الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المرأة هل يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها أم لا
؟
ش: أي: هذا باب في بيان أن المرأة إذا دفعت زكاة مالها لزوجها الفقير هل يجوز ذلك أم لا يجوز؟
ص: حدثنا فهد، ثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدثني شقيق، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله.
قال: فذكرته لإبراهيم، فحدثني إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله مثله سواء.
قالت: "كنت في المسجد فرآني رسول الله عليه السلام في المسجد فقال: تصدقن ولو من حليكن، وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجرها. قال: فقالت لعبد الله: سَلْ رسول الله عليه السلام، أيجزئ عني إن أنفقت عليك وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ قال: سلي كنت رسول الله عليه السلام. فانطلقت إلى رسول الله عليه السلام فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها.
مثل حاجتي فمر علينا بلال فقلت: سل لنا رسول الله عليه السلام هل يجزئ عني أن أتصدق على زوجي أو أيتام في حجري من الصدقة؟ وقلنا: لا تخبر بنا.
قال: فدخل فسأله فقال: مَن هما؟ قال: زينب. قال: أي الزنايب هي؟ قال: امرأة عبد الله. قال: نعم يكون لها أجر القرابة وأجر الصدقة".
ش: عمر بن حفص شيخ البخاري ومسلم.
وأبوه حفص بق غياث بن طلق النخعي قاضي الكوفة، أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.
والأعمش هو سليمان بن مهران، روى له الجماعة.
وشقيق هو ابن سلمة، روى له الجماعة.
وعمرو بن الحارث بن المصطلق، قال الترمذي: عمرو بن الحارث بن المصطلق ابن أخي زينب امرأة عبد الله قال: وقال أبو معاوية في حديثه: عمرو بن الحارث، عن ابن أخي زينب وهو وهم، والصحيح إنما هو عمرو بن الحارث ابن أخي زينب.
وقال ابن القطان: رواه حفص بن غياث في رواية وعبد الله بن هشام بن حسان العبدي فقالا: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو، عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله، عن زينب. ثم قال: وقول الترمذي فيه عندي نظر؛ لأن عمرو بن الحارث خزاعيّ، وزينب امرأة عبد الله ثقفية، فلا يتجه أن يكون ابن أخيها إلا لأم وشيء من ذلك لم يتحقق، وتوهم حافظ في زيادة زادها لا معنى له إلا لَوْصرَّح الناس بمخالفته، وهم لم يصرحوا وإنما سكتوا عن شيء جاء به هو، وذكر الإسماعيلي أن رواية إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن زينب، تصحح رواية من لم يُدخل بين عمرو بن الحارث وزينب ابن أخيها.
قلت: هذا يقوي ما قاله الترمذي، فافهم.
وزينب امرأة عبد الله بن مسعود يقال: إن اسمها رائطة، وقيل: ريطة بنت عبد الله بن معاوية الثقفية، وقيل: إن رائطة لقب لها.
قوله: "قال: فذكرته لإبراهيم" أي: قال الأعمش: فذكرت الحديث لإبراهيم ابن يزيد النخعي "فحدثني إبراهيم، عن أبي عبيدة" بضم العين، وهو عامر بن عبد الله بن مسعود.
والحديث أخرجه البخاري (1): ثنا عمر بن حفص، ثنا أبي، عن الأعمش
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه مسلم (2): ثنا حسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن الحارث، عن زينب امرأة عبد الله قالت: قال
(1)"صحيح البخاري"(2/ 533 رقم 1397).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 694 رقم 1000).
رسول الله عليه السلام: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن. قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك لرجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله عليه السلام قد أمرنا بالصدقة، فائته فسَلْهُ، فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفته إلى غيركم.
قالت: فقال لي عبد الله: بل ائته أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله عليه السلام حاجتى حاجتها. قالت: وكان رسول الله عليه السلام قد ألقيت عليه المهابة. قالت: فخرج علينا بلال رضي الله عنه فقلنا له: أثبت رسول الله فأخبره أن امرأتين على الباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. قالت: فدخل بلال على رسول الله عليه السلام فأخبره أن امرأتين بالباب، فقال: مَن هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله عليه السلام: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله، فقال رسول الله عليه السلام: لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة".
