المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: وزن الصاع كم هو - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: وزن الصاع كم هو

‌ص: باب: وزن الصاع كم هو

؟

ش: أي: هذا باب في بيان وزن الصاع كم هو من المقدار؟

قال الجوهري: الصاع الذي يكال به وهو أربعة أمداد، والجمع أصْوُع، وإن شئت أبدلت من الواو المضمومة همزةً، والصواع لغة فيه، ويقال: هو إناء يُشرب فيه.

وقال ابن الأثير: الصاع مكيال يسع أربعة أمداد، والمد مختلف فيه فقيل: هو رطل وثلث بالعراقي. وبه يقول الشافعي وفقهاء الحجاز.

وقيل: هو رطلان. وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق فيكون الصاع خمسة أرطال وثلثًا، أو ثمانية أرطال.

وقال عياض: جمع الصاع أصْوُع وآصُع، ولكن الجاري على العربية أصْوُع لا غير، والواحد صاع وصواع وصُوْع ويقال: أصؤع -بالهمزة لثقل الضمة على الواو- وهو مكيال لأهل المدينة معروف، فيه أربعة أمداد بمد النبي عليه السلام.

وقال أبو عمر: قال الخليل: الصاع طاس يشرب به.

وفي "المطالع": ويجمع على أصْوُع وصيعان.

ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا محمَّد شجاع وسلمان بن بكار وأحمد بن منصور الرمادي، قالوا: ثنا يلى بن عبيد، عن موسى الجهني، عن مجاهد قال:"دخلنا على عائشة رضي الله عنها فاستسقى بعضنا فأتى بعُسّ. قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي عليه السلام قبل يغتسل هذا. قال مجاهد: فحزرته فيما أحزر ثمانية أرطال تسعة أرطال عشرة أرطال".

ش: ابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، نزيل مصر، وثقه ابن يونس.

ص: 233

ومحمد بن شجاع البغدادي أبو عبد الله الثلجي -بالثاء المثلثة- أحد أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي، قد تكلم فيه جماعة من المحدثين، والظاهر أن أكثره تحامل؛ لأنه كان ذا عبادة وتلاوة.

وسليمان بن بكار بن سليمان السبائي أبو الربيع المصري.

وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي شيخ ابن ماجه وأبي عوانة الإسفراييني، قال الدارقطني: ثقة.

ويعلى بن عبيد الإيادي روى له الجماعة.

وموسى بن عبد الله الجهني أبو عبد الله الكوفي، وثقه يحيى والعجلي والنسائي، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وهذا الإسناد صحيح.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن عبيد، قال: نا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، عن موسى الجهني قال:"أتي مجاهد بقدح فقال: حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة أن رسول الله عليه السلام كان يغتسل بمثل هذا".

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(2) من طريق موسى الجهني: "كنت عند مجاهد، فأتي بإناء يسع ثمانية أرطال تسعة أرطال عشرة أرطال فقال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول عليه السلام يغتسل بمثل هذا".

قوله: "فأتي بعُسٍّ" العُسّ -بضم العين وتشديد السين المهملتين-: وهو القدح الكبير، ويجمع على أَعْساس وعِسَاس.

ص: قال أبو جعفر: فذهب ذاهبون بلى أن وزن الصاع ثمانية أرطال. واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقالوا: لم يَشُك مجاهد في الثمانية، وإنما شَك فيما فوقها، فثبتت الثمانية بهذا الحديث وانتفى ما فوقها. وممن قال بهذا القول أبو حنيفة رحمه الله.

(1)"المجتبى"(1/ 127 رقم 226).

(2)

"المحلى"(5/ 242).

ص: 234

ش: أراد بهؤلاء الذاهبين إلى أن وزن الصاع ثمانية أرطال: الحجاج بن أرطاة، والحكم بن عتيبة، وإبراهيم النخعي، وأحمد في رواية، وممن قال بذلك أبو حنيفة.

واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.

بيان ذلك: أنه قد ثبت في "الصحيح"(1): "أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع". ثم إن "العُسَّ" المذكور في حديث عائشة كان مثل الصاع الذي يغتسل به رسول الله عليه السلام، لقول عائشة رضي الله عنها:"كان النبي عليه السلام يغتسل بمثل هذا".

ثم إن مجاهدًا لما حزره حزره بثمانية أرطال أو بتسعة أو بعشرة، فحصل اليقين في الثمانية، وإنما الشك فيما فوقها، فثبتت الثمانية وانتفى ما فوقها.

وبهذا الكلام حصل الجواب عما قاله ابن حزم في "المحلى": وهذا لا حجة فيه؛ لأن موسى قد شك في هذا الإناء من ثمانية أرطال إلى عشرة، وهم لا يقولون: إن الصاع لا يزيد على ثمانية أرطال ولا فلسًا.

فإن قيل: إن النبي عليه السلام لم يُعيّر له الماء للغسل بكيل معلوم ولا كان يتوضأ ويغتسل بإناء مخصوص، بل قد توضأ واغتسل في الحضر والسفر بلا مراعاة لمقدار الماء، وقد صح أنه اغتسل هو وعائشة جميعًا من إناء يسع ثلاثة أمداد، ومن إناء أيضًا يُسمى الفَرَق، وأيضًا من إناء يسع فيها خمسة أمداد، وأيضًا بخمسة مكاكي، فإذا كان كذلك فكيف يستدل بحديث عائشة المذكور أن الصاع ثمانية أرطال؟!

