المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: أحوال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر قبل الدعوة - الدعوة الإصلاحية في بلاد نجد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب وأعلامها من بعده

[عبد الله المطوع]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الفصل التمهيدي

- ‌المقصود بالدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية

- ‌ أهداف الحديث عن الدعوة الإصلاحية ودراستها:

- ‌تعريف الدعوة إلى الله تعالى:

- ‌ أهمية الدعوة إلى الله وفضلها

- ‌ منهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله

- ‌الفصل الأول: أحوال العالم الإسلامي قبل الدعوة الإصلاحية

- ‌أولا: حال العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر الهجري

- ‌ثانيا: أحوال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر قبل الدعوة

- ‌الفصل الثاني: التعريف بالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌ نسبه وأسرته:

- ‌مولد الشيخ ونشأته:

- ‌ صفاته:

- ‌ رحلاته العلمية وشيوخه:

- ‌العوامل الرئيسية التي ساهمة في بناء شخصية الشيخ العلمية والدعوية

- ‌ تلاميذ الشيخ:

- ‌ مؤلفات الشيخ:

- ‌وفات الشيخ

- ‌ ثناء العلماء عليه:

- ‌الفصل الثالث عقيدة الشيخ ومنهجه في الدعوة

- ‌تمهيد:

- ‌ منهج الشيخ في التوحيد

- ‌ أصول منهجه في الاستدلال

- ‌موقفه من الصحابة الكرام ومن أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين

- ‌ موقف الشيخ من كرامات الأولياء

- ‌موقف الضيخ من السمع والطاعة لولي الأمر

- ‌ منهجه في قضية التكفير والقتال

- ‌ موقفه من التقليد والاجتهاد

- ‌ رفض الشيخ لمناهج الجاهلية وفضحه لمسائلها

- ‌ منهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌ أهداف دعوة الشيخ وأبرز إصلاحاتها

- ‌ مراحل دعوة الشيخ

- ‌الفصل الرابع: مناصروا الدعوة الإصلاحية

- ‌التمهيد

- ‌مناصروا الدعوة والاصلاح من الحكام والولاة (حكام الدولة السعودية الأولى)

- ‌مناصروا الدعوة والاصلاح من الحكام والولاة (حكام الدولة السعودية الثانية)

- ‌مناصروا الدعوة والاصلاح من الحكام والولاة (حكام الدولة السعودية الثالثة)

- ‌مناصروا الدعوة الإصلاحية من العلماء والدعاة

- ‌الفصل الخامس: خصائص وآثار الدعوة

- ‌خصائص الدعوة الإصلاحية

- ‌ آثار الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية

- ‌ آثار الدعوة الإصلاحية خارج الجزيرة العربية

- ‌الفصل السادس:‌‌ الخاتمة

- ‌ الخاتمة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ثانيا: أحوال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر قبل الدعوة

‌ثانيا: أحوال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر قبل الدعوة

ثانيا: أحوال الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر قبيل الدعوة

أولا: الحالة السياسية:

سبق أن بينا حدود الجزيرة العربية وسنتحدث الآن عن أحوالها السياسية والدينية في القرن الثاني عشر الهجري، ففي الجزء المهم من الجزيرة العربية وهو الحجاز كان يحكمه الأشراف تحت سلطة الدولة العثمانية، وكان هؤلاء الأشراف خلال القرن في منازعات وحروب شديدة فيما بينهم، بين الأخ وأخيه أو قريبه، تسفك فيه الدماء وتستحل فيه الحرمات ولم يزد معدل ولاية الواحد منهم على سنتين لكثرة الاغتيال والغدر فيما بينهم، ولهوانهم على السلطان العثماني، فقد أوكل أمرهم إلى والي مصر يعزل من يشاء منهم ويولي من يشاء.

أما في اليمن فإنها كانت محكومة منذ أمد بعيد بحكم الأئمة الزيديين، وكانت بلادهم قد شهدت دخول العثمانيين إليها ولم يستقر الأمر لهم استقرارا تاما فيها، واضطروا في نهاية الأمر إلى تركها بسبب ثورة اليمنيين ضدهم، كما أن الأئمة الزيديين لم تكن أمورهم السياسية بذلك الاستقرار التام بل إن حالهم أقرب ما يكون إلى

ص: 66

الاضطراب والفوضى منها إلى الاستقرار بسبب الخلافات المستمرة بينهم وتسابقهم إلى الحكم.

