المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتح الله الشريف المتولي - الروض النضر في ترجمة أدباء العصر - جـ ٢

[عصام الدين العمري]

الفصل: ‌فتح الله الشريف المتولي

‌فتح الله الشريف المتولي

(1)

نكتة الوقت المعي الزمان

عارف الوقت لوذعي الأوان

بدر أفق الكمال شمس المعالي

روح جسم الزمان والعرفان

رجل الأدب نظما ونثرا، وفريد الكمال تصنيفا وشعرا. روح جسد الأدب والبيان، عقود نحر الكمال والعرفان. نور حديقة الكمال والنهى، ونور حدقة السماك والسها،

(1) ترجم له محمد أمين العمري في منهل الأولياء (1: 293) فقال «الشيخ فتح الله المتولي على وقف النبي يونس والنبي جرجيس عليهما السلام، ابن عبد القادر. قرأ على شيوخ الموصل وغيرهم وحصل علما غزيرا. والف وصنف، الا انه لم يقرئ ولم يدرس، لانهما كه بتدبير الوقفين فلم يشتهر.

ورحل الى الروم مرات، وانتفع به أهلها. وله يد طولى في سرعة الكتابة، وجودة الخط في صحة وضبط. وعنده اجازة برواية الحديث عن الشيخ سليم الواعظ، واجازة في الطريق وغيره. وفيه سلامة طبع وسلاسة قياد. كان الوالد يألفه مألفة اكيدة، وبينهما صحبة قوية الاسباب. وسنه الآن قد جاوز التسعين.

وله نظم حسن ومدائح، ومقامات لطيفة. (ثم ذكر له خمسة ابيات بائية من شعره) وقال بعد ذلك:

ووالده عبد القادر صاحب الطبع الزاهر كان له قدم ثابتة في الأدب والشعر. ومعاطاة كئوسهما، ومشاركة في العلم ومولده في سنة الف وتسعة وستين، وتوفي بعد المائة والف بثلاث واربعين.»

وذكره صاحب الدر المكنون في حوادث سنة 1204 فقال: «وفيها توفي الفقيه الفاضل والأديب الكامل» الشريف فتح الله بن عبد القادر الموصلي الحنفي، متولي أوقاف نبي الله يونس، ونبي الله جرجيس مشاركة مع القاضي السيد عبيد الله افندي.

وقد ذكر والده عبد القادر في حوادث سنة 1143 هـ فقال عنه: «وفيها توفي الاديب الفقيه الشاعر عبد القادر الموصلي. وهو والد فتح الله المتولى. له «تخميس الهمزية في الصلاة على خير البرية» .

ولفتح الله المتولي شعر كثير وهو صاحب الارجوزة التي ذكر معظمها صاحب الروض في ترجمة الحاج حسين باشا الجليلي وقد وصف فيها حصار نادر شاه للموصل سنة 1146 ودفاع اهلها الباسل عنها.

وقد نشرت بمجلة المجمع العلمي العراقي سنة 1964 وقد اشار صاحب منهل الأولياء ان له مقامات لطيفة ومنها مقامة يهنئ بها سليمان باشا الجليلي أنشأها سنة 1184 هـ. توجد منها نسخ في خزانات بعض فضلاء الموصل.

ص: 279

زاخر اللجة في النشيد، لائح البهجة في البيت والقصيد. والوارد نهر المجرة بآدابه، والخائض بحر المعارف بأسبابه وإطنابه. الناظم في عقود القريض نظم اللآل، والمستخرج جواهر الألفاظ من أصداف المعال. الثائر للأدب ثورة الأسد، والصائغ للمعالي أصناف الجواهر والعقد. اثبت في الأدب القدم، ورفع على هام المعارف العلم.

روض فضل يجتني إحسانه

وكذا تجنى من الروض الثمار

كعبة الافضال والركن الذي

للمنى فيه استلام واعتمار

رفيع الجناب، صنو المعارف والآداب. رقى ذروة المجد وصهوة الإفادة، وزين جيد الكمال بعقود المجد والسيادة. فوصل إلى خزائن الأدب وفض ختمها، وطبع على دراهم المعارف ودنانير اللطائف ومنح لنفسه وسمها. فلبس في الأدب والكمال برودا، واقتطف من رياض الفضائل شقائق وورودا. فاختلس بكماله القلوب والألباب، وأعاد للأدب بعد الشيب أخلاق الشباب. فأعجز بدرر نشيده ونظامه، وأحرز الكمالات بآدابه كالبدر ليلة تمامه، بشهامة نفس وذات، وكمال وجود وصفات، فهو في العراق، كالشمس في حالة الإشراق.

وله في مراتب الفضل ذهن

هو مفتاح مقفل المشكلات

كتمته أيدي الدهور وابدت

هـ على فترة من المكرمات

فهو صديقي الصادق في وداده، الغائر على أغوار الخلوص وأنجاده. نجتمع في كل آن، وقد حظينا بقرب الزمان والمكان.

فعلى الدوام استعطفه، وأدوايه بمعاجين الأدب واستلطفه.

ص: 280

فنتناشد الأشعار، ونتناوب الأدب في الأسمار. فهو بلبل أفراحي وهزار شوقي وأتراحي. أصغى فيقول، وأخلى له ميدان النظم فيصول.

وأني وإياه لمزن وروضة

يباكرني سقيا وأزكو له غرسا

صفا بيننا من خالص الود جوهر

غلبنا به في نور جوهرها الشمسا

له من النظم ما يحكي العقود، ومن النثر ما هو الماء في الخدود وقد أثبت من أدبه ما لو ذاقه القند لذاب، أو أبصره البدر عند الكمال لغاب.

