الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الوقت الذي يحرم فيه الطعام على الصائم
ش: أي: هذا باب في بيان الوقت الذي يحرم فيه أكل والشرب والجماع على الصائم.
ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حُبيش قال:"تسحرت ثم انطلقت بلى المسجد، فمررت بمنزل حذيفة فدخلت عليه، فأمر بلقحة فحلبت وبقدرٍ فسخنت، ثم قال: كُلْ. فقلت: إني أريد الصوم. فقال: وأنا أريد الصوم. قال: فأكلنا وشربنا ثم أتينا المسجد، فأقيمت الصلاة. قال: هكذا فعل بي رسول الله عليه السلام -أو صنعت مع رسول الله عليه السلام. قلت: بعد الصبح؟ قال: بعد الصبح غير أن الشمس لم تطلع".
ش: إسناده صحيح. ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وزِرّ بكسر الزاي المعجمة وتشديد الراء.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا حماد بن سلمة، أنا عاصم بن بهدلة
…
إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه "قلت أبعد الصبح؟ قال: نعم هو الصبح غير أن لم تطلع الشمس.
قال: وبين بيت حذيفة وبين المسجد كما بين مسجد ثابت وبُستان حوط. وقد قال حماد أيضًا: وقال حذيفة: هكذا صنعت مع النبي عليه السلام وصنع بي النبي عليه السلام".
وأخرج النسائي (2): أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا محمَّد، قال: ثنا شعبة، عن عديّ قال: سمعت زر بن حبيش قال: "تسحرنا مع حذيفة، ثم خرجنا إلى الصلاة، فلما أتينا المسجد صلينا ركعتين، وأقيمت الصلاة وليس بينهما إلا هنيهة".
(1)"مسند أحمد"(5/ 396 رقم 23409).
(2)
"المجتبى"(4/ 142 رقم 2153).
أنا (1) محمَّد بن يحيى بن أيوب، قال: أنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال:"قلنا لحذيفة: أيّ ساعة تسحرت مع رسول الله عليه السلام؟ قال: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع".
قوله: "بلقحة" بكسر اللام، وهي الناقة الحلوب، قال الجوهري: اللقحة: اللقوح، والجمع لِقح مثل قِربة وقِرب، واللِّقاح -بكسر اللام- الإبل بأعيانها، الواحدة لقوح وهي الحلوب، مثل قلوص وقلاص، ولِقحت الناقة -بالكسر- لِقحًا ولقاحًا -بالفتح- فهي لاقح.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث عن حذيفة أنه أكل بعد طلوع الفجر وهو يريد الصوم. وحكي مثل ذلك عن رسول الله عليه السلام".
ش: ذهب إلى هذا الحديث جماعة، منهم: معمر، وسليمان الأعمش، وأبو مجلز، والحكم بن عتيبة، فإنهم قالوا: يجوز للصائم أن يتسحر ما لم تطلع الشمس.
وقال ابن حزم: وعن محمد بن علي بن الحسن رضي الله عنهم: "كلْ حتى يتبين لك الفجر".
وعن الحسن: "كُلْ ما امتريت".
وعن أبي مجلز: "الساطع ذلك الصبح الكاذب، ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق".
وعن إبراهيم: "الفجر المعترض الأحمر يُحل الصلاة ويحرِّم الطعام".
وعن ابن جريج: "قلت لعطاء: أتكره أن أشرب وأنا في البيت لا أدري لعلي أصبحت؟ قال: لا بأس بذلك هو شك".
وقال ابن أبي شيبة (2): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال:"لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق".
(1)"المجتبى"(4/ 142 رقم 2152).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 289 رقم 9075).
وعن أبي وائل: "أنه تسحر وخرج إلى المسجد فأقيمت الصلاة".
وعن معمر: "أنه كان يؤخر السحور جدًّا حتى يقول الجاهل: لا صوم له".
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): ومن رأى الفجر وهو يأكل فليقذف ما في فيه من طعام أو شراب، وليصم ولا قضاء عليه، ومَن رأى الفجر وهو يجامع فلينزع من وقته وليصم ولا قضاء عليه، وسواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة فلو توقف باهتا فلا شيء عليه وصومه تام، ولو أقام عامدًا فعليه الكفارة.