وأخرجه الترمذي (1) والنسائي (2) مختصرًا.
قوله: "ولو مِن حُلِيِّكُنَّ" أي: ولو كانت الصدقة من حُليِّكن، الحُلِّي -بضم الحاء وكسر وتشديد اللام- جمع حَلْي -بفتح الحاء وسكون اللام- وهو كل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، وأما الحلية فتجمع على حِلًى -بكسر الحاء وفتح اللام المخففة نحو لحية ولحًى، وربما ضُمَّ- وتطلق الحلية على الصفة أيضًا.
قوله: "في حَجْرها" بفتح الحاء، من حَجْر الثوب وهو طرفه المقدم؛ لأن الإنسان يربي ولده في حَجْره، والوليّ كذلك؛ لأنه يقوم بأمره في حجره. قال الجوهري: حجر الإنسان وحجره -بالفتح والكسر- والجمع الحجور.
قوله: "أتجزى عني" الهمزة فيه للاستفهام. أي: أيكفي عني ويغني عني الإنفاق عليك وعلى الأيتام من الصدقة؟
(1)"جامع الترمذي"(3/ 28 رقم 635).
(2)
"المجتبى"(5/ 92 رقم 2583).
قوله: "فوجدت امرأةً من الأنصار" وهي أيضًا اسمها زينب امرأة أبي مسعود الأنصاري.
واستفيد منه أحكام:
الأول: استدلت به جماعة على جواز دفع المرأة زكاتها لزوجها الفقير، وسيجيء الكلام فيه مستقصى إن شاء الله.
الثاني: استدل به أصحابنا على وجوب الزكاة في الحليّ، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وابن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس.
وروي عن جابر بن عبد الله وعائشة وابن عمر في رواية أنهم لم يروا فيه الزكاة.
وإليه ذهب القاسم بن محمَّد والشعبي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق.
وقال الخطابي: الظاهر من الكتاب يشهد لقول من أوجبها، والأثر يؤيده، ومَن أسقطها ذهب إلى النظر ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها.
الثالث: استدل به أبو يوسف: أن مَن عَال يتيما فجعل يكسوه ويطعمه وينوي به عن زكاة ماله يجوز، وقال محمَّد: ما كان من كسوة يجوز، وفي الطعام لا يجوز إلا ما دفع إليه. وقيل: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن مراد أبي يوسف ليس هو الطعام على طريق الإباحة بل على وجه التمليك.
ثم إن كان اليتيم عاقلًا يدفع إليه، وإن لم يكن عاقلًا يقبض منه بطريق النيابة، ثم يطعمه ويكسوه؛ لأن قبض الولي كقبض الصبي لو كان عاقلًا.
الرابع: فيه دليل على أن لا يمنع النساء من دخول المساجد.
الخامس: فيه أن الإِمام يأمر النساء أيضًا بإعطاء زكاتهن وصدقاتهن، كما يأمر بذلك للرجال.
السادس: فيه أن النساء يجب عليهن السؤال عن أمور دينهن.
السابع: فيه أن الزوج يباح له أن يأذن لامرأته بالذهاب إلى أهل العلم لأجل الاستفتاء إن لم يَقُم هو به.
الثامن: فيه جواز إتيان النساء إلى أبواب العلماء لتعلم أمور الدين والاستفتاء فيها.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلي أن المرأة جائز لها أن تعطي زوجها من الزكاة مالها، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.
وممن ذهب إلى ذلك أبو يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الشافعي وأحمد في رواية، وأبا ثور وأبا عبيد وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها الفقير، واحتجوا في ذلك بحديث زينب المذكور وإليه ذهب أشهب من المالكية وأهل الظاهر.
وأجمعوا أنه لا يجوز للزوج أن يدفع زكاته إلى زوجته. وهذا لا خلاف فيه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، منهم أبو حنيفة. وقالوا: لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من زكاة مالها كما لا يجوز له أن يعطيها من زكاة ماله.
ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن والثوري وأبا حنيفة ومالكًا وأحمد في رواية، وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة.
ويروي ذلك عن عمر رضي الله عنه؛ وذلك لكمال الاختلاط بين الزوجين فتنتفع بدفعها إليه؛ لأن مال كل واحد منها يعد مالًا للآخر.
ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في حديث زينب الذي احتجوا به عليهم: أن تلك الصدقة التي حضَّ عليها رسول الله عليه السلام في ذلك الحديث إنما كانت من غير الزكاة، وقد بيَّن ذلك ما قد حدثنا يونس قال: ثنا عبد الله بن يوسف قال: أنا الليث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله، عن رائطة
بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود وكانت امرأةً صنعًا وليس لعبد الله بن مسعود مال، وكانت تنفق عليه وعلى ولده منها، فقالت: لقد شغلتني والله أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق معكم بشيء. فقال: ما أحب إن لم يكن لك في ذلك أجر إن تفعلي، فسألت رسول الله عليه السلام هي وهو، فقالت: يا رسول الله إن امرأة ذات صنعة أبيع منها وليس لولدي ولا لزوجي شيء، فشغلوني فلا أتصدق، فهل لي فيهم أجرٌ؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم.
ففي هذا الحديث أن تلك الصدقة مما لم تكن فيه زكاة، ورائطة هذه هي زينب امرأة عبد الله لا نعلم أن عبد الله كانت له امرأة غيرها في زمن رسول الله عليه السلام، والدليل على أن تلك الصدقة كانت تطوعًا كما ذكرنا قولها؛ كنت امرأة صنعًا أصنع بيدي فأبيع من ذلك فأنفق على عبد الله" فكان قول رسول الله عليه السلام الذي في هذا الحديث وفي الحديث الأول جوابًا لسؤالها هذا، وفي حديث رائطة هذا: "كنت أنفق من ذلك على عبد الله وعلى ولده مني"، وقد أجمعوا أنه لا يجوز للمرأة أن تنفق على ولدها من زكاتها، فلما كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة فكذلك ما أنفقت على زوجها ليس هو أيضًا من الزكاة.
ش: أي: وكان من الحجة والبرهان للآخرين على أهل المقالة الأولى، وأراد بذلك الجواب عن حديث زينب الذي احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه.
بيان ذلك: أن المراد من الصدقة التي حضَّ عليها رسول الله عليه السلام في حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما هو صدقة التطوع لا الفرض.
والدليل عليه حديث عبيد الله بن عبد الله عن رائطة بنت عبد الله وهي زينب المذكورة امرأة عبد الله بن مسعود فإنها قالت فيه: "كنت أُنفق من ذلك على عبد الله وعل ولده مني " وقد أجمع الخصوم كلهم أنه لا يجوز للمرأة أن تنفق على ولدها من الزكاة، فإذا كان ما أنفقت على ولدها ليس من الزكاة فكذلك لا يكون ما أنفقت على زوجها من الزكاة، فحينئذٍ لا يستقيم استدلالهم بالحديث المذكور لما ذهبوا إليه.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الصدقة التطوع في حق ولدها وصدقة الفرض في حق زوجها عبد الله؟
قلت: لا مساغ لذلك؛ لاجتماع الحقيقة والمجاز حينئذٍ، وهذا لا يجوز.
ثم إسناد حديث عبيد الله بن عبد الله صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، أنه أخبره عبد الله بن عبيد الله، عن رَيْطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود وأم ولده قالت:"والله لقد أنت وولدك عن الصدقة فما استطيع أن أتصدق معكم. قال: فما أحب إن لم يكن لك في ذلك أجرٌ أن تفعلي فسألت رسول الله عليه السلام هي وهو فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة أبيع منها، وليس لي ولا لولدي ولا لزوجي شيء، فشغلوني فلا أتصدق، فهل لي في ذلك أجر؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم" انتهى.
قوله: "صَنَعاء" بفتح الصاد والنون وهي التي تعمل بيديها.
