، ويقال: عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري عداده في الصحابة.

وفي "التهذيب": عبد الله بن صُعَير هو عبد الله بن ثعلبة بن صعير، ويقال: ابن أبي صعير بن عمرو بن زيد بن سنان العذري، حليف بني زهرة يكنى أبا محمَّد، مسح رسول الله عليه السلام رأسه زمن الفتح ودعا له، وحفظ عنه.

روى عن أبيه، قيل: إنه ولد قبل الهجرة بأربع سنين، وتوفي سنة سبع وثمانين وهو ابن ثلاث وتسعين.

وأما النعمان بن راشد فإن الجماعة قد أخرجوا له، البخاري مستشهدًا وقال: صدوق. وقال ابن عدي: النعمان بن راشد قد احتمله الناس، روى عنه الثقات مثل حماد بن زيد وجرير بن حازم ووهيب بن خالد، وغيرهم من الثقات، وله نسخة عن الزهري، لا بأس به، والله أعلم.

ص: 218

قوله: "صاعٌ" مرفوع بالابتداء وتخصص بالصفة، وهي قوله:"من بُرٍّ"، وخبره قوله:"عن كل اثنين".

قوله: "فيزكيه الله" أي: يطهره الله من وسخ الآثام، أو معناه: يزيده الله بركة في ماله؛ لأن معنى الزكاة: النماء، وهي الزيادة، يقال: زكى الزرع إذا نمى.

قوله: "فيرد عليه ما أعطى" معناه: يجازيه الله تعالى في الدنيا بأن يرد عليه أكثر مما أعطاه، وفي الآخرة بالثواب الجزيل.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه دلالة ظاهرة على أن صدقة الفطر من الحنطة: نصف صاع.

الثاني: فيه رد على أهل الظاهر حيث منعوا جواز الحنطة في صدقة الفطر.

الثالث: فيه دليل أن الواجب على الصغير والكبير والحر والعبد.

الرابع: قال الخطابي: فيه بيان أن الفقير تلزمه صدقة الفطر إذا وجد ما يؤديه، ألا تراه يقول:"وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه"، فقد أوجب عليه أن يؤديها عن نفسه مع إجازته له أن يأخذ صدقة غيره.

قلت: فيه نظر؛ لأن اللفظ ليس فيه ما يدل على أنها تجب على الفقير، بل معناه أن الفقير إذا تبرع بها ابتغاء لمرضاة الله تعالى، فإن الله يجازيه في الدنيا بأن يرد عليه أكثر مما أعطاه، وفي الآخرة بالثواب الجزيل.

الخامس: قال الخطابي: وفي قوله: "ذكر أو أنثى" دليل لمن أسقط صدقة الزوجة عن الزوج؛ لأنه في الظاهر إيجاب على المرأة، فلا يزول الفرض عنها إلا بدليل، وهو مذهب أصحاب الرأي والثوري.

وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يُخرج عن زوجته لأنه يمونها.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "زكاة الفطر عن

ص: 219

كل حرٍّ وعبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، صاع من تمر أو نصف من قمح". قال معمر: وبلغني عن الزهري أنه كان يرفعه.

ش: إسناده صحيح، وهو موقوف.

وأبو بكرة بكار القاضي، والزهري هو محمَّد بن مسلم.

وأخرجه الدارقطني (1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن إسحاق المروزي، ثنا الحسن بن أبي الربيع، ثنا عبد الرزاق .... إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: قال الليث: حدثني عبد الرحمن بن خالد وعقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب:"أن رسول الله عليه السلام فرض زكاة الفطر مُدَّين من حنطة".

حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: قال الليث

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا عُقيل، عن ابن شهاب، أنه سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة يقولون:"أمر رسول الله عليه السلام بزكاة الفطر بصاع من تمر أو بمدَّين من حنطة".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرني يحيى بن أيوب، قال: حدثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم، وسالم قالوا:"أمر رسول الله عليه السلام في صدقة الفطر بصاع من شعير أو مُدَّين من قمح".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد وعبيد الله والقاسم وسالم، عن النبي عليه السلام.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 149 رقم 50).

ص: 220

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن عبد الخالق، عن سعيد بن المسيب، قال:"كانت الصدقة تعطى على عهد رسول الله عليه السلام وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما نصف صاع حنطة".

ش: هذه ست طرق، وهي مرسلة:

الأول: إسناده صحيح.

وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي أبو الوليد المصري، أمير مصر لهشام بن عبد الملك بن مروان، وهو مولى الليث بن سعد من فوق. قال أبو حاتم: صالح. ووثقه ابن حبان، وروى له البخاري واستشهد به مسلم.

وعُقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي، روى له الجماعة.

وأخرجه أبو داود في المراسيل (1): ثنا قتيبة، أنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب قال:"فرض رسول الله عليه السلام زكاة الفطر مُدَّين من حنطة".

فإن قيل: قال ابن الجوزي: وهذا مع إرساله يحتمل أن يكون قوله: "مُدَّين من حنطة" تفسيرًا من سعيد.

قلت: قال صاحب "التنقيح": قد جاء ما يرد هذا، وهو ما رواه سعيد بن منصور: ثنا هشيم، عن عبد الخالق الشيباني قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: "كانت الصدقة تدفع على عهد النبي عليه السلام وأبي بكر نصف صاع من بُرٍّ".

وأخرجه الطحاوي أيضًا على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى.

الثاني: صحيح أيضًا: عن موسى بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن يوسف [التنيسي](2) شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عُقيل بن خالد عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب

إلى آخره.

(1)"المراسيل لأبي داود"(1/ 137 رقم 121).

(2)

في "الأصل، ك": الفريابي. وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، وعبد الله بن يوسف هو التنيسي الكلاعي المصري.

وأما الفريابي فهو: محمَّد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي. وكلاهما من شيوخ البخاري.

ص: 221

الثالث: صحيح أيضًا: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، قال أبو حاتم: محله الصدق.

عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد روى له الجماعة، عن عُقيل بن خالد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه سمع سعيد بن المسيب، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة بالمدينة.

الرابع: صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم، شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري

إلى آخره.

والقاسم هو ابن محمَّد بن أبي بكر الصديق.

وسالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عبد الغفار بن داود الحراني شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن عُقيل بن خالد

إلى آخره.

السادس: بإسناد صحيح: عن أحمد بن داود المكي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن عبد الخالق بن سلمة الشيباني البصري من رجال مسلم والنسائي

إلى آخره.

وأخرجه أبو عبيد في كتاب "الأموال": ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا عبد الخالق بن سلمة الشيباني، عن سعيد بن المسيب قال:"كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله عليه السلام صاع تمر أو نصف صاع حنطة عن كل رأس".

ص: فقد جاءت هذه الآثار التي ذكرنا عن النبي عليه السلام في الحنطة بمثل ما عدله الناس بعده، وأبو سعيد فقد روي عنه من رأيه ما يوافق ذلك، ولم يخالف ما روي عنه ما ذكره عنه عياض بن عبد الله في قوله: "تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل

ص: 222

بها"؛ لأنه في ذلك لم ينكر القيمة وإنما أنكر المقوَّم، فهذا ما روي عن رسول الله عليه السلام في صدقة الفطر، وقد ذكرنا بعض ما روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في ذلك.

ش: أشار بهذه الآثار إلى حديث ثعلبة بن أبي صُعير، وحديث أبي هريرة، ومراسيل سعيد بن المسيب ومَن ذكر معه؛ فإنها جاءت مماثلة وموافقةً لما عدَّله الناس بعد النبي عليه السلام من مُدَّين من حنطة في مقابلة صاع من شعير أو تمر.

قوله: "وأبو سعيد"- أي أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قد روي عنه من رأيه واجتهاده ما يوافق ذلك التعديل حيث قال لرسول مروان لما أرسله يطلب منه زكاة رقيقه: إنما علينا أن نعطي لكل رأس عندكم فطر صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُر.

قوله: "ولم يخالف ما روي عنه ما ذكره عنه عياض بن عبد الله

" إلى آخره.

جوابٌ عما يقال: قد روى عياض بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري وهو يسأل عن صدقة الفطر قال:"لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط. فقال له رجل: أو مُدَّين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها".

فهذا مخالف لما روي عنه ما يوافق ما قد عدله الناس من بعد النبي عليه السلام.

وتقرير الجواب: أن أبا سعيد لم يُنكر في ذلك القيمة وإنما أنكر المقوَّم -بفتح الواو المشددة- وأراد به إخراج المدين من القمح؛ لأنه لم يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب. والدليل عليه ما سبق في إحدى رواياته: "إنما كنا نخرج على عهد رسول الله عليه السلام صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، أو صاع أقط لا نخرج غيره".

فإن قلت: ففي بعض رواياته: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير

" الحديث. وليس الطعام إلا الحنطة.

قلت: قد بينت لك فيما مضى أن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات، فحينئذ يتناول الشعير والزيت والتمر والأقط ونحو ذلك.

