المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: صوم يوم السبت - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٨

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: صوم يوم السبت

‌ص: باب: صوم يوم السبت

ش: أي هذا باب في بيان حكم صوم يوم السبت كيف هو؟

ص: حدثنا ابن مرزوق -هو إبراهيم- قال: ثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء قالت:"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تَصُومِنَّ يوم السبت في غير ما افترض الله عليكن ولو لم تجد إحداكن إلا لحاء شجرة أو عود عنب فلتمضغه".

ش: إسناد صحيح، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري.

وثور بن يزيد بن زياد الكلاعي أبو خالد الشامي الحمصي، روى له الجماعة سوى مسلم.

وخالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي أبو عبد الله الشامي الحمصي، روى له الجماعة.

وعبد الله بن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السنن المهملة- السلمي المازني الصحابي.

وأبوه أيضًا صحابي، وأخته الصماء بنت بسر المازنية.

وأخرجه أبو داود (1): ثنا حميد بن مسعدة، قال: نا سفيان بن حبيب.

ونا يزيد بن قيس -من أهل جبلة- قال: ثنا الوليد، جميعًا عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بُسر السلمي، عن أخته -قال يزيد: الصماء- أن النبي عليه السلام قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم؛ فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغها".

وأخرجه الترمذى (2): عن حميد بن مسعدة

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 320 رقم 2421).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 120 رقم 744).

ص: 432

وقال: هذا حديث حسن.

وأخرجه ابن ماجه (1) من وجهين:

الأول: عن عبد الله بن بسر، عن النبي عليه السلام، ولم يذكر فيه الصماء.

والثاني: عن حميد بن مسعدة نحو رواية أبي داود والترمذي.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث معاوية بن صالح، عن ابن عبد الله بن بسر، عن أبيه، عن عمته الصماء قالت:"نهى رسول الله عليه السلام عن صوم يوم السبت وقالت: إن لم يجد أحدكم إلا عودا أخضر فليفطر عليه".

قلت: والصحيح أن الصماء أخت عبد الله بن بسر وقد قيل: إنها أخت بسر، فرواية البيهقي على هذا القول.

قوله: "لا تصومِن" بكسر الميم؛ لأنه خطاب للصماء، وقد عُلِم أن نون التأكيد تكسر ما قبلها في الواحدة.

قوله: "إلا لحاء شجرة" اللحاء -بكسر اللام وبالمد:- قشر الشجرة، وفي المثل: لا تدخل بين العصا ولحائها، ولحوت العصا لحوًا: قشرتها، وكذلك لحيت العصا ألحي لحيًا، وتجمع على ألحِية، ككساء تجمع على أكسية، ورداء على أردية.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله فذهب قوم إلى هذا الحديث، فكرهوا صوم يوم السبت تطوعًا.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا وطاوس بن كيسان وإبراهيم وخالد بن معدان؛ فإنهم كرهوا صوم يوم السبت تطوعًا، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور، وقال الترمذي: ومعنى الحديث: أن اليهود يعظمون يوم السبت، فلا يستحب للرجل أن يختص يوم السبت بصيامه من بين الأيام تشبها بهم؛

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 550 رقم 1726).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 302 رقم 8277).

ص: 433

لقوله: "من تشبه بقوم فهو منهم"(1) يعني: خالفهم ولا توافقهم، كما قال في حديث آخر:"خالفوا اليهود والنصارى"(1).

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فلم يروا بصومه بأسًا.

ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق وآخرين من جمهور العلماء من التابعين وغيرهم فإنهم قالوا: لا بأس بصوم يوم السبت.

فإن قيل: كيف ذكرت أبا حنيفة وصاحبيه في أهل هذه المقالة وقد قال "صاحب البدائع": ويكره صوم يوم السبت بانفراده؛ لأنه تشبه باليهود؟!.

قلت: الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة من غيره، ولم يقل ذلك، بل منع قول من يقول بكراهته، ولو كان الأمر كما ذكره لنبه عليه.

ويؤيد هذا أيضًا ما رواه البيهقي (2): من حديث ابن المبارك، نا عبد الله بن محمَّد بن عمر بن علي، عن أبيه، أن كريبًا أخبره:"أن ابن عباس رضي الله عنهما وناسًا من أصحاب رسول الله عليه السلام بعثوني إلى أم سلمة أسألها عن الأيام التي كان النبي عليه السلام أكثر لها صيامًا؛ فقالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالت: إن رسول الله عليه السلام أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: "إنهما يوما عيد المشركين وأنا أريد أن أخالفهم".