فمن نظمه قوله ملغزا في اسمي عثمان:

يا لوذعي من ذوي حسن وإحسان

يا من فضائله تبدو ببرهان (1)

قلدت يا سيدي جيد الزمان بنظ

مك الذي ما له في الوقت من ثاني

فما خماسي تركيب وهيئته

من أربع كامل من غير نقصان

في رأسه قد رأيت العين واحدة

في وجهه لم يزل كالظبي عينان

أوصافه عرفت في كل ناحية

أشكاله قد بدت في كل إنسان

قد جاء تصحيفه غيما يسح ندى

لذاك لازمه واو ونونان

(1) في الاصل: بالوذعى يا ذوي.

ص: 281

بنصف مقلوبة نام الرقيب وقد

أصبحت في أرب من بين خلاني

عثمان يا سيدي أظهر لملغزنا

فإنك اليوم مني عين إنساني

وقد جرى لنا مع هذا الأديب مداعبات، ونظم عقود وأبيات.

فمن ذلك ما كتبته اليه على البدية هذه الأرجوزة.

أنعم صباحا يا فريد العصر

الرائق الفضل بكل قطر

الفائق العلم الغزير المنتخب

المفرد الذات بعجم وعرب

الواحد العلم بلا اشتباه

والماجد اللبيب فتح الله

لا زال بالمجد يباهي والأدب

ويرتقي فضلا إلى أعلى الرتب

وبعد فالمعروض للجناب

من خالص الود بلا ارتياب

هو السؤال عن جناب السامي

بالعز والتوقير والإكرام

وكيف أنتم مذ نأيتم عنا

فهل تشوقتم إلى ذا المغنى

فإن أشواقي إليكم لا تعد

وكثرة الأشواق تورث الكمد

وكيف لا وأنت في ذا العصر

هلال فضل في ضياء يسرى

فالمرجو من سلامة الأمجاد

الواحد الإحسان والأيادي

أن يذكر المحب كل آن

يا واحد الخلوص للإخوان

كلا ولا تهمله طرا أبدا

فإنه المشوق في طول المدى (1)

فشوقه إليك لا تحكيه

رسالة أنشأها من فيه

فدم بعز وبسعد تالي

ما مضت الأيام والليالي

ورنحت بوشيها الأقلام

محبر الأوراق والسلام

(1) في الاصل: المدا

ص: 282

فأجابني من غير فكر وروية، لكونه في الأدب صاحب الرتبة العلية.

أهدي سلاما وافر الإكرام

لحضرة الحبر الهمام السامي

البارع الأديب ذي الفضائل

الكامل الأريب ذي الفواضل

سلالة الفاروق شامخ الرتب

ذي العنصر الطاهر باهر الحسب

أبي يزيد زائد الأنعام

حاز العلى وفاز بالإكرام

فكيف لا أثني عليه بالهنا

وقد حباه لطفه إلا هنا

نسأل خلاق السما الرحمنا

يمنحه عزا، على، إحسانا

وبعد يا فاضل أهل العصر

ومفرد الوقت بهذا الدهر

مذ وصلت من حيك الرسالة

وثبت الافضال في المقالة

وفاح من ذاك الحمى نشر الصبا

حنت إليه الروح والقلب صبا

وزاد فينا الشوق والإحراق

يا ليت لم يكن لنا افتراق

فالجسم نحن ثم أنتم روحه

طالعنا ليل وانتم صبحه

فكيف ذا الطبع السليم المنتخب

وذلك الوقت الشريف المنتجب

لا زلتم في كنف منيع

رقيتم أوج العلى الرفيع

ما حن عاشق إلى معشوق

وما صبا العاني إلى الغبوق

حباكم السعد كذا الإكرام

مبتدأ كذاك والختام

ويرتجى التشريف للفقير

من صاحب الفضائل النحرير

ويطلب الصفح عن التقصير

من نقص نظم بان في التقرير

لكونه جرى مع اليراع

من غير فكر لا ولا اتساع

من الفقير العبد فتح الله

الناقص الكل بلا اشتباه

ص: 283

فأجبته على الفور وأعطيت رقعة الجواب بيد رسوله فقلت:

نهدي سلاما ودعاء نامي

معطر الاردان بالإكرام

لقبلة الفضل ومعدن الأدب

أبجل أهل العرب عجما وعرب

ذي الفضل والافضال والمعالي

يتيمة الأيام والليالي

بحر الحجا محج أهل العلم

شمس الضحى حجة أهل الفهم

ذي الأمر والإحسان والنواهي

مدينة العلوم فتح الله

سلالة الرسول سيد العرب

نتيجة الكمال منتهى الطلب

أن نفثت أقلامه رسالة

باهي البدور التم والغزالة

أنعم به من فاضل نبيه

جل عن النظير والشبيه

حاز على وسؤددا رفيعا

وساد فضلا وافرا منيعا

سلمه الله على الدوام

وحفه باللطف والإكرام

لا زال في مجد وفي كمال

راق إلى الافضال والمعالي

وبعد فالمعروض يا حبيبي

من المحب المخلص الكئيب

الفحص عن جلية الأحوال

وهل مزاج الخل باعتدال

وثانيا أتت لنا الرسالة

تخجل شمس الأفق لا محالة

تنبئ عن شوق وعن أشواق

وتورث الهيام للمشتاق

فضضتها لوقتها إكراما

فنفحة وعطرة مشاما

وجدتها تغني عن الصهباء

بلذة تربو على الشمطاء

حوت فنون اللطف والآداب

رسالة تقطر كالسحاب

لا زلت بحر العلم والانشاء

تحاول الكمال للسماء

وكيف لا وأنت عترة الكرم

ومن يشابه أبه فما ظلم

وما برحتم أبدا بمجد

يحفكم في كرم وسعد

ص: 284

وبلغوا السلام بالأشواق

لنير الوجود في الآفاق

أخي صديقي منجدي رفيقي

صالح أهل العصر بالتحقيق

كذا إلى ابن العم أحمد الأدب

الكامل الأديب نخبة العرب

والكاتب اللبيب يونس ومن

فاق بحسن الفعل أهل ذا الزمن

والفيض ذا الآداب والكمال

لا زال في فيض على التوالي

أدامهم ربي الكريم الباقي

بصحبة دائمة الوفاق

من خالص الوداد للأحباب

عثمان عبد الفضل والآداب

ثم كتب لي بعد ذلك:

سلام سما فوق السماء معطرا

وأثنى ثناء لا رياء ولا مرا

أخص به ذا المجد والجود والنهى

سعيدا رشيدا ذا الفضائل في الورى

فكم حاز حوزات المكارم راقيا

أديبا أريبا للعلوم مقررا

فإن جاد في نظم النظام ونثره

لأخجل سحبانا وقسا وعنترا

هو الفرد في هذا الزمان أما ترى

إذا كان في ناد لكان مصدرا

بديع بيان نطقه وحديثه

وكل المعاني في شمائله ترى

فأعني به عثمان ذا الأمر والنهى

فلا زال للمجد المجيد ميسرا

أخوه ابوه الفضل والفيض ابنه

وقطر الندى من راحتيه لقد جرى

ص: 285

سلالة فاروق سليل لما جد

علي وفي طاهرا ومطهرا

فكيف وقد أضحى الكمال بأسره

أسيرا له مستجمعا ومصورا

وما القصد أني حاصر بعض وصفه

نعم جل عن تحرير طرس بلا مرا

أبى الله أن تحصى صفات كماله

وذاك من الآزال كان مسطرا

فكيف ولا أشدو بذلك معلنا

وكيف ولا أثني عليه بما أرى

فلو حاول الجوزاء بالنظم نالها

ولو حاول البدر التمام تكورا

فسل يا خليلي حرقتي يوم فرقة

وكيف اعتراني الشوق زدت تحسرا

فآها لهاتيك الليالي وطيبها

وواها لقلبي لو سلا وتصبرا

فيا طال ما قابلت فيها محاسنا

ويا طالما اشممت طيبا وعنبرا

وتبا لأيام طوت وصل مغرم

وبعدا لليل قد منعنا به الكرى

عسى تنعم الأيام بالوصل ثانيا

أعود لما قد كنت فيه من القرى

ص: 286

لأغرى غرامي في الهيام مسرة

وأطرح اتراحي وأنفي التضجرا

واترك آمالي ومالي وثروتي

وأرشف قندا من لماه وسكرا

زففت له بكرا من العرب قينة

ولادة يوم مهرها قد تحررا

وذا هو صفح عن عثور لسانها

وعما جنته من قصور مصورا

ولا زلت يا مولاي تنعت دائما

بفضل وافضال على ما تقررا

وحاضر هذا الوقت صالح وقتنا

يبث سلاما للدعاء مكررا

كذلك فيض الله يلثم راحة

تبث على ذي الرفد تبرأ وجوهرا

وبلغ سلامي كل من أم بابكم

من العبد فتح الله ذي الفيض في الورى

فراجعته بقولي:

هذا كتابك أم ضرب من الضرب

أم قينة فتكت في العجم والعرب

أم هذه آية ممن حوى أدبا

أم خطبة قد أتت من معجز الأدب

أم درة نظمت أم غادة فتنت

في بابها عظمت أغلى من الذهب

ص: 287

عروسة الفضل قد زفت فطرزها

بحلية عجب تنبي عن العجب

عقودها الدر في تلميحها نظمت

وقد أتت معجزا من افصح الخطب

أن أقبلت سلبت أو أدبرت عطبت

أو أعرضت نهبت تنهل كالسحب

فإنها آية في النظم معجزة

ما حاكها شاعر في سالف الحقب

يفتر مبسمها في الفضل عن درر

عن ياسمين وعن ورد وعن حبب

كالسيف تسطو على أهل الكمال على

«والسيف أصدق أنباء من الكتب» (1)

قرأتها وأنا أثني وكيف ولا

أثني على فاضل يعلو على القطب

وحيد عصر فريد في فضائله

مكمل قد علا فضلا على الشهب

بحر العلوم سحاب المجد راحته

تغني بأنوائها فضلا عن الذهب

سحبان قس اياس فقتهم أدبا

ومحتدا وعلى حقا بلا ريب

يا مالكا لزمام الفضل قاطبة

سموت بالفضل والآراء والحسب

(1) تضمين للشطر الاول من مطلع قصيدة ابي تمام في مدح المعتصم عند فتحه عمورية.

ص: 288

منحتني بقصيد كلها منح

نابت عن الشهد واستغنت عن الضرب

لقد أتت بنظام كاللئال سنى

فأحرزت رتبا تعلو على الرتب

مصقولة كسنان في يدي بطل

«في حدها الحد بين الجد واللعب» (1)

وهذه بنت فكري قد حوت أدبا

تغنى عن العود والطنبور في الأدب

تبغي قبولك مهرا فهي ذو هيف

بكر تفوق سنى من خرد عرب (2)

فأقرها خير من يقري الضيوف ويا

خير الورى من سما بالذات والنسب

حملتها من وداد من أخي أدب

حمالة الورد لا حمالة الحطب

فدم أخي بكمال كامل أبدا

تنال ما رمته من معجز الخطب

وكتب إلي الجواب، وقد بدأ بنثر ثم بشعر على الروي والقافية:

أحمدك يا من أبدع العالم مخترعا، ونظمهم في سلك جواهر منته أصنافا متنوعا، ونسجهم على منوال الحكمة بيد الاقتدار فغدوا منتهجين بالإرادة السابقة مطرزين بالاستبصار. فأسقى جنة من شاء منهم بوابل هطل المحبة، فأينعت رياضه، وأنبت

(1) تضمين للشطر الثاني من مطلع قصيدة ابي تمام البائية في مدح المعتصم.

