الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاب الرَّابِع
فِي قَوَاعِد الْإِمَامَة وَأَحْوَالهَا
أما قواعدها: فَهِيَ أَن السلطنة، والإمامة، والإمارة، أصل عَظِيم فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهَا خلَافَة الله - تَعَالَى - فِي أرضه، إِذا لم يُخَالف أَمر الله تَعَالَى، وَسنة رَسُوله، وَعدل فِي مَمْلَكَته، ورحم الرعايا.
أما إِذا لم يكن الْأَمِير متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات، يكون خَليفَة الشَّيْطَان. فَإِذا خص الله - تَعَالَى - أحدا من عباده بالإمارة من بَين النَّاس، وَأمر وَنهى بَين النَّاس وعظمه الله بقوله تَعَالَى:{أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} (النِّسَاء 59) .
وَنفذ أمره على أَمْوَال الْخَلَائق وأنفسهم، يجب على ذَلِك الْأَمِير بعد أَدَاء جَمِيع مَا فَرْضه الله - تَعَالَى - عَلَيْهِ، أَن يعدل بَين النَّاس، وَيحسن إِلَيْهِم، وَيرْفَع منار الشَّرِيعَة وَالدّين، ويتيقن أَن كل ظلم يحصل من يَد أجناده، أَو من يَد الرّعية الَّتِي تَحت يَد الْملك، يكون إثمه عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذا علم وَقدر على مَنعه وَلم يمْنَع.
وَأما إِذا عدل فِي الرّعية، وَحكم بِمُوجب الْكتاب وَالسّنة، يكون ثَوَاب عبَادَة يَوْم من طَاعَته مُقَابلا لثواب جَمِيع عبَادَة رَعيته، أَو أَزِيد مِنْهُ، كَمَا قَالَ عليه السلام:" عدل سَاعَة خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة ".
وَيكون من الَّذين يظلهم الله تَحت ظله.
اعْلَم أَن الْأَمِير لَا يُقيم مصَالح النَّاس، وَلَا يعدل فِي رَعيته، إِلَّا بعد رِعَايَة عشر قَوَاعِد:
الْقَاعِدَة الأولى: أَن كل قَضِيَّة تقع فِي النَّاس يقدر فِي ذَلِك الْقَضِيَّة أَن نَفسه رعية، والأمير غَيره، وكل شَيْء لَا يرضى لنَفسِهِ لَا يرضى لغيره.
الْقَاعِدَة الثَّانِيَة: أَلا يعد انْتِظَار أَرْبَاب الْحَوَائِج فِي بَابه حَقِيرًا، ويحترز عَن خطر ذَلِك، فَإِن الله تَعَالَى لَا يطْلب مِنْهُ تَأْخِير قَضَاء حوائج الْخلق.
حِكَايَة: يحْكى أَن أرسطاطاليس الْحَكِيم نصح يَوْمًا لذِي القرنين، وَقَالَ: يَا خَليفَة الله إِذا طلب أَرْبَاب الْحَوَائِج مِنْك حوائجهم، فَلَا تهاون فِي قَضَاء حوائجهم كي لَا تحرم عَن رَحْمَة الله ومغفرته.
الْقَاعِدَة الثَّالِثَة: أَلا يسْتَغْرق جَمِيع أوقاته بالشهوات النفسانية، ويجتهد أَن يكون أَكثر أوقاته مصروفا بتدبير الْملك، وتدبير الرّعية.
حِكَايَة: يحْكى أَن حكيما من حكماء اليونان نصح لملك، وَقَالَ: لَا تنم نوم الغافلين، كي لَا يحرم عَن بابك طالبو الْعدْل مِنْك، فيشكوا مِنْك إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى، فَحِينَئِذٍ يحصل لدولتك نقص، لِأَن دولة الْمُلُوك مثل الشَّمْس يَقع نوره فِي الصَّباح على جِدَار، وَفِي الْمسَاء على جِدَار آخر، وتزول الدولة بِأَدْنَى شَيْء من الْمعاصِي.
قَالَ الْحُكَمَاء: ثَمَانِيَة أَشْيَاء سم قَاتل، وَثَمَانِية أُخْرَى ترياقها: الدُّنْيَا سم قَاتل، والزهد فِيهَا ترياق.
وَالْمَال سم قَاتل، وَالزَّكَاة ترياق.
وَالْكَلَام كُله سم قَاتل، وَذكر الله تَعَالَى ترياق. والعمر كُله سم قَاتل، وَالطَّاعَة ترياق.
وَاللَّيْل وَالنَّهَار سم قَاتل، وَالصَّلَاة الْخمس فيهمَا ترياق.
وَجَمِيع السّنة سم قَاتل، وَشهر رَمَضَان فِيهَا ترياق.
وَالْمَعْصِيَة سم قَاتل، وَالتَّوْبَة النصوح ترياق.
وَملك الدُّنْيَا سم قَاتل، وَالْعدْل فِيهَا ترياق.
الْقَاعِدَة الرَّابِعَة: أَن يجْتَهد الْملك فِي كل أَمر أَن يحصله بالرفق والسهولة، لَا بالعنف، لِأَن النَّبِي عليه السلام دَعَا لِلْأُمَرَاءِ، وَقَالَ:" اللَّهُمَّ ارْفُقْ كل وَال رفق على رَعيته، واعنف على كل وَال عنف على رَعيته ".
حِكَايَة: يحْكى أَن هِشَام بن عبد الْملك كَانَ من أكَابِر الْخُلَفَاء، سَأَلَ عَن أبي حَازِم - وَهُوَ من مشاهير عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان وزهاده - وَقَالَ: كَيفَ التَّدْبِير عَن الْخَلَاص من الْمظْلمَة فِي الْإِمَارَة؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: إِن كنت تُرِيدُ الْخَلَاص عَن مظْلمَة الْإِمَارَة، يكن أخذك الْأَمْوَال من موَاضعهَا، وصرفك فِي محالها على وَجه الشَّرْع.
فَقَالَ هِشَام: من يقدر على ذَلِك؟ فَقَالَ أَبُو حَازِم: من لَا يُطيق على عَذَاب جَهَنَّم.
الْقَاعِدَة الْخَامِسَة: الِاجْتِهَاد بِقدر وَسعه وطاقته أَن يكون أَكثر الرّعية عَنهُ راضين بِحَسب مُوَافقَة الشَّرْع.
حِكَايَة: وعظ عَالم من الْفُضَلَاء ملكا، فَقَالَ: إِن ترد أَن يكون الله تَعَالَى عَنْك رَاضِيا، وَرَحمته عَلَيْك متواليا، فَلَا تَشْتُم وَلَا تضرب الْخَلَائق من غير وَجه، وَمن غير سَبَب شَرْعِي، وَليكن قصدك رِضَاء الله - تَعَالَى - بِسَبَب رِضَاء الْخلق عَنْك.
الْقَاعِدَة السَّادِسَة: هِيَ أَلا يطْلب الْملك رِضَاء أحد بمخالفة رِضَاء الله تَعَالَى، وَيقدم مواجب الشَّرْع على مُقْتَضى نَفسه، وَإِن حكم الْملك بِمُقْتَضى الشَّرْع عَليّ أحد من تعلقاته فعاداه بِسَبَب ذَلِك لَا يضر عداوته لذَلِك الْملك.
الْقَاعِدَة السَّابِعَة: هِيَ إِن طلب الرّعية من الْملك الحكم عدل الْملك، وَإِن طلبُوا الرَّحْمَة عَفا عَنْهُم، وَإِن وعد لَهُم لَا يُخَالف مَا وعد لَهُم. كَمَا قَالَ عليه السلام:" الْعَهْد من الدّين ". يَعْنِي إِيفَاء الْعَهْد من الدّين.
