الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الصائم يقيء
ش: أي هذا باب في بيان أحكام الصائم الذي يَسْتفرغ.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا أبي، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان بن طلحة، عن أبي الدرداء:"أن النبي عليه السلام قاء فأفطر، قال: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقلت: إن أبا الدرداء أخبرني أن رسول الله عليه السلام قاء فأفطر، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن معدان بن طلحة، عن أبي الدرداء
…
ثم ذكر مثله.
قال ابن أبي داود: قال أبو معمر: هكذا قال عبد الوارث: عبد الله بن عمرو.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو الجودي، عن بَلْج -رجل من مهرة- عن أبي شيبة المَهَري، قال: قلت لثوبان: حَدِّثْنَا عن رسول الله عليه السلام، قال:"رأيت رسول الله عليه السلام قاء فأفطر".
ش: هذه ثلاثة أوجه:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث التميمي العنبري أبي سهل البصري روى له الجماعة، عن أبيه عبد الوارث بن سعيد أبي عبيدة البصري روى له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم البصري روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي روى له الجماعة، عن يعيش بن الوليد بن هشام بن معاوية الأموي الدمشقي وثقه العجلي والنسائي وابن حبان، وروى له من الأربعة غير ابن ماجه.
عن أبيه الوليد بن هشام -عامل عمر بن عبد العزيز على قنسرين- وثقه هؤلاء، وروى له الجماعة سوى البخاري.
عن معدان بن طلحة -ويقال: ابن أبي طلحة- اليعمري الكناني الشامي، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي الدرداء عويمر بن مالك رضي الله عنه.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الصمد، نا أبي، عن الحسين
…
إلى آخره نحوه سواء.
قوله: "فلقيت ثوبان" هو مولى النبي عليه السلام، والسائل عنه هو معدان بن طلحة.
قوله: "وَضوءه" بفتح الواو، وهو الماء الذي يُتَوضأ به.
الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الوارث بن سعيد
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا الحسين، عن يحيى، قال: نا عبد الله بن عمرو الأوزاعي -قال أبو داود: صوابه عبد الرحمن- عن يعيش بن الوليد بن هشام، أن أباه حدثه، قال: حدثني معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء حدثه:"أن رسول الله عليه السلام قاء فأفطر، قال: فلقيت ثوبان مولى رسول الله عليه السلام في مسجد دمشق، فقلت: إن أبا الدرداء حدثني أن رسول الله عليه السلام قاء فأفطر، قال: صدق، وأنا صببت له وَضُوءه".
قوله: "قال ابن أبي داود" أي قال: إبراهيم بن أبي داود: "قال أبو معمر"، وهو شيخه "هكذا قال عبد الوارث في روايته عبد الله بن عمرو الأوزاعي"، وقد ذكرنا أن أبا داود قال:"صوابه: عبد الرحمن" يعني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
(1)"مسند أحمد"(6/ 443 رقم 7542).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 310 رقم 2381).
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن أبي الجودي- واسمه الحارث بن عمير الأسدي الشامي، نزيل واسط، وثقه يحيى، وقال أبو حاتم: صالح. روى له أبو داود.
عن بَلْج -بالباء الموحدة المفتوحة وسكون اللام وبالجيم- ابن عبد الله المهري، ذكره ابن حبان في الثقات.
عن أبي شيبة المهري وثقه ابن حبان، والمَهَري نسبة إلى مَهَرة بن حَيْدان بن الحاذ بن قضاعة، قبيلة كبيرة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن أبي الجودي، عن بَلْج المهري، عن أبي شيبة المهري قال: قيل لثوبان: حَدِّثْنا عن رسول الله عليه السلام، قال:"رأيت رسول الله عليه السلام قاء فأفطر".
وأخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(2) من حديث شعبة نحوه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن الصائم إذا قاء فقد أفطر، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء والأوزاعي وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: إن الصائم إذا قاء فقد أفطر. واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث.
ص: وخالفهم في ذلك أخرون، فقالوا: إن استقاء أفطر، وإن ذرعه القيء لم يفطر.
ش: أي: خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: القاسم بن محمَّد والحسن البصري وابن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير والشعبي وعلقمة والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: إن الصائم إذا استقاء عامدًا أفطر، وإذا ذرعه القيء -أي: سبقه وغلبه- لم يفطر.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 298 رقم 9200).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 220 رقم 7820).