(2)

في الاصل: فهي ذي هيف، وتفوق سنا.

ص: 289

سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. فحين قرب الشوق من نحوهم ارتفع عن فاعلهم حجاب الاكدار، وانتصب متميزهم مشتغلا به عن الاغيار في الأدوار. فانصرفت عنهم المشتقات والمصادر، وخلوا عن التعليلات فما منهم مفرد إلا وإليه مبادر. فسبحانه من قد ألهمهم بديع بيان حكمته نحوا واضحا، فتفقهوا لقوله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا. فنطقت ألسنتهم بالتضمين والالتزام، ورجعوا عن مطابقة غيره فرفع عنهم ذلك العرض العام. فاستعارت عقولهم كناية التخييل والترشيح، فكان تبعية لما أريد منهم في مقام التصريح، وفرض عليهم قسم قيام الليل وأرباعا وأثلاثا، فكان لهم ذلك عن الأنبياء والمرسلين ميراثا.

وجعل منهم نقطة خط استواء الفلك الدوار، ومركز دائرة برج الاعتبار في معدل النهار.

وأصلي على نبيك القائل ان من الشعر لحكمة، المرسل لكافة العالمين منحة ورحمة. وعلى آله البررة، وصحابته العشرة. وعلى جميع التابعين، وكذلك العلماء الراسخين.

وبعد فإن الغرض الالزم، والعرض الأحكم، هو تقديم ما يجب علينا من بث التحية السنية، تهدى إلى حضرة المحبوب الصاحب، والمزن الساحب، درر المعان، غرر البيان، حبر المحققين، بحر المدققين، ذي الوفاء والسخاء، والموانح والعطاء الموصوف باللسان، المعروف بالجنان، أبي يزيد، الذي يفوق على كل فصيح ويزيد، سلمه الله من كل طارق. ما در بارق، وذر شارق.

ص: 290

هذا وقد طوقتني يا سيدي بأبلغ نطاق. ووشحتني بوشاح وشيه لا يطاق، لكونك نظمت من فيك، أدنى ما تجمع فيك. ومذ ورد كالشمس الضاحية، في السماء الصاحية، ففضضت عنه مسك الختام، وكشفت عن سنى بهجته اللثام، وقمت له قياما، ولثمت منه لثاما، فوجدته أسنى من تورد خدود الملاح، وأبهى أرجا من شميم الاقاح. فظننته أغيد فإذا هو بكر هيفاء، لمى ثغرها يغني عن الصهباء والشمطاء، تزري بالبيض الملاح، وتفري كالبيض الصفاح. فانحجم الجنان من الخجل ثم انطلق، وانعجم اللسان من الوجل ثم نطق. ففي الحال والآن، أعرب عما في ضميره استكان، فقال وهو يناظر النجوم والقمر، حين زاد به البلبال والحبيب لمهجته قمر، فانشأ في الحال وقال:

أتى كتابك يحكى رونق الحجب

وفي البها مخجلا للادعج الشنب

نظامه الدر والدري بهجته

وفي اليراعة هطل الودق والسحب

لو طاول البدر في حسن لغادره

بالكسف والخسف والامحاق والرهب

سكرت فيه كصهباء معتقة

حلو المذاق كقند مسكر ضرب

ثملت فيه وفي فيه لثمته إذ

أصبحت في أرب أمسيت في طرب

يا كعبة الفضل يا حجي ومستلمي

يا مبتدا رغبتي يا منتهى أربي

ص: 291

سموت بالجد والمجد المجيد وقد

حزت الفصاحة في فضل وفي أدب

أحييت بالعلم والآداب من سلفوا

من سالف الذكر كالأجداد أو كأب

قد فقت بالعلم إذ وافقت عترتكم

وقد رقيت لأوج العز بالنسب

والسعد في فرق والمجد في ارق

والوفد في حرق والجود في رغب

فالكل قد اصبحوا يبغون منه رضى

فالأمر أمرك يا ذا الفضل والرتب

فإن نسبت إلى سحبان أو لصفي

أو حاجر أو أياس فهو كالكذب

لأنهم لو رأوا ما فيك من أدب

لم يلق واحدهم حرفا من الخطب

فكم رأيت وفود الرفد قد وفدت

لنحو علياك تطوى القفر في النجب

زففت لي بنت فكر بارع فطن

من أكرم الحي أعراقا من العرب

كأنها الغيد قد ماست بقرطقها

فاقت محاسنها في العجم والعرب

تزهو على النيرين اليوم بهجتها

لثمتها طاعة بالسمع والرحب

ص: 292

لله در يد حاكت لبردتها

طرازها قد وشي بالدر والذهب

فإن تحديت فيها فهي معجزة

وان تصديت كانت أعجب العجب

والدر منتظم في سلك عسجدها

قد صف فوق نهود الخرد الترب

من شم راحتها أو أم ساحتها

يرجو سماحتها قد نال للأرب

عروضها وافر يفري بذي عرض

رويها يروي ذا ري وذا سغب

فاقت حلاوتها راقت طلاوتها

شاقت تلاوتها تسمو بلا سبب

وهذه بنت أفكاري خدمت بها

نبع العلوم بلا شك ولا ريب

خذها محررة في ضوء مقمرة

ترقيم ساعتها عزت عن التعب

أبا يزيد فزد إكرام منزلها

ما غادرت من بديع لا ولا أرب

تؤمل الصفح مهرا وهو بغيتها

ان صح فهو المنى بل غاية الطلب

ثم اقرها العفو يا مقري الفضائل يا

مقري الفواضل يا ذا الجود والحسب

ص: 293

وافي العهود صدوق القول صالحنا

يقري السلام لسامي العز والرتب

من العليل الذليل الفتح عبدكم

وافي الهيام كثير السقم والكرب

فراجعته بقولي:

يا فاضلا شاع بالافضال في الأمم

يا واحد الناس في عرب وفي عجم

يحق ترقى إلى الجوزاء مختطيا

هام المعالي بأنواع من العظم

وفضلك البدر سباق بكل على

مجدي الجميل ومهدي الناس في الظلم

وكيف لا وأبو الافضال أنت ومن

قد شاع في شرف الاخلاق والهمم

عين الكمال كمال العين عين على

عالي الوجود فريد الفضل والحكم

ما فيه عيب سوى ما فيه من أدب

ابن الرسول وخير الخلق كلهم

فما مكارمه الحسنى التي اشتهرت

فينا سوى زهر في الروض مبتسم

وما فضائله اللاتي علون وما

آدابه غير نور حف بالديم

ص: 294

وما معاليه الأوردة عطرت

أو نسمة نفحت بالبان والعلم

يا خير حبر ويا أوفى الأنام نهى

يا واحد الخلق في جود وفي كرم

أتحفتني بكتاب كله حكم

يروق كاللؤلؤ المكنون بالكلم

كم قد حوى لمعان كلها غرر

في وصفها قلمي أعيى لنطق فمي

نعم ونظم جليل راق منظره

قد جل عن عثرة في القول والقدم

شعر نظمت به كالشعر عقد سنى

فأنت ناظم آداب من القدم

سلكت في سلك نظم كله درر

نظم اللآلي ولكن غير منتظم

حوت لكل بها ماست بكل سنى

فأخجلت كل ذي علم وذي فهم

فما الرياض فسل عن زهر روضتها

فإنها منحة من بارئ النسم

وافت وشملي مجموع فمذ خطرت

تفرق الشمل فاعذرني ولا تلم

لأنها قد أتت والقلب في وله

باق له ركن شمل غير منهدم

ص: 295

أحيت بهطل كمال من جوانبها

ضامي الوداد فسلته من العدم

فيا له من كتاب في لطائفه

تخاله زائرا في غفلة الحلم

مهذب درر بل جوهر حكم

فكلها غرر بالشان والعظم

أن راق في أدب أو رق في طرب

تظنه القطر منهلا من الديم

ألفاظه درر راقت بكل سنى

أبياته سمر في حالك الظلم

ونظمه كعقود في العلى نسقت

والبدر أكبر أن يخفى عن الأمم

قد شاع في حسنه كالشمس وقت ضحى

ومن يطيق خفا نار على علم

فالفضل منهله والمجد مورده

أرجاؤه ساحة للفضل والحكم

يا من له من ودادي كل خالصة

من خالص العهد والميثاق والذمم

أرسلت لي مفردا بالنظم منفردا

تخشى الصوارم منه صولة القلم

لثمته بخلوص لثم منهمك

فأثرت أثرا من لثمه بفمي

ص: 296

وهذه غادة بكر سمت ونمت

وشاحها عقد در غير منفصم

رنت إليك فخذها في محاسنها

فمهرها ان تقل من عثرة القدم

والله يبقيك يا مولاي مغتنما

مدى الزمان بود غير متهم

وانجح بمجد وعز دائما أبدا

ما راق دمع بذكر البان والعلم

ورنحت عذبات البان ريح صبا

واطرب العيس حادي العيس بالنغم

مولاي أما كتابك فلم أقدر أحكيه، والدراري قد انتثرت من فيك وفيه.

كرم تبين في كلامك ماثلا

ويبين عتق الخيل في أصواتها

ذكر الأنام لنا فكان قصيدة

كنت البديع الفرد في أبياتها

إن قلت هي مما حاكته أقلام الحريري في مقاماته، أو قلائد العقيان في أساليب عقود أبياته. فماؤها أعذب من الماء الزلال، واقطر من ديمة السحاب الهطال، وأبهى من قلائد الجواهر واللآل.

لكم همم لم ترض الا التناهيا. اكتحلت بالسحر مقلة دياجيها، وقلدت بالنجوم لبان لياليها. فلم أقدر على الثناء، وقد باهت بسمكها الجوزاء. فكم أنبتت من غصين وغصون، وطلع من سنابل حباتها در مكنون ..

جريت بما عودتك الكرام

وتجري الكرام بعاداتها

كذاك السوابق لا تنتهي

إذا أرسلت دون غاياتها

ص: 297

وردت منهله الصافي، واستفدت منه علم الاستعارات والقوافي.

واستنشقت العنبر الذي أذكته مجامر فكرك، والتقطت ما قذفته في بحور المحاورة بحور شعرك. فأنت قناص بنات خرد أبكار الافكار، وملتقط ثمر أكمام أشجار النظم والأشعار.

فتى جمع العلياء علما وعفة

وبأسا وجودا لا يفاق وفاقا

كما جمع التفاح حسنا ونضرة

ورائحة محبوبة ومذاقا

واقسم أني تصاممت عن الجواب، وكان الحق والصواب.

وكيف لا ومن تكلف فوق حمله، افتضح لساعته لجهله، بل وكيف عدم الامتثال والظاهر، هو اقتطاف ثمر من شجرة خير الأوائل والأواخر.

وفي الناس مما خصصتم به

تفاريق لكن متى تجتمع

وعلى كل حال فقد قلدت جيدي بجواهر الأدب. وملأت مسامعي بفرائد لآلئ الخطب

أفعاله غرر أقواله درر

أقلامه منح آراؤه شهب

فلا زلت تحافظ بحمايتك ثغور مملكة الأدب، ولا برح بابك كعبة علم ينسلون إليها من كل حدب.

