المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الحكم فيمن جامع أهله في رمضان متعمدا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الحكم فيمن جامع أهله في رمضان متعمدا

‌ص: باب: الحكم فيمن جامع أهله في رمضان متعمدًا

ش: أي: هذا باب في بيان حكم مَن وطئ امرأته في نهار رمضان عامدًا بذلك.

ص: حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عبَّاد ابن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنهما:"أن رجلًا أتى النبي عليه السلام فذكر له أنه احترق، فسأله عن أمره؟ فقال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأتى النبي عليه السلام بمكتل يُدعى العَرق فيه تمر فقال: أين المحترق؟ فقام الرجل، فقال: تصدق بهذا".

ش: إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح ما خلا ابن شيبة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن مُنير، سمع يزيد بن هارون، قال: أنا يحيى -وهو ابن سعيد- أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد، عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره: أنه سمع عائشة تقول: إن رجلًا أتى النبي عليه السلام فقال: إنه احترق، قال: ما لك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان، فأتي النبي عليه السلام بمكتل يدعى العَرق، فقال: أين المحترق؟ فقال: أين المحترق؟ فقال: أنا، قال: تصدق بهذا".

وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن رمح بن المهاجر، قال: أخبرنا الليث، عن يحيى ابن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة أنها قالت:"جاء رجل إلى رسول الله عليه السلام فقال: احترقت، قال رسول الله عليه السلام: لِمِ؟ قال: وطئت امرأتي في رمضان نهارًا، قال: تصدق قال: ما عندي شيء، فأمره أن يجلس، فجاءه عَرقان فيهما طعام، فأمره أن يتصدق به".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 683 رقم 1833).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 783 رقم 1112).

ص: 301

وفي رواية أخرى (1) بعد قوله: "تصدق، فقال: والله يا نبي الله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس، فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله عليه السلام: أين المحترق آنفًا؟ فقام الرجل، فقال رسول الله عليه السلام: تصدق بهذا، فقال: يا رسول الله أغيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: فكلوه".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا سليمان بن داود المهري، قال: أخبرني ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، أن محمَّد بن جعفر بن الزبير حدثه، أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه، أنه سمع عائشة زوج النبي عليه السلام تقول:"أتى رجل إلى النبي عليه السلام في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله احترقت، فقال النبي عليه السلام: ما شأنه؟ فقال: أصبت أهلي، قال: تصدق. قال: والله ما لي شيء وما أقدر عليه، قال: اجلس، فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله عليه السلام: أين المحترق آنفا، فقام الرجل، فقال رسول الله عليه السلام: تصدق بهذا فقال: يا رسول الله أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: كلوه".

وله في رواية (3): "فأتي بعَرق فيه عشرون صاعا".

قوله: "أن رجلًا" قيل: هو سَلَمة بن صخر البياضي، وقيل: سليمان بن صخر.

قوله: "أنه احترق" أي: هلك، والاحتراق الهلاك، وهو من إحراق النار، شبَّه ما وقع فيه من الجماع في الصوم بالهلاك.

قوله: "وقعت على امرأتي" كناية عن وطئها كما في رواية البخاري: "أصبت".

قوله: "بِمِكْتَل" المكتل بكسر الميم: الزبيل الكبير، قيل: إنه يسع خمسة عشر صاعًا، كان فيه كتلا من التمر أي قطعًا مجتمعة، ويجمع على مكاتل، وفي "الدستور":

(1)"صحيح مسلم"(2/ 783 رقم 1112).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 314 رقم 2394).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 314 رقم 2395).

ص: 302

المكتل: الزنبيل (1) الكبير. وقال القاضي: المكتل والقفة والزبيل واحد، وسمي زبيلًا؛ لحمل الزبل فيه، قال ابن دريد: والزبيل بكسر الزاي ويقال: بفتحها وكلاها لغتان، والعرق: بفتح العين والراء، زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عَرَق، وعَرَقة أيضًا بفتح الراء فيهما، قال القاضي: وسمي عرقًا لأنه جمع عرقة وهي الضفيرة الواسعة من الخوص يخاط ويجمع حتى يصير زِبِّيلا، ومن سماه عرقة فلأنه منها، ويجمع أيضًا على عَرَقات، وقد رواه كثير من شيوخنا وغيرهم: عَرْق بإسكان الراء، والصواب رواية الجمهور بالفتح، وقال المنذري: صحح بعضهم سكون الراء، والفتح أشهر.

ويستنبط منه أحكام:

الأول: استدلت به طائفة على أن الذي جامع امرأته في نهار رمضان لا يجب عليه غير الصدقة على ما يجيء -إن شاء الله تعالى- بيانه.

الثاني: استدل قوم بقوله: "بمكتل يدعى العرق" أن الصدقة مدّ لكل مسكين؛ لأن العرق تقديره عندهم خمسة عشر صاعًا، وهو مفسر في الحديث، فتأتي قسمته على ستين مسكينًا الذي أمره النبي عليه السلام بإطعامهم مدًّا لكل مسكين.

قلت: هذا قول مالك والشافعي وأحمد، وقول أبي حنيفة والثوري: لا يجزئ أقل من نصف صاع، ولا يتم استدلالهم بهذا؛ لأنه جاء في رواية أبي داود فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا، فلا يستقيم التقسيم حينئذ، وجاء في رواية مسلم:"عرقان"، وهو يدل على صحة قول أصحابنا؛ لأن العرق إذا كان خمسة عشر صاعًا يكون العرقان ثلاثين صاعًا، وثلاثون صاعًا على ستين مسكينًا يكون لكل مسكين نصف صاع.