أما في الأحساء وما جاورها فإن بني خالد تمكنوا بزعامة براك آل حميد من إجلاء الحامية التركية والاستيلاء على الأحساء سنة 1080هـ وفي أوج قوة بني خالد استطاعوا مد نفوذهم إلى الكويت وبعض بلاد نجد.

أما بلاد نجد، فإنها لم تشهد سلطة قوية بعد حكم الدولة الأخيضرية وهي أسرة علوية سيئة السيرة، استقلت عن الدولة العباسية في سنة 253هـ، واستمر حكمها حتى سقطت في منتصف القرن الخامس الهجري، ومنذ ذلك التاريخ وبلاد نجد لم تعرف حكومة قوية، وإنما هي عبارة عن إمارات صغيرة متفرقة متنازعة لا تعرف السكينة والأمن والطمأنينة، وقليل منها يدين بالولاء لبني خالد في الأحساء أو للأشراف في الحجاز بسبب الظروف الاقتصادية.

هذه حالة الحاضرة، أما البادية، فإنهم قبائل متناحرة متنافرة تقوم بينها الحروف وتعتدي كل واحدة منها على الأخرى لأتفه الأسباب، أما العثمانيون فلم يكون لهم أي نفوذ في بلاد نجد، ولم تطأ أرضه قدم حامية تركية، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الدولة العثمانية لم تهتم كثيرا في أن تخضع هذه المنطقة الداخلية لنفوذها؛ لأنها لا ترى في

ص: 67

ذلك فائدة تذكر نظرا لبعدها عن المناطق الاستراتيجية1.

ثانيا: الحالة الدينية:

أما الحالة الدينية في الجزيرة العربية، فقد تحدث عنها عدد من المؤرخين، وكان من أبرزهم المؤرخ حسين بن غنام2، ولأهمية كلامه وواقعيته فسنذكره ملخصا3، فيقول رحمه الله: في مطلع القرن الثاني عشر الهجري كان أكثر الناس قد انهمكوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، وانطمست بينهم أنوار الإسلام والسنة؛ لذهاب أهل العلم والبصيرة، وغلبة أهل الجهل، واستعلاء ذوي الأهواء

1 انظر: التاريخ الإسلامي، العهد العثماني، محمود شاكر، ص240ـ256، دعوة الشيخ وأثرها، د. محمد السلمان، ص 17، احتساب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مرفت أسرة، ص 24ـ27.

2 هو الشيخ حسين بن أبي بكر آل غنام من قبيلة بني تميم، ولد في المبرز في الأحساء، ونشأ فيها وطلب العلم على يد عدد من علمائها، وأظهر مقدرة في علم اللغة والأدب، وكان شاعرا، وبعد ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب انتقل إلى الدرعي، واتصل بالشيخ ودرس على يديه، ثم جلس للتدريس في الدرعية، من مؤلفاته: تاريخ نجد المسمى: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، وذكر فيه تاريخ الدعوة وغزواتها ورسائل الشيخ محمد مع المدعوين، ومن كتبه: العقد الثمين في شرح أصول الدين، وغيرها، توفي رحمه الله في شهر ذي الحجة من عام 1225هـ.

انظر: علماء نجد خلال ثمانية قرون2/56، للشيخ عبد الله بن بسام.

3 انظر: كتابه تاريخ نجد، 1/10 وما بعدها، وذكر هذا التلخيص د. صالح العبود في كتابه: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، 1/60ـ 71.

ص: 68

والضلال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلال؛ ظانين أنهم أدرى بالحق، وأعلم بطريق الهدى.. عدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الأولياء والصالحين من الأموات والأحياء، يستغيثون بهم في النوازل والكوارث، ويقبلوا عليهم في الحاجات والرغبات، ويعتقدون النفع والضر في الجمادات كالأحجار والأشجار، ويعبدون أهل القبور، ويصرفون لهم الدعاء والنذور في حالتي الضراء والسراء، زائدين على مشركي الجاهلية الأولى، حيث كانوا إذا مسهم الضر لا يدعون إلا الله مخلصين له الدين، أما إذا نجاهم الله؛ فهم يشركون، لكن هؤلاء أحبوا أوثانهم من دون الله محبة أعظم من محبتهم لله؛ سرت في سويداء قلوبهم، وبدت على صفحات وجههم، وألستنهم وجوارحهم، وبذلوا أعمارهم وحياتهم في دفع الحق ومن يبديه.