قلت: المراد من هذا ثبوت كون الصاع ثمانية أرطال فقط لا التعرض إلى بيان مقدار ما كان يغتسل به النبي عليه السلام،وقد دلَّ قول عائشة رضي الله عنها:"كان النبي عليه السلام يغتسل بمثل هذا" مع حزر مجاهد ذلك الإناء بثمانية أو أكثر على المدعى وهو المطلوب.

على أن ابن عدي أخرج في "الكامل"(2): عن عمر بن موسى بن وجيه، عن

(1) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، البخاري (1/ 84 رقم 198)، ومسلم (1/ 257 رقم 325).

(2)

"الكامل"(5/ 12).

ص: 235

عمرو بن دينار، عن جابر قال:"كان النبي عليه السلام يتوضأ بالمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال".

وكذلك الدارقطني (1): عن جعفر بن عون، عن ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن أنس قال:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال".

ولا يضر ما ذكرنا ما قالوا من تضعيف إسناد هذين الحديثين؛ لأنا ذكرناهما استئناسًا لما ذكرنا وشاهدًا له، والله أعلم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: وزنه خمسة أرطال وثلث رطل. وممن قال ذلك: أبو يوسف.

ش: أي: خالف الذاهبين إلى حديث مجاهد عن عائشة في وزن الصاع جماعة آخرون، وأراد بهم: أهل المدينة نحو ربيعة الرأي ويحيى بن سعيد الأنصاري وسعيد بن المسيب ومالكًا وآخرين غيرهم، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا عبيد؛ فإنهم قالوا: وزن الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وممن قال ذلك: أبو يوسف رحمه الله، ولم يذكر الطحاوي محمَّد بن الحسن مع مَن هو؟ وذكر أصحابنا في كتبهم أن كون الصاع ثمانية أرطال هو قول أبي حنيفة ومحمد، وكونه خمسة وثلثًا هو قول أبي يوسف، ولعلَّ عن محمَّد روايتان فلذلك لم يذكره ها هنا كما هو عادته، وذكره فيما بعد.

ص: وقالوا: هذا الذي كان يغتسل به رسول الله عليه السلام هو صاع ونصف وذكروا في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا زائدة، عن جعفر بن بُرقان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد وهو الفَرَق".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 154 رقم 73).

ص: 236

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا الليث بن سعد، قال: حدثني ابن شهاب

فذكر بإسناده نحوه.

قالوا: فلما ثبت بهذا الحديث الذي روي عن عائشة: أن رسول الله عليه السلام كان يغتسل هو وهي من الفَرَق، والفَرَق ثلاثة أصوع، كأن ما يغتسل به كل واحد منهما صاعًا ونصفًا.

فإذا كان ذلك ثمانية أرطال كان الصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث. وهذا قول أهل المدينة أيضًا.

ش: أي قال هؤلاء الآخرون: هذا بيان استدلالهم لما قالوا: وزن الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، تقريره أن الإناء الذي كان يغتسل به رسول الله عليه السلام كانت صاعًا ونصفًا؛ لأن عائشة- رضي الله عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد وهو الفرق، والفرق ثلاثة أصوع، فحينئذ يكون ما اغتسل به كل واحد منهما صاعًا ونصفًا، فإذا كان المذكور في رواية مجاهد عن عائشة: ثمانية أرطال، يكون الصاع ثلث الفَرَق وهو خمسة أرطال وثلث؛ لأن الفرق ستة عشر رطلًا، وهي ثلاثة أصوع، وثلث ستة عشر، خمسةٌ وثلث.

ثم الفرق -بفتح الفاء والراء وبإسكانها- أيضًا لغتان والفتح أفصح وأشهر، وزعم الباجي أنه الصواب، وليس كما زعم، بل هما لغتان.

وقال ابن الأثير: الفَرَق بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثني عشر مدًّا، وثلاثة أصوع عند أهل الحجاز، وقيل: الفَرَق خمسة أقساط، والقسط نصف صاع، فأما الفرْق بالسكون فمائة وعشرون رطلا، وقال أصحابنا في كتب الفقه: الفَرَق ستة وثلاثون رطلًا، وكذا ذكره صاحب "الهداية" ثم علله بقوله: لأنه أقصى ما يقدر به.

وقال القاضي: قال أحمد بن يحيى: الفرق اثني عشر مُدًّا، وقال أبو الهيثم: هو إناء يأخذ ستة عشر رطلًا، وذلك ثلاثة آصع، وكذلك فسره سفيان في كتاب مسلم

ص: 237

أنه ثلاثة آصع، وحكي عن أبي زيد أنه إناء يسع أربعة أرباع، وقال غيره: هو إناء ضخم من مكاييل أهل العراق.

قلت: فعل هذا لم يتقرر الفرق على ستة عشر رطلًا، فلم يكن ثلاثة أصوع، ولا كان الصاع خمسة أرطال وثلثًا، فحينئذ لم يتم استدلالهم بما ذكروه، فافهم.