ويروى ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود وعبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم.
ص: وقالوا: قد يجوز أن يكون قوله: "فأفطر" أيْ: قد ضعف فأفطر، ويجوز هذا في اللغة.
ش: أي: قال هؤلاء الآخرون في جواب الحديث المذكور: يجوز أن يكون هذا الحديث مُأَوَّلًا، ويكون تقديره: قاء؛ فضعف بسبب القيء، فأفطر لذلك، ويجوز هذا التقدير في اللغة، يضمر مثل ذلك لعلم السامع به، كما في حديث فضالة:"ولكني قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت".
وليس فيه أن القيء كان مفطرًا.
وقال الترمذي: معنى هذا الحديث: أن النبي عليه السلام أصبح صائمًا متطوعًا فقاء فضعف فأفطر لذلك، هكذا روي في بعض الحديث مفسرًا.
وها هنا جواب آخر، وهو ما ذكره البيهقي وقال: هذا الحديث يختلف في إسناده، فإن صح فمحمول على العامد، وكأنه عليه السلام كان متطوعًا بصومه.
وقال أبو عمر: الحديث في "قاء فأفطر" ليس بالقوي.
ص: واحتج الأولون لقولهم أيضًا بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: ثنا يزيد بن أبي حبيب، قال: ثنا أبو مرزوق، عن حنش، عن فضالة بن عبيد قال:"دعى رسول الله عليه السلام بشراب فقال له بعضنا: ألم تصبح صائمًا يا رسول الله؟ قال: بلى، ولكني قئت".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح. (ح)
وحدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج. (ح)
وحدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا يحيى بن حسان، قالوا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن فضالة، عن رسول الله عليه السلام مثله.
قيل لهم: هذا أيضًا مثل الأول يجوز: ولكني قئت فضعفت عن الصيام فأفطرت.
وليس في هذين الحديثين دليل على أن القيء كان مفطرًا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك.
ش: أي: احتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما روي عن فضالة بن عبيد، وأجاب عنه بقوله: "فقيل لهم
…
" إلى آخره، وهذا ظاهر.
وأخرج حديث فضالة من أربع طرق:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن عبد الله بن لهيعة فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري، عن أبي مرزوق التجيبي -واسمه حبيب بن الهيد، وقيل: زمعة بن سليم- قال العجلي: مصري تابعي ثقة. وروى له أبو داود وابن ماجه.
عن حنش بن عبد الله الصنعاني -صنعاء دمشق- روى له الجماعة غير البخاري، عن فضالة بن عبيد الأوسي الأنصاري الصحابي رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش بن عبد الله، عن فضالة بن عبيد قال:"أصبح رسول الله عليه السلام صائمًا فقاء فأفطر. فسئل عن ذلك فقال: إني قئت".
الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب
…
إلى آخره.
وهو طريق صحيح.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(4/ 220 رقم 7822).
وأخرجه الطبراني (1): ثنا أبو مسلم الكشي، ثنا أبو الوليد الطيالسي وابن عائشة، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن فضالة بن عبيد:"أن رسول الله عليه السلام قاء فأفطر" انتهى.
وهذا قد أسقط في روايته حنشًا بين أبي مرزوق وبين فضالة كما ترى، وقال الذهبي: كذلك رواه ابن ماجه من طريق ابن إسحاق، عن يزيد، فأسقط منه حنشًا، وأثبته مفضل بن فضالة ويحيى بن أيوب وابن لهيعة.
قلت: وقد أخرجه الدارقطني (2): من طريق المفضل بن فضالة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، عن حنش، عن فضالة بن عبيد نحوه.
الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق.
الرابع: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق
…
إلى آخره.
ص: وقد روي في حكم الصائم إذا قاء أو استقاء عن النبي عليه السلام مفسرًا: ما حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَن ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضى".
فبيَّن هذا الحديث كيف حكم الصائم إذا ذرعه القيء أو استقاء، وأولى الأشياء بنا أن نحمل الآثار على ما فيه اتفاقها وتصحيحها لا على ما فيه تنافيها وتضادها، فيكون معنى الحديثين الأولين على ما وصفنا حتى لا يضاد معناهما معنى هذا الحديث. فهذا حكم هذا الباب من طريق تصحيح معاني الآثار.