فراجعني على هذا الروي والقافية:

عرائس الفكر اذ ماست مع القلم

بثت سحابا من الآداب والنعم

نظرتها ترتوي غناء مطربة

تغري بعشاقها في الحل والحرم

فالدر منتظم والعقد منبرم

يا حسن منتظم فيها ومنبرم

ص: 298

هيفاء معجبة كحلاء مغنجة

نجلاء مدعجة كم فيها من حكم

راقت بهيئتها فاقت بهيبتها

شاقت بحليتها تأوى لذي سلم

كالبان في ميل والغيد في خجل

والظبي في وجل والحور في حشم

في هذه الأبيات من أنواع البديع السجع. وهو مأخوذ من سجع الحمام، وهو أربعة أقسام ومنه قول أبي تمام:

تجلى به رشدي وأثرى به يدي

وفاض به ثمدي وأوري به زندي

ومن قول المتنبي:

جاد الأمير به لي من مواهبه

فزادها وكسا في الدرع والحلل

ومن علي بن عبد الله معرفتي

بحمله من كعبد الله أو كعلي

معطي الكواعب والجرد السلاهب وال

بيض القواضب والعسالة الذبل

ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك

ملء الزمان وملء السهل والجبل

فنحن في جذل والروم في وجل

والبر في شغل والبحر في خجل

وهذا النوع لطيف لا بأس بإيراد شيء منه. فمنه للصفي (1) من قصيدة:

ومالت القضب إذ مر النسيم بها

سكرا كما نبه الوسنان من أرق

(1) صفي الدين الحلي وقد مرت ترجمته في ص. 148 ج 1

ص: 299

والغيم قد نشرت في الجو بردته

سترا تمد حواشيه على الأفق

والسحب تبكي وثغر الملك مبتسم

والطير تسجع من تيه ومن شيق

فالطير في طرب والسحب في حرب

والماء في هرب والغصن في قلق

ومنه قول بديع الزمان الهمداني (1):

اين الذين اعدوا المال من ملك

يرى الذخيرة ما أعطى وما وهبا

ما الليث محتطما والسيل مرتطما

والبحر ملتطما والليل مقتربا

أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة

أجدى يمينا وأدنى منك مطلبا

ومنه قول الخازن (2):

وقلت وقد لاحت عوالي خيامها

وفاحت غوالي أرضها المتأرج (3)

أيا طارقي احجج ويا رائدي ابتهج

ويا سابقي عرج ويا صاحبي عج

ويا عبرتي كفي ويا ناقتي قفي

ويا شيبتي احتجي ويا صبوتي ادرجي

(1) بديع الزمان وقد مرت ترجمته في ص. 111 ج 1

(2)

هو ابو محمد عبد الله بن احمد الخازن وقد مرت ترجمته في ص. 378 ج 1

(3)

في اليتيمة (3: 337) غوالي روضها المتأرج.

ص: 300

فقد كنت أبدي للمشيب مواعظا

بخط على فودي غير مثبج (1)

ومنه قول أبي تمام:

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتقب في الله مرتغب

وهذا البيت من قصيدته المشهورة في المعتصم بالله لما سار لفتح عمورية، ونهاه المنجمون عن ذلك، فلم يعبأ بهم، وسار إليها وفتحها عنوة. وأشار أبو تمام لهذه القضية وقال:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده بين الجد واللعب

بيض الصفائح لاسود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

والشهب من شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

ومن تتمة القصيدة المترجمة:

إن غالبت غلبت أو سامرت سلبت

تزجي سحابا من الآداب كالديم

كأنها الغيث في نظم الجواهر أو

كأنها الليث قد نيطت من الأجم

تشبيبها طرب تنظيمها عجب

في ثغرها شنب كالنور في الظلم

مالت بجوهرها غالت بلؤلؤها

أبدت بدائعها للحاسب الفهم

(1) في اليتيمة غير مسيج. والصواب غير مثبج كما جاء في النص والتثبيح تعيمة الخط وترك بيانه.