ثم إنه أخرج حديث عائشة من ثلاثة طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن زائدة بن قدامة، عن جعفر بن برقان الكلابي الجزري، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يغتسل من إناء -وهو الفَرَق- من الجنابة".

قال معمر: عن الزهري في الحديث قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد. فيه قدر الفَرَق".

وأخرجه مسلم (2) نحوه.

الثاني: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيساني، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (3): ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا ابن أبي ذئب

إلى آخره نحوه سواء.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 62 رقم 238).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 255 رقم 319).

(3)

"صحيح البخاري"(1/ 100 رقم 247).

ص: 238

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد القرشي المقرئ القصير شيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم الزهري

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أنا قتيبة، قال: ثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنهما قالت:"كان رسول الله عليه السلام يغتسل في القدح هو الفَرَق، وكنت أغتسل أنا وهو في إناء واحد".

قوله: "من إناء واحد، من قدح" كلمة "مِن" في قوله: "من إناء" لبيان الجنس، والتي في قوله:"من قدح" لبيان النوع، وليس المراد أنه كان يغتسل بملء الفرق، بدليل الحديث الآخر:"كان يغتسل بالصاع".

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن الماء الذي يجزئ في الغسل والوضوء غير مقدر، بل يكفي فيه القليل والكثير إذا وجد شرط الغَسل وهو جريان الماء على الأعضاء؛ لأن الغَسل هو الإسالة، فإذا لم يسل يصير مسحًا، وذا لا يجوز، وقال الشافعي (2):

وقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير فلا يكفي. وقالوا: المستحب أن لا ينقص في الغسل عن صاع، ولا في الوضوء عن مُدّ.

وأجمعوا أيضًا على النهي عن الإسراف في الماء ولو كان على شاطيء البحر.

ثم الأظهر أنه كراهة تنزيه لا تحريم، خلافًا لبعض الشافعية.

ص: وكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى: أن حديث عروة عن عائشة إنما فيه ذكر الفَرَق الذي كان يغتسل منه رسول الله عليه السلام وهي، ولم يُذكر مقدار الماء الذي كان يكون فيه، هل هو ملؤه أو أقل من ذلك؟ فقد يجوز أن يكون كان يغتسل هو وهي بملئه، ويجوز أن يكون كان يغتسل هو هي بأقل من ملئه، فما هو صاعان فيكون كل واحد منهما مغتسلًا بصاع من ماء، ويكون معنى هذا الحديث موافقًا لمعاني الأحاديث

(1)"المجتبى"(1/ 127 رقم 228).

(2)

انظر "مختصر المزني"(1/ 8).

ص: 239

التي رويت عن رسول الله عليه السلام أنه كان يغتسل بصاع؛ فإنه قد روي عنه في ذلك ما حدثنا فهد، قال: ثنا محمَّد بن سعيد، قال: ثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن إبراهيم، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع".

حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مسلم، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يغتسل بالصاع".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا هُدْبة بن خالد، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يغتسل بقدر الصاع، ويتوضأ بقدر المد".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا مسلم، قال: ثنا أبان، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"بالمد ونحوه".

حدثنا محمَّد بن العباس بن الربيع، قال: ثنا أسد، قال: ثنا المبارك بن فضالة، قال: حدثني أبي، عن معاذة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.

حدثنا أبو أمية، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن عتبة بن أبي حكيم، قال: حدثني عبد الله بن عبد الله بن جبر بن عتيك قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل من الماء، فقال كان رسول الله عليه السلام يتوضأ من مد فيسبغ الوضوء، وعسى أن يفضل منه، قال: وسألناه عن الغسل من الجنابة كم يكفي من الماء؟ قال: الصاع. فسألت أعن النبي عليه السلام ذكر الصاع؟ قال: نعم مع المد".

ص: 240

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا بشر، قال: ثنا أبو ريحانة، عن سفينة مولى أم سلمة رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله عليه السلام يغسله الصاع من الماء ويوضيه المد".

ففي هذه الآثار: أن رسول الله عليه السلام كان يغتسل بصاع وليس فيه مقدار وزن الصاع كم هو؟ وفي حديث مجاهد عن عائشة: ذكر ما كان يغتسل به وهو ثمانية أرطال.

وفي حديث عروة عن عائشة أنها كانت تغتسل هي ورسول الله عليه السلام من إناء هو الفَرَق. ففي هذا الحديث ذكر ما كانا يغتسلان منه خاصةً، وليس فيه ذكر مقدار الماء الذي كانا يغتسلان به، وفي الآثار الأُخر ذكر مقدار الماء الذي كان يغتسل به، وأنه

كان صاعًا.

فثبت بذلك لما صححت هذه الآثار وجُمعت وكشفت معانيها، أنه كان يغتسل من إناء هو الفَرَق، وبصاع وزنه ثمانية أرطال، فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة، وقد قال بذلك أيضًا محمَّد بن الحسن.

ش: أي: وكان من الحجة والبرهان عليهم، أي على أهل المقالة الثانية لأهل المقالة الأولى، وأراد بذلك الجواب عما استدلوا به، بيان ذلك: أن حديث عروة عن عائشة ليس فيه إلا ذكر الفَرَق الذي كان النبي عليه السلام وعائشة يغتسلان منه، ولم يذكر

فيه مقدار الماء الذي كان فيه، هل كان ملء الفرق أو أقل منه؟ فهذا يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكونا قد اغتسلا منه وهو ملآن.

