الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنه سعى في قتل سبط رسول الله تشفيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاما منه وأخذا بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة وخاله الوليد بن عتبة وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا تلك أحقاد بدرية وآثار جاهلية. وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير.
والطرف الثاني يظنون أنه كان رجلاً صالحًا صالحاً وإمامَ عَدْلٍ وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحمله بيده وبرك عليه وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيًّا .. وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضلال.
والقول الثالث: أنه كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يولد إلا في خلافة عثمان ولم يكن كافرا ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صحابيا ولا من أولياء الله الصالحين وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق، فرقة لعنته وفرقة أحبته وفرقة لا تسبه ولا تحبه وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين (1).
وفاة يزيد بن معاوية:
في أثناء حصار مكة جاءت الأخبار بوفاة يزيد بن معاوية رحمه الله والبيعة لابنه معاوية.
وكان ذلك لعشر خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وفاته بحوران وقيل حوارين من أرض الشام، قال عبد الرحمن بن أبي مذعور: حدثني
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (4/ 481 - 484) والخلاصة في بيان رأي شيخ الإِسلام ابن تيمية في الرافضة للشيخ علي شحود (ص 148).
بعض أهل العلم قال: آخر ما تكلم به يزيد بن معاوية: اللهم لا تؤاخذني بما لم أحبه ولم أرده (1).
يزيد رحمه الله قد شوهت سيرته كما قلت تشويهًا عجيبًا، فنسبوا إليه شرب الخمر والفجور وترك الصلاة وتحميله أخطاء غيره دونما دليل، فيطعنون فيه وفي دينه، فقط لأجل أن يشوهوا ويثبتوا أنه لا يستحق الخلافة ولا شك أنه مفضول وأن الحسين وغيره من الصحابة كانوا أفضل منه بدرجات ولهم صحبة وسابقية في الإِسلام، لكن الطعن في دينه أمر غير ثابت، بدلالة ما رواه البلاذري أن محمَّد بن علي بن أبي طالب -المعروف بابن الحنفية- دخل يوماً على يزيد بن معاوية بدمشق ليودعه بعد أن قضى عنده فترة من الوقت، فقال له يزيد، وكان له مكرماً: يا أبا القاسم، إن كنت رأيت مني خُلُقاً تنكره نَزَعت عنه، وأتيت الذي تُشير به علي؟ فقال: والله لو رأيت منكراً ما وسعني إلاّ أن أنهاك عنه، وأخبرك بالحق لله فيه، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلاّ خيراً (2).
وهناك قول مشابه لابن عباس يثبت فيه أن يزيد براء من هذه الأقوال التي يقولونها فيه، وهو أنه لما قدم ابن عباس وافدا على معاوية رضي الله عنه، أمر معاويةُ ابنه يزيد أن يأتيه -أي أن يأتي ابن عباس-، فأتاه في منزله، فرحب به ابن عباس وحدثه، فلما خرج، قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس (3).
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] فأبو مخنف هذا وأمثاله من الرواة الكذابين الغالين ممن ينطبق عليهم لفظ الفاسق، فلا يقبل لهم قول خاصة
(1) قيد الشريد (ص 50).
(2)
أنساب الأشراف للبلاذري (5/ 17).
(3)
البداية والنهاية (8/ 228 - 229) وتاريخ دمشق (65/ 403 - 404).
إذا كان فيه طعن في أحد من المسلمين، فما بالك إذا كان هذا المطعون فيه وفي دينه خليفة المسلمين وإمامهم؟! فهذا من باب أولى أن يرد ويرفض.
أما ما لفقوه وألصقوه بيزيد من أن له يدا في قتل الحسين، وأنهم فسروا كلامه لعبيد الله بن زياد بأن يمنع الحسين من دخول الكوفة وأن يأتيه به، يعني اقتله وائتني برأسه، فهذا لم يقل به أحد وإنما هو من تلبيس الشيطان على الناس وإتباعهم للهوى والتصديق بكل ما يرويه الرافضة من روايات باطلة تقدح في يزيد ومعاوية، وأن أهل العراق والأعراب هم الذين خذلوا الحسين وقتلوه رضي الله عنه كما قال بذلك العلماء.
ويشهد لذلك ما رواه البخاري عن شعبة عن محمَّد بن أبي يعقوب سمعت عبد الرحمن بن أبي نعيم: أن رجلاً من أهل العراق سأل ابن عمر عن دم البعوض يصيب الثوب؟ فقال ابن عمر: انظر إلى هذا يسأل عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا"(1).
أما قول الإِمام الذهبي في سِيَرِه عن يزيد بأنه ممن لا نسبه ولا نحبه وأنه كان ناصبيا فظا غليظا جلفا متناول المسكر ويفعل المنكر (2).
هذا الإنصاف الذي يتمتع به الذهبي رحمه الله جعله لا يكتفي بسرد تاريخ المترجم له دون التعليق -غالبا- على ما يراه ضروريا لإنصافه؛ وذلك نحو الحكم على حكايته ألصقت به وهي غاضة من شأنه، أو ذكر مبرر لعمل ظنه الناس شيئًا وهو يحتمل أوجها أخرى، أو نقد لتصرفاته نقدا شرعيا، ثم يحاول أن يخرج بحكم عام على المترجم له مقرونا بالإنصاف.