ص: وكان من الحجة لهم في ذلك: أنه قد جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم.

(1) تقدم.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 303 رقم 8280).

ص: 434

وقد ذكرنا ذلك بأسانيده فيما تقدم من كتابنا هذا، فاليوم الذي بعده هو يوم السبت، ففي هذه الآثار المروية إباحة صوم يوم السبت تطوعا، وهي أشهر وأظهر في أيدي العلماء من هذا الحديث الشاذ الذي قد خالفها.

ش: أي، وكان من الدليل والبرهان للآخرين -وهم أهل المقالة الثانية-: أنه قد جاء الحديث

إلى آخره، وهو ظاهر.

قوله: "وهي أشهر" أي: أحاديث النهي عن صيام يوم الجمعة إلا أن يصام قبله يوم أو بعده يوم أشهر وأظهر عند أهل العلم من هذا الحديث الشاذ، وأراد به حديث الصماء، والشاذ هو الحديث الذي يرويه الثقة مخالفا لما يرويه الناس.

وروى يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس.

وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي: الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به.

وأشار الطحاوي رحمه الله بذلك إلى أن هذا الحديث وإن كان صحيح الإسناد ولكنه لا يعمل به لشذوذه، ومخالفته معظم الآثار الثابتة بخلافه، ولهذا لم يعده الزهري حديثا حين قيل له: حديث الصماء يدل على كراهة صوم يوم السبت، على ما يجيء عن قريب إن شاء الله تعالى.

وقال أبو داود: هذا الحديث منسوخ. وقال النسائي: هذا حديث مضطرب.

قلت: اضطرابه ظاهر؛ لأنه روي تارة عن عبد الله بن بسر عن النبي عليه السلام وتارة عن عبد الله بن بسر عن أخته، وتارة عن عبد الله بن بسر عن عمته، وتارة عن عبد الله بن بسر عن خالته.

ص: 435

وقال البيهقي: ورواه الزبيدي، عن فضيل بن فضالة، عن عبد الله بن بسر عن خالته الصماء.

ص: وقد أذن رسول الله عليه السلام في صوم يوم عاشوراء وحض عليه، ولم يقل: إن كان يوم السبت فلا تصوموه، ففي ذلك دليل على دخول كل الأيام فيه.

ش: هذه حجة أخرى لأهل المقالة الثانية، وهي: أن النبي عليه السلام أمر بصوم يوم عاشوراء وحرض الناس عليه ورغبهم فيه، ولم يقل قط: فإن كان يوم عاشوراء يوم السبت فلا تصوموه، فحيئذ تدخل فيه سائر الأيام، والسبت منها.

ص: وقد قال رسول الله عليه السلام: "أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، وكان يصوم يوما ويفطر يوما".

وسندكر ذلك بإسناده في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى، ففي ذلك أيضًا التسوية بين يوم السبت وبين سائر الأيام.

ش: هذه حجة أخرى لهم، وهي أن النبي عليه السلام قال:"أحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، وكان يصوم يوما ويفطر يوما" فإنه عليه السلام قد رغب فيه، ويوم السبت لا شك داخل فيه، ولو كان صوم يوم السبت مكروهًا لاستثناه منه.

ص: وقد أمر رسول الله عليه السلام أيضًا بصيام أيام البيض، وروي عنه في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن محمَّد بن عبد الرحمن وحكيم، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر:"أن النبي عليه السلام قال لرجل أمره بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان، قال: ثنا أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، عن أبيه قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا أن نصوم ليالي البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وقال: هي كهيئة الدهر".

وقد يدخل السبت في هذه كما يدخل فيها غيره من سائر الأيام، ففيها أيضًا إباحة صوم يوم السبت تطوعًا.

ص: 436

ش: هذه حجة أخرى، وهي أيضًا ظاهره، وأخرج فيه عن اثنين من الصحابة: أحدهما: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري.

والآخر: قتادة بن ملحان القيسي رضي الله عنهما.

أما حديث أبي ذر فأخرجه بإسناد صحيح، وحكيم بن جبير ذكر متابعا فلا يضر الصحة، وعن يحيى: ليس بشيء، وعن إبراهيم بن يعقوب السعدي: كذاب.

وقال الدارقطني: متروك.

وسفيان هو ابن عيينة.

ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني، روى له الجماعة.

وموسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني، روى له الجماعة.

وابن الحوتكية هو يزيد بن الحوتكية التميمي، ولم أر فيه كلاما لأحد.