ص: 223

ص: وقد روي في ذلك أيضًا عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ما يوافق ذلك.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر وهلال بن يحيى، قالا: ثنا أبو عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة قال:"أخبرني من رفع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه صاعَ بُر بين اثنين".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حماد، عن الحجاج بن أرطاة، قال:"ذهبت أنا والحكم بن عتيبة إلى زياد بن النضر فحدثنا عن عبد الله بن نافع، أن أباه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني رجل مملوك، فهل لي مال زكاة؟ فقال عمر- رضي الله عنه: أما زكاتك على سيدك أن يؤدي عنك عند كل فطر صاعًا من شعير أو تمر أو نصف صاع بُر".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا نعيم، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي صُعير قال:"كنا نخرج زكاة الفطر على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف صاع".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا القواريري، قال: ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث قال:"خطبنا عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال في خطبته: أدوا زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، عن كل صغير وكبير، وحرٍّ ومملوك، ذكر وأنثى".

حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا القواريري

فذكر بإسناده عن عثمان رضي الله عنه: "أنه خطبهم فقال: أدوا زكاة الفطر مُدَّين من حنطة".

ولم يذكر ما سوى ذلك مما ذكره ابن أبي داود.

فهذا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أجمعوا في ذلك على ما ذكرنا.

ش: أي: وقد روي في كون صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع أيضًا عن الخلفاء الثلاثة ما يوافق ما روي من الآثار المذكورة.

وأخرج ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه بإسناد فيه مجهول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عمر حفص بن عمر الضرير شيخ أبي داود، وعن هلال بن يحيى

ص: 224

ابن مسلم الرأي البصري أحد أصحاب أبي حنيفة الكبار، كلاهما عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص، عن عاصم، عن أبي قلابة، قال:"أخبرني من أدى إلى أبي بكر في صدقة الفطر نصف صاع من طعام".

وأخرج ما روي عن عمر بن الخطاب من طريقين:

الأول: عن أبي بكرة، عن أبي عمر أيضًا، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي قاضي الكوفة، كان كثير الإرسال والتدليس، واحتج به الأربعة، وروى له مسلم مقرونًا بغيره.

والحكم بن عتيبة -بضم العين المهملة وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء- الكندي الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له الجماعة.

وزياد بن النضر ذكره البخاري في "تاريخه" وقال: يكنى أبا النضر وسكت عنه.

وعبد الله بن نافع المدني مولى عبد الله بن عمر فيه مقال؛ فعن يحيى: ضعيف.

وقال النسائي: متروك. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. روى له المجماعة.

وأخره البخاري في "تاريخه"(2): عن علي بن المديني، عن جرير، عن منصور، عن الحكم نحوه.

وقال: ورواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير، عن منصور، عن أبي السفر.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي الفارض الأعور، روى عنه البخاري مقرونا بغيره، وروى له مسلم في مقدمة كتابه، والباقون سوى النسائي.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 396 رقم 10336).

(2)

"التاريخ الكبير"(3/ 376).

ص: 225

عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن ثعلبة بن أبي صعير -أو عبد الله بن ثعلبة بن أبي صعير- على الاختلاف الذي ذكرناه.

وأخرج ما روي عن عثمان من طريقين أيضًا:

الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، [عن عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري أبي معمر المقعد البصري شيخ البخاري وأبي داود](1) عن حماد بن زيد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام، عن أبي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني -من صنعاء الشام- روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".

وهذا إسناد صحيح قوي.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن عثمان رضي الله عنه قال:"صاع من تمر، أو نصف صاع من بُرٍّ".

قلت: نصف صاع هو مُدّان من البُر.

الثاني: عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، عن عبد الله بن عمر والقواريري

إلى آخره.

قوله: "قد أجمعوا في ذلك" أي في إخراج صدقة الفطر من القمح على ما ذكرنا وهو نصف صاع.

ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن ابن عباس.

حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال:"أمرت أهل البصرة إذْ كنت فيهم أن يعطوا عن الصغير والكبير، والحر والمملوك مُدَّين من حنطة".

(1) كذا في "الأصل، ك" والذي في المتن هو القواريري، واسمه: عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي البصري نزيل بغداد، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 396 رقم 10335).

ص: 226

ش: أي: قد روي عن عبد الله بن عباس مثل ما روي عن الخلفاء الثلاثة في كون صدقة الفطر من القمح نصف صاع.

أخرجه عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن النهشلي الكوفي- قال العجلي: ثقة. روى له مسلم، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى فيه لين، عن عطاء بن أبي رباح

إلى آخره.