قوله: "أن تفعلي" بفتح همزة "أن" وهي مصدرية في محل النصب؛ لأنه مفعول لقوله: "ما أحب" أي: ما أحب فعلك إن لم يكن لك أجر، وأراد به فعل الصدقة عليه وعلى ولده منها.
قوله: "هي وهو". إنما ذكر هي ليصح عطف هو على ما قبله؛ لأن الضمير المتصل لا يُعطف عليه إلا بإعادة الضمير المنفصل؛ وذلك لئلا يكون عطف الاسم على الفعل.
قوله: "ورائطة هذه هي زينب
…
إلى آخر" جواب عما يقال: إن الحديثين في قضيتي امرأتين؛ لأن المذكورة في الحديث الأول هي زينب، وفي هذا الحديث هي رائطة. فأجاب عنه بأن رائطة هي زينب المذكورة في ذاك الحديث، وقد
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 178 رقم 7549).
قلنا: إن رائطة أو ريطة لقب لزينب المذكورة، فمن أدعى أنهما امرأتان ولهما قضيتان فعليه البيان.
ص: وقد روي أيضًا عن أبي هريرة عن رسول الله عليه السلام ما يدل على أن تلك الصدقة التي أباح لها رسول الله عليه السلام إنفاقها على زوجها كانت من غير الزكاة.
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري، عن عمر بن نُبيه الكعبي، عن المقبري، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام انصرف من الصبح يومًا فأتي على النساء في المسجد فقال: يا معشر النساء ما رأيت من ناقصات عقول ودين أذهب بعقول ذوي الألباب منكن، وإني قد رأيت أنكن أكثر أهل النار يوم القيامة فتقربن إلى الله بما استطعتن، وكان في النساء امرأة عبد الله بن مسعود فانقلبت إلى عبد الله بن مسعود فأخبرته بما سمعت من رسول الله عليه السلام وأخذت حليًّا لها، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أين تذهبين بهذا الحلي فقالت: أتقرب إلى الله وإلى رسوله لعل الله لا يجعلني من أهل النار، قال: هلمي ويلك، تصدقي به عليَّ وعلى ولدي، فقالت: لا والله حتى أذهب إلى رسول الله عليه السلام، فذهبت تستأذن على رسول الله عليه السلام، فقالوا: يا رسول الله هذه زينب تستأذن، فقال: أي الزيانب هي؟ قالوا: امراة عبد الله بن مسعود، فدخلت على النبي عليه السلام فقالت: إني سمعت منك مقالة فرجعت إلى ابن مسعود فحدثته فأخذت حلي أتقرب به إلى الله وإليك رجاء أن لا يجعلني في النار، فقال ابن مسعود: تصدقي به عليَّ وعلى بنيَّ فإنا له موضع. فقلت: حتى استأذن رسول الله عليه السلام، فقال رسول الله عليه السلام: تصدقي به عليه وعلى بنيه فإنهم له موضع".
حدثنا الحسين بن الحكم الحِبَرِي، قال: ثنا عاصم بن علي، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
قال أبو جعفر رحمه الله: فبيَّن أبو هريرة في هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام إنما أراد بقوله: "تصدقن" الصدقة التطوع التي تكفر الذنوب، وفي حديثه قال:"فجاءت بحلي لها إلى رسول الله عليه السلام فقالت: يا رسول الله خذ هذا أتقرب به إلى الله عز وجل وإلى رسوله، فقال لها رسول الله عليه السلام: تصدقي به على عبد الله وعلى بنيه فإنهم له موضع"، فكان ذلك على الصدقة بكل الحلي، وذلك من التطوع لا من الزكاة؛ لأن الزكاة لا توجب الصدقة بكل المال، وإنما توجب الصدقة بجزء منه.
فهذا أيضًا دليل على فساد تأويل أبي يوسف ومَن ذهب إلى قوله للحديث الأول، فقد بطل بما ذكرنا أن يكون في حديث زينب ما يدل على أن المرأة تعطي زوجها من زكاة مالها إذا كان فقيرًا.