وهذا ليس في قطر دون آخر، ولكنه في غالب الأقطار، كما أنه ليس في أول زمن الشيخ فحسب، بل كان بدؤه من قديم، حيث حدث التغيير ولابتداع والاختلاف بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان من بعده من أهل القرون الفاضلة، ثم تعاقبت العصور وتوالت السنون، والغي يزداد، والضلالة تنتشر، حتى جاء من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والبدع؛ لأنهم وجدوا آباءهم وأجدادهم وأسلافهم عليه، فقالوا: إنا على آثارهم مقتدون.

ص: 69

وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، يأتون عند قبر زيد بن الخطاب1رضي الله عنه في الجبيلة، فيدعونه لتفريج الكرب وكشف النوب، وكان عندهم مشهورا بذلك ومذكورا بقضاء الحوائج.

وكانوا يزعمون أن في قريوة في الدرعية قبور بعض الصحابة، فعكفوا على عبادتها، وصار أهل تربتها أعظم في صدورهم من الله.

وفي شعيب غبيراء؛ يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور2رضي الله عنه، وهو مكذوب، يأتون من المنكرات عنده ما لا يعهد مثله.

وكان الرجال والنساء يأتون بليدة الفدا لفحل النخل الذي فيها، ويفعلون عنده أقبح الأفعال، ويتبركون به، ويعتقدون به، فكانت المرأة إذا تأخرت عن الزواج تأتيه فتضمه بيديها؛ ترجو أن يفرج عنها كربها، وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول.

وكان طوائف من الناس تقصد شجرة الطرفية؛ يتبركون بها، ويعلقون الخرق عليها إذا ولدت المرأة ذكرا؛ لعله يسلم من الموت.

1 هو زيد بن الخطاب بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأبيه، شهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت معه راية المسلمين في اليمامة، واستشهد بها سنة12هـ.

انظر: الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، 1/565.

2 الصحابي الجليل: ضرار بن الأزور مالك بن أوس، سكن الكوفة، واستشهد في اليمامة، انظر: الإصابة: 2/208.

ص: 70

وفي أسفل الدرعية غار كبير؛ يزعمون أن امرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت، فانفلق لها الغار، وأجارها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز، ويبعثون بصنوف الهدايا إليه.

وكان عندهم رجل يزعمونه من الأولياء اسمه تاج؛ سلكوا فيه سبيل الطواقيت، فصرفوا إليه النذور، وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجا، وكان هو يأتي إليهم من بلدة الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج، وكان أهل البلاد المجاورة يعتقدون فيه اعتقادا عظيما، حتى خافه الحكام، وهاب أعوانه وحاشيته الناس؛ فلا يتعرضون لهم بما يكرهون، ويدعون فيه دعاوى فظيعة، وينسبون إليه حكايات قبيحة، كانوا لكثرة ما تناقلوها وأذاعوها يصدقون ما فيها من كذب وزور، زعموا أنه أعمى، وأنه يأتي من بلدة الخرج من غير قائد يقوده، وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي ضلوا لسببها عن الصراط المستقيم، وأعرضوا عن إخلاص الدعاء لله وحده رب العالمين.

وأما ما يفعل في الحرم المكي الشريف ـ زاده الله رفعة وتشريفا ـ؛ فهو يزيد على غيره كثيرا؛ ففي تلك البقاع المطهرة تأتي جماعات الأعراب والفساق والضلال والعصيان ما يملأ القلب أسى وحزنا؛

ص: 71

فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود، تظاهر بذلك جمع غفير، ولم يكون لأهل العلم تغيير، بل صادموا الحق، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق1،فمن ذلك ما يفعل عند قبة قبر أبي طالب"من الأشراف"، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب، كان يخرج إلى بلدان نجد، ويضع عليهم خراجا، فإن أعطي ما أراد انصرف، وإلا عاداهم وحاربهم، فصاروا يأتون قبره بالسماعات2والعلامات، يستغيثون به عند حلول المصائب ونزول الكوارث، وكذلك ما يفعل عند قبر المحجوب " في الطائف"؛ يعظمون أمره، ويحذرون سره، ويطلبون عنده الشفاعة3، ومغفرة الذنوب، وإن التجأ سارق أو متعد