روى له النسائي وأخرج هذا الحديث (1): أنا محمَّد بن المثنى، قال: نا سفيان، قال: نا رجلان محمَّد وحكيم، عن موسى بن طلحة، عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر:"أن النبي عليه السلام أمر رجلًا بصيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة".

وأما حديث قتادة: فأخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال الباهلي روى له الجماعة، عن همام بن يحيى روى له الجماعة، عن أنس بن سيرين الأنصاري روى له الجماعة، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي وثقه ابن حبان، عن أبيه قتادة بن ملحان.

وأخرجه ابن ماجه (2) نحوه: ثنا إسحاق بن منصور، أنا حبان بن هلال: نا همام، عن أنس بن سيرين، حدثني عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، عن أبيه، عن النبي عليه السلام نحوه.

(1)"السنن الكبرى"(2/ 137 رقم 2733).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 544 رقم 1707).

ص: 437

واعلم أن عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسي، هكذا هو في الأشهر، ويقال: عبد الملك بن قدامة بن ملحان، ويقال: عبد الملك بن منهال، ويقال: عبد الملك ابن أبي المنهال، ويقال: ابن ملحان غير مسمى، ويقال: عبد الملك -غير منسوب- عن أبيه، عن النبي عليه السلام.

أما الأول: ففي إحدى روايات النسائي (1): قال: أنا محمَّد بن معمر، قال: نا حبان، قال: نا همام، قال: نا أنس بن سيرين، قال: حدثني عبد الملك بن قدامة بن ملحان، عن أبيه قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا بصوم أيام الليالي الغر البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة".

وأما الثاني: ففي إحدى روايات البيهقى (2) أخرجه من حديث رَوْح، عن شعبة، عن أنس، سمع عبد الملك بن المنهال، عن أبيه قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمر بصيام أيام البيض، ويقول: هي صيام الدهر" كذا قال روح: عبد الملك بن منهال، قال ابن معين: صوابه ابن قتادة بن ملحان.

وأما الثالث: ففي إحدى روايات النسائي (3): أيضًا: أنا محمَّد بن حاتم، قال: أنا حبَّان، قال: أنا عبد الله، عن شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: سمعت عبد الملك بن أبي المنهال يحدث، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام أمرهم بصيام ثلاثة أيام البيض، قال: "هي صوم الشهر".

وأما الرابع: ففي رواية أبي داود (4): ثنا محمَّد بن كثير، قال: أنا همام، عن أنس أخي محمَّد، عن ابن ملحان القيسي، عن أبيه قال:"كان رسول الله عليه السلام يأمرنا أن نصوم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، قال: وقال: هو كهيئة الدهر".

(1)"السنن الكبرى"(2/ 138 رقم 2739).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 294 رقم 8226).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 138 رقم 2738).

(4)

"سنن أبي داود"(2/ 328 رقم 2449).

ص: 438

وأما الخامس: ففي إحدى روايات النسائي (1) أيضًا: أنا محمَّد بن عبد الأعلى، قال: نا خالد، عن شعبة، قال: أنبأني أنس بن سيرين، عن رجل يقال له: عبد الملك، يحدث عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام كان يأمر بهذه الأيام الثلاث البيض، ويقول: هي صيام الشهر" انتهى.

وأما قتادة بن ملحان فقال البخاري في "تاريخه": الصواب هو قتادة بن ملحان، وقول شعبة: عبد الملك بن منهال وهم.

وقال ابن الأثير: روى شعبة، عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن منهال أو ملحان، والصواب: ابن ملحان.

وقال أيضًا: ملحان بن شبل البكري، وقيل: القيسي، وهو والد عبد الملك بن ملحان ويقال: إنه والد قتادة بن ملحان القيسي مختلفون فيه، وله حديث واحد، ثم روى هذا الحديث المذكور، ثم قال: اختلف فيه على شعبة وعلى أنس بن سيرين أيضًا فقال أبو الوليد الطيالسي ومسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب: عن شعبة، عن عبد الملك بن ملحان، عن أبيه. إلا أن أبا الوليد قال: عبد الرحمن بن ملحان وهو غلط، وقال يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أنس، عن عبد الملك بن منهال، عن أبيه.

قال ابن معين: وهو خطأ، والصواب عبد الملك بن ملحان.

ورواه همام، عن أنس، عن عبد الملك بن قتادة القيسي، عن أبيه، عن النبي عليه السلام مثل حديث شعبة، وهو خطأ، والصواب رواية شعبة؛ فإن همامًا ليس ممن يعارض به شعبة، والله أعلم.