الثالث: قول المجامع امرأته: "احترقت"، وفي قوله في الحديث الآخر:"هلكت"، استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لِجماعه دون الناسي، وهو

(1) كذا في "الأصل، ك" الزنبيل، بنون بعد الزاي، قال الجوهري في "الصحاح":(مادة: زبل): والزَّبيل القفة، فإذا كسرته شددت فقلت: زِبِّيل أو زِنْبِيل.

ص: 303

مشهور قول مالك وأصحابه، وذهب أحمد بن حنبل وبعض أهل الظاهر وعبد الملك بن ماجشون وابن حبيب وأصحابنا، وروي عن عطاء ومالك إلى إيجابها على الناسي والعامد في الجماع، وحجتهم ترك استفسار النبي عليه السلام له، وأن قوله:"وقعت على امرأتي" ظاهره عموم الوقوع في العمد والجهالة والنسيان، إلا أن مالكًا والليث والأوزاعي وعطاء يلزمونه القضاء، وغيرهم لا يلزمه.

قلت: التكفير شرع لتمحيص الذنوب، والناسي غير مذنب ولا آثم فلا يلزمه الكفارة، ولأن صومه لا يفسد فلا يجب شيء.

الرابع: استدل به الجمهور على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان عامدًا، وإن كانوا اختلفوا في كيفية الكفارة، وقد قال بعضهم: لا كفارة على المجامع أصلا وإن تعمد، واغتروا في ذلك بقوله عليه السلام لما أمره أن يتصدق بالعَرَق من التمر وشكى الفاقة:"اذهب فأطعمه أهلك" فدل ذلك عندهم على سقوط الكفارة، ويروى ذلك عن ابن سيرين والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير.

والجواب عن ذلك: أن الحديث ليس فيه ما يدل على إسقاط الكفارة جملة، وأنه محمول على أنه أباح له تأخيرها لوقت يُسْرِهِ لا على أنه أسقطها عنه، فافهم.

الخامس: استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة؛ إذ لم يذكر له النبي عليه السلام حكم المرأة، وهو موضع البيان، والأوزاعي وافقهم إلا إذا كفَّر يالصيام فعليهما جميعًا.

وقال أبو حنيفة ومالك أبو ثور: تجب الكفارة على المرأة أيضًا إن طاوعته، قال القاضي: وسوّى الأوزاعي بين المكرهة والطائعة على مذهبه، وقال مالك في مشهور مذهبه في المكرهة: يكفر عنها بغير الصوم. وقال سحنون: لا شيء عليها ولا عليه لها، وبهذا قال أبو ثور وابن المنذر، ولم يختلف مذهبنا في قضاء المكرهة والنائمة إلا ما ذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك: أنه لا غسل على الموطوءة نائمة ولا مكرهة ولا شيء عليها إلا أن تلتذ.

ص: 304

قال ابن القصار: فتبين من هذا أنها غير مفطرة، وقال القاضي: وظاهره أنه لا قضاء على المكرهة إلا أن تلتذ ولا على النائمة؛ لأنها كالمحتلمة، وهو قول أبي ثور في النائمة والمكرهة.

واختلف في وجوب الكفارة على المكرِه على الوطء لغيره على هذا.

وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم المكرِه عن نفسه ولا على من أكره.

وقال صاحب "البدائع": وأما على المرأة فيجب عليها أيضًا الكفارة إذا كانت مطاوعة.

وللشافعي قولان:

في قولٍ: لا تجب عليها أصلًا.

وفي قولٍ: تجب عليها ويتحملها الزوج، انتهى.

وأما الجواب عن قولهم: إن النبي عليه السلام لم يذكر حكم المرأة وهو موضع البيان. أن المرأة لعلها كانت مكرهة أو ناسية لصومها، أو مَن يباح لها الفطر ذلك اليوم لعذر المرض أو السفر أو الطهر من الحيض، فافهم.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن مَن وقع بأهله في رمضان فعليه أن يتصدق، فلا يجب عليه من الكفارة غير الصدقة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عوف بن مالك الأشجعي ومالكًا في رواية وعبد الله ابن وهب المصري، فإنهم قالوا: مَن وطئ امرأته في نهار رمضان عامدًا، ليس عليه غير الصدقة، واحتجوا في ذلك بظاهر الحديث المذكور.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل يجب عليه أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يُطعم ستين مسكينًا، أَيُّ ذلك شاء فعل.

ش: أيْ: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: ابن أبي ليلى ومالكًا وأحمد في رواية، فإنهم قالوا: يجب على مَن جامع امرأته في نهار رمضان عامدًا ككفارة الظهار، ولكنه مخير بين العتق والصوم والإطعام، وهو معنى قوله: أَيُّ ذلك

ص: 305

شاء فعل، إلا أن المشهور عن ابن أبي ليلى أنه مخير في العتق والصيام، فإن لم يقدر على واحد منهما أطعم، وإلى هذا ذهب محمَّد بن جرير الطبري، وقال: لا سبيل إلى الإطعام إلا عند العجز عن العتق والصيام، وهو مخيَّر في العتق والصيام.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رجلًا أفطر في رمضان في زمن النبي عليه السلام، فأمره أن يكفِّر بعتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا، فقال: لا أجد، فأتي رسول الله عليه السلام بعَرق فيه تمر فقال: خذ هذا فتصدق به. فقال: يا رسول الله إني لا أجد أحدًا أحوج إليه مني، فضحك رسول الله عليه السلام حتى بدت أنيابه، ثم قال: كُلْه".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوح بن عبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدثه:"أن النبي عليه السلام أمر رجلًا أفطر في شهر رمضان أن يعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا".