ص: وقد جاء عن رسول الله عليه السلام خلاف ذلك، فهو ما قد روينا عنه مما تقدم ذكرنا له في كتابنا هذا أنه قال:"إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وأنه قال: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه إنما يؤذن لينبه نائمكم وليرجع قائمكم".
ثم وصف الفجر بما قد وصفه به، فدل ذلك أنه هو المانع من الطعام والشراب، ومما سوى ذلك مما يمنع منه الصيام. فهذه الآثار التي ذكرنا مخالفة لحديث حذيفة رضي الله عنه.
ش: أي: جاء عن رسول الله عليه السلام خلاف ما روي عن حذيفة، وهو ما أخرجه في كتاب الأذان في هذا الكتاب:
ثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن بلالًا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
وأخرجه البخاري (2): عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك نحوه.
وأخرج أيضًا في كتاب "الأذان": ثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
(1)"المحلى"(6/ 229).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 223 رقم 592).
أن النبي عليه السلام قال: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه ينادي أو يؤذن ليرجع غائبكم ولينبه نائمكم. وقال: ليس الفجر أو الصبح هكذا وهكذا وجمع أصبعيه وفرقهما
…
" الحديث.
وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) وفي رواية النسائي أن رسول الله عليه السلام قال: "إن بلالًا يؤذن بليل لينبه نائمكم ويرجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا -وأشار بكفيه- ولكن الفجر أن يقول هكذا- وأشار بالسبابتين".
ومن الأحاديث التي تخالف حديث حذيفة: ما رواه سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير".
أخرجه أبو داود (5)، وأخرجه مسلم (6) أيضًا ولفظه:"لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير".
وأخرجه الترمذي (7) ولفظه: "لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق". وأخرجه النسائي (8): ولفظه "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض، حتى ينفجر الفجر هكذا وهكذا- يعني معترضًا، وقال أبو داود يعني الطيالسي: بسط بيديه يمينًا وشمالًا مادًّا يديه".
(1)"صحيح البخاري"(1/ 224 رقم 596)، (6/ 2647 رقم 6820).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 768 رقم 1093).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 303 رقم 2347).
(4)
"المجتبى"(4/ 148 رقم 2170).
(5)
"سنن أبي داود"(2/ 303 رقم 2346).
(6)
"صحيح مسلم"(2/ 770 رقم 1094).
(7)
"جامع الترمذي"(3/ 86 رقم 706).
(8)
"المجتبى"(4/ 148 رقم 2171).
ومنها حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم، أن النبي عليه السلام قال:"إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم".
أخرجه البخاري (1) ومسلم (2).
ومنها حديث أُنيسة قالت: قال رسول الله عليه السلام: "إذا أذن ابن أم مكتوم فلا تأكلوا ولا تشربوا، وإذا أذن بلال فكلوا واشربوا".
أخرجه النسائي (3).
وهذه الأحاديث تحدد الوقت الذي يحرم به الأكل والشرب على الصائم، وكلها مخالفة لحديث حذيفة، فيردُّ بها حديث حذيفة.
ص: وقد يحتمل حديث حذيفة رضي الله عنه عندنا -والله أعلم- أن يكون قبل نزول قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (4).
ش: أشار بهذا إلى جواب ثانٍ عن حديث حذيفة، وهو أنه يحتمل أن يكون وروده قبل نزول قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} (4) إلى آخره، فلما نزلت هذه الآية نُسخ ذلك الحكم، والآية تقتضي إباحة الأكل والشرب والجماع إلى أن يظهر الفجر الصادق؛ لأن المراد من الخيط الأبيض هو الفجر الصادق بقرينة قوله:{مِنَ الْفَجْرِ} (4).
والخيط مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: الخيط الأبيض هو الصبح، والخيط الأسود الليل.
ثم إن بعضهم من الصحابة رضي الله عنهم حملوا ذلك على حقيقة الخيط الأبيض والأسود، منهم: عدي بن حاتم وغيره، على ما يأتي عن قريب.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 223 رقم 592).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 768 رقم 1092).