(1)"المعجم الكبير"(18/ 316 رقم 817).
(2)
"سنن الدارقطني"(2/ 182 رقم 6).
ش: أشار بهذا إلى أن حديث أبي هريرة قد فسر فيه ما كان مجملًا في حديث ثوبان وفضالة بن عبيد؛ لأنه بيَّن فيه حكم الصائم إذا قاء كيف يكون، وإذا استقاء كيف يكون؟ فبيَّن أن القيء لا ينقض الصوم وليس عليه شيء، وأن الاستقاء ينقضه وعليه القضاء، فدل ذلك على أن معنى الحدثيين الأولين هو ما حملناه عليه.
وهذا هو أولى الأشياء أن تحمل الآثار على الاتفاق دون التضاد والاختلاف؛ لأن في هذا إعمال الآثار كلها على ما لا يخفى.
ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة بإسناد حسن: عن أحمد بن داود المكي، عن مسدد، عن عيسى بن يونس
…
إلى آخره.
وكلهم رجال الصحيح ما خلا أحمد.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا مسدد، قال: نا عيسى بن يونس
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه الترمذى (2): ثنا علي بن حجر، قال: أنا عيسى بن يونس
…
إلى آخره.
وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث هشام عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام إلا من حديث عيسى بن يونس. وقال محمَّد -يعني البخاري-: لا أراه محفوظًا.
قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام ولا يصح إسناده.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: ليس من ذا شيء، قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ.
وقال الذهبي: يريد رفعه.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 310 رقم 2380).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 98 رقم 720).
وقال البيهقي: سمعه حفص بن غياث، عن هشام، تفرد به هشام وبعض الحفاظ، ألا يراه محفوظًا.
وقال ابن بطال: تفرد به عيسى وهو ثقة إلا أن أهل الحديث أنكروه عليه، ووهم عندهم فيه.
وقال أبو علي الطوسي: هو حديث غريب.
وقال الدارقطني: رواته كلهم ثقات.
وقد رواه الحكم (1): من حديث حفص بن غياث متابعًا لعيسى عن هشام، وصححه فقال: ثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن أبي داود البرلسي، ثنا أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا حفص بن غياث، ثنا هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "إذا استقاء الصائم أفطر، وإذا ذرعه القيء لم يفطر".
تابعه عيسى بن يونس، عن هشام، أبنا أبو بكر بن إسحاق، أنا أبو المثنى، نا مسدد.
وثنا أبو الوليد الفقيه، نا الحسن بن سفيان وجعفر بن أحمد بن نصر، قالا: ثنا علي بن حجر، قال: نا عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض".
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قوله: "من ذرعه القيء" أي: سبقه وغلبه في الخروج، والمعنى أنه قاء من غير اختياره، وذكره في "الدستور" في باب فَعَلَ يَفْعَلُ بالفتح فيهما.
قوله: "ومن استقاء" أراد أنه طلب القيء وقاء باختياره.
(1)"المستدرك"(1/ 589 رقم 1556).
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه.
ثم القيء لا يشترط فيه أن يقدَّر بحد، بل هو لا ينقض الصوم سواء كان ملء الفم أو أقل منه؛ لأن ذرع القيء مما لا يمكن التحرز عنه، بل يأتيه على وجه لا يمكنه دفعه، فأشبه الناسي.
وأجمعوا على إبطال صوم مَن استقاء عامدًا، وسواء في ذلك ملء الفم وأقل منه؛ لإطلاق قوله:"ومن استقاء فليقض".
ص: وأما حكمه من طريق النظر: فإنا رأينا القيء حدثًا في قول بعض الناس، وغير حدث في قول الآخرين، ورأينا خروج الدم كذلك، وكُلّ قد أجمع أن الصائم إذا فَصَدَ عرقًا أنه لا يكون بذلك مفطرًا، وكذلك لو كانت به علة فانفجرت عليه دمًا من موضع من بدنه فكان خروج الدم من حيث ذكرنا من بدنه واستخراجه إياه سواءً فيما ذكرنا، وكذلك هما في الطهارة، وكان خروج القيء من غير استخراج من صاحبه إياه لا ينقض الصوم، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون خروجه باستخراج صاحبه إياه كذلك لا ينقص الصوم، فلما كان القيء لا يفطره كان ما ذرعه من القيء أحرى أن يكون كذلك، فهذا حكم هذا الباب أيضًا من طريق النظر، ولكن اتباع ما روى عن رسول الله عليه السلام أولى.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعامة العلماء رحمهم الله.