قالوا: فإنما أعطاه رسول الله عليه السلام ما أعطاه مما أمره أن يتصدق به، بعد أن أخبره بما عليه في ذلك مما بينه أبو هريرة في حديثه هذا.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه -من التخيير في الكفارة بين العتق والصيام والإطعام- بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قالوا: إنما أعطاه رسول الله عليه السلام التمر الذي في العَرَق الذي أُتي به، وأمره أن يتصدق به عن جنايته تلك، بعد أن أخبره بالواجب الذي عليه في ذلك مما بينه أبو هريرة بقوله:"أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا"، ذكر ذلك بكلمة:"أوْ" التي هي للتخيير، فوجب ذلك على التخيير.

ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين صحيحين رجالهما كلهم رجال "الصحيح" ما خلا أبا بكرة وهو أيضًا ثقة ثبت.

ص: 306

وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي.

وابن شهاب هو محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري.

فبطريقه الأول: أخرجه مالك في "موطئه"(1).

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب

إلى آخره نحوه.

وبطريقه الثاني: أخرجه مسلم (3): حدثني محمَّد بن رافع، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: أنا ابن جريج، قال: حدثني ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدثه:"أن النبي عليه السلام أمر رجلًا أفطر في رمضان أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا".

قوله: "بِعَرق" قد مرَّ تفسيره عن قريب.

قوله: "فضحك رسول الله عليه السلام" وذلك تعجبًا من حاله ومقاطع كلامه وإشفاقه أولا، ثم طلبه ذلك لنفسه، وقد يكون من رحمة الله وتوسعته عليه وإطعامه له هذا الطعام وإحلاله له بعد أن كُلِّف إخراجه.

قوله: "حتى بدت أنيابه" أي: ظهرت، والأنياب جمع ناب، وهو السِّن الذي بحذاة الرباعية، والرباعية -مثل الثمانية-: السِّن الذي بين الثنية والناب.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يعتق رقبة إن كان لها واجدًا، ويصوم شهرين متتابعين إن كان للرقبة غير واجد، فإن لم يستطع ذلك أطعم ستين مسكينًا.

ش: أي خالف الفريقين المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا والشافعي والحسن بن صالح بن حي وأبا ثور،

(1)"موطأ مالك"(1/ 296 رقم 657).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 313 رقم 2392).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 782 رقم 1111).

ص: 307

فإنهم قالوا بالترتيب؛ أولًا: عتق رقبة؛ فإن لم يستطع عليها يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع على ذلك أطعم ستين مسكينًا.

ثم إن الصوم لا يجوز إلا شهران متتابعان بلا خلاف بين الجمهور، إلا ما روي عن ابن أبي ليلى فإنه قال: التتابع ليس بشرط، واختلف العلماء أيضًا في قضاء ذلك اليوم مع الكفارة، قال أبو عمر: قال مالك: الذي آخذ به في الذي يصيب أهله في شهر رمضان أن عليه صيام ذلك اليوم مع الإطعام، وليس العتق والصوم من كفارة رمضان في شيء، وقال الأوزاعي: إن كفَّر بالعتق أو بالإطعام صام يوما، وإن صام شهرين متتابعين دخل فيهما قضاء يومه ذلك، وقال الثوري: يقضي اليوم ويكفِّر مثل كفارة الظهار، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق.

وقال الشافعي: يحتمل أن تكون الكفارة بدلا من الصيام، ويحتمل أن يكون الصيام مع الكفارة، ولكل وجه، وأحب إليَّ أن يكفر ويصوم مع الكفارة، هذه رواية الربيع عنه، وقال المزني عنه: مَن وطئ امرأته فأولج عامدًا كان عليه القضاء والكفارة.

وقال النووي في "الروضة": وهل يلزمه مع الكفارة قضاء ذلك اليوم الذي أفسده بالوقاع؟ فيه ثلاثة أوجه، وقيل: قولان ووجه، أصحهما: يلزم مع الكفارة القضاء، والثاني: لا، والثالث: إن كفَّر بالطعام لم يلزم، وإلا لزم.

وقال أبو عمر (1) رحمه الله: اختلفوا أيضًا فيمن أفطر يومًا من رمضان بأكل أو شرب متعمدًا، فقال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور: عليه من الكفارة ما على المجامع، كل واحد منهما على أصله، وإلى هذا ذهب محمَّد بن جرير الطبري، وروي مثل ذلك أيضًا عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري.

وقال الشافعي وأحمد: عليه القضاء ولا كفارة، وهو قول سعيد بن جبير وابن سيرين وجابر بن زيد والشعبي وقتادة.

(1)"التمهيد"(7/ 169 - 172).