وَقَالَ عليه السلام: " إِن حسن الْعَهْد من الْإِيمَان، لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ ". وَقَالَ الْحُكَمَاء: الْأَمَانَة تجر الرزق، والخيانة تجر الْفقر، فلرب حافر حُفْرَة وَقع فِيهَا. الْقَاعِدَة الثَّامِنَة: هِيَ أَن يكون الْملك حَرِيصًا بملاقاة الْعلمَاء الْمُتَّقِينَ العاملين بعلمهم، وَيكون حَرِيصًا على سَماع وعظهم ونصيحتهم، ويجتنب عَن ملاقاة الْعلمَاء الَّذين يثنون على الْملك، وينصحون للْملك بموافقة مزاجه، ليعطي الْملك إيَّاهُم من مَتَاع الدُّنْيَا، سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمَتَاع حَلَالا أَو حَرَامًا. الْقَاعِدَة التَّاسِعَة: هِيَ أَن يجْتَهد الْملك أَن يتْرك الْمُفَاخَرَة، وَالْكبر، وَالْغَضَب، لِأَن الْغَضَب عَدو الْعقل، وَآفَة الْغَضَب كَثِيرَة لَا تحصى. الْقَاعِدَة الْعَاشِرَة: هِيَ أَلا يقنع الْملك أَلا يظلم بِنَفسِهِ وَحده، بل يجْتَهد أَلا يظلم أجناده، ونوابه، وَكتابه، وَمن هُوَ تَحت يَده - من عبيده وخدمه - على
رَعيته؛ لِأَن آفَة الظُّلم أسْرع لإِزَالَة دولة السلاطين. شعر: // (الرجز) //
(سهم دموع الباكيات فِي السحر
…
أنفذ فِي الْإِنْسَان من سهم الْوتر)
. وكما قَالَ عليه السلام: " ثَلَاثَة لَا ترد دعوتهم: الصَّائِم حِين يفْطر، وَالْإِمَام الْعَادِل، ودعوة الْمَظْلُوم يرفعها الله فَوق الْغَمَام، وَيفتح لَهَا أَبْوَاب السَّمَاء، وَيَقُول الرب: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي، لأنصرنك، وَلَو بعد حِين ". وَرُوِيَ عَن أبي ذَر رضي الله عنه أَنه قَالَ: " قلت: يَا رَسُول الله، مَا كَانَت صحف إِبْرَاهِيم عليه السلام؟ قَالَ: " أَمْثَالًا كلهَا: أَيهَا الْملك، الْمُسَلط، المبتلي، الْمَغْرُور، إِنِّي لم أَبْعَثك لِتجمع الدُّنْيَا بَعْضهَا على بعض، وَلَكِن بَعَثْتُك لِترد عني دَعْوَة الْمَظْلُوم، فَإِنِّي لَا أردهَا وَلَو كَانَت من كَافِر ". قلت: يَا رَسُول الله، مَا كَانَت صحف مُوسَى عليه السلام؟ قَالَ: كَانَت عبرا كلهَا: عجبت لمن أَيقَن بِالْمَوْتِ كَيفَ يفرح؟ {وَعَجِبت لمن أَيقَن بِالْقدرِ ثمَّ هُوَ ينصب} وَعَجِبت لمن يرى الدُّنْيَا، وَتَقَلُّبهَا بِأَهْلِهَا ثمَّ يطمئن إِلَيْهَا {وَعَجِبت لمن أَيقَن بِالْحِسَابِ غَدا ثمَّ لَا يعْمل} .
وَعَن عَليّ - كرم الله وَجهه - أَنه خطب، وَقَالَ فِي خطبَته: " أَيهَا النَّاس سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أَنه كَانَ يَقُول: لَيْسَ من وَال وَلَا قَاض إِلَّا يُؤْتى بِهِ يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يُوقف بَين يَدي الله تَعَالَى على الصِّرَاط، ثمَّ تنشر الْمَلَائِكَة سيرته - يَعْنِي صحيفَة عمله مَعَ رَعيته، وَمَعَ من فِي تَحت يَده - أعدل أم جَار؟ فَيَقْرَؤُهَا على رُءُوس الْخَلَائق - يَعْنِي بَين الأشهاد، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{يَوْم يقوم الأشهاد} (غَافِر: 51) - فَإِن كَانَ عدلا نجاه الله بعدله، وَإِن كَانَ غير عدل، انتفاضة بِهِ الصِّرَاط صَار بَين كل عُضْو من أَعْضَائِهِ مسيرَة مائَة سنة. وَيَنْبَغِي للْملك أَن يقرب إِلَيْهِ أَصْحَاب الرَّأْي وَالتَّدْبِير، وَأَصْحَاب الْعُقُول المتدينين، ويكرمهم، وَيقبل شفاعتهم ونصائحهم، وَتَكون مشورته مَعَهم، لِأَن بمشورتهم تثبت أوتاد الدولة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه عليه السلام:{وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) .
وَقَالَ عليه السلام: " لَا مُظَاهرَة أوثق من الْمُشَاورَة ". وَكلما روعيت هَذِه الْقَوَاعِد االعشر فِي السلطنة والإمارة تزداد كل يَوْم دولة الْملك، ويزداد آثَار الْأَمْن وَعمارَة الْولَايَة، وينشر فِي الْبِلَاد آثاره الْحَسَنَة، ويفشو عدله فِي الْبِلَاد، وتميل إِلَيْهِ قُلُوب الْعباد، ويرتب أَحْوَال المملكة، وتنتفع الْخَلَائق من إحسانه وَكَرمه. حُكيَ: أَن حكماء اليونان قَالُوا: عَلامَة زِيَادَة دولة الْملك أَن يتَرَدَّد بِحَضْرَتِهِ أَرْبَاب الْعلم، والزهد، وَالْعقل، كل يَوْم وَلَيْلَة، وعلامة نقص الدولة، وخراب المملكة أَن يتَرَدَّد بِحَضْرَتِهِ الْفُسَّاق، والسفهاء، وَأهل الْبدع، والظلمة، ويجتنب الْعلمَاء عَن ملاقاته، ويكرهون الْحُضُور عِنْده. حِكَايَة: كتب ملك الرّوم إِلَى أنو شرْوَان: بِأَيّ شَيْء حفظت الْملك والرعية، مُنْذُ زمَان بِحَيْثُ لَا يخالفك أحد، وازدادت كل يَوْم دولتك، وَعمارَة مملكتك؟ فَقَالَ بسبعة أَشْيَاء: الأول: حفظت لساني من الشتم على الرّعية. الثَّانِي: مَا هزلت فِي الْأَمر وَالنَّهْي على الرّعية، بل كَانَ أَمْرِي بالجد، ونهيي بالجد. الثَّالِث: إِنِّي لم أُخَالِف بوعدي للرعية، بل كلما وعدت لَهُم شَيْئا أَعطيتهم ذَلِك، وَأَيْضًا لم أُخَالِف بوعيدي، بل كلما أوعدت النَّاس أصبت الْعقُوبَة إيَّاهُم.
الرَّابِع: فوضت كل أَمر إِلَى أَهله ومستحقه، من غير أَن يكون فِيهِ هواي وشهوتي. الْخَامِس: كلما أمرت بالعقوبة، أمرت بالعقوبة لأجل الْأَدَب، لَا لأجل الْغَضَب. السَّادِس: حفظت قُلُوب الرّعية بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، لَا بالجور والإمساك عَنْهُم. السَّابِع: حببت نَفسِي فِي قُلُوب الرّعية بالْقَوْل الصدْق، لَا بِالْكَذِبِ والتبصبص. قَالَت الْحُكَمَاء: يَنْبَغِي للسُّلْطَان والأمراء والوزراء أَلا يتخذوا الْعمَّال السوء أجنادا، وَلَا يفوضوا الْأَمر الَّذِي يتَعَلَّق بالإمارة والمملكة إِلَى الْعمَّال السوء الَّذين لَا يشفقون على الرّعية، وَلَا يوقرون أهل الْعلم وَالْفضل، وَلَا يفرقون بَين الْحَلَال وَالْحرَام، لِأَنَّهُ إِذا فوض إِلَى الْعمَّال السوء أَمر المملكة يغتر بشفقة الْملك إِلَيْهِ، ويطاول يَده إِلَى أَمْوَال الرّعية ومحارمه، لمَنْفَعَة نَفسه، وَيكون جَمِيع همته وقصده أَن يكون نَفسه فِي رَاحَة فَقَط، سَوَاء كَانَ للرعية رَاحَة أَولا، فَحِينَئِذٍ ينفتح أَبْوَاب الْفساد وَالظُّلم، ويتعذر على الْملك والوزير سد ذَلِك الْبَاب، وَدفع ضَرَر ذَلِك.
وعَلى الْحَقِيقَة مثل ضَرَر تصرف الْعمَّال السوء كَمثل الْغذَاء الَّذِي لَا نفع فِيهِ للبدن، كل يَوْم يَأْكُل الرجل مِنْهُ ذرة يحصل فِي بَاطِنه أخلاط سوء، وَيزِيد ذَلِك الأخلاط كل يَوْم فِي بَاطِنه، وبطول اللَّيَالِي وَالْأَيَّام يستحكم ذَلِك الْخَلْط، فَيظْهر أثر الْخَلْط فِي الأعصاب وَالْعُرُوق والأعضاء جَمِيعًا، فيمرض الرجل من ذَلِك، وتعجز الطبيعة عَن دفع ذَلِك، ويتغير مزاج ذَلِك الرجل، وَتذهب قوته بِالْكُلِّيَّةِ، فَيحْتَاج إِلَى الطَّبِيب الحاذق، والطبيب إِن كَانَ حاذقا لكنه يقصر فِي معالجته ويعجز عَنْهَا لِأَنَّهُ قرب إِلَى الْهَلَاك فَلَا يتَوَقَّع الشِّفَاء، والنجاة من ذَلِك الْمَرَض إِلَّا بعد المعالجة الْكَثِيرَة بطول الزَّمَان والزحمات الْكَثِيرَة، فَفِي الْحَقِيقَة أَن ضَرَر عَامل ظَالِم يَوْمًا فِي الرّعية لَا يصلحه عدل الْملك بطول الزَّمَان.