والآخر: أن يكونا قد اغتسلا منه بأقل من ملئه بما هو صاعان فيكون كل واحد منهما مغتسلا بصاع من ماء، فحينئذٍ يكون معنى هذا الحديث موافقًا لمعاني الأحاديث الأُخَر التي فيها أنه كان يغتسل بصاع، فإنه روي ذلك في حديث عائشة أيضًا وحديث أنس وحديث جابر بن عبد الله وحديث سفينة مولى النبي عليه السلام على ما نذكره، وقد ذكر في أحاديثهم أنه عليه السلام كان يغتسل بصاع، ولكن لم يبين فيها

ص: 241

مقدار وزن الصاع كم هو، وذكر في حديث مجاهد عن عائشة المذكور في أول الباب أنه كان يغتسل بثمانية أرطال، وذكر في حديث عروة عن عائشة أنها قالت:"كنت أغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد من قدح يقال له: الفَرَق" والمذكور فيه ما كانا يغتسلان منه فقط، وليس فيه بيان المقدار الذي اغتسلا منه، وفي الأحاديث الأُخَر ذكر مقدار الماء الذي كان عليه السلام يغتسل به وهو الصاع.

فتصحيح معاني هذه الآثار يقتضي أنه كان يغتسل من إناء هو الفَرَق، وبصاع وزنه ثمانية أرطال، وهذا لاخفاء فيه، فإذا كان كذلك يثبت به ما ذهب إليه أهل المقالة الأولى، والله أعلم.

ثم إنه أخرج حديث عائشة رضي الله عنها من سبع طرق:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن عبد الرحيم بن سليمان الأشلّ الطائي، عن حجاج بن أرطاة النخعي الكوفي القاضي، عن إبراهيم بن المهاجر البجلي، عن صفية بنت شيبة الحاجب، المختلف في صحبتها، عن عائشة رضي الله عنها.

وهذا إسناد صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا فهدًا.

الثاني: عن فهد أيضًا، عن يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة

إلى آخره.

وهذا أيضًا صحيح (1).

الثالث: عن فهد أيضًا، عن يحيى الحماني أيضًا، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن مسلم بن كيسان الضبي الملائي البرَّاد الكوفي الأعور، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عائشة.

وهذا معلول بمسلم بن كيسان؛ فإنه ضعيف، فقال أحمد: لا شيء. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. وقال البخاري: ذاهب الحديث. وقال

(1) في إسناده الحماني، والجمهور على تضعيفه، وقد تكرر من المؤلف رحمه الله تصحيح أحاديثه غير مرة.

ص: 242

النسائي: متروك. وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره فكان لا يدري ما يحدث به.

الرابع: عن أحمد بن داود المكي، عن هدبة بن خالد شيخ الشيخين وأبي داود، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده"(1): ثنا هدبة، نا همام، نا قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يغتسل بقدر الصاع ويتوضأ بقدر المد".

الخامس: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن مسلم بن إبراهيم القصاب شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة.

وهذا أيضًا صحيح.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا محمَّد بن كثير، قال: أنا همام، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة "أن النبي عليه السلام كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد".

قال أبو داود: رواه أبان، عن قتادة، قال: سمعت صفية.

وأخرجه البيهقي (3): من رواية عفان، عن أبان، عن قتادة، حدثتني صفية.

وأخرجه الدارقطني (4): من رواية معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة؛ وقال:"بنحو المد ونحو الصاع".

السادس: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن صفية بنت شيبة، عن عائشة.

(1)"مسند أبي يعلى"(8/ 271 رقم 4858).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 23 رقم 92).

(3)

"سنن البيهقي الكبري"(1/ 195 رقم 889).

(4)

"سنن الدارقطني"(1/ 94 رقم 2).

ص: 243

وهذا أيضًا صحيح.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، عن صفية ابنة شيبة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد أو نحوه".

السابع: عن محمَّد بن العباس بن الربيع الغبري البصري، عن أسد بن موسى، عن المبارك بن فضالة وثقة ابن حبان وضعفه أحمد، وقال العجلي: لا بأس به. وقال أبو داود: كان شديد التدليس، وهو يروي عن أبيه فضالة بن أبي أمية القرشي العدوى وثقه ابن حبان، عن معاذة بنت عبد الله العدوية البصرية أم الصهباء، روى لها الجماعة.

وأخرج حديث أنس رضي الله عنه عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي شيخ البخاري وأبي داود، عن بقية بن الوليد الحمصي، قال في "الميزان": كان مدلسًا، فإذا قال:"عن" فليس بحجة.

وقال ابن عدي: إذا روى عن أهل الشام فهو ثبت.

وقال العجلي: ثقة فيما روى عن المعروفين، وما روى عن المجهولين فليس بشيء، استشهد به البخاري، وروى له مسلم في المتابعات، واحتج به الأربعة.

عن عتبة بن أبي حكيم الهمداني الشامي الأردني الطبراني، وثقه ابن حبان، وقال النسائي: ضعيف. وعنه: ليس بالقوي. وعن يحيى: ثقة. وعنه: ضعيف. روى له الأربعة.

عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر -بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة- بن عتيك، ويقال: جابر بن عتيك الأنصاري المدني، روى له الجماعة.

وأخرج البخاري (2): عن أبي نعيم، ثنا مسعر، قال: حدثني ابن جَبر، قال:

(1)"مسند أحمد"(6/ 234 رقم 26018).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 84 رقم 198).

ص: 244

سمعت أنسًا يقول: "كان النبي عليه السلام يغسل -أو يغتسل- بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد".

وأخرجه مسلم (1): عن قتيبة بن سعيد، قال: ثنا وكيع، عن مسعر، عن ابن جبر، عن أنس قال:"كان النبي عليه السلام يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد".

وأخرجه أبو داود (2): عن محمَّد بن الصباح البزاز، قال: أنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبر، عن أنس قال:"كان النبي عليه السلام يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع".

وأخرج حديث جابر بن عبد الله: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الكوفي، فيه مقال؛ فعن أحمد: لم يكن بالحافظ. وعن يحيى: لا يحتج بحديثه. وعنه: ليس بالقوي. وعنه: ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، روى له مسلم مقرونًا بغيره، واحتج به الأربعة.

عن سالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي روى له الجماعة، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا أحمد بن محمَّد بن حنبل، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال:"كان النبي عليه السلام يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد".

قلت: انفرد به أبو داود عن بقية الستة.

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4) بهذا الطريق.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 258 رقم 325).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 23 رقم 95).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 23 رقم 93).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 66 رقم 708).

ص: 245

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(1) بهذا اللفظ: عن طريق محمَّد بن الفضل، عن الحصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر.

قال: النووي: حديث جابر ضعيف؛ فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف. وقال المنذري: لا يحتج به.

قلت: قد تابعه عليه حصين كما رواه الحاكم، فيكون حديثه حسنًا بالمتابعة، على أن يزيد لم ينسب للكذب ولا للفسق ولا فَحُشَ خطؤه.

فإن قيل: فيه سالم بن أبي الجعد وهو مدلس كما قال الذهبي، وقد عنعن.

قلت: لعل أبا داود اطلع على تصريحه بسماعه من جابر؛ فلذلك سكت عليه حين أخرجه.

وأخرج حديث سفينة مولى أم سلمة، وهو مولى رسول الله عليه السلام ولكنه كان عبًدا لأم سلمة زوج النبي عليه السلام فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم رسول الله عليه السلام حياته.

وقد اختلف في اسمه فقيل: بحران، وقيل: رومان، وقيل: قيس، وقيل: شَنْبَة ابن مارفنّة من أبناء فارس.

عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن بشر بن المفضل، عن أبي ريحانة عبد الله بن مطر البصري، عن سفينة.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه مسلم (2): نا إبراهيم، نا مسلم.

وحدثني أبو كامل الجحدري وعمرو بن علي، كلاهما عن بشر بن المفضل -قال أبو كامل: ثنا بشر- قال: ثنا أبو ريحانة، عن سفينة قال:"كان رسول الله عليه السلام يغسله الصاع من الماء من الجنابة ويوضئه المد".

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 266 رقم 575).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 258 رقم 326).

ص: 246

ص: وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أيضًا ما يدل على هذا المعنى.

حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن ابن جَبْر، عن أنس بن مالك قال:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد وهو رطلان".

حدثنا فهد، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا شريك، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله -يعني ابن جِبْر- عن أنس بن مالك قال:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع".

فهذا أنس قد أخبر أن مُدَّ رسول الله عليه السلام رطلان، والصاع أربعة أمداد، فإذا ثبت أن المدَّ رطلان، ثبت أن الصاع ثمانية أرطال.

ش: أي: قد روي عن أنس ما يدل على أن الصاع ثمانية أرطال، وهو قوله:"كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد وهو رطلان"، فقد أخبر أن مُدَّ رسول الله عليه السلام رطلان، فإذا ثبت أن المد رطلان ثبت أن الصاع ثمانية أرطال؛ لأن المُدّ ربع الصاع بلا خلاف.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن الحماني، عن شريك ابن عبد الله النخعي، عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبْر بن عتيك، عن أنس بن مالك.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن شريك

إلى آخره

وأخرجه الدارقطني من طريقين أخرين:

الأول (1): عن جعفر بن عون، نا ابن أبي ليلى، ذكره عن عبد الكريم، عن أنس قال:"كان النبي عليه السلام يتوضأ بمد رطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال".

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 154 رقم 73).

ص: 247

والثاني (1): عن أحمد بن محمَّد بن زياد القطان وعلي بن الحسن السواق، قالا: ثنا محمَّد بن غالب، نا أبو عاصم موسى بن نصر الحنفي، نا عبدة بن سليمان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن جرير بن يزيد، عن أنس بن مالك: "أن النبي عليه السلام كان

يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال".

فإن قيل: قال البيهقي: إسناد حديث الدارقطني ضعيف.

قلت: قد حَسُنَ إسناده بما رواه الطحاوي بإسناد صحيح، وتقوى أيضًا بما أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2): عن عمر بن موسى بن وجيه الوجيهى، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال:"كان النبي عليه السلام يتوضأ بالمد رطلين، ويغتسل ثمانية أرطال".