ص: 308

وروى مغيرة عن إبراهيم بمثله، وقال الشافعي: عليه مع القضاء العقوبة لانتهاكه حرمة الشهر، وقال سائر من ذكرنا معه من التابعين: يقضي يومًا مكانه ويستغفر الله ويتوب إليه، وقال بعضهم: ويصنع معروفًا.

وقد روي عن عطاء أيضًا: أن من أفطر يومًا في رمضان من غير علة كان عليه تحرير رقبة، فإن لم يجد فبدنة أو بقرة أو عشرين صاعًا من طعام يطعمه المساكين.

وذكر النسائي (1): عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: "من أفطر في رمضان فعليه عتق رقبة، أو صوم شهر، أو إطعام ثلاثين مسكينًا، قلت: ومَن وقع على امرأته وهي حائض أو سمع أذان الجمعة ولم يُجَمِّع وليس له عذر؟ قال كذلك عتق رقبة".

وكان ربيعة يقول: روي عن سعيد بن المسيب "من أفطر يومًا من رمضان عليه أن يصوم اثني عشر يومًا".

وروى هشام عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"في الرجل يُفطر يومًا من رمضان متعمدًا، قال: يصوم شهرًا".

وذكر معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال:"يقضي يومًا ويستغفر الله" وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير، ورواه عن إبراهيم النخعي بكار بن قتيبة، وروى حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم أنه قال:"من أفطر يومًا من رمضان عامدًا فعليه صيام ثلاثة آلاف يوم".

قال أبو عمر (2): هذا لا وجه له إلا أن يكون كلامًا خرج على التغليظ والغضب كما روي عن النبي عليه السلام (3) وعن ابن مسعود (4) وعلي رضي الله عنهما أن مَن أفطر في رمضان عامدًا لم يكفره صيام الدهر وإن صامه.

(1)"السنن الكبرى"(5/ 350 رقم 9118).

(2)

"التمهيد"(7/ 172 - 173).

(3)

"سنن الدارمي"(2/ 116 رقم 1714).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 228/ 7855).

ص: 309

رواه أبو المُطَوِّس (1) عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، وهو حديث لا يحتج بمثله.

وقد جاءت الكفارة بأسانيد صحاح.

قال (2): واختلفوا أيضًا فيمن جامع ناسيًا لصومه، فقال الشافعي والثوري -في رواية الأشجعي- وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأبو ثور وإسحاق: ليس عليه شيء، لا قضاء ولا كفارة، بمنزلة من أكل ناسيًا عندهم، وهو قول الحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم، وقال مالك والليث والأوزاعي والثوري -في رواية المعافى عنه- عليه: القضاء ولا كفارة.

وروي مثل ذلك عن عطاء، وعنه أنه رأى عليه الكفارة، وقال: مثل هذا لا يُنسى، وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيًا أو عامدًا عليه القضاء [والكفارة](3)، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل.

واختلفوا أيضًا فيمن أكل أو شرب ناسيًا، فقال الثوري وابن أبي ذئب والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وإسحاق وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه وداود: لا شيء عليه ويتم صومه، وهو قول جمهور التابعين، وبه قال علي وابن عمر وعلقمة وإبراهيم وابن سيرين وجابر بن زيد، وقال ربيعة ومالك: عليه القضاء.

واختلفوا فيمن أفطر مرتين أو مرارًا في أيام رمضان.

فقال مالك والليث والشافعي والحسن بن حي: عليه لكل يوم كفارة، وسواء وطئ المرة الأخرى قبل أن يكفِّر أو بعد أن يكفِّر.

وقال أبو حنيفة: إذا جامع أيامًا في رمضان فعليه كفارة واحدة ما لم يكفر ثم يعود، وكذلك الآكل والشارب عندهم وإن كفَّر ثم عاد فعليه كفارة أخرى.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 314 رقم 2396).

(2)

"التمهيد"(7/ 178).

(3)

في "الأصل، ك": "والقضاء"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والمثبت من "التمهيد":(7/ 179).

ص: 310

وروى زفر عن أبي حنيفة: إذا أفطر مرة وكفَّر ثم عاد فلا كفارة عليه للإفطار الثاني إذا كان في شهر واحد.

واختلف عن الثوري فروي عنه مثل قول أبي حنيفة وهي رواية أبي يوسف، وروي عنه مثل قول مالك رحمه الله.

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أن حديث أبي هريرة الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل قد دخل فيه حديث عائشة رضي الله عنها كما ذكروا، وأصل حديث أبي هريرة ذلك من التبدئة بالرقبة إن كان المجامع لها واجدًا، والتثنية بالصيام بعدها إن كان المجامع للرقبة غير واجد، والتثليث بالأطعام بعدهما إن كان المجامع لهما غير واجد، هكذا أصل الحديث الذي رواه الزهري في ذلك، وكذلك رواه سائر الناس غير مالك وابن جريج، وبيَّنوا فيه القصة بطولها كيف كانت، وكيف أمر رسول الله عليه السلام بالكفارة في ذلك.

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن حُميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هَلَكْتُ، فقال له رسول الله عليه السلام: ويلك ما لك؟! قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، فقال رسول الله عليه السلام: هل تجد رقبة تعتقها؟ فقال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا يا رسول الله، فسكت رسول الله عليه السلام فبينا نحن كذلك أُتي رسول الله عليه السلام بعَرق فيه تمر -والعرق: المكتل- فقال رسول الله عليه السلام: أين السائل آنفًا؟ خذ هذا فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أهل بيت أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أفقر من أهل بيتي، فضحك رسول الله عليه السلام حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك".