ش: أي: وأما حكم هذا الباب من طريق القياس، تقرير وجه النظر: أن القيء حدث في قول بعض الناس وهم: أبو حنيفة وأصحابه، وغير حدث في قول الآخرين وهم: الشافعي ومالك وأحمد.
وكذلك خروج الدم من بدن المتوضئ على هذا الخلاف، وكلهم قد أجمعوا أن الصائم إذا خرج من بدنه دمًا أنه لا يفطر بذلك، وكذلك لو كانت ببدنه جراحة أو قرحة فانفجرت عليه وخرج منها دم لا ينقض صومه، فاستوى فيه الخروج بنفسه والاستخراج بعلاجه؛ فالنظر على ذلك ينبغي أن يكون حكم القيء كذلك؛ لأن
خروجه لا ينقض فكذلك استخراجه ينبغي أن لا ينقض، ولكن تركنا القياس في ذلك واتبعنا الحديث.
وقال "صاحب البدائع": إن الأصل أن لا يفسد الصوم بالقيء سواء ذرعه أو تقيّأ؛ لأن فساد الصوم متعلق بالدخول شرعًا، قال النبي عليه السلام:"الفطر مما يدخل والوضوء مما يخرج"(1).
ولكن الفساد بالاستقاء قد عرفناه بنص آخر، وهو قوله عليه السلام:"ومن استقاء فعليه القضاء". فبقي الحكم في الذرع على الأصل. انتهى.
قلت: قال البخاري: قال ابن عباس وعكرمة: "الفطر مما دخل وليس مما خرج".
وقد أسند ذلك ابن أبي "شيبة"(2) قال: ثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في الحجامة للصائم فقال:"الفطر مما يدخل وليس مما يخرج".
وثنا هشيم، عن حصين، عن عكرمة به.
ص: وقد روي ذلك عن جماعة من المتقدمين:
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك وصخر بن جويرة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال:"من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا القعبي، قال: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر مثله.
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير"(1/ 117 - 118) وقال: أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس، وفي إسناده الفضيل بن المختار وهو ضعيف جدًّا، وفيه شعبة مولى ابن عباس وهو ضعيف. ثم ذكر طرقه كلها وضعفها، فراجعه. وسيأتي الكلام عليه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 308 رقم 9319).
حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد -يعني ابن سلمة- عن حماد، عن إبراهيم مثله.
حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حميد، عن الحسن مثله.
حدثنا محمَّد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حبان السلمي، عن القاسم بن محمَّد مثله.
ش: أي: قد روي ما ذكرنا -من أن القيء لا يفطر، وأن الاستقاء يفطر- عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وأخرج في ذلك عن عبد الله بن عمر من طريقين صحيحين:
الأول: عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك بن أنس وصخر بن جويرية البصري، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه مالك (1) في "موطإه".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي شيخ البخاري، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "المعرفة"(2): أنا أبو بكر وأبو زكرياء وأبو سعيد، قالوا: أنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال:"من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومَن ذرعه القيء فليس عليه القضاء".
وأخرج من التابعين عن إبراهيم النخعي والحسن البصري والقاسم بن محمَّد.
أما أثر إبراهيم فأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، عن إبراهيم.
(1)"الموطأ"(1/ 304 رقم 673).
(2)
"معرفة السنن والآثار"(3/ 369 رقم 2475).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا غندر، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"إذا ذرعه القيء فلا إعادة عليه، وإن تهوع فعليه الإعادة".
وأما أثر الحسن البصري فأخرجه كذلك بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن الحسن.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا أزهر السمان، عن ابن عون، عن الحسن وابن سيرين، قالا:"إذا ذرع الصائم القيء لم يفطر، وإذا تقيَّأ أفطر".
وأما أثر القاسم بن محمَّد فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال، عن حماد بن سلمة، عن حِبَّان -بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة- ابن جَزء السلمي وثقه ابن حبان
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حبان السلمي، عن القاسم بن محمَّد قال:"الصائم إذا ذرعه القيء فليس عليه قضاء، وإن قاء متعمدًا فعليه القضاء".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 297 رقم 9192).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 297 رقم 9190).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 298 رقم 9193).