(3)
"المجتبى"(2/ 10 رقم 640).
(4)
سورة البقرة، آية:[187].
وكان واحد منهم إذا أراد أن يصوم ربط في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فأنزل الله تعالى بعد ذلك {مِنَ الْفَجْرِ} (1) فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار.
وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام": لا يثبت ذلك من حذيفة، ومع ذلك من أخبار الآحاد فلا يجوز الاعتراض به على القرآن، قال الله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1) فأوجب الصوم والإمساك عن الأكل والشرب بظهور الخيط الأبيض الذي هو بياض الفجر. وحديث حذيفة إن حمل على حقيقته كان مبيحًا لما حظرته الآية، وقال النبي عليه السلام في حديث عدي بن حاتم:"هو بياض النهار وسواد الليل" فكيف يجوز الأكل نهارًا في الصوم مع تحريم الله إياه بالقرآن والسنة، ولو ثبت حديث حذيفة من طريق النقل لم يوجب جواز الأكل في ذلك الوقت؛ لأنه لم يَعْزُ الأكل إلى النبي عليه السلام، وإنما أخبر عن نفسه أنه أكل في ذلك الوقت لا عن النبي عليه السلام، فكونه مع النبي عليه السلام في وقت الأكل لا دلالة له فيه على علم النبي عليه السلام بذلك منه وإقراره عليه، ولو ثبت أنه عليه السلام علم بذلك وأقره عليه، احتمل أن يكون ذلك في آخر الليل قرب طلوع الفجر، فسماه نهارًا لقربه منه.
ص: فأنه حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا إسماعيل بن سالم، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين ومجالد، عن الشعبي، قال: أنا عدي بن حاتم قال: "لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1) عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، [والآخر أبيض] (2) فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله عليه السلام فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن وسادك لعريض، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل".
(1) سورة البقرة، آية:[187].
(2)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج بن المنهال، قال: ثنا هشيم، قال: ثنا حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن عدي، عن رسول الله عليه السلام مثله.
حدثنا محمَّد، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن حصين
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدَّمي، قال: ثنا الفضيل بن سليمان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد بن الساعدي قال:"لما نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1) جعل الرجل يأخذ خيطًا أبيض وخيطًا أسود فيضعهما تحت وسادة، فينظر متى يستبينهما فيترك الطعام. قال: فبيَّن الله عز وجل ذلك، ونزلت: {مِنَ الْفَجْرِ} ".
فلما كان حكم هذه الآية قد كان أشكل: على أصحاب رسول الله عليه السلام حتى بين الله لهم عز وجل من ذلك ما بيَّن، وحتى أنزل:{مِنَ الْفَجْرِ} بعد ما كان قد أنزل {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (1)، فكان الحكم أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم حتى نسخ الله عز وجل بقوله:{مِنَ الْفَجْرِ} على ما ذكرنا ما قد بينه سهل في حديثه، واحتمل أن يكون ما روى حذيفة من ذلك عن رسول الله عليه السلام كان قبل نزول تلك الآية، فلما أنزل الله عز وجل تلك الآية أحكم ذلك وردَّ الحكم إلى ما بيَّن فيها.
ش: الفاء للتعليل، والضمير للشأن، ولما ادعى أن حديث حذيفة كان يحتمل أن يكون قبل نزول قوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1) أتى على ذلك بدليل، وهو حديث عدي بن حاتم وحديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما.
أما حديث عدي فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن إسماعيل بن سالم الصائغ، أبي محمَّد البغدادي نزيل مكة شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير روى له الجماعة، عن حُصين -بضم الحاء
(1) سورة البقرة، آية:[187].
وفتح الصاد المهملتين- ابن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة. وعن مجالد بن سعيد الهمداني الكوفي روى له مسلم مقرونًا بغيره والأربعة، كلاهما عن عامر بن شراحيل الشعبي، عن عدي بن حاتم الطائي الجوادي الجواد.
وهذا الحديث أخرجه الجماعة.
وأخرجه الترمذي (1) بهذا الإسناد: ثنا أحمد بن منيع، قال: نا هشيم، قال: أنا مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال:"لما نزل {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2) قال لي النبي عليه السلام: إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل".