قال: فصارت الكفارة إلى عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا.

ص: 311

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو اليمان، قال: ثنا شعيب، عن الزهري

فذكر بإسناده مثله.

فهذا هو الحديث على وجهه، وإنما جاء حديث مالك وابن جريج في ذلك عن الزهري على لفظ قول الزهري في هذا الحديث، فصارت الكفارة إلى عتق رقبة أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينًا، فالتخيير هو كلام الزهري على ما توهم مَن لم يحكم في حديثه عن حُميد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام.

حدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمَّد بن إدريس، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري

فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر قوله:"فصارت سنة .. " إلى آخر الحديث.

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، قال: ثنا سفيان

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا أيضًا، قال: سمعت النعمان بن راشد يحدث، عن الزهري

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا محمَّد بن في حفصة، عن ابن شهاب

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن الزهري

فذكر بإسناده مثله، وقال:"خمسة عشر صاعًا تمرًا" ولم يشك.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: حدثني الأوزاعي، قال: سألت الزهري عن رجل جامع امرأته في شهر رمضان، فقال: ثنا حُميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثني أبو هريرة

فذكر نحوه غير أنه لم يذكر الآصع.

فكان ما روينا في هذا الحديث قد دخل فيه ما في الحديثين الأولين؛ لأن فيه أن النبي عليه السلام قال له: "أتجدُ رقبة؟ قال: لا، قال: فصم شهرين متتابعين قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا".

ص: 312

فكأن النبي عليه السلام إنما أمره بكل صنف من هذه الأصناف الثلاثة لما لم يكن واجدًا للصنف الذي ذكره له قبله، فلما أخبره الرجل أنه غير قادر على شيء من ذلك، أُتي النبي عليه السلام بعرَق فيه تمر، فكان ذكر العرَق وما كان من دفع النبي عليه السلام إياه إلى الرجل، وأمره إياه بالصدقة هو الذي روته عائشة في حديثها الذي بدأنا بروايته، فحديث أبي هريرة أولى منه؛ لأنه قد كان قبل الذي في حديث عائشة شيء قد حفظه أبو هريرة ولم تحفظه عائشة، فهو أولى؛ لما قد زاده.

وأما حديث مالك وابن جريج فهما عن الزهري على ما ذكرنا، وقد بيَّنا العلة في ذلك فيما تقدم من هذا الباب؛ فثبت بما ذكرنا من الكفارة في الإفطار بالجماع في الصيام في شهر رمضان ما في حديث منصور وابن عيينة ومَن وافقهما، عن الزهري عن حميد، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي: وكان من الحجة والبرهان لأهل المقالة الثالثة فيما ذهبوا إليه: أن حديث أبي هريرة المذكور في معرض احتجاج أهل المقالة الثانية وهو الذي أراده بقوله: "الذي ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا الفصل" قد دخل فيه حديث عائشة رضي الله عنها.

تقرير هذا الكلام: أن المروي في هذا الباب حديثان:

أحدهما: عن عائشة.

والآخر: عن أبي هريرة.

وحديث أبي هريرة روي على وجهين:

الأول: هو ما رواه مالك وابن جريج عن الزهري، وهو الذي احتج به أهل المقالة الثانية في التخيير في الكفارة بين الأشياء الثلاثة.

والوجه الثاني: هو ما رواه غير مالك وابن جريج عن الزهري أيضًا، وهو الذي ذكر فيه الرقبة أولًا، ثم صيام شهرين متتابعين ثانيًا، ثم إطعام ستين مسكينًا ثالثًا، وهذا هو أصل حديث أبي هريرة، وإليه أشار بقوله: "أصل حديث أبي هريرة

ص: 313

ذلك من التبدئة بالرقبة إن كان المجامع لها واجدًا" أي: أصل حديث أبي هريرة هو الذي ذكر فيه أولًا في ابتداء الكلام بالرقبة، إن كان المجامع لها -أي للرقبة- واجدًا.

وقوله: "لها" يتعلق بقوله: "واجدًا".

قوله: "والتثنية بالصيام بعدها" أي بعد الرقبة، ذكر الصيام ثانيًا إن كان المجامع للرقبة غير واجد.

وقوله: "للرقبة" يتعلق بقوله: "غير واجد".

وقوله: والتثليث بالإطعام بعدهما أي بعد الرقبة والصيام ذكر الإطعام ثالثًا إن كان المجامع لهما غير واجد، أي للرقبة والصيام.

وقوله: "لهما" يتعلق بقوله: "غير واجد"، ومعنى "غير واجد": غير قادر.

وهذا هو أصل الحديث على ما رواه الحفاظ عن الزهري، وبينوا فيه أصل الحديث والقصة بطولها كيف كانت، وكيف أمر رسول الله عليه السلام بالكفارة في ذلك، والذي رواه مالك وابن جريج عن الزهري ليس أصل الحديث، وإنما رويا ذلك على لفظ قول الزهري في هذا الحديث فالتخير هو كلام الزهري على ما توهم مَن لم يحكم في حديثه عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة -أي لم يحكم في نقل أصل الحديث كما هو عن حميد، عن أبي هريرة.