ص: 301

مذ أقبلت بنظام راق جوهره

زانت على درر في السلك منتظم

لثمت من فمها قندا فأسكرني

وقمت حقا لتعظيم على قدمي

وحار عقلي ولبي في محاسنها

كأنها في البها نار على علم

فلم أطق منهجا في مدحها لهجا

فاحت بنا أرجا فالمسك بعض دمي

أطرقت من خجلي بل ذبت من وجلى

ناديت وا أجلي إذ شابني سأمي

رأيتها غادة بكرا مهفهفة

لم يحكها شاعر في العرب والعجم

ما خاض في بحرها من كان ذا أدب

ما حاكها ناظم في سالف الأمم

قد علمتني نظام الشعر مذ وردت

وفهمتني معاني الخط بالرقم

حققتها أنها بكر وقد صدرت

من واحد مفرد بالجود والكرم

عثمان صائغها مجدا وناظمها

ربيبة من أديب كامل قرم

الفاضل الليث ذو الآداب من شهدت

له المكارم حتى ساد بالعظم

ص: 302

كالشمس في شرف والبدر في سرف

والدر في تحف والبحر في همم

لو شاء يرقى السها فضلا سما ورقى

وها هو الآن في الافضال كالعلم

أو شاء نصب لواء العلم ينصبه

يجر ذيل العلى كالأحرف القسم

جزمت أني رفيق في مكارمه

فكم وعى صحبتي بل كم رعى ذممي

ما فيه عيب سوى سح العلوم وما

فيه من النقص إلا البذل للنعم

يا فاضلا كاملا يا مفردا علما

يا واحدا همما يا سابغ الحكم

فرائد قد أتت تثني وتخبر عن

حبر وبحر من الآداب ملتطم

جعلتني فيها مرآة لتنظر في

محاسن فيك قد جلت عن السأم

فكلما ينظر الراءون فيها رأوا

محاسنا شيما من أحسن الشيم

جواهر نضدت من فيك من أدب

فإنها فيك قد خصت من القدم

أمنحتني أربا أوليتني أدبا

أسقيتني سحبا تربو على الديم

ص: 303

ما كان من رتبتي أني أجادلها

خوفا من الجهل أو من زلة القدم

أو عثرة من لساني في موازنها

أو غفلة في القوافي لم تكن بهم

قد غصت في بحرها أخرجت جوهرها

وسمت ياقوتها في اربح القيم

فمي وأن تحدث عن إعراب منطقها

فما هو الآن إلا من هذاء فمي

نسجت من غزلها بردا مطرزة

لباسك اليوم يا ذا المنطق الفهم

فاسبك على بردتي ستر القبول وقل

عثورها ثم ميزها عن العدم

لأنها لم تزل في البر سائحة

لا تألف الدار بل تأوي مع النعم

أصبحت في بحرك الطامي بلا فلك

أرمي السلاح تراني ملقي السلم

لا زلت يا سيدي ترمي إلى زحل

بالمجد والعلم والافضال والكرم

ولا برحت فصيحا فاضلا أدبا

طويل باع علي الجود والهمم

ومما أرسلته إليه ملغزا في فتح وملمحا بجواب رسالته:

يا مفردا بفضائل ومآثر

يا كابر عن كابر عن كابر

ص: 304

قد فقت في نظم الكلام ونثره

فلديك عز الدين ليس بشاعر

فلك الفصاحة والسماحة والعلى

ولك الملاحة بالبهاء الباهر

ولك السيادة والرياسة والندى

ولك المحاسن مع زهاء زاهر

قلدت جيد الدهر يا نفس النهى

بقلائد وفرائد وجواهر

أنت الذي ملك الفضائل والنقى

ولك المكارم مع كمال ظاهر

ما اسم ثلاثي الحروف وجوده

عين السرور إذا سطا ببواتر

مقلوبه لعدونا وعدوكم

وهو العدو من الزمان الغابر

مفرى الحصون إذا ألم بسورها

مفني الصفوف إذا التقى بعساكر

كم مرة رشق الملوك بنبله

فأزالها عن كل فخر فاخر

ما السمر والبيض الصفاح كفعله

والنبل أن علقت يداه بطائر

أمضى وأقضى في الحروب سهامه

وأمر من صبر ألم بصابر

فصحيحه فيه الشقاء وكم أتى

بمحاسن من كل واف وافر

تصحيفه ما مثله مستهجنا

تركيبه فتح الإله القاهر

بينه يا غصن الفضائل والتقى

وابنه من فكر كغيث ماطر

فافلح ودم بعرائس أتحفتها

وبعثتها من بحر فكر زاخر

خليلي:

ورد الكتاب مبشرا

نفسي بأوارد السرور

وفضضته فوجدته

ليلا على صفحات نور

مثل السوالف والخدود

البيض زينت بالشعور

أنزلته مني بمن

زلة القلوب من الصدور

لا زال أمر مرسله مطاعا، وأدب متحفه مراعى، فتلقيته بالبشر والترحيب، وقابلته بصدر مشوق رحيب، فإذا هو درة قد

ص: 305

استودعت بطون الصدف. وشمس أذهبت بإشراقها ظلمة السدف. فلله دره. ما أعلى قدره، وأبهى نوره، وأنفذ سحره، وارق معانيه، وأدق مبانيه. لو أبصره ابن خاقان (1) لقلد قلائد العقيان بفرائده وحلاها، أو صاحب الفرائد (2) لاتخذ لكتابه فرائده وخلاها. أو أبصره البديع (3) لقال البديع هذا المقال:

وكلنا على الشريف عيال. وهو كما وصفه ابن سيرين الحلبي (4) حيث قال:

بعثت أيا ابن الاكرمين بروضة

من النظم يسقيها الحجا صوب وكفه

خميلة شعر يزدهي البدر نورها

وينأى عن الشعرى العبور بعطفه

كأن غصونا أودعت في سطورها

لها ثمر يلتذ سمعي بقطفه

إذا ما غشى ليل المداد بطرسها

نهار زهت فيه كواكب وصفه

وكانت كما زارت معطرة اللمى

مبردة من حر قلب ولهفه

(1) هو الفتح بن محمد بن عبيد الله ابن خاقان الاشبيلي الوزير، أبو نصر المتوفى سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وكتابه قلائد العقيان في محاسن الاعيان جمع فيه من شعراء المغرب طائفة كبيرة وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة والطف اشارة. وقد طبع عدة طبعات. ترجمته في ص 32 ج 1

(2)

لا ندري من يريد بصاحب الفرائد فقد سميت كتب كثيرة في الادب بهذا الاسم.

(3)

يريد به بديع الزمان الهمداني وقد مرت ترجمته في ص. 111 ج 1

(4)

كذا في الاصول وصوابه ابن سنين. هو سرور بن الحسين الحلبي الشاعر المشهور كان أحد أفراد الزمان في النظم وله شعر بديع الصنعة بليغ الاسلوب، فارق وطنه بحلب وسارع الى طرابلس الشام وامرائها بني سينا ومنهم الأمير محمد. وكانت وفاته في حدود العشرين بعد الالف خلاصة الاثر 2:204.

ص: 306

ووافى الى الصب الكئيب شويدن

لوجرة أحوى فاحم الشعر وحفه

فأعيت به عبل الروادف خصره

يجوع إذا غص الازار بردفه

فلم أقدر أجيبه بكتاب ولا رسالة، وكيف وقد حوى أنواع البسالة، وباهي القباب السبع فضلا عن الغزالة. ولكن اقتصرت على معمى أبرزته من صحيفة الخاطر، وأهديته لديباجة مجموعة المكارم والمفاخر. وقد ورد يا ابن الطاهرة البتول، عن جدكم النبي الرسول، محمد خيرة ولد آدم. صلى الله تعالى عليه وسلم، من أسدى إليكم إحسانا فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا فادعوا له وأنتم قد أحسنتم بأنواع الإحسان، ولكم علينا الفضل والامتنان، فالله يبقيك، ومن كل سوء ومكروه يقيك. آمين. آمين. آمين.