وأخرجه البخاري (3): ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن حُصين، عن الشعبي، عن عديّ قال:"أخذ عديّ عِقَالا أبيض وعقالًا أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا، فلما أصبح قال: يا رسول الله جعلت تحت وسادتي. قال: إن وسادتك إذًا لعريض؛ إن [كان] (4) الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك".
حدثنا (5) قتيبة بن سعيد، ثنا جرير، عن مطرف، عن الشعبي، عن عديًّ بن حاتم قال:"قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار".
الثاني: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن يوسف بن عدي بن زريق -شيخ البخاري- عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن الشعبي، عن عديّ.
(1)"جامع الترمذي"(5/ 211 رقم 2970).
(2)
سورة البقرة، آية:[187].
(3)
"صحيح البخاري"(4/ 1640 رقم 4239).
(4)
ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح البخاري".
(5)
"صحيح البخاري"(4/ 1640 رقم 4240).
وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن حُصين، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم قال:"لما نزلت {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2) قال له عديّ: يا رسول الله، إنني جعلت تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول الله عليه السلام: إن وسادك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار".
وأخرجه أبو داود (3): نا مسدد، قال: نا حصين بن نُمير، قال: ونا عثمان بن أبي شيبة، قال: نا ابن إدريس المعنى، عن حصين، عن الشعبي، عن عديّ بن حاتم قال:"لما نزلت هذه الآية {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (2) قال: أخذت عقالا أبيض وعقالًا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيَّن، فذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام فضحك وقال: إن وسادك إذًا لعريض طويل، إنما هو الليل والنهار -وقال عثمان-: إنما هما سواد الليل وبياض النهار".
وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح.
عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدَّم المقدَّمي البصري شيخ الأربعة، عن الفضيل بن سليمان النميري أبي سليمان البصري روى له الجماعة، عن أبي حازم سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمار المدني القاص الزاهد الحكيم، روى له الجماعة، عن سهل بن سعد الساعدي الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه البخاري (4) ثنا ابن أبي مريم، ثنا أبو غسان محمَّد بن مطرف، حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: "وأنزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (2) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط
(1)"صحيح مسلم"(2/ 766 رقم 1090).
(2)
سورة البقرة، آية:[187].
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 304 رقم 2349).
(4)
"صحيح البخاري"(2/ 677 رقم 1818).
أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى تتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعده {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني الليل والنهار".
وأخرجه مسلم (1) ثنا عبيد الله بن عمر القواريري، قال: ثنا فضيل بن سليمان، قال: ثنا أبو حازم، قال: ثنا سهل بن سعد قال: "لما نزلت هذه الآية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (2) قال: كان الرجل يأخذ خيطًا أبيض وخيطًا أسود فيأكل حتى يستبينهما حتى أنزل الله {مِنَ الْفَجْرِ} فبيَّن ذلك".
قوله: "عَمَدت" أي: قصدت، قال الجوهري: عَمَدت للشيء أَعْمِدُ عَمْدًا: قصدت له، أي: تعمدت، وذكره في "دستور اللغة" من باب: ضَرَبَ يَضْرِب.
قوله: "إلى عِقَالين" العِقَال -بكسر العَين- الحبل الذي يُعقل به البعير، وقال الجوهري: قال الأصمعي: عَقَلْتُ البعير أَعْقِلُه عَقْلًا، وهو أن تثني وظيفه مع ذراعه فتشدهما جميعًا في وسط الذراع، وذلك الحبل هو العِقَال، والجمع عُقل.
قوله: "إن وسادك لعريض" كنَّى بالوساد عن النوم؛ لأن النائم يتوسد، أي: إن نومك لطويل كبير، وقيل: كنّى بالوساد عن موضع الوساد من رأسه وعنقه، وتشهد له الرواية الثانية وهي قوله:"إنك لعريض القفا" فإن عرض القفا كناية عن السِمن، وقيل: أراد: مَنْ أكل مع الصبح في صومه أصبح عريض القفا؛ لأن الصوم لا يؤثر فيه.