(1) الفتح (10/ 440) وصحيح سنن الترمذي (3/ 224).
(2)
سير أعلام النبلاء (4/ 36).
وهذا العمل -أي الإنصاف في الحكم على الأشخاص- يعطي ضوءا كاشفا تستطيع أن تستفيد منه الصحوة المباركة، فهي صحوة توشك أن تعطي ثمارها لولا ما يكدرها من تصرفات بعض ذوي النظرات القاتمة الذين يرمون العلماء والدعاة بالفسق والابتداع والميل عن مذهب السلف لأي زلة، لا يعذرون أحدًا، ولا يتقون الله في ظن مرجوح.
وهناك بعض آخر لا يستطيع العيش إلا بالطعن على المخالف، ونسيان محاسنه وكتمانها، فهؤلاء وأمثالهم تكفل الإِمام الذهبي بالرد عليهم في سِفْرِهِ العظيم سير أعلام النبلاء.
وقلت أيضاً: هذا قول وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما عن تناوله المسكر وغيرها من الأمور، هذه الأوصاف لا تمثل الواقع الحقيقي لما كانت عليه حياة يزيد بن معاوية، فقد بذل معاوية الجهود في تنشئته وتأديبه، إضافة إلى ذلك نجد رواية في مصادرنا التاريخية تساعدنا في دحض مثل تلك الآراء. كما أسلفت رأي ابن الحنفية.
كما أنه شهد له بحسن السيرة والسلوك حينما أراده بعض أهل المدينة على خلعه والخروج معهم ضده، فيروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع -كان داعية لابن الزبير- مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمَّد ابن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب، فقال محمَّد ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة، قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك، قال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؛ ثم أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر، فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله
ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء
…
الخ (1).
وهذه شهادة ممن قاتل معاوية مع أبيه، فأحرى به أن يكون عدوا له كارها لملكه وولده-.
وهذا لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك؟ وقد شهد العدل بعدالته، روى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد (ت 147 هـ) قال الليث: توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا، فسماه الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال: إلا توفي يزيد (2).
وهذا الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله على تقشفه وعظم منزلته في الدين وورعه قد روى عن يزيد بن معاوية في كتابه "الزهد" أنه كان يقول في خطبته: إذا مرض أحدكم مرضا فأشفى ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمْه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه (3).
وهذا لا يتعارض مع ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية نقلا عن الإِمام أحمد عندما سئل أتكتب الحديث عن يزيد، قال: لا، ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل (4).
ورفض الإِمام أحمد رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ليس دليلاً على فسقه، وليس كل مجروح في رواية الحديث لا تقبل أقواله، فهناك عشرات من القضاة والفقهاء ردت أحاديثهم وهم حجة في باب الفقه (5).
(1) البداية والنهاية (8/ 233) وتاريخ الإِسلام، حوادث سنة (61 - 80 هـ)(ص 274) وحسن محمَّد الشيباني إسناده، في: مواقف المعارضة من خلافة يزيد بن معاوية (ص 384).
(2)
العواصم من القواصم (ص 232 - 234).
(3)
أنظر: العواصم من القواصم (ص 245).
(4)
سؤال في يزيد (ص 27).
(5)
في أصول تاريخ العرب الإِسلامي، محمَّد محمَّد حسن شراب (ص 152).
وهذا يدل على عظم منزلته -أي يزيد بن معاوية- عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يقتدى بقولهم ويستفاد من وعظهم، وما أدخله إلا في جملة الصحابة قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين، فأين هذا من ذكر المؤرخين له في شربه الخمر وارتكابه أنواع الفجور، ألا يستحيون؟! وإذا سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون وتقتدون بفضلاء الأمة، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة (1).
وقد اتفق أهل العلم والعقل والسنة والجماعة على أن يزيد كان ملكا من ملوك المسلمين له حسنات وله سيئات ولم يكن صحابيا ولم يكن كافرًا.
والمؤمن الحق يعرف جيدا أن الله تعالى غير سائله عما حصل بين علي ومعاوية أو بين يزيد والحسين أو الذين جاءوا من بعدهم إنما العبد يسئل عما قدم لنفسه.
وأخيرًا فالعبد المتقي الخفي لا ينشغل بذنوب العباد وينسى نفسه كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ في عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْلَ، أَوِ الْجِذْعَ في عَيْنِهِ"(2). قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْجِذْلُ: الْخَشَبَةُ الْعَالِيَةُ الْكَبِيرَةُ (3).
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان:
أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطئ، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولا وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه
(1) العواصم من القواصم (ص 246).
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان) رقم 5761)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (592).
(3)
انظر: السلسلة الصحيحة (1/ 74).
التألم لقتله، وذم من قتله ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد.
والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري (برقم (2924) عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا
…
مغفور له". وأول جيش غزى القسطنطينية كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا -أي عند شيخ الإِسلام- أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين.
فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب (1).
وأما جواز الدعاء للرجل وعليه
…
فإن موتى المسلمين يصلى عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية رحمه الله مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخاطبات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقلت: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحا فنحبه ونحن لا نسب أحدا من المسلمين بعينه فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالمًا؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون -كالحجاج بن يوسف وأمثاله- نقول كما قال الله في القرآن: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)} [هود: 18]، ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد،
(1) مجموع الفتاوى (4/ 297).