وَقَالَ الْعُقَلَاء: يجب على الْمُلُوك الرِّعَايَة على ثَلَاثَة أَشْيَاء:
الأول: أَن يجْتَهد فِي عمَارَة الْولَايَة، وَلِهَذَا قَالُوا: إِن عدم عمَارَة الْولَايَة بشيئين: إِمَّا بعجز الْأَمِير أَو بالظلم فِي الرّعية. وَالثَّانِي: أَن يشفق وَيرْحَم على الرّعية ويعدل فِي الحكم بَينهم. الثَّالِث: أَلا يُعْطي الْملك الْأَمر الْعَظِيم بيد الرجل الحقير غير اللَّائِق بذلك الْأَمر، فَإِن ذَلِك سَبَب تخرب الْولَايَة.
سُئِلَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] : بِأَيّ سَبَب اسْتمرّ الْملك على آل " ساسان " لمدى اربعة آلَاف سنة؟ فَقَالَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] : لرأفتهم بالعباد وعمارتهم فِي الْبِلَاد. وَسُئِلَ عَن بعض أهل الساسان: بِأَيّ سَبَب انْعَزل أهل الساسان عَن المملكة بعد استقرارهم على الْملك أَرْبَعَة آلَاف سنة؟ فَقَالَ: سَبَب انعزالهم أَن يفوضوا الْأُمُور الْعِظَام إِلَى يَد الرجل الحقير الذميم الَّذِي لَا يسْتَحق لذَلِك الْأَمر، فَحِينَئِذٍ ضَاعَ أَصْحَاب الرَّأْي وَالتَّدْبِير، والأكابر، وَأهل الرَّأْي، وَأهل التجربة، وَأَصْحَاب الدول، والشرفاء، وَاسْتولى على الْملك الرِّجَال الَّذين صَارَت عُقُولهمْ أسرى لهوائهم، فآل الْأَمر إِلَى أَن خرجت المملكة عَن أَيْديهم. حِكَايَة: أخبروا أنو شرْوَان الْعَادِل، أَن أَمِير " خُرَاسَان " كَانَ نَائِما فِي دَاره، فَسرق من دَاره أَكثر أَمْوَاله، فَأمر أنو شرْوَان بِأَن يعْزل ذَلِك الْملك، على خُرَاسَان، وَقَالَ:" كل ملك لَا يقدر على حفظ بَيته من السَّارِق، فبطريق الأولى أَلا يقدر على حفظ ولايتنا ". فَيجب على السلاطين والأمراء، أَن ينصبوا على أُمُورهم رجَالًا عقلاء، أَصْحَاب الْمُرُوءَة، والشفقة، والتأني، وَالْوَقار، مميزين بَين الْحق وَالْبَاطِل، وَبَين الْحَلَال وَالْحرَام. حِكَايَة: يحْكى أَن أرسطاطاليس نصح يَوْمًا لذِي القرنين عليه السلام، وَقَالَ:" إِن ترد أَلا تكون فِي الدُّنْيَا ذليلا، فَلَا تخَالف أَمر الله تَعَالَى، وَإِن ترد أَلا تضيع مَالك فَلَا تَمنعهُ عَن مستحقيه، وَأَن ترد أَن يكون جَمِيع أَمرك صَوَابا، فَلَا تعجل فِي أَمرك، وَاجعَل رَأس مَالك الْعَمَل الصَّالح وَأمر الدّين ". حِكَايَة: سَأَلَ مُعَاوِيَة يَوْمًا أحنف بن قيس - وَكَانَ من أكَابِر ذَلِك الزَّمَان - " كَيفَ الزَّمَان؟ قَالَ أحنف بن قيس: " أَنْت الزَّمَان، إِذا صلحت صلح الزَّمَان، وَإِذا فَسدتْ فسد الزَّمَان ".
كَمَا قَالَ الشَّاعِر: // (الوافر) //
(إِذا مَا اللَّحْم أنتن ملحوه
…
ونتن الْملح لَيْسَ لَهُ دَوَاء)
ثمَّ قَالَ الْأَحْنَف لمعاوية: " اجْعَل الْعدْل لنَفسك جنَّة، لكَي تخلص عَن عتاب الله تَعَالَى، وَتدْخل جنته ". كَمَا قَالَ عليه السلام: " الْعدْل جنَّة واقية، وجنة بَاقِيَة ". حِكَايَة: يحْكى أَن فِي زمَان الْملك الْعَادِل صَاحب بن عباد أخبر أَن فلَانا التَّاجِر مَاتَ، وَترك مَالا عَظِيما، ووارثوه أَطْفَال، أعْطى كِفَايَة أطفاله من النَّفَقَة، وَوضع الْبَاقِي فِي بَيت مَال الْمُسلمين، فَكتب إِلَى الْمخبر بذلك:" الْمَيِّت رحمه الله، وَالْمَال وَرثهُ الله، وَالْوَارِث رزقه الله، والساعي لَعنه الله "
…
وَالله الْمُوفق للصَّوَاب. وَأما أَحْوَال الْإِمَامَة: فَيَنْبَغِي للملوك أَن تكون أَحْوَالهم وسيرتهم بَين الرّعية على مُقْتَضى الْآيَة والْحَدِيث: أما الحَدِيث: فَقَوله عليه السلام: " إِن أفضل عباد الله عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام عَادل رَفِيق، وَإِن شَرّ عباد الله عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة إِمَام جَائِر خرق ". وَأما الْآيَة: فَقَوله تَعَالَى: {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وإيتاء ذِي الْقُرْبَى وَينْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي يعظكم لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ} (النَّحْل: 90) . اعْلَم أَن للملوك ثَلَاثَة أَحْوَال: الأول مِنْهَا مَعَ أنفسهم.
وَالثَّانِي: بَينهم وَبَين الرّعية وَالثَّالِث بَينهم وَبَين الله تَعَالَى، وَأَن الْمُلُوك فِي كل وَاحِد من هَذِه الْأَحْوَال الثَّلَاثَة مأمورون بِثَلَاثَة، ومنهيون عَن ثَلَاثَة: مأمورون: بِالْعَدْلِ، وَالْإِحْسَان، وإيتاء ذِي الْقُرْبَى.
ومنهيون: عَن الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي، كَمَا نطق فِي الْآيَة.
فَفِي كل حَال من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة للملوك مَعَ هَذِه السِّتَّة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة معنى آخر مُنَاسِب لذَلِك الْحَال. أما الْحَالة الأولى للْملك مَعَ نَفسه: فِي الْعدْل: أَن يوحد الله تَعَالَى. وحاله فِي الْإِحْسَان: أَن يخرج نَفسه عَن عُهْدَة جَمِيع مَا فَرْضه الله تَعَالَى. وحاله فِي إيتَاء ذِي الْقُرْبَى: أَن يُرَاعِي حُقُوق جوارحه، وأعضائه، وَيُوجه قلبه إِلَى الله تَعَالَى، ويحفظ حواسه الظَّاهِرَة والباطنة، على الْأَشْيَاء الَّتِي أمره الله تَعَالَى، وَينْهى جَمِيع حواسه عَن الْأَشْيَاء الَّتِي نهى الله تَعَالَى عَنْهَا. وَأما حَاله فِي الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي: أَن يبعد نَفسه عَن الْكَذِب، والغيبة، والبهتان، وَالزِّنَا، وَالْفِسْق، والفجور، وَالْكفْر، وَالْغَصْب على غير حق، والحرص والحسد، وَالْكبر، وَالْعجب، والجور، وَالظُّلم، والميل عَن الْحق، والحيف، وَغير ذَلِك. وَيُسمى عدل الْملك على نَفسه: الْعدْل الْخَاص، وَالْعدْل على الْخَلَائق: الْعدْل الْعَام فَمن لم يقدر على الْعدْل نَفسه لم يقدر على الْعدْل على الْخَلَائق، وعَلى مَمْلَكَته، ويشمل كلا نَوْعي الْعدْل قَوْله عليه السلام:" كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته ". يَعْنِي كل رجل ملك، ورعيته أعضاؤه، وجوارحه، وحواسه الْخَمْسَة، وَنَفسه، وَقَلبه، وروحه. وَعدل الرجل فِي جوارحه: أَن يحفظ كل وَاحِد مِنْهَا على مَا خلقه الله تَعَالَى لَهُ. فالعدل فِي الْعين: أَن يحفظها من النّظر فِي الْحَرَام وَالْعدْل فِي الْيَدَيْنِ: أَن يفعل بهما الْخَيْر، ويمنعهما من الشَّرّ وَالْعدْل فِي اللِّسَان: أَن يحفظه من الْغَيْبَة، والشتم، وَالْكذب. وَالْعدْل فِي الْبَطن، أَن يحفظه من الطَّعَام الْحَرَام، والشبهة. وَالْعدْل فِي الْأذن: أَن يحفظها من سَماع النميمة، والغيبة ومساوئ الْخلق.