قلت: يكنَّى عن الأبله بعريض القفا، فإن عرض القفا وعِظم الرأس إذا أفرطا قيل: إنه دليل الغباوة والحماقة، كما أن استوائه دليل علو الهمة وحسن الفهم، وهذا من قبيل الكناية الخفية، والفرق بين الكناية والمجاز: أن الانتقال في الكناية من اللازم إلى الملزوم، وفي المجاز من الملزوم إلى اللازم، وهكذا فرَّق السماك وغيره.
(1)"صحيح مسلم"(2/ 767 رقم 1091).
(2)
سورة البقرة، آية:[187].
قوله: "فبيَّن الله عز وجل ونزلت {مِنَ الْفَجْرِ} " إشارة إلى أن قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ناسخ لما كانوا يأكلون ويشربون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فصار هذا بيانًا لهم أن المراد به أن يتميز بياض النهار من سواد الليل.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون المراد بقوله: {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} الفجر، ويتأخر البيان مع الحاجة إليه، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع بقاء التكليف لا يجوز؟.
قلت: إن البيان كان موجودًا فيه لكن على وجه لا يدركه جميع الناس، وإنما كان على وجه يختص به أكثرهم أو بعضهم وليس يلزم أن يكون البيان مكشوفًا في درجة يطلع عليها كل أحد، ألا ترى أنه لم يقع فيه إلا عديّ وحده؟ وأيضًا فإن النبي عليه السلام
قال له: "إنك لعريض القفا، وضحك" ولا يضحك إلا على جائز، فافهم.
قوله: "قد كان أشكل على أصحاب رسول الله عليه السلام وجه الإشكال عليهم أنهم حملوا اللفظ على حقيقته قبل نزول قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} ؛ وذلك لأن الخيط اسم للخيط المعروف حقيقة، وهو مجاز واستعارة في سواد الليل وبياض النهار، وجائز أن يكون ذلك قد كان شائعًا في لغة قريش ومَن خوطبوا به ممن كان بحضرة النبي عليه السلام عند نزول الآية، وأن عدي بن حاتم ومَن أشكل عليه ذلك لم يكونوا عرفوا هذه اللغة؛ لأنه ليس كل العرب يعرف سائر لغاتها، وجائز مع ذلك أن يكونوا عرفوا ذلك اسمًا للخيط حقيقةً ولبياض النهار وسواد الليل مجازًا، ولكنهم حملوا اللفظ على الحقيقة، فلما سألوا النبي عليه السلام أخبرهم بمراد الله تعالى منه، وأنزل الله بعد ذلك {مِنَ الْفَجْرِ} فزال الاحتمال، وصار المفهوم من اللفظ سواد الليل وبياض النهار، وقد كان ذلك اسمًا لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام مشهور ذلك عندهم. قال أبو دؤاد الإيادي:
ولما أَضَاءَت لنا (ظلُمة)(1)
…
ولاحَ مِنَ الصُّبحِ خَيطٌ أنارا
(1) وقع في ديوانه: سُدْفة، والسدفة: هي الظلمة، كما في "لسان العرب":"مادة: سدف".
وقال الزمخشري: الخيط الأبيض: أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، والخيط الأسود: ما يمتد معه من غبش الليل شبها بخيطين أبيض وأسود.
وقوله: "من الفجر" بيان للخيط الأبيض، واكتفى به في بيان الخيط الأسود؛ لأن بيان أحدهما بيانٌ للآخر. ثم إن قوله:"من الفجر" أخرج ذلك من باب الاستعارة فصار تشبيهًا بليغًا، كما أن قولك رأيت أسدًا مجازٌ، فإذا زدت: من فلان، صار تشبيها. وإنما لم يقتصر به على الاستعارة مع كونها أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة؛ لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر {مِنَ الْفَجْرِ} أن الخيطين مستعاران، فزيد من الفجر فكن تشبيها بليغًا، وخرج من أن يكون استعارة.
ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا في ذلك ما حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم والخضر بن محمَّد بن شجاع، قالا: ثنا ملازم بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن بدر السحيمي، قال: حدثني جدي قيس بن طلق، قال: حدثني أبي، أن نبي الله عليه السلام قال:"كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المُصْعِد، كلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر- وأشار بيده وأعرضهما".