قوله: "ثلاث عشرة

إلى آخره" وأراد بها الثالث عشر من الشهر والرابع عشر والخامس عشر، وهي أيام البيض أي: أيام ليالي البيض؛ وسميت بيضًا؛ لأن القمر يطلع فيها من أولها إلى آخرها، ويقال: إن آدم عليه السلام لما ترك الأمر وأكل

(1)"السنن الكبرى"(2/ 138 رقم 2737).

ص: 439

من الشجرة أوحي إليه: يا آدم أن اهبط من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني، فهبط إلى الأرض مسودًّا جميع بدنه إلا ظفره، فإنه ترك على هذه الحالة ليتذكر بذلك أول حاله، ولذلك إذا نظر الإنسان إلى ظفره نسي ضحكه، فلما اسود جميع جسده، بكت الملائكة وقالوا: يا ربنا خلقته بيدك، وأسجدته ملائكتك وزوجته حواء أمتك، وأسكنته جنتك، فبذنب واحد حولت بياضه سوادًا؟! فأوحى الله إليه: يا آدم صم يوم الثالث عشر فصامه فأصبح وثلثه أبيض، ثم أوحي إليه: صم يوم الرابع عشر فصامه فأصبح وثلثاه أبيض، ثم أوحي إليه: صم يوم الخامس عشر فصامه وأصبح وكله أبيض، فسميت هذه الأيام: أيام البيض.

قوله: "كان رسول الله عليه السلام يأمرنا" أراد به أمر ندب واستحباب وترغيب.

قوله: "ثلاث عشرة" بالنصب بيان عن قوله: ليالي البيض، أو بدل منه.

قوله: "وأربع عشرة وخمس عشرة" عطف عليه.

قوله: "وقال: هي" أي هذه الثلاثة الأيام "كهيئة صيام الدهر" في الأجر عند الله تعالى، وفي رواية النسائي:"هي صوم الشهر" لأن الحسنة بعشر أمثالها.

ثم اعلم أن الترمذي لما أخرج حديث أبي ذر في صوم أيام البيض قال (1): وفي الباب عن أبي قتادة وعبد الله بن عمرو، وقرة بن إياس المزني، وعبد الله بن مسعود وأبي عقرب وابن عباس وعائشة وقتادة بن ملحان وعثمان بن أبي العاص وجرير رضي الله عنهم.

أما حديث أبي ذر وقتادة بن ملحان فقد أخرجها الطحاوى.

وأما حديث أبي قتادة فأخرجه مسلم (2) مطولًا وقد ذكرناه عند صوم يوم عرفة.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 134 رقم 761).

(2)

تقدم.

ص: 440

وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري (1): ثنا آدم، نا شعبة، ثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس المكي -كان شاعرًا وكان لا يتهم في حديثه- قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي النبي عليه السلام: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل؟ فقلت: نعم، قال: إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين وتفهت له النفس، لا صام من صام الدهر، صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله

" الحديث.

وأما حديث قرة بن إياس فأخرجه الدارمي في "سننه"(2): أنا أبو الوليد، نا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"صيام البيض صيام الدهر وإفطاره".

وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الأربعة (3): من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود:"أن رسول الله عليه السلام كان يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر".

وحسنه الترمذى.

و"الغرة": هي البياض تطلق على الأيام البيض أيضًا.

وأما حديث أبي عقرب فأخرجه النسائي (4): أنا عمرو بن علي، قال: حدثني سيف بن عبد الله من خيار الخلق، قال: نا الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل بن أبي عقرب، عن أبيه قال:"سألت رسول الله عليه السلام عن الصوم فقال: "صم يومًا من الشهر قلت: يا رسول الله، زدني، قال: يقول: يا رسول الله زدني زدني! صم يومين

(1)"صحيح البخاري"(2/ 698 رقم 1878).

(2)

"سنن الدارمي"(2/ 31 رقم 1747).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 118 رقم 742)، و"سنن أبي داود"(2/ 328 رقم 2450)، و "المجتبى"(4/ 204 رقم 2368) و"سنن ابن ماجه"(1/ 549 رقم 1725) مختصرًا ذكر الشاهد في هذا الباب.

(4)

"السنن الكبرى"(2/ 138 رقم 2740).

ص: 441

من كل شهر، قلت: يا رسول الله زدني زدني إني أجدني قويا، فسكت رسول الله عليه السلام حتى ظننت أنه ليزيدني قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر".