وَالْعدْل فِي الْقلب: أَن يحفظه من الغل، والحقد، والحسد، والبغض والعداوة. وَالْعدْل فِي الْبدن: أَن يحفظه من لبس الْحَرَام. وَبعد ذَلِك يجب على الْملك أَن يحفظ جَمِيع الْمَذْكُورَات على طَاعَة الله تَعَالَى وعبادته، وَيمْنَع جَمِيع الْأَعْضَاء عَن الْعَمَل الَّذِي يدْخل بِسَبَبِهِ النَّار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا قوا أَنفسكُم وأهليكم نَارا} (التَّحْرِيم: 6) . فَمن خرج عَن عُهْدَة الْعدْل الْخَاص يُمكن أَن يخرج عَن عُهْدَة الْعدْل الْعَام، لقَوْل عَليّ كرم الله وَجهه:" رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر ". وَالْمرَاد من الْجِهَاد الْأَصْغَر الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار وَالْمرَاد من الْجِهَاد الْأَكْبَر: الْجِهَاد مَعَ النَّفس، بِأَن يحفظ نَفسه على مَا أَمر الله تَعَالَى عَلَيْهِ، وَيمْنَع نَفسه عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ. وَقيل: الْعدْل الْخَاص أسهل من الْعدْل الْعَام - وَهُوَ الْعدْل بَين الْخَلَائق - فكم من الْمُلُوك من يقدر على الْعدْل على نَفسه، وَلَا يقدر على الْعدْل بَين الْخَلَائق؟ لِأَن الْعدْل بَين الْخَلَائق هُوَ خلَافَة الله - تَعَالَى - عَبده فِي أرضه، وَهُوَ أشق الْأَشْيَاء، ولكثرة مشقته كَانَ ثَوَابه أعظم، وَلِهَذَا قيل: لَيْسَ للملوك أفضل شَيْء ثَوابًا من الْعدْل على رَعيته.
وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام: " إِن المقسطين عِنْد الله على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرَّحْمَن - وكلتا يَدَيْهِ يَمِين - الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم، وماولوا ". وَقَالَ عليه السلام: " إِن أفضل عباد الله منزلَة إِمَام عَادل رَفِيق ".
وَلأَجل شرف الْعدْل عِنْد الله تَعَالَى، وَرفع مَنْزِلَته عِنْده، كَانَ ثَوَابه سَاعَة مثل ثَوَاب عبَادَة سِتِّينَ سنة.
وَمِثَال من لَا يعدل على نَفسه، ويقصد أَن يعدل على رَعيته، كَمثل رجل لَا يقدر على نجاة نَفسه من الْغَرق، فمحال أَن يقدر على نجاة غَيره من الْغَرق فِي المَاء.
وَقَالَ النَّبِي عليه السلام: " مَكْتُوب فِي عَصا مُوسَى أَربع كَلِمَات: أَولهَا: إِذا لم يكن للسُّلْطَان عدل فَهُوَ مَعَ فِرْعَوْن سَوَاء، وَإِذا لم يكن للْعَالم عمل فَهُوَ والإبليس سَوَاء، وَإِذا لم يكن للغني رَحْمَة للْفَقِير فَهُوَ مَعَ قَارون سَوَاء، وَإِذا لم يكن للْفَقِير صَبر فَهُوَ مَعَ الْكَلْب سَوَاء ". وَقَالَ عليه السلام: " من أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر فَهُوَ خَليفَة رَسُوله ".
دلّ الحَدِيث على أَن الْقيام بهما يسْتَحق الْعِزّ فِي الدَّاريْنِ، فَأَما المقصر فيهمَا يسْتَحق المذمة والمذلة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَأَما من رزقه الله تَعَالَى الْخلَافَة يَنْبَغِي لَهُ أَن يعدل أَولا على نَفسه، بِأَن يَطْرَحهَا فِي كورة الشَّرِيعَة، لتأتمر بأوامر الله تَعَالَى، وتنتهي عَمَّا نهى الله تَعَالَى عَنهُ، فَحِينَئِذٍ تخرج نَفسه من خساسة الأمارية، ويوجهها إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى، فَيكون الْقلب متصفا بِالصِّفَاتِ الحميدة، وَالنَّفس مُجَرّدَة عَن الصِّفَات الذميمة، وَالروح مُتَعَلقَة بالأخلاق الْعلية، فيؤثر ذَلِك على جَمِيع الْبدن والجثة، فَحِينَئِذٍ خَشَعت النَّفس وخضعت فِي الْعِبَادَة، وَهُوَ سر قَوْله تَعَالَى:{الَّذين هم فِي صلَاتهم خاشعون} (الْمُؤْمِنُونَ 2) وسر قَوْله عليه السلام: " لَو خشع قلب هَذَا لخشع جوارحه) . فَيصْرف الْملك حِينَئِذٍ جَمِيع عمره فِي عبَادَة الله تَعَالَى، وَلَا يخرج عَن حكم الشَّرْع طرفَة عين، لكَون نَفسه حِينَئِذٍ مطمئنة، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي إِلَى رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي} (الْفجْر 27، 28، 29، 30) فَحِينَئِذٍ يجب على الْخَلَائق طَاعَة ذَلِك الْأَمِير الْعَادِل كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} {النِّسَاء 59} . اعْلَم أَن مُنَاسبَة هَذِه الْآيَة بِمَا قبلهَا: أَنه تَعَالَى لما أَمر الرُّعَاة والولاة بِالْعَدْلِ فِي الرّعية أَمر الرّعية بِطَاعَة الْوُلَاة فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء: 59) ، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه: " حق على الإِمَام أَن يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَحق على الرّعية أَن يسمعوا ويطيعوا ". وَفِي سَبَب نزُول هَذِه الاية قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا نزلت فِي عبد الله بن حذافة بن قيس السَّهْمِي، إِذْ بَعثه النَّبِي عليه السلام فِي سَرِيَّة. أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس رضي الله عنه. وَالثَّانِي: أَن عمار بن يَاسر كَانَ مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد فِي سَرِيَّة، فهرب الْقَوْم، وَدخل رجل مِنْهُم على عمار، فَقَالَ: إِنِّي قد أسلمت، فَهَل يَنْفَعنِي، أَو أذهب كَمَا ذهب قومِي؟ فَقَالَ عمار: أقِم فَأَنت آمن، فَرجع الرجل وَأقَام
فجَاء خَالِد، فَأخذ الرجل، فَقَالَ عمار: إِنِّي قد أمنته، وَقد أسلم، قَالَ: أتجير عَليّ، وَأَنا الْأَمِير؟ فتنازعا، وقدما على رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فَنزلت هَذِه الْآيَة.
قَوْله: {أطِيعُوا الله} (النِّسَاء 59) ، أَي أطِيعُوا كتاب الله، وَقَوله:{وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء 59) أَي: فِي حَيَاته امتثلوا أمره وَاجْتَنبُوا نَهْيه، وَبعد مماته اتبعُوا سنته. فَإِن قيل: إِن طَاعَة الرَّسُول هِيَ طَاعَة الله تَعَالَى، فَمَا معنى هَذَا الْعَطف؟ قُلْنَا: قَالَ القَاضِي: الْفَائِدَة فِي ذَلِك بَيَان الدلالتين: فالكتاب: يدل على أَمر الله تَعَالَى، ثمَّ يفهم مِنْهُ أَمر الرَّسُول لَا محَالة. وَالسّنة: تدل على أَمر الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] ، ثمَّ يعلم مِنْهَا أَمر الله، لَا محَالة. فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن قَوْله:{أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول} (النِّسَاء 59) يدل على وجوب مُتَابعَة الْكتاب وَالسّنة. وَفِي " أولي الْأَمر " أَرْبَعَة أَقْوَال: الأول: أَنهم الْأُمَرَاء، والولاة، قَالَه أَبُو هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة - وَزيد بن أسلم، وَالسُّديّ، وَمُقَاتِل.
قَالَ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه: " حق على الإِمَام أَن يحكم بِمَا أنزل الله تَعَالَى، وَيُؤَدِّي الْأَمَانَة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَحق على الرّعية أَن يسمعوا ويطيعوا ".
وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : " من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله، وَمن يعصني فقد عصى الله، وَمن يطع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي، وَمن يعْص الْأَمِير فقد عَصَانِي ".
عَن عبد الله عَن النَّبِي عليه السلام قَالَ: " السّمع وَالطَّاعَة على الْمَرْء الْمُسلم، فِيمَا أحب وَكره، مالم يُؤمر بِمَعْصِيَة، فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة، فَلَا سمع وَلَا طَاعَة ".
وَالثَّانِي: أَنهم الْعلمَاء، رَوَاهُ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنه، وَهُوَ قَول جَابر بن عبد الله، وَالْحسن، وَأبي الْعَالِيَة، وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ، وَالضَّحَّاك، وَرَوَاهُ حصيف عَن مُجَاهِد.
وَالثَّالِث: أَنهم أَصْحَاب النَّبِي عليه السلام رَوَاهُ ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد، وَبِه قَالَ بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ.
وَالرَّابِع: أَنهم أَبُو بكر وَعمر، وَهُوَ قَول عِكْرِمَة.
وَعَن مُعَاوِيَة بن صَالح قَالَ: حَدثنِي سليم بن عَامر قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله -[صلى الله عليه وسلم]- يخْطب فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ:
" اتَّقوا الله وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زَكَاة أَمْوَالكُم، وَأَطيعُوا ذَا أَمركُم، تدْخلُوا جنَّة ربكُم ".
وَقيل: المُرَاد من أولي الْأَمر: أُمَرَاء السَّرَايَا.