1 يشير الشيخ ابن غنام رحمه الله إلى الغالبية من العلماء الذين رضوا بالباطل وزينوه لأقوامهم، وهم الذين صادموا الشيخ محمد رحمه الله وعارضوه لما قام بالدعوة الإصلاحية.

2 المقصود بها: الغناء والطرب، انظر: لسان العرب، لابن منظور، 8/162، مادة سمع.

3 كانت حجة المشركين في القديم والحديث عند توجههم لأصنامهم أو أوليائهم هي طلب الشفاعة عند الله، وحكى الله ذلك عن المشركين بقوله سبحانه:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال عز وجل:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18] ، ويرد عليهم بأن الله تعالى حين جعل الشفاعة اشترطها بشرطين لا بد من تحققهما لتتحقق هذه الشفاعة وتنفع صاحبها، وهذان الشرطان هما:

1ـ إذن الله تعالى للشافع أن يشفع؛ لأن الشفاعة ملكه سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] .

2ـ رضاه عز وجل عن المشفوع فيه بأن يكون موحدا؛ لأن المشرك لا تنفعه الشفاعة، كما في قوله سبحانه:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .

وقال تعالى عن هذين الشرطين: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] ، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم حق وهي ثابتة في النصوص الشرعية، فهو صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الموقف يوم القيامة، ويشفع في أهل الجنة حتى يدخلوها، ويشفع لبعض العصاة من أمته ممن استحقوا النار أن لا يدخلوها، وغيرها من الشفاعات التي للنبي صلى الله عليه وسلم، ولمن أذن له الله عز وجل من الأنبياء والصديقين وغيرهم، بعد رضاه سبحانه عن المشفوع له، انظر: تيسير العزيز الحميد، ص273، والإرشاد إلى صحيح الاعتقاد، الشيخ د. صالح الفوزان، ص 293.

ص: 72

أو غاصب إلى أحد هذين القبرين؛ لم يتعرض له أحد بما يكره، ولا يخشى معاقبة، أما إن تعلق جان مهما تكن جنايته بالكعبة؛ فإنه يسحب منها سحبا، لا يرعون لها حرمة ولا منزلة.

ومن ذلك أيضا: ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها في سَرِف، وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلاة؛ من اختلاط النساء بالرجال، وفعل الفواحش والمنكرات، وارتفاع الأصوات عندهما بالدعاء والاستغاثة وتقديم الفدية، مما لا يسوغ لمسلم أن يبيحه، فضلا عن أن يراه قربة وعبادة.

ص: 73

وكذلك ما يأتونه عند قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف من هذه الأمور التي تشمئز منها نفس الجاهل؛ فكيف بالعالم؟ يقف عند قبره المكروب والخائف متضرعا مستغيثا في حالة عبودية، وينادي أكثر الباعة في الأسواق: اليوم على الله وعليك يا ابن عباس! ثم يسألونه ويسترزقونه1.

وأما ما يفعل عند قبر النبي صلى الله من الأمور العظيمة المحرمة، كتعفير الخدود، والانحناء والسجود خضوعا وتذللا، واتخاذ ذلك القبر عيدا؛ فهو أعم من أن يخفى، وأعظم من أن يذكر؛ لشهرته

1 وهذا كله من الشرك الأكبر المخرج من الملة؛ لكونه صرفا لأنواع العبادة لغير الله تعالى من التوكل على غيره والاستغاثة بغيره سبحانه وتعالى، وطلب الحاجة والرزق من المخلوقين الضعفاء، قال تعالى:{قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ".. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان، انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وغلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر"، انظر: مجموعة التوحيد، ص290.

ص: 74

وشيوعه، وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله1، وكفى بذلك زجرا ووعيدا، ونهى عما يفعله عنده الجهال وأهل الضلال، وغلظوا في ذلك تغليظا شديدا، ويكل اللسان عن وصف ما يفعل عند قبر حمزة رضي الله عنه، وفي البقيع وقباء، ويعجز القلم عن بيانه.

