الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1ـ
منهج الشيخ في التوحيد
كانت قضية التوحيد والعقيدة الصحيحة من أهم القضايا التي تناولها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، نظرا لأنها أولى القضايا التي يجب أن يتناولها الدعاة، ولواقع مجتمعه الذي كان يعج بالشركيات والبدع والبعد عن دين الله، وهذه القضية هي أيضا من أكثر القضايا التي نازع فيها الخصوم الشيخ في دعوته، ورغم تلك التحديات والضغوط والتي تمثلت في إلحاق الأذى به وتأليب العامة عليه، وإثارة للشبه والأكاذيب على شخصه وعلى دعوته، فقد واصل رحمه الله دعوته لهذا الأصل العظيم.
ومنهج الشيخ في العقيدة يقوم على الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، وذلك يتضح من خلال العديد من رسائله ومؤلفاته، ولعل من أبرزها هنا، رسالته لأحد الأشخاص، حيث بين الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة وغيرها قيام ذلك المنهج على أربع مسائل1:
1ـ بيان التوحيد الصحيح وأقسامه في الكتاب والسنة الصحيحة،
1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، ص 24، وانظر: عقيدة الشيخ، د. صالح العبود، 1/350، والدرر السنية، 1/59ـ74.
وتوضيح الفرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وأنه لا يلزم من كون الشخص مقرا بأن الله تعالى هو الرزاق المحيي المميت أن يكون موحدا، فلابد من اقترانهما اعتقادا وقولا وعملا؛ وبيانه أن كفار قريش كانوا يقرون بالربوبية ومع ذلك عدهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كفارا ومشركين، وبين أيضا أنه لابد أن يكون الشخص مفردا للعبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، لا لولي ولا لقبر ولا إلى غير ذلك، وعند ذلك يكون الإنسان مؤمنا حق الإيمان، ويبين الشيخ دائما في مؤلفاته فضل التوحيد وأهميته للمسلم في الدنيا والآخر.
والتوحيد عند الشيخ هو أصل الدين، الذي أرسلت به الرسل وأنزلت من أجله الكتب، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، وهو يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذه الأنواع مرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، فمن أخل بواحد منها أخل بالآخر.
2ـ بيان الشرك وأنواعه ومظاهره ووسائله، والتحذير والبراءة منه ومن أهله، ويبين الشيخ أيضا أنه يدخل فيه: من تقرب لغير الله بقصد اتخاذه واسطة بينه وبين الله تعالى، أو بقصد الشفاعة عند الله سبحانه، أو صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى.
3ـ تكفير من عرف التوحيد، واتضح له أنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
ومع ذلك يبغضه ويصد الناس عنه، وكذلك تكفير من عرف الشرك والمشركين، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لمحاربتهم ويقر بذلك، ثم بعد ذلك يمدحه ويحسنه للناس ويقول: إنه يخطئ السواد الأعظم، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة" 1، والرد على هذا الاستدلال الباطل.
4ـ الأمر بقتال هؤلاء المشركين خاصة بعد إقامة الحجة عليهم، والجهاد ضدهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، كما قاله الله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] .
والشيخ يرى بأن: " الناس يتفاضلون في التوحيد، تفاضلا عظيما، ويكونون فيه على درجات بعضها أعلى من بعض، فمنهم: من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة؛ ومنهم: من يدخل النار، وهم العصاة، ويمكثون فيها على قدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها لأجل ما في قلوبهم من التوحيد والإيمان، وهم في ذلك متفاوتون؛ كما في الحديث
1 رواه الترمذي في كتاب الفتن، باب لزوم الجماعة، رقم: 2167، ورواه أبو داود، في كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها، رقم:4253، صححه الشيخ الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، برقم: 1331، ومشكاة المصابيح1/61.
الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه من الخير ما يزن برة" وفي لفظ: "شعيرة" وفي لفظ: "ذرة" وفي لفظ: "حبة خردل من إيمان" 1، ومن تأمل النصوص: تبين له أن الناس يتفاضلون في التوحيد والإيمان، تفاضلا عظيما، وذلك بحسب ما في قلوبهم من الإيمان بالله، والمعرفة الصادقة، والإخلاص، واليقين، والله أعلم"2.
والناظر في رسائل الشيخ ومؤلفاته رحمه الله يتضح له ولا شك التزام منهجه في العقيدة على نصوص الكتاب والسنة، وفق منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة3.
ونترك الشيخ محمد رحمه الله يوضح عقيدته بنفسه في رسالته الموجزة القيمة التي كتبها لأهل القصيم ونصها لما سألوه عن عقيدته قال: " أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم: أني أعتقد ما
1 رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه، رقم: 42، ورواه البخاري أيضا في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : 6861، ورواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم:285، 286.
2 الدرر السنية، 1/207.
3 ويدرك الباحث المدقق في تراث الشيخ العلمي وفي دعوته أنه يسير على هدي السلف الصالح أهل السنة والجماعة، فهو ضمن السلسلة المباركة لأئمة الهدى وأعلام الدين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم السائرة على هديه في الاعتقاد والقول والعمل.
اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره؛ ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه؛ لأنه تعالى لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه.
فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا، وأحسن حديثا، فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون، من أهل التكييف، والتمثيل؛ وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180ـ182] .
والفرقة الناجية: وسط في باب أفعاله تعالى، بين القدرية والجبرية؛ وهم وسط في باب وعيد الله، بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين، بين الحرورية والمعتزلة؛ وبين المرجئة والجهمية؛ وهم وسط: في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج.
وأعتقد أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأومن: بأن الله فعّال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدد، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين، حفاة عراة غرلا، تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102ـ103] وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله.
وأومن: بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا؛ وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم، يمر به الناس على قدر أعمالهم.
وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع، وأول مشفع؛ ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلاع؛ ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى، كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وهو لا يرضى إلا التوحيد؛ ولا يأذن إلا لأهله؛ وأما المشركون: فليس لهم من الشفاعة نصيب؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] .
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، ولا يضامون في رؤيته.
وأومن بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته، ويشهد بنبوته؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين؛ ثم علي المرتضى؛ ثم بقية العشرة؛ ثم أهل بدر؛ ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان؛ ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم؛ وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم، وأترضى عنهم، وأستغفر لهم، وأكف عن مساويهم، وأسكت عما شجر بينهم؛ وأعتقد فضلهم، عملا بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات، إلا أنهم يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام؛ وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام: برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل.
وأرى وجوب السمع والطاعة: لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته؛ وحرم الخروج عليه؛ وأرى هجر أهل البدع، ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر، وأكل سرائرهم إلى الله؛ وأعتقد: أن كل محدثة في الدين بدعة.
وأعتقد أن الإيمان: قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ وهو: بضع وسبعون
شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة، حررتها وأنا مشتغل البال، لتطلعوا على ما عندي، والله على ما نقول وكيل"1.
فانظر إلى هذه العقيدة الصافية الموافقة لمعتقد أهل السنة والجماعة والتي تمتليء بها كتب أعلامهم، يؤكدون عليها.
ويتضح من هذه الرسالة: بالإضافة إلى أن الشيخ يعتقد عقيدة السلف الصالح رحمهم الله، سعة علم الشيخ ودقة استنباطه، وقوة عباراته، وتأثره بأساليب كبار علماء السلف كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
*****
1 الدرر السنية، 1/29ـ33، وانظر: مؤلفات الشيخ، الرسائل الشخصية، ص8ـ11.