قَوْله: {فَإِن تنازعتم فِي شَيْء} {النِّسَاء 59} . قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: اختلفتم وَقَالَ كل فريق: القَوْل قولي، واشتقاق الْمُنَازعَة: أَن كل وَاحِد ينتزع الْحجَّة.
قَوْله: {فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} (النِّسَاء 59) فِي كَيْفيَّة هَذَا الرَّد قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن رده إِلَى الله رده إِلَى كِتَابه، ورده إِلَى رَسُوله عليه السلام رده إِلَى سنته، هَذَا قَول مُجَاهِد، وَقَتَادَة، وَالْجُمْهُور.
قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَهَذَا الرَّد يكون من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: إِلَى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ باسمه وَمَعْنَاهُ.
وَالثَّانِي: الرَّد إِلَيْهِمَا من جِهَة الدّلَالَة عَلَيْهِ، واعتباره من طَرِيق الْقيَاس والنظائر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن رده إِلَى الله وَرَسُوله أَن يَقُول من لَا يعلم الشَّيْء: الله وَرَسُوله أعلم، ذكره قوم مِنْهُم الزّجاج.
وَفِي المُرَاد بالتأويل أَرْبَعَة أَقْوَال:
الأول: أَنه الْجَزَاء وَالثَّوَاب، وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَقَتَادَة.
وَالثَّانِي: أَنه الْعَاقِبَة، وَهُوَ قَول السّديّ، وَابْن زيد، وَابْن قُتَيْبَة، والزجاج.
وَالثَّالِث: أَنه التَّصْدِيق، مثل قَوْله:{هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ} (يُوسُف 100) .
قَالَه ابْن زيد.
وَالرَّابِع: أَن مَعْنَاهُ: ردكم إِلَى الله وَرَسُوله أحسن من تأويلكم. ذكره الزّجاج.
كَذَا فِي تَفْسِير " زَاد الْمسير " للْإِمَام ابْن الْجَوْزِيّ النواوي رَحْمَة الله عَلَيْهِ رَحْمَة وَاسِعَة.
وَأما الْحَالة الثَّانِيَة للملوك: وَهِي الَّتِي بَينهم وَبَين الرّعية، فهم أَيْضا فِي هَذِه الْحَالة مأمورون بِثَلَاثَة أَشْيَاء وَهِي: الْعدْل، وَالْإِحْسَان، وإيتاء ذِي الْقُرْبَى. ومنهيون عَن ثَلَاثَة أَشْيَاء، وَهِي: الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي.
أما الْعدْل: فَيَنْبَغِي للملوك أَن يعدلُوا فِي الرّعية بِمُوجب الشَّرْع، بألا يظلموا على الرّعية بِأَنْفسِهِم، وَيمْنَعُونَ الرّعية عَن أَن يظلم بَعضهم بَعْضًا، لِأَن الْملك إِذا علم ظلم الرّعية بَعضهم على بعض وَقدر على منع ذَلِك الظُّلم عَنْهُم، يكون ذَلِك الْملك شَرِيكا مَعَهم فِي الْإِثْم، لَا يجب طَاعَته على النَّاس.
كَمَا قَالَ عليه السلام: " لَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ".
سَأَلَ عمر بن عبد الْعَزِيز رحمه الله يَوْمًا أَبَا حَازِم الموعظة، فَقَالَ.
لَهُ أَبُو حَازِم: " إِذا نمت فضع الْمَوْت تَحت رَأسك، وكل مَا تخْتَار أَن يَأْتِيك الْمَوْت، وَأَنت مصر عَلَيْهِ فالزمه، وكل مَا لَا تُؤثر أَن يَأْتِيك الْمَوْت، وَأَنت عَلَيْهِ فاجتنبه، فَرُبمَا كَانَ الْمَوْت مِنْك قَرِيبا ".
فَيَنْبَغِي لصَاحب الْولَايَة أَن يَجْعَل هَذِه الْحِكَايَة نصب عَيْنَيْهِ، وَأَن يقبل المواعظ الَّتِي وعظ بهَا غَيره، وَكلما رأى عَالما سَأَلَهُ أَن يعظه.
وَيَنْبَغِي للْعَالم أَن يعظ الْمُلُوك بِمثل هَذِه المواعظ، وَلَا يغرهم، وَلَا يدّخر عَنْهُم كلمة الْحق، وكل من غرهم فَهُوَ مشارك لَهُم فِي ظلمهم.
فَيَنْبَغِي للْملك أَلا يقنع بِرَفْع يَده عَن الظُّلم، لَكِن يَنْبَغِي لَهُ أَن يمْنَع غلمانه، وَأَصْحَابه، وعماله، ونوابه، وَكتابه، وَغَيرهم، من الظُّلم والجور، وَلَا يرضى لَهُم بِمَا يظْلمُونَ، فَإِن الْملك يسئل عَن ظلمهم، كَمَا يسئل عَن ظلم نَفسه.
كتب عمر بن الْخطاب رضي الله عنه إِلَى عَامله أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رضي الله عنه: " أما بعد: فَإِن أسعد الْوُلَاة من سعدت بِهِ رَعيته، وَإِن أَشْقَى الْوُلَاة من شقيت بِهِ رَعيته، فإياك والتبسط، فَإِن عمالك يقتدون بك، وَإِنَّمَا مثلك مثل دَابَّة رَأَتْ مرعى مخضرا، فَأكلت كثيرا حَتَّى سمنت، فَكَانَ سمنها
سَبَب هلاكها، لِأَنَّهَا بذلك السّمن تذبح وتؤكل.
وَفِي التَّوْرَاة مَكْتُوب: " كل ظلم علمه السُّلْطَان من عماله، فَسكت عَنهُ، كَانَ ذَلِك الظُّلم مَنْسُوبا إِلَيْهِ، وَأخذ بِهِ، وعوقب عَلَيْهِ ".
وَيَنْبَغِي للوالي أَن يعلم أَنه لَيْسَ أحد أَشد عَيْبا مِمَّن بَاعَ دينه وآخرته بدنيا غَيره. وَجَمِيع الْعمَّال والغلمان لأجل نصِيبهم من الدُّنْيَا يغرون الْوَالِي، ويحسنون الظُّلم عِنْده، فيلقونه فِي النَّار، ليصلوا إِلَى أغراضهم، وَأي عَدو أَشد عَدَاوَة مِمَّن يسْعَى فِي هلاكك لأجل دِرْهَم حرَام يكتسبه ويحصله؟ وَفِي الْجُمْلَة يَنْبَغِي لمن أَرَادَ حفظ الْعدْل على الرّعية، أَن يرتب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أَحْوَال الْعمَّال وَينظر فِيهَا كَمَا ينظر فِي أَحْوَال أَهله، وَأَوْلَاده، ومنزله، وَلَا يتم لَهُ ذَلِك إِلَّا بِحِفْظ الْعدْل أَولا من بَاطِنه، وَذَلِكَ أَلا يُسَلط شَهْوَته وغضبه على عقله وَدينه، وَلَا يَجْعَل عقله وَدينه أسيري شَهْوَته وغضبه، بل يَجْعَل شَهْوَته وغضبه أسيري عقله وَدينه.
وَأكْثر الْخلق فِي خدمَة شهواتهم، فَإِنَّهُم يصرفون همتهم فِي عمرهم على الْحِيَل، ليصلوا إِلَى مُرَادهم من الشَّهَوَات، وَلَا يعلمُونَ أَن الْعقل من جَوْهَر الْمَلَائِكَة، وَمن جند الْبَارِي جلت قدرته، وَأَن الشَّهْوَة وَالْغَضَب من جند
الشَّيْطَان، فَمن يَجْعَل جند الله - تَعَالَى - وَمَلَائِكَته أُسَارَى جند الشَّيْطَان، كَيفَ يعدل فِي غَيرهم؟ وَأول مَا تظهر شمس الْعدْل فِي الصَّدْر ثمَّ تَنْتَشِر نورها فِي أهل الْبَيْت فِي خَواص الْملك، فيصل شعاعها إِلَى الرّعية.
وَاعْلَم أَيهَا السُّلْطَان وتيقظ، أَن ظُهُور الْعدْل من كَمَال الْعقل، وَكَمَال الْعقل أَن ترى الْأَشْيَاء كَمَا هِيَ، وتدرك حقائق بَاطِنهَا، وَلَا تغتر بظاهرها.
مثلا: إِن كنت تجور على النَّاس لأجل الدُّنْيَا، فَانْظُر أَي شَيْء مقصودك من الدُّنْيَا؟ فَإِن كَانَ مقصودك أكل الطَّعَام الطّيب، فَيجب أَن تعلم أَن هَذِه شَهْوَة بهيمية فِي صُورَة آدَمِيّ، فَإِن الْحِرْص إِلَى الْأكل من طباع الْبَهَائِم.
وَإِن كَانَ مقصودك لبس الديباج، فَإنَّك امْرَأَة فِي صُورَة رجل، لِأَن التزين والرعونة من أَعمال النِّسَاء.
وَإِن كَانَ مقصودك أَن تمْضِي غضبك على أعدائك، فَأَنت أَسد أَو سبع فِي صُورَة آدَمِيّ، لِأَن إِمْضَاء غضب الْقلب من طباع السبَاع.