وأما حديث ابن عباس فأخرجه النسائي (1) أيضًا: أن القاسم بن زكرياء، قال: نا عبيد الله، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر".

وأما حديث عائشة فأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا غندر، عن شعبة، عن يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قلت: من أيِّه؟ قالت: لم يكن يبالي من أيِّه كان".

وأما حديث عثمان بن أبي العاص فأخرجه النسائي (3): أنا قتيبة قال: ثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند، أن مطرفًا حدثه، أن عثمان بن أبي العاص، قال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول: "صيام حسن، ثلاثة أيام من الشهر".

وأما حديث جرير فأخرجه النسائي (4) أيضًا: أنا محمَّد بن الحسن، قال: نا عبيد الله، عن زيد بن أبي أنيسة، عن ابن إسحاق، عن جرير بن عبد الله، عن النبي عليه السلام قال:"صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض صبيحة ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة".

ثم اعلم أن بعض هذه الأحاديث تذكر صوم ثلاثة أيام من غير تعيين أيها هي ثلاثة أيام البيض، أو ثلاثة أيام مطلقًا من أيام الشهر؟ ولكن قالوا: إن الثلاثة أيام

(1)"السنن الكبرى"(2/ 118 رقم 2654).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 545 رقم 1709).

(3)

"السنن الكبرى"(2/ 134 رقم 2719).

(4)

"المجتبى"(4/ 221 رقم 2420).

ص: 442

من كل شهر هي الأيام البيض، ألا ترى كيف بوب البخاري (1) وقال: باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة. ثم قال: ثنا أبو معمر نا عبد الوارث، ثنا أبو التياح قال: حدثني أبو عثمان، عن أبي هريرة قال:"أوصاني خليلي عليه السلام بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام". انتهى.

فإن البخاري تأول الحديث بما ذكرنا، وترجم على الأيام البيض بذلك.

قال القاضي: ويتعين صيام هذه الأيام البيض، قاله جماعة من الصحابة والتابعين منهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو ذر رضي الله عنهم.

واختار آخرون الثلاثة من أول الشهر منهم الحسن.

واختار آخرون صيام السبت والأحد والإثنين من شهر، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس، منهم: عائشة رضي الله عنها.

واختار آخرون الإثنين والخميس والخميس الآخر الذي يليه.

واختار بعضهم صيام أول يوم من الشهر ويوم العاشر ويوم العشرين، وبه قال أبو الدرداء رضي الله عنه وروي أنه كان صيام مالك، واختاره ابن سفيان، ووري عنه كراهة تعمد صيام الأيام البيض، وقال: ما هذا ببلدنا. وقال ابن سفيان: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر، ويوم أحد عشر، ويوم أحد وعشرون.

ص: ولقد أنكر الزهري: حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت ولم يعده من حديث أهل العلم، بعد معرفته به.

حدثنا محمَّد بن حميد بن هشام الرعيني، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثنا الليث، قال:"سئل الزهري عن صوم يوم السبت، فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبي عليه السلام في كراهته؟ فقال: ذلك حديث حمصي".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 699 رقم 1880).

ص: 443

فلم يعده الزهري حديثا يقال به، وضعفه.

وقد يجوز عندنا -والله أعلم وإن كان ثابتًا- أن يكون إنما نهى عن صومه لئلا يعظم بذلك فيمسك عن الطعام والشراب والجماع فيه كما يفعل اليهود.

فأما من صامه لا لإرادته تعظيمه ولا لما يريد اليهود بتركها السعي فيه؛ فإن ذلك غير مكروه.

ش: لما ذكر أن هذا الحديث شاذ يخالف الآثار الشهورة الدالة على عدم كراهة صوم يوم السبت، أيَّد كلامه بما روي عن محمَّد بن مسلم الزهري من تضعيفه إياه، فإن قوله:"ذلك حديث حمصي" إشارة إلى تضعيفه؛ فإن الراوي عن عبد الله بن بسر خالد بن معدان وهو حمصي، والراوي عنه ثور بن يزيد وهو أيضًا حمصي.

وقال أبو داود (1) أيضًا: ثنا عبد الملك بن شعيب، قال: ثنا ابن وهب، قال: سمعت الليث يحدث عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام يوم السبت، قال ابن شهاب: هذا حديث حمصي.

وقال (2): ثنا محمَّد بن الصباح، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، قال: ما زلت له كاتمًا ثم رأيته قد انتشر، يعني: حديث عبد الله بن بسر هذا في صوم يوم السبت.