وأما ما يفعل في جدة؛ فقد عمت به البلوى، وبلغ من الضلال والفحش الغاية؛ فعندهم قبر طوله ستون ذراعا، عليه قبة، يزعمون أنه قبر حواء، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيأه.

وعندهم معبد يسمى العلوي، فاقوا في تعظيمه جميع الخلائق، فلو دخل قبره سارق أو غاصب أو قاتل؛ لم يعترضه مؤمن ولا فاسق بمكروه، ولم يجرؤ أحد أن يخرجه منه، فمن استجار بتربته أجير، ولم ينله أحد من الحكام بأذى.

وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك والفتن؛ فأكثر من أن يستقصى، فمن ذلك ما يفعله بعض أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي، فكانوا يغدون جميعا ويروحون؛ يدعونه ويستغيثون به، فتأتيه المرأة إذا تعسر حملها أو كانت عقيما، فتقول عنده كلمة

1 قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" رواه الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه رقم7311، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله، انظر: تحذير الساجد، ص 18.

ص: 75

عظيمة قبيحة؛ فسبحان من لا يعالج بالمعاقبة على الذنوب.

وأما أهل برع فعندهم البرعي1، وهو رجل يرحل إلى دعوته كل دان وقاص، ويؤتى إليه من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال، ويقيمون عند قبره للزيارة، ويتقربون إليه بالذبائح؛ كما حقق أخباره من شاهدها.

1 ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نماذج من شعر البرعي الذي يقصده هؤلاء الجهال بالدعاء والاستغاثة، ومن ذلك قوله:

يا سيدي يا رسول الله يا أملي

يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني

هبني بجاهك ما قدمت من زلل

ودا ورجح بفضل منك ميزاني

واسمع دعائي واكشف ما يساورني

من الخطوب ونفس كل أحزاني

فأنت أقرب من ترجى عواطفه

عندي وإن بعدت داري وأوطاني

إني دعوتك من "نيابتي برع"

وأنت أسمع من يدعوه ذو شأن

فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي

برحمة وكرامات وغفران

فانظر ـ رحمك الله إلى هذه الكلمات الشركية التي غلا فيها قائلها بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى عد له بعض خائص الإله عز وجل، ويعلق الشيخ سليمان بن عبد الله على هذه الأبيات بقوله: "وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلبات دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم،

وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال أو تحصيل مأرب، فالله المستعان".

انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، ص 224ـ226.

ص: 76

وأما أهل الهجرية؛ فعندهم قبر يسمى علوان، وقد أقبل عليه العامة في النوائب، واستغاثوا به ويسمونه منجي الغارقين، وأغلب أهل البر والبحر منهم يطربون عند سماع ذكره ويستغيثون به، وإن لم يصلوا إلى قبره، وينذر له في البر والبحر، وعند أهل بلده نذور تزيد عن الحصر، ويفعلون عند قبره السماعات والموالد، ويجتمعون عنده بأنواع من المعاصي والمفاسد، وليس في أقطار اليمن مثله في الاشتهار، ولهم في حضرته أمور يفعلونها تدينا؛ كطعنهم أنفسهم بالسكاكين والدبابيس، ويقولون وهم يرقصون طربين وقد ملأ الوجد ألبابهم: يا سادتي قلبي بكم مُعنى.

وأما حال حضرموت والشحر ويافع وعدن؛ فقد ثوى فيهم الغي والضلال، عندهم العيدروس يفعل عند قبره من السفه والشرك ما يكفي ذكر مجمله؛ يقول قائلهم: شيء لله يا عيدورس! شيء لله يا محيي النفوس!!

وأما بلدان الساحل؛ فعندهم الكثير: فأهل المخا عندهم الشاذلي، أكثرهم يدعونه ويستغيث به، وتفتر ألستنهم عن ذكره قعودا وقياما.

وأهل الحديدة عندهم الشيخ صديق؛ يعظمونه ويغلون فيه، إلى حد أنه لا يمكن أحد أن يركب البحر أو ينزل منه إلى البر حتى يجيء

ص: 77

إليه ويسلم عليه ويطلب منه الإعانة والمدد فيما أراد.