وَإِن كَانَ مقصودك أَن يخدمك النَّاس، فَإنَّك جَاهِل فِي صُورَة عَاقل، لِأَنَّك لَو كنت عَاقِلا لعَلِمت أَن الَّذين يخدمونك إِنَّمَا هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم، وَأَن خدمتهم وتواضعهم لأَنْفُسِهِمْ، لَا لَك، وعلامة ذَلِك أَنهم لَو سمعُوا إرجافا، أَن الْولَايَة تُؤْخَذ مِنْك وتعطى لسواك، لأعرضوا بأجمعهم عَنْك، وتقربوا إِلَى ذَلِك الشَّخْص، وَفِي أَي مَوضِع علمُوا الدِّرْهَم فِيهِ، خدموا وسجدوا لذَلِك الْموضع، فعلى الْحَقِيقَة لَيست هَذِه خدمَة وَإِنَّمَا هِيَ ضحكة، والعاقل من نظر فِي أَرْوَاح الْأَشْيَاء وحقائقها، وَلم يغتر بصورها، وَحَقِيقَة هَذِه الْأَعْمَال مَا ذَكرْنَاهُ، وأوضحناه، وكل من لَا يتَيَقَّن ذَلِك فَلَيْسَ بعاقل، وَمن لم يكن عَاقِلا، لم يكن عادلا، بل يكون ظَالِما، لَا تعمر الْولَايَة على يَدَيْهِ، ومقره النَّار، فَلهَذَا السَّبَب كَانَ رَأس مَال كل السَّعَادَة الْعقل.
وَأما الْإِحْسَان فِي الرّعية بِأَن يُوصل آثَار الْكَرم والمروءة إِلَى الرّعية بِأَن يحسن للْفُقَرَاء، ويؤدب الْأَغْنِيَاء، ويداري بهم، وَيُعْطِي الصَّدقَات للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَأَبْنَاء السَّبِيل، خُصُوصا الغرباء الَّذين جَاءُوا من بعيد بالمشقة، والزحمة، راجين من إحسانه وَكَرمه، ليحصل بذلك للْملك فِي الدُّنْيَا الثَّنَاء الْجَمِيل، وَفِي الْآخِرَة الْأجر الجزيل.
وَيَنْبَغِي أَيْضا أَن يوقر الْعلمَاء، وَيرْفَع عَنْهُم مؤنتهم، كي يشتغلوا بتَعَلُّم الْعلم وتعليمه، وَيكرم طلبة الْعلم بألوان النعم، وَيُعْطِي وظائفهم، وَيزِيد فِيهَا وَلَا يقطع وظائفهم، ويرغبهم فِي التَّعَلُّم والتحصيل، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون الْمُلُوك فِي ثَوَاب علمهمْ مشتركين.
وَيَنْبَغِي للملوك أَن يحترموا أهل التصوف، والصلحاء، والزهاد، والعباد، ويتبركوا بدعائهم، ويغتنموا قَضَاء حوائجهم، ويعدوا لقاءهم غنيمَة عَظِيمَة، ونعمة من الله جسيمة، ويوصل الْملك إنعامه وإحسانه وصدقاته من الرزق الْحَلَال، أَو من بَيت المَال، أَو من الْخمس، إِلَى المجاورين فِي الخانقاه، والزوايا، والرباطات، من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين. وَإِن لم يسْأَلُوا الْملك ويعرضوا أَحْوَالهم إِلَيْهِ، كي يشتغلوا بالحضور إِلَى عبَادَة الله تَعَالَى؛ لِأَن عمَارَة الدُّنْيَا وَزِيَادَة دولة السلاطين والأمراء قَائِمَة ببركة دُعَائِهِمْ.
وَأَيْضًا يَنْبَغِي للملوك أَن يَكُونُوا أشْفق الْخَلَائق؛ لِأَن الشَّفَقَة على خلق الله سَبَب لدُخُول الْجنَّة بعد الْإِيمَان، كَمَا قَالَ عليه السلام لزيد:" بدلاء أمتِي لم يدخلُوا الْجنَّة بِكَثْرَة صَوْم، وَلَا صَلَاة، وَلَكِن دخلوها برحمة الله تَعَالَى، وسلامة الصُّدُور وسخاوة النُّفُوس، وَالرَّحْمَة لجَمِيع الْمُسلمين ".
وَأَيْضًا يَنْبَغِي للملوك أَن يحترموا السادات غَايَة الاحترام، وَيُعْطى لَهُم من الْخمس أَو من غَيره.
أما إِذا لم يكن إِحْسَان الْملك مصروفا على هَذِه الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، يكون ذَلِك الْملك ظَالِما، وَتذهب الْبركَة من الأرزاق، وَيخرب المملكة، وتتفرق الرعايا إِلَى الْأَطْرَاف، وينتشر فِي الْأَطْرَاف اسْمه بالظلم، وَسُوء الْعَمَل، وَعدم الصلاحية، وَجَمِيع ذَلِك بمخالفة حكم الشَّرْع.
وَيَنْبَغِي للملوك أَن يوصلوا إحسانهم إِلَى الْخَلَائق جَمِيعًا فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{وَأحسن كَمَا أحسن الله إِلَيْك} (الْقَصَص: 77) . وكما قَالَ النَّبِي عليه السلام: " أحسن قبل أَن يفوتك الْإِحْسَان ". وَقَالَ عَليّ كرم الله وَجهه: " بِالْبرِّ يستعبد الْحر ".
وَقَالَ الشَّاعِر: // (الوافر) //
(إِذا هبت رياحك فاغتنمها
…
فَإِن لكل خافقة سُكُون)
(فَلَا تغفل عَن الْخيرَات فِيهَا
…
فَلَا تَدْرِي السّكُون مَتى يكون؟)
وَكَانَ فناخسرو من أكَابِر الْحُكَمَاء اليونانية، سُئِلَ عَنهُ: أَي شَيْء أحب عنْدك من أَنْوَاع الْإِحْسَان؟ قَالَ: الْعَفو عَن ذَنْب المذنبين.
حِكَايَة: يحْكى أَن حُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنهما صَامَ يَوْمًا، فجَاء عِنْد الْإِفْطَار غُلَامه، وَوضع بَين يَدَيْهِ الخوان، فَلَمَّا قصد الْخَادِم أَن يَجِيء بالقصعة الَّتِي فِيهَا الطَّعَام، زلق رجله، وصب مَا فِي الْقَصعَة على أَمِير الْمُؤمنِينَ حُسَيْن بن عَليّ رضي الله عنهما، فَنظر إِلَى غُلَامه بِالْغَضَبِ، فَقَالَ الْغُلَام:{والكاظمين الغيظ} (آل عمرَان 134) فَقَالَ الْحُسَيْن رضي الله عنه: أذهبت الغيظ عني، فَقَالَ الْغُلَام:{وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} (آل عمرَان 134) . قَالَ الْحُسَيْن: عَفَوْت عَنْك، فَقَالَ الْغُلَام:{وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ} (آل عمرَان 134)، قَالَ الْحُسَيْن: أَعتَقتك لوجه الله.
عَن سهل بن معَاذ رضي الله عنهما عَن أَبِيه أَن رَسُول الله -[صلى الله عليه وسلم]- قَالَ: " من كظم غيظه، وَهُوَ قَادر على أَن ينفذهُ، دَعَاهُ الله تَعَالَى على رُؤُوس الْخَلَائق، حَتَّى يخيره أَي الْحور الْعين ".
وَعَن ابْن عمر رضي الله عنه أَنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : " مَا تجرع عبد جرعة، أفضل عِنْد الله، من جرعة غيظ يكظمها ابْتِغَاء وَجهه ".
" والكظم ": عبارَة عَن حبس الشَّيْء عِنْد امتلائه. وكظم الغيظ: عبارَة عَن أَن يمتلئ الرجل غيظا، فَيردهُ فِي جَوْفه وَلَا يظهره.
وَقَوله تَعَالَى: {وَالْعَافِينَ عَن النَّاس} (آل عمرَان 134) . روى أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه عَن رَسُول الله -[صلى الله عليه وسلم]- أَنه قَالَ: " مَا زَاد عبد بِعَفْو إِلَّا عزا ".
وَقَالَ النَّبِي عليه السلام: " إِذا قدرت على عَدوك فَاجْعَلْ الْعَفو عَنهُ شكرا لله تَعَالَى على الْقُدْرَة عَلَيْهِ ".
وَشتم رجل عمر بن ذَر رحمه الله فَقَالَ لَهُ، لَا تفرطن فِي سبنا، ودع للصلح موضعا، فَإنَّا لَا نكافئ من عصى الله فِينَا، إِلَّا أَن نطيع الله فِيهِ.
وَشتم رجل الشّعبِيّ رضي الله عنه فَجعل يَقُول: أَنْت كَذَا، وَأَنت كَذَا، فَقَالَ الشّعبِيّ: إِن كنت صَادِقا يغْفر الله لي، وَإِن كنت كَاذِبًا يغْفر الله لَك.
وَقيل للفضل بن مَرْوَان: إِن فلَانا يشتمك، فَقَالَ: لأغضبن من أمره بذلك، يغْفر الله لنا وَله، فَقيل: من أمره بذلك؟ قَالَ: الشَّيْطَان.