وقال أبو داود: قال مالك بن أنس: هذا كذب.

قوله: "وقد يجوز عندنا- والله أعلم

إلى آخره" إشارة إلى، جواب آخر عن الحديث المذكور، بعد تسليمه صحته بالنظر إلى صحة سنده بيانه أن يقال: سلمنا أن هذا الحديث صحيح، ولكن لا نسلم أنه يدل على كراهة صوم يوم السبت مطلقًا، بل هو محمول على أن يصومه قاصدًا به تعظيمه بإمساكه عن الطعام والشراب والجماع كما يفعله اليهود، وأن يريد به ما يريد به اليهود بتركهم السعي

(1)"سنن أبي داود"(2/ 321 رقم 2423).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 321 رقم 2424).

ص: 444

والحركة فيه، فإن ذلك مكروه للتشبيه بهم، وأما إذا صامه لا لأجل ما ذكرنا من ذلك؛ فإن ذلك مباح مأجور فيه.

والدليل عليه ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله عليه السلام أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول: "إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم".

وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(1).

ص: فإن قال قائل: فقد رخص في صيام أيام بعينها مقصودة بالصوم وهى أيام البيض، فهذا دليل أن لا بأس بالقصد بالصوم إلى يوم بعينه.

قيل له: إنه قد قيل: إن أيام البيض إنما أمر بصومها لأن الكسوف يكون فيها ولا يكون في غيرها، وقد أمر بالتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والعتاق في غير ذلك من أعمال البر عند الكسوف، فأمر بصيام هذه الأيام ليكون ذلك برًّا مفعولًا يعقب الكسوف، فذلك صيام غير مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، ولكنه صيام مقصود به في وقت شكرًا لله عز وجل لعارض كان فيه فلا بأس بذلك، وكذلك أيضًا يوم الجمعة إذا صامه رجل شكرًا لعارض من كسوف شمس أو قمر، أو لشكر الله عز وجل، فلا بأس بذلك وإن لم يصم قبله ولا بعده يومًا.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم: الأصل أن لا يقصد الرجل إلى صوم يوم بعينه من سائر أيام المشهور حتى إنه لا يقصد إلى صوم يوم عاشوراء أو يوم الجمعة لأعيانهما كما مر فيما مضى، فإذا كان كذلك ينبغي أن يكره الصوم في أيام البيض، ومع هذا فقد رخص في صومها بعينها مقصودة بالصوم فيها، فهذا ينافي ما ذكرتم من الأصل، ويقتضي أن لا يكره القصد بالصوم إلى يوم بعينه، أي يوم كان.

وتقرير الجواب أن يقال: إن السبب في ترخيص صيام أيام البيض كان لأجل كون كسوف الشمس فيها؛ لأنه لا يكون إلا ليلة البدر وهو الرابع عشر من الشهر

(1)"المستدرك"(1/ 602 رقم 1593).

ص: 445

ولا يكون في غيرها على ما اقتضته الحكمة الإلهية، وقد كان النبي عليه السلام أمر بالتقرب إلي، الله من أعمال البر نحو الصلاة والعتاق وغيرهما عند الكسوف.

وقد أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه نهى أن النبي عليه السلام قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة".

وروي في حديث عائشة: "فإذا رأيتموهما فكبروا وادعوا الله وتصدقوا".

رواه البيهقي (3) وغيره (4).

وفي رواية (5): "فادعوا وصلوا وأعتقوا".

وفي رواية البخاري (6) من حديث أسماء: "كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة".

ومن جملة أعمال البر الصوم، فأمر به في هذه الأيام ليكون ذلك برًّا مفعولا عقيب الكسوف، وهذا صيام مقصود به في وقت شكرًا لله تعالى؛ لأجل ذلك العارض، وهو الكسوف، وليس بصوم مقصود به إلى يوم بعينه في نفسه، فإذا كان كذلك فلا يكره، وكذلك الكلام في صوم يوم الجمعة وحده إن كان شكرًا لله تعالى لأجل عارض من العوارض فلا بأس بذلك منفردًا، وكل يوم ورد فيه النهي عن صومه فأمره على هذا، والله أعلم.

(1)"صحيح البخاري"(3/ 1171 رقم 3032).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 628 رقم 911).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 340 رقم 6157).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 217 رقم 8303).

(5)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 340 رقم 6157).

(6)

"صحيح البخاري"(1/ 359 رقم 1006).

ص: 446