وفي بعض النسخ: "على ما توهم من لم يحكه في حديثه عن حميد عن أبي هريرة" من الحكاية، وهو الأصوب على ما لا يخفى، وأراد مَن لم يحك أصل الحديث عن حميد، عن أبي هريرة، فالعمل بأصل الحديث هو الواجب؛ لأنه خبر واحد عن رجل واحد في قصة واحدة بلا شك، غير أن مالكًا وابن جريج روياه عن الزهري مختصرًا، ورواه الآخرون من الحفاظ مطولًا، وأتوا بلفظ الخبر كما وقع، وكما سئل عليه السلام، وكما أفتى، وبينوا فيه أن تلك القصة كانت في وطء امرأته، ورتبوا الكفارة كما أمر بها رسول الله عليه السلام.

وقال ابن حزم: وأحال مالك وابن جريج ويحيى: صفة الترتيب، وأجملوا الأمر، وأتوا بغير لفظ النبي عليه السلام، فلم يجز الأخذ بما رووه من ذلك مما هو لفظ مَن

ص: 314

دون النبي عليه السلام ممن اختصر الخبر وأجمله، وكان الغرض أخذ فتيا النبي عليه السلام كما أفتى بها بنص كلامه فيما أفتى به.

وقال البيهقي (1): فرواية الجماعة عن الزهري -بتقييد الوطء ناقلة للفظ صاحب الشرع- أولى بالقبول؛ لإتيانهم بالحديث على وجهه، على أن حماد بن مسعدة روى الحديث عن مالك بلفظ الجماعة.

ثم أخرجه البيهقي (2): من حديث عبد الرحمن بن بشر، نا حماد، عن مالك، ولفظه:"أن النبي عليه السلام قال في رجل وقع على أهله في رمضان: أعتق رقبةً. قال: ما أجدها، قال: فصم شهرين. قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا".

فهذا الذي ذكرنا هو وجه ترجيح رواية الجماعة عن الزهري على رواية مالك وابن جريج عنه.

وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فإنه داخل في حديث أبي هريرة، وحديث أبي هريرة شامل عليه وعلى زيادة؛ فالأخذ بحديث أبي هريرة أولى؛ لأنه زاد على حديث عائشة، وحفظ فيه ما لم تحفظه عائشة، فيكون أحق بالقبول، وكذا قال البيهقي بعد إخراجه هذه الأحاديث: فالأخذ بزيادات أبي هريرة أولى.

وإليه أشار الطحاوي أيضًا بقوله: فحديث أبي هريرة أولى منه، أي من حديث عائشة.

قوله: "فثبت بما ذكرنا" وأراد به ما ذكره من قوله: "وكان من الحجة لهم في ذلك

" إلى آخره.

وقوله: "ما في حديث منصور وابن عيينة" في محل الرفع على أنه فاعل لقوله: "فثبت" وأراد به ما رواه منصور بن المعتمر، عن الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة.

وما رواه سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حميد. على ما يجيء الآن إن شاء الله تعالى.

(1)"السنن الكبرى"(4/ 225 رقم 7842).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 225 رقم 7843).

ص: 315

وأراد بقوله: "ومن وافقهما" -أي: منصورًا وابن عيينة- عبد الرحمن بن خالد والنعمان بن راشد والأوزاعي على ما يجيء عن قريب.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من ثمان طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد

إلى آخره.

وهذا الحديث أخرجه الجماعة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

الثاني: عن فهد أيضًا، عن أبي اليمان الحكم بن نافع -شيخ البخاري- عن شعيب بن أبي حمزة دينار الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: "بينما نحن جلوس عند النبي عليه السلام إذْ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله عليه السلام: هل تجد رقبة

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء غير أن في لفظه: "فمكث النبي عليه السلام" وفي رواية الطحاوي: "فسكت رسول الله عليه السلام".

الثالث: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمَّد بن إدريس الشافعي الإِمام، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (2): ثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير، كلهم عن ابن عيينة -قال يحيى: أنا سفيان بن عيينة- عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد

(1)"صحيح البخاري"(2/ 684 رقم 1834).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 781 رقم 1111).

ص: 316

ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: ثم جلس، فاُتي النبي عليه السلام بعرَق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا، فقال: أفقر منا؟! فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي عليه السلام حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك".

الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال الأنماطي -شيخ البخاري- عن سفيان بن عيينة، عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد ومحمد بن عيسى -المعني- قالا: ثنا سفيان- قال مسدد: قال سفيان- نا الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال:"أتى رجل إلى النبي عليه السلام فقال: هلكت، فقال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: فهل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: اجلس، فأتي رسول الله عليه السلام بعرق فيه تمر، فقال: تصدق به فقال: يا رسول الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا. قال: فضحك حتى بدت ثناياه، قال: فأطعمه إياهم" وقال مسدد في موضع آخر: "أنيابه".

وأخرجه الترمذي (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4): من طريق سفيان بن عيينة أيضًا.

الخامس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن أبيه جرير بن حازم، عن النعمان بن راشد، عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(5) نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 313 رقم 2390).

(2)

"سنن الترمذي"(3/ 102 رقم 724).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 212 رقم 3117).

(4)

"سنن ابن ماجه"(1/ 534 رقم 1671).

(5)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 221 رقم 7829).

ص: 317

السادس: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوح بن عبادة، عن محمَّد بن أبي حفصة، عن الزهري.