فإن قيل: قال البيهقي: صاع الزكاة وصاع الغسل مختلفان، وأن قدر ما يغتسل به كان يختلف باختلاف الاستعمال، فلا معنى لترك الأحاديث الصحيحة في قدر الصاع المعد للزكاة.

قلت: هذا من البيهقي مجرد دعوى بلا برهان؛ لأنه لم يذكر ولا حديثًا واحدًا فيه تعيين قدر الصاع المعد لزكاة الفطر، وأنه خمسة أرطال وثلث، فافهم.

ص: فإن قال قائل: إن أنس بن مالك رضي الله عنه قد روي عنه خلاف هذا، فذكر ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله بن جَبْر، سمع أنس بن مالك يقول:"إن النبي عليه السلام كان يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمس مكاكي".

قال: فهذا الحديث يخالف الحديث الأول.

قيل له: ما في هذا عندنا خلاف له؛ لأن حديث فريك إنما فيه أن رسول الله عليه السلام كان يتوضأ بالمد، وقد وافقه على ذلك عتبة بن أبي حكيم فروى عن عبد الله بن جَبْر

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 153 رقم 72).

(2)

"الكامل" لابن عدي (5/ 12).

ص: 248

نحوًا من ذلك، فلما روى شعبة ما ذكرنا عن عبد الله بن جَبْر؛ احتمل أن يكون أراد بالمكوك المد؛ لأنهم كانوا يسمون المد مكوكًا، فيكون الذي كان يتوضأ به مدًّا، ويكون الذي يغتسل به خمس مكاكي، يغتسل بأربعة منها وهي أربعة أمداد وهي صاع، ويتوضأ بأخر وهو مد، فجمع في هذا الحديث ما كان يتوضأ به للجنابة، وما كان يغتسل به لها وأفرد في حديث عتبة ما كان يغتسل به لها خاصةً دون ما كان يتوضأ به، وإن كان ذلك الوضوء لها أيضًا.

ش: تقرير السؤال أن يقال: استدلالكم بما روى عبد الله بن جَبْر عن أنس لا يتم؛ لأنه روي عنه ما يخالف هذا، وهو:"أنه كان يتوضأ بالمكوك ويغتسل بخمس مكاكي".

وتقريرالجواب أن يقال: لا نسلم المخالفة المذكورة؛ لأن المذكور فيما رواه شريك عن عبد الله بن جَبْر عن أنس: "كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بالمد"، وقد وافقه على ذلك عتبة بن أبي حكيم فيما روي فيما مضى، حيث قال: حدثني عبد الله بن جَبْر بن عتيك قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل، قال: كان رسول الله عليه السلام يتوضأ من مُد"، فلما روى شعبة بن الحجاج في هذا الحديث عن عبد الله بن جَبْر، عن أنس:"أنه عليه السلام كان يتوضأ بالمكوك" احتمل أن يكون أراد بالمكوك المد؛ لأنهم كانوا يسمون المُد مكوكًا، قال ابن الأثير: المكوك: المد، وقيل: الصاع، والأول أشبه؛ لأنه جاء في الحديث مفسرًا بالمد.

فحينئذٍ يكون الذي كان يتوضأ به مدًّا، ويتفق معنى الأحاديث، ويكون الذي يغتسل به خمس مكاكي، كان يغتسل بأربعة منها أي بأربع مكاكيك وهي أربعة أمداد وهي صاع، ويتوضأ بمكوك آخر وهو مُدّ، غاية ما في الباب أنه جمع في حديث شعبة هذا ما كان يتوضأ للجنابة وما كان يغتسل به لها، حيث قال:"ويغتسل بخمس مكاكي"، وأما في حديث عتبة بن أبي حكيم فقد فصَّل، وأفرد ما كان يغتسل به للجنابة خاصة، وما كان يتوضأ به خاصة أيضًا؛ وذلك لأن عتبة قال: "سألنا أنسًا عن الوضوء الذي يكفي الرجل من الماء، فأجاب أنس بأنه عليه السلام -

ص: 249

كان يتوضأ من مد" ثم قال: "سألنا أنسًا عن الغسل من الجنابة كم يكفي من الماء؟ قال: الصاع

" الحديث، فبحسب تفصيل السؤال أجاب بتفصيل الجواب.

ثم إسناد حديث شعبة عن ابن جَبْر عن أنس صحيح.

وأبو الوليد اسمه هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري.

وأخرجه مسلم (1): نا إبراهيم، نا مسلم، نا عبيد الله بن معاذ، قال: ثنا أبي.

ونا محمَّد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن -يعني ابن مهدي- قالا: ثنا شعبة، عن عبد الله بن عبد الله بن جَبْر، قال: سمعت أنسًا قال: "كان رسول الله عليه السلام يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك".

وأخرجه النسائي (2): أنا سويد بن نصر، قال: أبنا عبد الله، قال: ثنا شعبة، عن عبد الله بن جَبْر، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان رسول الله عليه السلام يتوضأ بمكوك ويغتسل بخمس مكاكي".

وأخرجه أبو داود (3) أيضًا.