وَقَالَ الْعلمَاء: الْإِحْسَان أشرف الْأَشْيَاء، إِن وصل إِلَى الْأَجَانِب يصيرون بِهِ أصدقاء، وَإِن وصل إِلَى الأصدقاء يصيرون بِهِ عبيدا.
حِكَايَة: يحْكى أَن مُوسَى عليه السلام لما رَجَعَ من الطّور رأى أَن السامري صنع من الذَّهَب كصورة الْعجل، فوسوس إِلَى قوم مُوسَى عليه السلام حَتَّى عبدُوا الْعجل، فَجمع النَّار بَين قومه، وأحرق الْعجل فِي النَّار، وَطلب السامري فَلم يجده إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَبعد ذَلِك وجدوا السامري وَجَاءُوا بِهِ إِلَى عِنْد مُوسَى عليه السلام فَلَمَّا رأى مُوسَى عليه السلام السامري قَالَ: أَيْن كنت مُنْذُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قَالَ: يَا رَسُول الله، كنت مَسْتُورا تَحت خبز وَاحِد. يَعْنِي: لما علم السامري غضب مُوسَى عليه السلام عَلَيْهِ خَافَ مِنْهُ خوفًا شَدِيدا، فَأعْطى مِسْكينا خبْزًا وَاحِدًا، حفظه الله - تَعَالَى - أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَلم يره أحد، بِسَبَب هَذَا الْقدر من الْإِحْسَان.
وَأما إيتَاء ذِي الْقُرْبَى فِي الرّعية: فَهُوَ أَن يقْضِي حُقُوقهم وحوائجهم، لِأَن الرّعية بِمَنْزِلَة الْقَرَابَة للْملك، بل الرّعية للْملك بِمَنْزِلَة أَوْلَاده وَعِيَاله، وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام:" من ولى أُمُور الْمُسلمين وَلم يحفظهم كحفظه أهل بَيته فقد تبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَلِهَذَا وصّى النَّبِي عليه السلام فِي آخر حَيَاته " الصَّلَاة وَمَا ملكت أَيْمَانكُم. يَعْنِي: أَدّوا الصَّلَاة فِي وَقتهَا، بفرائضها، وواجباتها، وسننها، وتعديل أَرْكَانهَا، وأدوا حُقُوق الرعايا الَّتِي تَحت أَيْدِيكُم.
وَحُقُوق الرعايا:
أَن ينصفهم. ويعدل بَينهم، وَيحسن إِلَيْهِم، ويكرمهم، ويداري بهم، ويلطف ويواسي لَهُم، ويحرس حوزتهم عَن شَرّ قطاع الطَّرِيق، والظالمين. وكل ذَلِك من صلَة رحم الْمُرُوءَة للسلطنة، وَمن دوَام ثبات أوتاد المملكة. كَمَا قَالَ النَّبِي عليه السلام:" الْعدْل وَالْملك توءمان " وَقَالَ النَّبِي عليه السلام: " الْملك يبْقى مَعَ الْكفْر وَلَا يبْقى مَعَ الظُّلم ".
السُّلْطَان الْعَادِل من عدل بَين الْعباد، وحذر من الْجور وَالْفساد، وَالسُّلْطَان الظَّالِم شُؤْم لَا يبْقى ملكه، وَلَا يَدُوم، فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَن عمَارَة الدُّنْيَا وخرابها من الْمُلُوك، فَإِذا كَانَ السُّلْطَان عادلا انعمرت الدُّنْيَا، وَأمنت الرعايا، كَمَا كَانَ فِي عهد أنو شرْوَان، وَإِذا كَانَ السُّلْطَان ظَالِما جائرا خربَتْ الدُّنْيَا، كَمَا كَانَت عَلَيْهِ فِي عهد الضَّحَّاك.
وكل سنة حَسَنَة وَضعهَا الْملك فِي الرّعية يستريح الرعايا بهَا، أَو كل بِدعَة سَيِّئَة يرفع الْملك ذَلِك من الرعايا، فثواب جَمِيع ذَلِك، وَمن عمل بهَا، يكْتب فِي كتاب أَعمال ذَلِك الْملك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَأما إِذا ظلم الْملك على الرّعية وَيَضَع الْبِدْعَة فِي الرّعية ابْتِدَاء بِأَن لم يكن تِلْكَ الْبِدْعَة فِي الزَّمَان الْمَاضِي، أَو وضعت الْبِدْعَة قبل زَمَانه، فَقدر على منعهَا، وَلم يمْنَع تِلْكَ الْبِدْعَة عَن الرعايا، فإثم ذَلِك، وَمن عمل بِتِلْكَ الْبِدْعَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يكْتب فِي صحيفَة أَعماله. كَمَا قَالَ النَّبِي عليه السلام:" من سنّ سنة حَسَنَة، فَلهُ أجرهَا، وَأجر من عمل بهَا، وَمن سنّ سنة سَيِّئَة، فَلهُ وزرها، ووزر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
وَيجب أَيْضا على الْمُلُوك أَن يرفعوا جَمِيع الْبدع وَزِيَادَة الْعشْر وَالْخَرَاج الَّتِي وضعت زِيَادَة عَن قَوَاعِد الشَّرْع، وَلَا يقنع الْملك بِهَذَا القَوْل بِأَن يَقُول:
إِنَّمَا يلْزم على رفع الْبِدْعَة الَّتِي وضعت فِي زماني، وَلَا يلْزم على رفع الْبِدْعَة الَّتِي وضعت قبل زماني، فَهَذَا الْعذر لَا يقبل من الْملك، بل يُعَاقب الْملك على جَمِيع ذَلِك، إِذا قدر على مَنعه، وَلم يمْنَع كُله، لِأَن الْملك كَالرَّاعِي، والرعية كثلة الْغنم، يجب على الرَّاعِي أَن يحفظ تِلْكَ الثلَّة من شَرّ الْأسد، وَالذِّئْب، وَسَائِر السبَاع جَمِيعًا، فَإِن وجد الرَّاعِي بَين الثلَّة كَبْشًا ذَا قرن تعدى على من لَا قرن لَهُ، يجب على ذَلِك الرَّاعِي أَن يمْنَع ضَرَر صَاحب الْقرن عَمَّن لَا قرن لَهَا. // (الوافر) //.
(وراعي الشَّاة يحمي الذِّئْب عَنْهَا
…
فَكيف إِذا الرُّعَاة لَهُم ذئاب؟)
مثلا: الْكفَّار والظلمة ذئاب ثلة الْإِسْلَام، يجب على الْمُلُوك والسلاطين الَّذين هم رُعَاة ثلة الْإِسْلَام، أَن يمنعوا شَرّ الْكفَّار والظالمين من ثلة الْإِسْلَام، وَعَن الرعايا جَمِيعًا، فَإِذا لم يمْنَع الْمُلُوك شَرّ الْكفَّار، وَشر قطاع الطَّرِيق، وَشر الظَّالِمين، والمفسدين، عَن الرّعية، يحرم على الْمُلُوك مَا أكلُوا من تِلْكَ الْولَايَة، وَمن تِلْكَ الرّعية، لِأَن الْمُلُوك حِينَئِذٍ لم يحفظوا الرّعية كَمَا يجب حفظهَا، وَيُحَاسب الله تَعَالَى الْمُلُوك، والسلاطين على ذَلِك، كَمَا قَالَ النَّبِي عليه السلام:" أَلا كلكُمْ رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته، فالإمام الَّذِي على النَّاس رَاع، وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، الرجل رَاع على أَهله بَيته، وَهُوَ مسئول عَن رَعيته، وَالْمَرْأَة راعية على بَيت زَوجهَا وَولده، وَهِي مسئولة عَنْهُم، وَعبد الرجل رَاع على مَال سَيّده، وَهُوَ مسئول عَنهُ، أَلا وكلكم رَاع وكلكم مسئول عَن رَعيته ".
وَإِذا قصد الْكفَّار على الْمُسلمين، يفْرض على الْمُسلمين الْقِتَال مَعَهم، أما إِذا لم يقْصد الْكفَّار على الْمُسلمين، يجب على الْمُلُوك والسلاطين أَن يغزوا الْكفَّار، ويأخذوا أَمْوَالهم، ويفتحوا بِلَادهمْ، وَيكون غرضهم إعلاء كلمة الله تَعَالَى، وقهر أَعدَاء الله، وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام.
وَأما النَّهْي عَن الْفَحْشَاء، وَالْمُنكر، وَالْبَغي فِي الرّعية: فبأن ينْهَى الْمُلُوك، والسلاطين الْفُسَّاق، وَأهل الْفُجُور عَن الْفسق، والجور، وَالظُّلم، والتعدي على الرّعية، بعد أَن يكون الْمُلُوك والسلاطين لَا يظْلمُونَ بِأَنْفسِهِم على الرّعية، لِأَن الظُّلم وَإِن كَانَ حَقِيرًا فِي الدُّنْيَا يكون جَزَاؤُهُ عَظِيما فِي الْآخِرَة، كَمَا قيل:" الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة ".