ش: دلالة حديث أبي هريرة على أن تلك الصدقة المذكورة في حديث زينب المذكور أولًا ليست صدقة الفرض ظاهرة قد أوضحها الطحاوي جدًّا فلا حاجة إلى مزيد البيان.
وإسناده صحيح من الطريقين اللذين:
أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن عليَّ بن معبد بن شداد العبدي وثقه أبو حاتم، عن إسماعيل بن أبي كثير وهو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني روى له الجماعة، عن عمر بن نُبَيْه -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره هاء- الكعبي الخزاعي روي له مسلم.
عن أبي سعيد المقبري -روى له الجماعة- عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والآخر: عن الحسين بن الحكم بن مسلم الحِبَري -بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة- نسبة إلى بيع الحِبَر جمع حِبَرة كعِنَب وعِنَبَة، وهي بُرْد يماني.
عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري -عن عمرو بن أبي عمر- واسم أبي عمرو ميسرة-
مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني روى له الجماعة، عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا سليمان، أنا إسماعيل، أخبرني عمرو -يعني ابن أبي عمرو- عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن النبي عليه السلام انصرف من الصبح
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "من نواقص عقول ودين أذهب بقلوب ذوي الألباب"، وفي آخره: "ثم قالت: يا رسول الله أرأيت ما سمعت منك حين وقَفْتَ علينا: ما رأيت نواقص عقول قط ولا دين أذهب بقولب ذوي الألباب منكن. قالت: يا رسول الله فما نقصان ديننا وعقلنا؟ فقال: أما ما ذكرت من نقصان دينكن فالحيضة التي تصيبكن تمكث إحداكن ما شاء الله أن تمكث لا تصوم ولا تصلي فذلك من نقصان دينكن، وأما ما ذكرت من نقصان عقولكن فشهادتكن، إنما شهادة المرأة نصف شهادة".
قوله: "يا معشر النساء" يعني: يا جماعة النساء، ويجمع على معاشر.
قوله: "ذوي الألباب" أي: أصحاب العقول والألباب جمع لُبٍّ -بضم اللام وتشديد الباء- وهو العقل، يقال: لبَّ يَلُبُّ -مثل عضَّ يَعُضُّ- أي: صار لبيبًا، هذه لغة الحجاز، وأهل نجد يقولون: لَبَّ يَلِبُّ بوزن فَرَّ يَفِرُّ، ويقال: لَبِبَ الرجل -بالكسر- يَلِبُّ أي صار ذا لب، وحكي لَبُبَ -بالضم -وهو نادر لا نظير له في المضاعف.
ثم اعلم أن النساء إذا كن أذهب الخلق بقلوب ذوي العقول فما ظنك حالهن بقلوب ذوي التغفل والبله.
قوله: "وأخذت حليًّا لها" بفتح الحاء وسكون اللام، وقد ذكرنا أنه اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، ويجمع على حُلي -بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء-.
(1)"مسند أحمد"(2/ 373 رقم 8849).
قوله: "ويلك هلمي"(1) كلمة ويل تقال عند الدعاء بالعذاب والهلاك كما أن كلمة "ويح" تقال عند الدعاء بالترحم والشفقة، ومعنى هلمي: هاتي، وهو من أسماء الأفعال وقد مرَّ الكلام فيه مرة.
قوله: "فإنا له موضع" أراد أنه وأولاده هم أحق بتلك الصدقة من الأجانب لاحتياجهم وفقرهم، والأقربون أولي بالمعروف.
قوله: "رجاء أن لا يجعلني" انتصاب رجاء على التعليل أي: لأجل رجاء من الله أن لا يجعلني من أهل النار ببركة تلك الصدقة.
قوله: "أرأيت" أي: أخبرني.