وأخرج أبو داود (1): ثنا محمَّد بن المثنى، نا سهل بن يوسف، قال حميد: أُخْبِرْنا عن الحسن قال: "خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا. قال: مَن ها هنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم؛ فإنهم لا يعلمون، فرض رسول الله عليه السلام هذه الصدقة صاعًا من تمر أو شعير، أو نصف صاع قمح، على كل حرٍّ أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فلما قدم عليٌّ رضي الله عنه رأى رخص السعر قال: قد أوسع الله عليكم، فلو جعلتموه صاعًا من كل شيء. قال حميد: وكان الحسن يرى صدقة رمضان على مَن صام".

وأخرجه النسائي (2) وقال: الحسن لم يسمع من ابن عباس.

وكذا قاله الإِمام أحمد وابن المديني وأبو حاتم.

وقال صاحب "تنقيح التحقيق": الحديث رواته ثقات مشهورون لكن فيه إرسال، فإن الحسن لم يسمع من ابن عباس على ما قيل.

وقد جاء في مسند أبي يعلى الموصلي (3) في حديثٍ عن الحسن قال: أخبرني ابن عباس. وهذا إن ثبت دلَّ على سماعه منه، والله أعلم.

ص: وقد روي مثل ذلك أيضًا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وغيره من التابعين.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 114 رقم 1622).

(2)

"المجتبى"(3/ 190 رقم 1580)، (5/ 52 رقم 2515).

(3)

"مسند أبي يعلى"(4/ 402 رقم 2524).

ص: 227

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبد الله بن حمران، قال: ثنا عوف، قال:"كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة كتابًا فقرئ على منبر البصرة وأنا أسمع: أما بعد، فمُرْ مَنْ قِبَلك من المسلمين أن يُخرجوا زكاة الفطر صاعًا من تمر أو نصف صاع من بُر".

ش: أي: وقد روي عن عمر بن عبد العزيز الخليفة مثل ما روي عن ابن عباس: أن صدقة الفطر من البر نصف صاع.

أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي البصري مولى عثمان بن عفان، ثقة روى له مسلم، عن عوف بن أبي جميلة الأعرابي العبدي الهجري، روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو أسامة، عن (عوف) (2) قال:"سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ يُقرأ بالبصرة في صدقة رمضان: على كل صغير أو كبير، حرٍّ أو عبد، ذكر أو أنثى نصف صاع من بر أو صاع من تمر".

قلت: عدي بن أرطاة الفزاري من أهل دمشق، استعمله عمر بن عبد العزيز على البصرة، ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال الدارقطني: يحتج به.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عمر، قال: ثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"في زكاة الفطر: صاع من كل شيء سوى الحنطة، والحنطة نصف صاع".

حدثنا عبد الله بن محمَّد بن خشيش، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، قال: ثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب:"في زكاة رمضان قال: صاع تمر أو نصف صاع بُرٍّ".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 397 رقم 10352).

(2)

في "المصنف": ابن عون، وهو تحريف.

ص: 228

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا -أراه- عفان، قال: ثنا شعبة، قال:"سألت الحكم وحمادًا وعبد الرحمن بن القاسم، عن صدقة الفطر، فقالوا: نصف صاع حنطة".

ش: هذا لبيان قوله: "وغيره من التابعين" وهم: إبراهيم النخعي، ومجاهد المكي، وسعيد بن المسيب، والحكم بن عتيبة، وحماد بن أبي سليمان، وعبد الرحمن ابن القاسم.

وأخرج ما روي عن إبراهيم ومجاهد، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عمر حفص ابن عمر الضرير، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن منصور بن المعتمر.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال:"صدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد، عن كل إنسان نصف صاع من قمح".

حدثنا (2) جرير، عن منصور، عن مجاهد قال:"عن كل إنسان نصف من قمح، وما خالف القمح من تمر أو زبيب أو أقط أو شعير أو غيره فصاع".

وأخرج ما روى عن مجاهد من طريق أخر وهو أيضًا صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد رضي الله عنه.

وأخرج ما روي عن ابن المسيب بإسناد صحيح: عن عبد الله بن محمد بن خُشيش -بالمعجمات وضم الأول- عن مسلم بن إبراهيم القصاب، عن هشام الدستوائي

إلى آخره.

وقد أخرج عن سعيد فيما مضى من طرق عديدة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 396 رقم 10338).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 396 رقم 10339).

ص: 229

وأخرج ما روي عن البقية بإسناد صحيح أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار، عن شعبة

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو داود، عن شعبة، أنه سأل الحكم وحمادًا فقالا:"نصف صاع حنطة"، قال: وسألت عبد الرحمن بن القاسم وسعد بن إبراهيم فقالا مثل ذلك.