وأما أهل اللحية؛ فعندهم الزيلعي، واسمه عندهم الشمس؛ لأن قبره ليس عليه قبة؛ يصرفون إليه جميع النذورن ويعظمونه، ويدعونه أشد ما يكون ذلك عبادة وضراعة، ويحكي عنه أهل البادية منهم أنه كان رسولا في حاجة، فأراد أن يدخل بلده والشمس متدلية للغروب، فقال لها: قفي! فوقفت، وسمعت قولته وامتثلت، فدخل بلده نهارا، وعندهم قبر رابعة مشهور؛ لا يحلفون يمينا صادقا إلا بها.

وفي أراضي نجران الطامة المعضلة، وهو الرئيس المعروف عندهم بالسيد؛ فقد أتى أهل نجران وما يليهم من الأعراب والقبائل من تعظيمه والغلو فيه والاعتقاد الشركي ما أفضى بهم إلى الضلال والإلحاد، صرفوا له من أنواع العبادة سهما، وجعلوا فيها للألوهية قسما، حتى كادوا يجعلونها لله ندا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وأما في القطيف والبحرين؛ فالبدع الرافضية الشركية والمشاهد الوثنية التي لا تكاد تخفى على أحد من الناس.

ثم يقول ابن غنام رحمه الله: فإن من رأى أفعال الناس في بلاد المسلمين مما أشرنا إليه، وهو عارف بالإيمان؛ تبين له غربة الإسلام في

ص: 78

ذلك الزمان، وصيرورة الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية غايتهم ومقصدهم وسرهم في الخلق والإيجاد.

ثم يقول ابن غنام رحمه الله: وهذا في الغالب الأكثر، وليس عليه جميع المسلمين، حيث إن تعالى لا يجمع الأمة على ضلالة، ولا يعمها بالسفاهة والجهالة؛ كما ثبت ذلك في صحيح الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أخبر أيضا أن في أمته أناسا لا يزالون بهديه يستمسكون إلي قيام الساعة، كما أن أكثرهم في أزمنة الغربة مخطئون، وعن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومناهجه منحرفون

وهذا مما زينه الشيطان واقتضته الطباع الناقصة والنفوس البشرية، حتى إن ذلك يوجد من بعض العلماء المنتسبين إلى أحد المذاهب المتعصبين؛ فلا يقبلون من الدين رأيا ولا رواية إلا ما كان لأصحابهم به عمل أو دراية، فيرفض السنة النبوية واتباعها، ولو عرف أن الحق ليس مع مذهبه، وقد يحمله التعصب على الطعن في الأئمة وثلبهم، وكذلك من المتعبدة والمتصوفة من يرى طريقة العلم سفاهة وضلالا، ويدعي أن العلماء لم يضربوا من صافي الشريعة ومعينها؛ كبرت فرية وكذبة من هؤلاء المتصوفة، أ. هـ.

هذه صورة مجملة من الشيخ ابن غنمام رحمه الله لحال الجزيرة العربية قبيل الدعوة الإصلاحية، وهي صورة تحمل في طياتها الكثير من مظاهر البعد عن شرع الله تعالى والتخلف الديني والاجتماعي في

ص: 79

أوضح صوره، وبهذه الصور الدينية والاجتماعية البالغة السوء يتضح لنا أهمية قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بدعوته الإصلاحية المباركة.

هذا ما يتعلق بأمر العقيدة وهو انتشار الشرك الذي اعتبرناه المظهر الأول من مظاهر الحالة الدينية السيئة في العالم الإسلامي والمظاهر الأخرى هي المظاهر الموجودة نفسها في الجزيرة العربية.

على أنه يمكن استثناء منطقة نجد من المظهر الثالث وهو غلبة الصوفية وانتشارها، فإن الصوفية في الحقيقة لم تكن شائعة في نجد بمثل ما هي عليه في بلدان العالم الإسلامي الأخرى.

وتميزت منطقة نجد بسيادة المذهب الحنبلي على أهلها وعلمائها؛ لكونه أقرب المذاهب الفقهية الأربعة التي تهتم بصفاء العقيدة والأخذ بظاهر النص1.

*****

1 الدرر السنية،1/19، 1/57.

ص: 80