حِكَايَة: كَمَا حكى أَن عِيسَى عليه السلام مر على قبر، فَرَأى فِيهِ عذَابا، فَدَعَا الله تَعَالَى أَن يحيي أهل هَذَا الْقَبْر، فأحياه الله تَعَالَى بقدرته، فَقَالَ لَهُ عِيسَى عليه السلام: لم تعذب فِي الْقَبْر؟ قَالَ: كنت جَالِسا فِي سوق مصر، وَقد كنت تناولت شَيْئا، وَأَنا مُحْتَاج إِلَى الشظية - أَي الْخلال - فنزعت من حزمة رجل شَوْكَة، فشظيت بهَا أسناني، ومت مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة، وَأَنا فِي عَذَابهَا، فَقَالَ عِيسَى عليه السلام عِنْد ذَلِك: هَذَا عَذَاب الشظية، فَكيف عَذَاب صَاحب الْجذع؟ ثمَّ قَالَ عليه السلام: كَيفَ وجدت الْمَوْت وَسَكَرَاته؟ قَالَ: يَا روح الله، مت مُنْذُ أَرْبَعَة آلَاف سنة، ومرارة الْمَوْت بعد فِي حلقي. فَقَالَ عليه السلام عِنْد ذَلِك: اللَّهُمَّ يسر علينا سَكَرَات الْمَوْت.
وَلِأَن الْملك إِذا لم يمْنَع أهل الْفسق، وَالظُّلم والجور عَن فسقهم وجورهم، وظلمهم على الرّعية، يَقع الْفِتْنَة وَالْفساد والجور فِي أَمْوَال الرّعية، وأزواجهم، وَأَبْنَائِهِمْ ومحارمهم، بِالزِّنَا، واللواطة، والخيانة، وَغير ذَلِك، فينتشر اسْم الْملك فِي الْعَالم بالقبح وَالظُّلم، ويختل أَمر الْمَعْرُوف وَنهى الْمُنكر، ويضعف أَمر الدّين، وَيَقَع الهوان والمذلة على أهل الْعلم، والزهد،
وَالصَّلَاح، ويفشو الظُّلم وَالْفِسْق، وَيفتح حِينَئِذٍ أَبْوَاب الشَّرّ، ويستولى الَّذين لَا أصل لَهُم، وَلَا دين لَهُم، وَلَا صَلَاح لَهُم، على أهل الْحيَاء وَالصَّلَاح، وَالْعُلَمَاء، ويضيع الدّين، واحترام الْعلمَاء، والزهاد، وتزيد كل يَوْم الْبِدْعَة فِي الرّعية، ويتهمون النَّاس بِغَيْر حق، وَلَا يخَافُونَ وزره، ليَأْخُذ الْملك من النَّاس بسب تِلْكَ التُّهْمَة من أَمْوَالهم ومواشيهم، وَيَقَع فِي أَيْديهم شَيْء من ذَلِك الْحَرَام، ويتصرفون حِينَئِذٍ فِي أَمْوَال الْأَيْتَام والأوقاف، تَصرفا مُخَالفا للشَّرْع، وَيمْنَعُونَ الْحق عَن الْمُسْتَحقّين، وَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَة، ويقطعون أوقاف الْمدَارِس والمساجد والرباطات، ووظائف الْعلمَاء والسادات وطلاب الْعلم.
فَإِذا كَانَ كَذَلِك، يمْنَع أَرْبَاب الْحَوَائِج عَن أَبْوَاب الْمُلُوك والسلاطين، وَيرْفَع الْعدْل، ويفشو الْجور، وتنفر طباع النَّاس عَن ذَلِك الْملك، وَيكون الْملك محروما عَن أدعية الصَّالِحين، وَيكون إِثْم جَمِيع مَا فعل من تَحت يَده على ذَلِك الْملك، لِأَن الْملك كَانَ سَببا لفعلهم، وَحِينَئِذٍ تخرب الْولَايَة، ويقذف الله تَعَالَى الرعب فِي قُلُوب جَيش الْملك، وَتذهب الْبركَة عَن الأرزاق، وَيكون الْملك خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، ويستولي على تِلْكَ المملكة الأعادي حِينَئِذٍ.
فَهَذِهِ الوقائع كلهَا تحصل فِي الدُّنْيَا بِسَبَب عدم النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي.
وَأما فِي الْآخِرَة فَيُطَالب الْمُلُوك عِنْد الله تَعَالَى بإيصال الْحُقُوق إِلَى مستحقاتها، يَوْم لَا ينفع مَال وَلَا بنُون، إِلَّا من أَتَى الله بقلب سليم، وَيُحَاسب الْمُلُوك إِلَى مِقْدَار مِثْقَال ذرة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} . (الزلزلة 7، 8) .
وَأما الْحَالة الثَّالِثَة: وَهِي الْحَالة الَّتِي بَين الْمُلُوك وَبَين الله تَعَالَى، أما فِي الْعدْل: فَهِيَ أَن يَسْتَقِيم ظَاهره وباطنه وسره وعلانيته مَعَ الله تَعَالَى، وَيكون غَرَض الْمُلُوك فِي الْإِمَارَة والسلطنة رَضِي الله تَعَالَى، وإيصال الْحق إِلَى الْمُسْتَحق، وارتفاع الظُّلم والبدع عَن الْخَلَائق، لإرضاء أنفسهم وأصحابهم وَأَوْلَادهمْ وَأهل بَيتهمْ وأقاربهم.
وَأما فِي الْإِحْسَان: أَن يعبد الْملك الله تَعَالَى بالإخلاص، كَمَا قَالَ النَّبِي عليه السلام:" الْإِحْسَان: أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". ويشتغل بعد الْفَرَائِض والواجبات وَالسّنَن، بنوافل الطَّاعَات، وَقِرَاءَة الْقُرْآن، ويشتغل بمصالح الْخَلَائق، وَلَا يحرم أَصْحَاب الْحَوَائِج عَن بَابه، وَلَا يغْفل عَن صَلَاح المملكة وفسادها، وَلَا يُعْطي الرّعية فِي أَيدي الظلمَة، ويتفحص عَن أَحْوَال الْبَلَد والعباد كل يَوْم وَلَيْلَة، ويشتغل برعاية حُقُوق الْمُسلمين، ويتصرف بَين عباد الله تَعَالَى بِأَحْكَام الشَّرِيعَة كَأَنَّهُ يرى الله تَعَالَى.
فَإِن لم تقع هَذِه الْحَالة فِي قلبه تَيَقّن فِي اعْتِقَاده وَقَلبه أَن الله تَعَالَى يرَاهُ، وَينظر إِلَيْهِ، ويشاهده، فَإِذا كَانَ كَذَلِك، فَكل حكم يحكم الْملك فِي الرّعية يكون بِمُوجب كَلَام الله تَعَالَى، وَيكون عِنْد الله تَعَالَى من الَّذين قَالَ الله تَعَالَى فِي شَأْنهمْ:{إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر} (الْقَمَر 54) .
وَأما فِي إيتَاء ذِي الْقُرْبَى: فَإِنَّهُ صلَة رحم الْعُبُودِيَّة.
يَعْنِي لَا يرفع الْملك رَأسه من الْعُبُودِيَّة فِي اللَّيْل وَالنَّهَار، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم تراهم ركعا سجدا يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا} (الْفَتْح 29) .
وَلَا يكون الْملك مغرورا بزخارف الدُّنْيَا ولذاتها، كي لَا يحرم عَن نعيم الْجنَّة ولذاتها، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{فَلَا تغرنكم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا يَغُرنكُمْ بِاللَّه الْغرُور} (لُقْمَان 33) .
وَأما النَّهْي عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي: فَهُوَ أَلا يتكبر، وَلَا يعد نَفسه مستغنيا عَن الله عز وجل بِكَثْرَة احْتِيَاج الْخَلَائق إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يتَوَلَّد من ذَلِك الطغيان، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:{إِن الْإِنْسَان ليطْغى أَن رَآهُ اسْتغنى} (العلق 6، 7) بل
ينظر إِلَى عباد الله تَعَالَى بِنَظَر المرحمة، والمسكنة، والحقارة، كي لَا يسْقط الْملك عَن نظر الله تَعَالَى وَرَحمته، كَمَا قَالَ عليه السلام:" ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء " وَقَالَ النَّبِي عليه السلام:
" إِذا رَأَيْتُمْ المتواضعين فتواضعوا، وَإِذا رَأَيْتُمْ المتكبرين فتكبروا " لِأَن التكبر على المتكبر صَدَقَة.
وروى عَن النَّبِي عليه السلام أَنه قَالَ: " مَا من عبد إِلَّا وَفِيه سلسلتان مشدودتان:
إِحْدَاهمَا إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة، وَالْأُخْرَى إِلَى الأَرْض السَّابِعَة، فَإِذا تواضع رفع إِلَى السَّمَاء الْعليا، وَإِذا تكبر وضع إِلَى الأَرْض السُّفْلى ".
وَقَالَ عليه السلام: " إيَّاكُمْ والتكبر، فَإِنَّهُ أهلك من كَانَ قبلكُمْ ".
وَقَالَ النَّبِي عليه السلام: " لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من الْكبر ". وَالله الْمُوفق