السابع: عن أبي بكرة أيضًا، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن منصور به، وفيه: "فأتي بمكتل فيه خمسة عشر صاعًا من تمر فقال: خذها فأطعمه عنك

" الحديث.

وكذا لفظ إبراهيم بن طهمان، عن منصور.

الثامن: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن بشر بن بكر التنيسي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن الزهري

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (2) نحوه: من حديث الأوزاعي، ثم قال: ورواه ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن الزهري، فجعل هذا التقدير عن عمرو بن شعيب، فالذي يشبه أن يكون تقدير المكتل بخمسة عشر صاعًا عن عمرو.

وأخرج الدارقطني في "سننه"(3): ثنا أبو بكر النيسابوري، نا أبو عمر عيسى بن أبي عمران البزار بالرملة، ثنا الوليد بن مسلم، نا الأوزاعي، حدثني الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلًا جاء إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ويحك وما ذاك؟ قال: وقعت على أهلي في يوم من رمضان، قال: أعتق رقبة قال: ما أجد، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: ما أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكينًا، قال: ما أجد، قال: فأُتي النبي عليه السلام بعرَق فيه

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 222 رقم 7831).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"سنن الدارقطني"(2/ 190 رقم 49).

ص: 318

تمر، فيه خمسة عشر صاعًا، قال: خذه وتصدق به، فقال: على أفقر من أهلي؟ فوالله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي، فضحك رسول الله عليه السلام حتى بدت أنيابه ثم قال: خذه واستغفر الله، وأطعمه أهلك".

هذا إسناد صحيح.

قلت: رواية الطحاوي عن الأوزاعي ليس فيها ذكر الأصوع، وهي هذه الصحيحة، فلذلك قال البيهقي: ورواه ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن الزهري فجعل هذا التقدير عن عمرو بن شعيب، أراد به تقدير ما في العَرَق بالأصوع، فالذي يشبه أن يكون تقدير المكتل بخمسة عشر صاعًا عن عمرو بن شعيب.

وقال البيهقي أيضًا (1): ورواه ابن المبارك والهِقل ومسرور بن صدقة، عن الأوزاعي، لكن جعل ابن المبارك قوله: خمسة عشر صاعًا من رواية عمرو بن شعيب، وأدرجه الآخران في الحديث كالوليد.

قوله: "بينا نحن عند رسول الله عليه السلام" قد ذكرنا غير مرة أن "بينا" أصله بين، فأشبعت الفتحة فصارت ألفًا، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملةٍ من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه: ها هنا: إذْ جاءه رجل، وقد قالوا: إن الأفصح أن لا يكون في جوابها إذ وإذا، ولكن تجيء إذ وإذا كثيرا في الجواب.

قوله: "هلكتُ" وروي في بعض الروايات: "هلكت وأهلكت"، فمن ذلك قالوا: إن قوله: أهلكت، دل على مشاركة المرأة إياه في الجناية؛ لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة كالقطع يقتضي الانقطاع، وكذا هو وقع في عبارة "صاحب الهداية" وغيره بهذه اللفظة، وقال الخطابي: هذه اللفظة -أعني قوله: وأهلكت- غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما

(1)"السنن الكبرى"(4/ 224 رقم 7837).

ص: 319

ذكروا "هلكت" حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان فذكر هذا الحرف فيه، فهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ والإتقان.

قلت: معلى بن منصور الرازي ثقة ثبت، أخرج له الجماعة وهو من كبار أصحاب أبي يوسف ومحمد، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة فيما تفرد به وشورك فيه، متقن صدوق فقيه مأمون. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث، وكان صاحب رأي. وقال العجلي: صاحب سنة، وكان نبيلًا طلبوه على القضاء غير مرة فأبى. وعادة الخطابي حطه على الأئمة الحنفية بما لا يضرهم ولا يجديه.

قوله: "ويلك" كلمة تهديد وتوعيد، كما أن "ويحك" كلمة ترحم وإشفاق.

قوله: "أعلى أهل بيت" الهمزة فيه للاستفهام، ووقع في رواية مسلم:"أفقر منا" قال القاضي: رويناه بالنصب على إضمار الفعل أي: أتجد أفقر منا أو تعطي أفقر منا؟! وقد يصح رفعه على خبر المبتدأ أي: أتجد أفقر منا، أو مَن يتصدق عليه أفقر منا، ووقع لمسلم في رواية عائشة:"أغيرنا"، قال القاضي: بالضم، ويصح بالفتح.

قوله: "ما بين لابتيها" أي ما بين جانبي المدينة، واللابة: الحرة وهي أرض ذات حجارة سود بين جبلين، قال أبو عبيد:"لابتيها" يعني: حَرَّتي الدينة، واحدتها لابة، وجمعها لوب، وقال ابن الأثير: اللابة الحَرَّة وهي الأرض ذات الحجارة السود التي قد ألبستها لكثرتها، وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللآب واللوب، مثل قارة وقار وقور، وألفها منقلبة عن واو، والمدينة ما بين حرتين عظيمتين.

قلت: الحَرَّة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء.

ويستفاد من هذا الحديث أحكام:

الأول: استدل به الجمهور على أن ذلك في العامد لجماعه دون الناسي.