ثم "المكوك" بفتح الميم وتشديد الكاف الأولى، وهي إناء يسع المد معروف عندهم، ويقال: المكوك اسم للمكيال، ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد، وقال عياض: المكوك مكيال لأهل العراق يسع صاعًا ونصف صاع بالمدني.

وقال الجوهري: المكوك مكيال، وهي ثلاث كيلجات، والكيلجة مَنا وسبعة أثمان مَنا، والمَنا رطلان، والرطل اثنى عشر أوقية، والأوقية إستار وثلثا إستار، والاستار أربعة مثاقيل ونصف، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، والدرهم ستة دوانيق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوح، والطسوح حبتان، والحبة سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من درهم. انتهى.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 257 رقم 325).

(2)

"السنن الكبرى"(1/ 79 رقم 75).

(3)

"سنن أبي داود"(تقدم ذكره).

ص: 250

ثم المكوك يجمع على مكاكيك وعلى مكاكيّ أيضًا على إبدال الياء من الكاف الأخيرة، فيقال: مكاكي بتشديد الياء، فقد وقع في رواية مسلم:"مكاكيك" وفي رواية الطحاوي والنسائي: "مكاكي".

ص: وسمعت ابن أبي عمران، يقول: سمعت ابن الثلجي، يقول: إنما قُدِّرَ الصاع على وزن ما يعتدل كيله ووزنه من الماش والزبيب والعدس، فإنه يقال: إن قيل ذلك ووزنه سواء.

ش: أشار بهذا الكلام إلى أن المعتبر في الصاع الذي هو ثمانية أرطال أن يكون كيلًا ووزنًا، فعلى هذا يعتبر فيما يستوي كيله ووزنه، مثل الماش والزبيب والعدس، فإذا كان الصاع يسع ثمانية أرطال من العدس أو الماش مثلًا فهو الصاع الذي يكال به الشعير والتمر.

وروي عن أبي حنيفة أنه يعتبر وزنًا؛ لأن الناس إذا اختلفوا في صاع يقدرونه بالوزن، فدل أن المعتبر هو الوزن، وروي عن محمَّد أنه يعتبر كيلًا؛ لأن النص ورد باسم الصاع، وأنه مكيال لا يختلف وزن ما يدخل فيه خفةً وثقلًا، فوجب اعتبار الكيل المنصوص عليه وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا وزن وأدي، جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند محمَّد.

قوله: "وسمعت ابن أبي عمران" هو أحد مشايخه الذين أخذ عنهم الفقه، وهو أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي نزيل مصر.

وابن الثلجي: بالثاء المثلثة، هو محمَّد بن شجاع بن الثلجي الفقيه الكبير من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي.

ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن صالح وبشر بن الوليد، جميعًا عن أي يوسف قال:"قدمت المدينة فأخرج إلى من أثق به صاعًا، فقال: هذا صاع النبي عليه السلام. فقدرته فوجدته خمسة أرطال وثلث رطل".

وسمعت ابن أبي عمران يقول: يقال: إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس رحمه الله.

ص: 251

وسمعت أبا خازم يذكر أن مالكًا سئل عن ذلك فقال: هو تحري عبد الملك لصاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

فكأنَّ مالكًا لما ثبت عنده أن عبد الملك تحرى ذلك من صاع عمر رضي الله عنه، وصاع عمر صاع النبي عليه السلام، وقد قُدِّر صاع عمر- رضي الله عنه على خلاف ذلك.

فحدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب بن حُميد، قال: ثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن موسى بن طلحة قال:"الحجاجي صاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه".

حدثنا أحمد، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا وكيع، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"عيَّرنا الصاع فوجدنا حجاجيًّا، والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سفيان بن بشر الكوفي، قال: ثنا شريك، عن مغيرة وعبيدة، عن إبراهيم قال:"وضع الحجاج قفيزه على صاع عمر رضي الله عنه".

فهذا أولى مما ذكره مالك من تحري عبد الملك؛ لأن التحري ليس معه حقيقة، وما ذكره إبراهيم وموسى بن طلحة من العيار معه حقيقة؛ فهذا أولى، والله أعلم.

ش: أشار بهذا إلى أن أبا يوسف قد احتج لما ذهب إليه أيضًا بما وقف عليه من صاع النبي عليه السلام بإخراجه إليه من يثق به، ثم أشار إلي ترجيح ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله.

أما الأول: فأخرجه عن أحمد بن أبي عمران الفقيه البغدادي عن علي بن صالح [

] (1) وبشر بن الوليد بن خالد بن الوليد الكندي القاضي، أحد أصحاب أبي يوسف خاصة، وأحد الأئمة الأعلام، الثقة المأمون، كلاهما عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري القاضي، أكبر أصحاب أبي حنيفة قال: "قدمت

" إلى آخره.

(1) بيض له المؤلف رحمه الله، وقال في "المغاني" (3/ 406 رقم 1857): علي بن صالح الذي روى عن أبي يوسف في قدر الصاع. ولم يزد على ذلك.

ص: 252

وأخرج البيهقي في "سننه"(1): من طريق الحسن بن منصور، نا الحسن بن الوليد قال: "قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففحصت عنه؛ قدمت المدينة فسألت عن الصاع، فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله عليه السلام. قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتك بالحجة [غدًا](2)، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يُخبر عن أبيه أو أهل بيته: أن هذا صاع رسول الله عليه السلام، فنظرت فإذا هي سواء.