فلا يجب ترك آيةٍ من كتاب الله تعالى نصًّا، وأحاديث عن رسول الله عليه السلام متواترةً قد قبلتها الأئمة وعمل بها الأمة من لدن رسول الله عليه السلام إلى اليوم، إلى حديث قد يجوز أن يكون منسوخًا بما ذكرنا في هذا الباب.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي: قد روي أيضًا عن النبي عليه السلام في جواز التسحر إلى طلوع الفجر الصادق، وأنه لا يجوز بعده.
أخرجه عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، والخضر بن محمَّد بن شجاع الجزري أبي مروان
الحراني وثقه أحمد وابن حبان، وروى له النسائي كلاهما عن ملازم بن عمرو بن عبد الله بن بدر الحنفي السحيمي اليمامي وثقه أحمد وابن حبان وروى له الأربعة -عن عبد الله بن بدر بن عميرة بن الحارث الحنفي جد ملازم بن عمرو لأبيه، وقيل: لأمه، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وروي له الأربعة- عن جده قيس بن طلق بن علي المنذر الحنفي اليمامي وثقه العجلي وابن حبان وروى له الأربعة، عن أبيه طلق بن علي الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه الترمذي (1): ثنا هناد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن النعمان، عن قيس بن طلق بن علي، قال: حدثني أبي طلق بن علي رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد، وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر".
قال أبو عيسى: حديث طلق بن علي حديث حسن غريب.
وأخرجه النسائي (2) أيضًا.
قوله: "ولا يهيدنكم" أي: لا يحركنكم ولا يزعجنكم الساطع المصعد، وأصله من الهيد وهو الحركة، يقال: هدت الشيء أهيده هيدًا إذا حركته وأرجحته، وحاصل المعنى: لا تنزعجوا للفجر المستطيل فتمنعوا به عن السحور، فإنه الصبح الكذاب.
قوله: "الساطع" يعني: الصبح الأول المستطيل، يقال: سطع الصبح يَسْطع، فهو ساطع، أول ما ينشق مستطيلا.
قوله: "المُصْعد" من أصعد، وثلاثيه: صعد إذا طلع.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 85 رقم 705).
(2)
كذا في "الأصل، ك" وأظنه سبق قلم من المؤلف رحمه الله ولم يعزه المزي في "تحفة الأشراف"(4/ 224 رقم 5025) إلا لأبي داود والترمذي، والحديث أخرجه أبو داود في "سننه"(1/ 717 رقم 2348).
قوله: "فلا يجب ترك آية" أي: إذا كان الأمر كما ذكرنا، لا يجب ترك آية من القرآن وهو قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (1).
قوله: "نصًّا" نُصِبَ على الحال.
قوله: "وأحاديثَ" بفتح الثاء في موضع الجر؛ لأنه عطف على "آيةٍ" في قوله: "تركُ آيةٍ" أي: ولا يجب ترك أحاديث عن رسول الله عليه السلام متواترةً أي متكاثرةً ولم يُرد به التواتر الاصطلاحي، وقد يمكن أن يكون المراد به المشهور الذي هو أحد قسمي التواتر، ولا شك أن هذه الأحاديث مشهورة تلقتها الأئمة بالقبول، وعمل بها الأمة من أيام النبي عليه السلام إلى يومنا هذا.
قوله: "إلى حديث" يتعلق بقوله: فلا يجب ترك آية. فافهم.
وقوله: "قد يجوز أن يكون منسوخًا". في محل الجرة لأنه صفةٌ لحديثٍ.
فإن قيل: كيف يقال: قد يجوز بكلمة "قد" المشعر بالتقليل والموهم بالاحتمال، مع أن غيره قد جزم بالنسخ ها هنا؟.
قلت: من عادته أنه يذكر كل ما كان فيه نسخ بمثل هذه العبارة، لعدم العلم القطعي بالتاريخ وإن كان النسخ قد حكموا به، ولهذا إذا كان نسخ حكم بتاريخ لا يذكر بهذه العبارة بل يجزم به كغيره من المجتهدين.
(1) سورة البقرة، آية:[187].