الثاني: قوله: "هل تجد رقبة" استدل به الشافعي وداود وأهل الظاهر على مذهبهم

ص: 320

في أنه لا يلزم في الجماع على الرجل والمرأة إلا كفارة واحدة؛ إذ لم يذكر حكم المرأة، وهو موضع البيان، وقد أجبنا عن هذا فيما مضى.

الثالث: استدل بقوله: "رقبة تعتقها" مَن لا يشترط فيها الإيمان لإطلاقه ذلك، وقال مالك وأصحابه: لا تجزئ إلا رقبة مؤمنة.

الرابع: فيه دليل صريح باشتراط التتابع في صوم شهرين، خلافًا لما روي في ذلك عن ابن أبي ليلى أنه لا يلزم فيهما التتابع.

الخامس: فيه دليل صريح بأن الواجب في الإطعام هو إطعام ستين مسكينًا خلافًا لما روي عن الحسن أنه يطعم أربعين مسكينًا عشرين صاعًا.

السادس: استدل بقوله: "أطعمه أهلك" بعضهم أن الكفارة تسقط عن المعسر، وقال الزهري: هذا خاص لهذا الرجل وحده، يعني أنه يجزئه أن يأكل من صدقة نفسه لسقوط الكفارة عنه لفقره، فسوغها له النبي عليه السلام، وقد روي:"كله وأطعمه أهلك" وقيل: هو منسوخ.

وقيل: يحتمل أنه أعطاه إياه لكفارته، وأنه يجزئه عمن لا تلزمه نفقته من أهله.

وقيل: بل لما كان عاجزًا عن نفقة أهله جاز له إعطاء الكفارة عن نفسه لهم.

وقيل: بل لما ملكها إياه النبي عليه السلام وهو محتاج جاز له أكلها وأهله لحاجة.

وقيل: يحتمل أنه لما كان لغيره أن يكفر عنه، كان لغيره أن يتصدق عليه عند الحاجة بتلك الكفارة.

وقيل: بل أطعمه إياه لفقره وأبقى الكفارة عليه متى أيسر، وهذا تحقيق كافة الأئمة العلماء.

وذهب الأوزاعي وأحمد إلى أن حكم مَن لم يجد الكفارة ممن لزمته من سائر الناس سقوطها عنه مثل هذا الرجل.

ص: 321

وقال أبو عمر: اختلف العلماء في الواطئ أهله في رمضان إذا وجب عليه التكفير بالإطعام دون غيره، ولم يجد ما يطعم، وكان في حكم الرجل الذي ورد هذا الحديث فيه.

فأما مالك فلم أجد عنه في ذلك شيئًا منصوصًا، وكان عيسى بن دينار يقول: إنها على المعسر واجبة، فإذا أيسر أداها، وقد يخرج قول ابن شهاب على هذا؛ لأنه جعل إباحة النبي عليه السلام لذلك الرجل أكل الكفارة لعسرته رخصة له وخصوصًا.

قال ابن شهاب: ولو أن رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير.

وقال الشافعي: قول رسول الله عليه السلام: "كله وأطعمه أهلك" يحتمل معانيًا منها:

أنه لما كان في الوقت الذي أصاب فيه أهله ليس ممن يقدر على واحدة من الكفارات تطوع رسول الله عليه السلام بأن قال له في شيء أُتِيَ به كفره، فلما ذكر الحاجة ولم يكن الرجل قبضة قال له:"كله وأطعمه أهلك" وجعل التمليك له حينئذ مع القبض،

ويحتمل أنه لما ملكه وهو محتاج، وكان إنما تكون الكفارة عليه إذا كان عنده فضل، ولم يكن عنده فضل كان له أن يأكله هو وأهله لحاجته، ويحتمل في هذا أن تكون الكفارة دينًا عليه متى أطاقها أداها، وإن كان ذلك ليس في الخبر، وكان هذا أحب إلينا وأقرب من الاحتياط.

ويحتمل أن يكون إذا لم يقدر على شيء في حاله تلك أن تكون الكفارة ساقطة إذا كان معلومًا كما سقطت الصلاة عن المغمى عليه إذا كان مغلوبًا.

وحكى الأثرم عن أحمد بن حنبل: إن كان المجامع في رمضان محتاجًا أطعمه عياله فقد أجزأ عنه.

قلت: ولا يكفر مرة أخرى إذا وجد؟ قال: لا، قد أجزأت عنه إلا أنه خاص في الجماع في رمضان وحده لا في كفارة اليمين ولا في كفارة الظهار، ولا في غيرها إلا في الجماع وحده.

ص: 322

وزعم الطبري أن قياس قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وأبي ثور: أن الكفارة دين عليه إذا قدر عليها، وذلك أن قولهم في كل كفارة لزمت إنسانًا فسبيلها عندهم الوجوب في ذمة المعسر يؤديها إذا أيسر، فكذلك سبيل الكفارة للفطر في رمضان على قياس قولهم.

قال أبو عمر: إن احتج محتج في إسقاط الكفارة عن المعسر بأن رسول الله عليه السلام إذ قال له: "كل أنت وعيالك" ولم يقل له: أتؤديها إذا أيسرت؟ ولو كانت واجبة عليه لم يسكت عنه حتى يتبين ذلك له.

قيل له: ولا قال رسول الله عليه السلام: إنها ساقطة عنك لعسرتك، فقد أخبره بوجوبها عليه، وكل ما وجب أداؤه في اليسار لزمه في الميسرة، والله أعلم.

ص: 323