قال: فعيَّرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًّا، فقد تركت قول أبي حنيفة، في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة".

وأخرج أيضًا (3): عن محمَّد بن عبد الوهاب الفراء، سمعت أبي يقول:"سأل أبو يوسف مالكًا عند أمير المؤمنين عن الصاع كم هو رطلًا؟ قال: السنة عندنا أن الصاع لا يُرطل ففحمه".

قال محمَّد بن عبد الوهاب: وسمعت الحسين بن الوليد يقول: قال أبو يوسف: "فقدمت المدينة فجمعنا أبناء أصحاب رسول الله عليه السلام ودعوت بصاعاتهم، فكلٌّ حدثني عن آبائهم، عن رسول الله عليه السلام أن هذا صاعه، فقَدَّرْتها فوجدتها مستويةً، فتركت قول أبي حنيفة ورجعت إلى هذا".

قوله: "فأخرج إليَّ من أثق به" قد بيَّنه أحمد بن أبي عمران بقوله: "يقال: إن الذي أخرج هذا لأبي يوسف هو مالك بن أنس رحمه الله.

قوله: "وسمعت أبا خازم" بالخاء والزاي المعجمتين، واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز البصري، أحد أصحاب أبي حنيفة، وحكايته عن مالك منقطعة؛ لأنه لم يدركه. وأراد بعبد الملك هو ابن مروان بن الحكم أمير المؤمنين.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 171 رقم 7510).

(2)

في "الأصل، ك": "عندنا"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 170 رقم 7509).

ص: 253

وأما الثاني: فهو قوله: وقد قدر صاع عمر رضي الله عنه على خلاف ذلك أي على خلاف ما روي عن مالك، فأخرجه من ثلاث وجوه:

الأول: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ ابن ماجه والبخاري في غير الصحيح، وعن يحيى: ثقة. وعن ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وقال ابن عدي: لا بأس به وبرواياته.

عن وكيع بن الجراح روى له الجماعة، عن علي بن صالح بن صالح حي الهمداني أبي الحسن الكوفي روي له الجماعة إلا البخاري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله أبي عيسى التيمي المدني، روي له الجماعة.

وأخرجه ابن حزم في "المحلى"(1): من طريق أحمد بن يونس، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن موسى بن طلبة:"أن القفيز الحجاجيّ قفيز عمر أو صاع عمر".

ثم طعن ابن حزم أن فيه مجهولًا، ورواية الطحاوي ليس فيها مجهول.

الثاني: عن أحمد بن داود أيضًا، عن يعقوب بن حميد أيضًا، عن وكيع بن الجراح، عن أبيه الجراح بن مليح الكوفي روى له الجماعة سوى النسائي، البخاري في غير "الصحيح".

عن مغيرة بن مقسم الضبي أبي هاشم الكوفي الفقيه الأعمى روى له الجماعة، عن إبراهيم النخعي.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سفيان بن بشر بن أيمن بن غالب الأسدي الكوفي ذكره ابن يونس وقال: كوفي قدم مصر، وسكت عنه.

(1)"المحلى"(5/ 242).

ص: 254

عن شريك بن عبد الله النخعي، عن مغيرة بن مقسم الضبي، وعن عبيدة بن معتب الضبي الكوفي فيه مقال، استشهد به البخاري، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

كلاهما يرويان عن إبراهيم النخعي.

قوله: "الحَجَّاجي" أي: الصاع الحجاجي، وهو نسبة إلى حجاج بن يوسف الثقفي، وهو الذي وضع الصاع الذي هو ثمانية أرطال على صاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

قوله: "قفيزه" القفيز بفتح القاف وكسر الفاء، قال الجوهري: القفيز مكيال وهو ثمانية مكاكيك، والجمع: أقفزة وقفزان.

وقال ابن الأثير: القفيز مكيال يتواضع الناس عليه وهو عند أهل العراق ثمانية مكاكيك.

قوله: "فهذا أولى" أي الحجاجي الذي هو على صاع عمر رضي الله عنه أولى مما ذكره مالك؛ لأن فيما ذكره تحري عبد الملك بن مروان، وليس في التحري حقيقة، وما ذكره إبراهيم النخعي وموسى بن طلحة من العيار فيه حقيقة، فهذا أولى، والله أعلم.

فإن قيل: قال ابن حزم: وهذه الآثار ولئن سلمنا صحتها- ولكنها لا تنفعهم؛ لأنا لا ننازعهم في صاع عمر- رضي الله عنه ولا في قفيزه، إنما ننازعهم في صاع النبي عليه السلام، ولسنا ندفع أن يكون لعمر رضي الله عنه صاع وقفيز ومُدّ، رتبه لأهل العراق لنفقاتهم وأرزاقهم كما بمصر الوَيْبَة والأردب، وبالشام المدّ.

قلت: الجواب عنه ما ذكرنا من أنه لم ينقل ذلك بنقل صحيح أن عمر رضي الله عنه وضع صاعًا دون صاع النبي عليه السلام، ولئن سلمنا أنه فعل ذلك فالظاهر أن الحجاج إنما وضع قفيزه على صاع عمر الذي هو كان على صاع النبي عليه السلام.

ص: 255