ص: فهذا كل ما روينا في هذا الباب عن رسول الله عليه السلام، وعن أصحابه من بعده، وعن تابعيهم من بعدهم، كلها على أن صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومما سوى الحنطة صاع، وما علمنا أحدًا من أصحاب رسول الله عليه السلام ولا من التابعين رُوي عنه خلاف ذلك، فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك إذْ كان قد صار إجماعًا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم إلى زمن مَنْ ذكرنا من التابعين.

ش: كلمة "هذا" للتنبيه؛ يُنبه بهذا أن كل ما رواه في هذا الباب عن رسول الله عليه السلام، وعن أصحابه من بعده، وعن التابعين من بعدهم، على أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع، وما سواه نحو التمر والشعير صاع، فإذا كان كذلك؛ يتعين الوقوف

عند ذلك، ولا يُجَاوز إلى غيره.

قوله: "وما علمنا أحدًا

إلى آخره".

فإن قيل: قد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن أبي داود، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال:"كتب إلينا ابن الزبير: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (3)، صدقة الفطر صاع صاع".

وروى عن أبي العالية ومسروق وأبي عبد الرحمن كذلك:

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 396 رقم 10348).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 398 رقم 10361).

(3)

سورة الحجرات، آية:[11].

ص: 230

قال ابن أبي شيبة (1): ثنا جرير، عن عاصم، عن أبي العالية، قال:"عن كل إنسان صاع من قمح في صدقة الفطر".

ثنا (2) غُندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت مسروقًا يقول: "صدقة الفطر: صاع صاع".

ثنا (3) غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت أبا عبد الرحمن يقول: "صاع صاع عن كل صغير وكبير مكتوب".

قلت: أما حديث أبي الزبير فليس فيه ما يدل على أن صدقة الفطر من القمح صاع، وإنما هو إخبار عن غالب ما كانوا يؤدونه وهو التمر والشعير ونحوهما، وكذلك قول مسروق وأبي عبد الرحمن.

وأما قول أبي العالية فمحمول على أن ذلك صاع بطريق الفضل لا الوجوب، وإنما الواجب هو نصف الصاع على ما دلت عليه الأخبار المذكورة في هذا الباب.

وقال البيهقي في "الخلافيات": جاءت أحاديث في صاع من بر، وأحاديث في نصف صاع، ولا يصح شيء من ذلك.

قلت: فيه نظر؛ لأن في نصف صاع من بر جاءت أخبار صحيحة على ما مرَّ ذكرها، فنفيه منفيٌّ.

ص: ثم النظر أيضًا قد دل على ذلك؛ وذلك أنا رأيناهم قد أجمعوا أنها من الشعير والتمر: صاع.

فنظرنا في حكم الحنطة في الأشياء التي يؤدى عنها التمر والشعير كيف هو؟

فوجدنا كفارات الأيمان قد أجمع أن الإطعام فيها من هذه الأصناف أيضًا، ثم اختلف في مقدارها منها، فقال قوم: مقدار ذلك من التمر والشعير نصف صاع، ومن الحنطة مثل نصف ذلك.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 397 رقم 10358).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 397 رقم 10359).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 398 رقم 10360).

ص: 231

وقال آخرون: بل هو من الحنطة نصف صاع ومما سوى ذلك صاع، وكلهم قد عدل الحنطة بمثليها من التمر والشعير، فكان النظر على ذلك إذ كانت صدقة الفطر صاعًا من التمر والشعير أن تكون من الحنطة مثل نصف ذلك، وهو نصف صاع.

فهذا هو النظر في هذا الباب أيضًا، وقد وافق ذلك ما جاءت به الآثار التي ذكرنا، فبذلك نأخذ.

وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: ثم القياس أيضًا "قد دلَّ على" أن صدقة الفطر من القمح نصف صاع؛ "وذلك أنا رأيناهم" أي الأخصام الذين اختلفوا في هذا الباب "أجمعوا أنها" أي أن صدقة الفطر.

قوله: "قد أُجمع" على صيغة المجهول.

قوله: "فقال قوم" أراد بهم: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الكفارة في اليمين هي مُدٌّ، وهو ربع الصاع.

وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.

قوله: "وقال آخرون" أي: جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والنخعي، وأبا حنيفة وأصحابه وآخرين، على ما سيجيء مستقصًى إن شاء الله في موضعه.

قوله: "إذْ كانت" أي: حين كانت.

قوله: "فبذلك نأخذ" أشار به إلى أنه اختار في هذا الباب قول أهل المقالة الثانية، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله.

ص: 232