ص: وإنما نلتمس حكم ذلك بعد من طريق النظر وشواهد الأصول، فاعتبرنا ذلك فوجدنا المرأة باتفاقهم لا يُعطيها زوجها من زكاة ماله وإن كانت فقيرة ولم تكن في ذلك كغيرها؛ لأنا رأينا الأخت يعطيها أخوها من زكاته إذا كانت فقيرة، وإن كان على أخيها أن ينفق عليها ولم تخرج بذلك من حكم من يعطى من الزكاة فثبت بذلك أن الذي يمنع الزوج من إعطاء زوجته من زكاة ماله ليس هو وجوب النفقة عليه، ولكنه السبب الذي بينه وبينها، فصار ذلك كالسبب الذي بينه وبين والديه في منع ذلك إياه من إعطائهما من الزكاة، فلما ثبت بما ذكرنا أن سبب المرأة الذي منع زوجها أن يعطيها من زكاة ماله وإن كانت فقيرة، هو كالسبب الذي بينه وبين والديه الذي يمنعه من إعطائهما من زكاته وإن كانا فقيرين.
ورأينا الوالدين لا يعطيانه أيضًا من زكاتهما إذا كان فقيرًا، فكان الذي بينه وبين والديه من السبب يمنعه من إعطائهما من الزكاة، ويمنعهما من إعطائه من الزكاة.
فكذلك السبب الذي بين الزوج والمرأة لما كان يمنعه من إعطائها من الزكاة كان أيضًا يمنعها من إعطائه من الزكاة، وقد رأينا هذا السبب بين الزوج والمرأة يمنع من قبول شهادة كل واحد منهما لصاحبه، فجعلا في ذلك كذوي الرحم المحرم الذي لا
(1) في المتن: "هلمي ويلك".
تجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه ورأينا أيضًا كل واحد منهما لا يرجع فيما وهب لصاحبه في قول مَن يجيز الرجوع في الهبة فيما بين الغريبين، فلما كان الزوجان فيما ذكرنا قد جعلا كذوي الرحم المحرم فيما منع فيه من قبول الشهادة ومن الرجوع في الهبة، كانا في النظر أيضًا في إعطاء كل واحد منهما صاحبه من الزكاة كذلك.
فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
ش: أي: وإنما نطلب حكم دفع المرأة زكاتها إلى زوجها بعد أن علم حكمه بالآثار من طريق النظر والقياس.
والحاصل: أن القياس وشواهد الأصول أيضًا دلت على عدم جواز إعطاء المرأة زكاتها لزوجها، وبيَّن وجه ذلك بما هو ظاهر لا يحتاج إلى زيادة البيان.
وأشار أن السبب في عدم جواز ذلك ليس وجوب النفقة لها عليه، إذ لو كان هو السبب في ذلك لكان دفع الرجل زكاته إلى أخته الفقيرة غير جائز لوجوب نفقتها عليه، بل السبب في ذلك هو اتصال منافع الأملاك بينهما، ألا ترى أن كل واحد منهما ينتفع بمال صاحبه كما ينتفع بمال نفسه عرفًا وعادة؟! فحينئذٍ لا يتكامل معنى التمليك الذي هو شرط في الزكاة، والدليل على ذلك عدم قبول شهادة أحدهما للآخر، فهذا السبب ها هنا كالسبب الذي بين الأبوبين وأولادهما في منع جواز أداء زكاة كل منهم إلى الآخر، ومنع قبول الشهادة من كل منهم للآخر.
قوله: "وقد رأينا هذا السبب" أشار به إلى السبب المذكور، وهو اتصال منافع الأملاك.
قوله: "ورأينا أيضًا كل واحد منهما" أي من الزوجين "لا يرجع فيما وهب لصاحبه في قول من يجيز الرجوع في الهبة" وهو قول أبي حنيفة وأصحابه "فيما بين الغريبين" أي: الأجنبيين؛ لأن عندهم أن الواهب لأجنبي يجوز له الرجوع في هبته ما داما باقيين والعين باقية، ومع هذا لم يجوزوا الرجوع فيها من أحد الزوجين على الآخر مع كونهما أجنبين، ولكن لما ذكرنا من السبب سمع ذلك فصارا كالقريبين -بالقاف- اللذين لا يجزئ الرجوع بينهما في الهبة، فافهم.