وكتب إلي في الجواب، على طريق الإبداع والاغراب، بقوله:

يا سيدا أسقى جنين الخاطر

من در ضرع ناظم أو ناثر

لا زلت ترقى سؤددا في سؤدد

بسعادة وسيادة وتكاثر

لله درك ما أحيلي ما تضمنه

فؤادك من نظام ناضر

أبرزت مكنون اللآل بعسجد

من بحر قلب طاهر بل عاطر

غادرت أبناء الفضائل فضلة

في سح آداب كهطل ماطر

ملك البلاغة والنجابة والبرا

عة والشجاعة والسخاء الوافر

قد نلته بل زدته وردفته

بمكارم أورثتها عن كابر

أما الثلاثي فهو فتح ظاهر

يروي العطاش بكل سيب ظاهر

ص: 307

من شأنه في مزجه ومزاجه

يطفي غليلا من زمان غابر

أما الملوك توده وترومه

وتراه فخرا فوق كل مفاخر

لو كان معتلا أعل جميعها

أما الصحيح به الشفا من ضائر

تصحيفه قبح أضر بضدنا

صححه يا وافي الذكاء الوافر

هذا الذي أدركته يا سيدي

فاسبل عليه برد ستر غافر

دم يا حبيبي بالهنا بل بالنهى

وأحسن بفضل شامل بل غامر

هذا جواب ناقص من ناقص

عن رمز حبر كامل بل طاهر

سيدي: قد ورد علي كتابك فإذا هو كالزهر والورود، بل هو أعذب للظمآن من الماء العذب القراح عند الورود. وقد أخرجت من خزائن اللب جواهر الفرائد، وصورت في صحيفة الخاطر زواهر الخرائد، فقلدتني بعقد نثار قد نظم بأوفر سلك، وطوقتني بدرر مآثر قد ختمتها بأعطر مسك، لو ذاق حلاوتها ابن نباتة لسكر وهام، أو رأى طلاوتها المتنبي لترك بعد ذلك النظام، أو أبصر ميزانها الذهبي وابن ابي الإصبع (1) لجعلها من مستخرجاته أو أدرك المتنبي نبأها لصدرها بمبدأ حاجاته. فما كان لي إلا أن ألثمها تعظيما، وأستلمها تكريما وتفخيما.

فلله درك يا فريد الزمان، ويا وحيد الوقت والأوان، ما أبدع كلامك، وأبلغ كمالك. قد أرسلت معمى هو بالبلاغة بصير، وكيف لا وهو من صدر كامل تحرير.

هذا ولما كان البال قد شت، والعقل للخاطر قد بت، أرسلت بهذه الأبيات على طريقة الجواب، وأن لم تكن على نهج الصواب

(1) مرت ترجمتهما من قبل في ص 88 وص 224 ج 1

ص: 308

فهي من فكر قاصر، وذهن فاتر. فالعذر العذر من التقصير، والعفو العفو من التحريف والتغيير. يا ذا العنصر الطاهر، والعرق الشريف الزاهر. فقد أنزلتني منزلا يسمو عن مقداري وقد رفعت وغاليت اعتباري. فاقبل بفضلك ومنك بسيط أعذاري. وما ذاك إلا من حسن سيرتك، وصفو سريرتك. إذ أنا رفيق احسانك، وعتيق لسانك، فكيف أكافيك. وهذه الكمالات فيك، وتنثر من فيك، فلا زلت مطاعا. وفي كل كمال مراعى، آمين.

ومما يسوغ ذكره في هذا الباب من المرسلات المنثورة ما أرسلته إلى أحد الرجال المترجمين السيد عبد الله (1) كاتب ديوان بغداد المذكورة في كل ناد:

سلام أرق من نسيم الأسحار، وأهز من ريح الصبا، وآنق من معانقة الغواني الأبكار، في أوان الشباب والصبا. وأدق من مخترعات الأفكار، وأعطر من الشيح والكبا (2).

ألذ من الماء القراح على الصدى

وأطيب من وصل الهوى عقب الصد

ودعاء أزهى من ورد الخدود، يفوح مسكا ويقطر عطرا، وأبهى سناء من الدر والعقود يضوع نشرا ويروق قطرا. وأشهى بهاء من اعتدال القدود، يسوغ وردا ويعذب صدرا.

دعاء كماء المزن يعذب ورده

وكالسيف في الإمضاء جرد من غمد

(1) لم يترجم له المؤلف كما ذكر هنا. وقد مرت ترجمته في ص 262 ج 1

(2)

الكباء ككساء عود البخور أو ضرب منه.

ص: 309

يهدى إلى الراحة الرحباء، والساحة الفيحاء. والسدة العلياء.

جنات أنس رعى الرحمن بهجتها

فإنها بالمعالي خير جنات

منازل لست أهوى غيرها سقيت

هوى يعم وخصت بالتحيات

ساحة الكريم الافخم، والنبراس الأعظم، والمغوار الأكرم.

والطود النابت، والمجد الثابت، والرشد الباهت. والنور الواضح والبدر اللائح. والعطر الفائح. والجبل الراسخ، والركن الباذخ والملاذ الشامخ. والنجم المنقض، والوجه المبيض، والورد المنفض.

وابل الجلال. وقطر النوال، وغيث المعال. تاج المفارق، شمس المشارق، مظهر الحقائق. الليث البسال، والسحاب الهطال، والعظيم المفضال. السماح المؤمل، والكرم المسبل المؤثل. اليمن الوافي، والنجح الصافي والكمال الكافي. والبحر الرائق، والنهر الفائق، والسحاب الدافق والشهم المصروف، والفهم الموصوف، والقرم المعروف. والنور اللامع، والصدر الواسع، والسرور الجامع.

مقابل بين أقلام وألوية

مردد بين إيوان وديوان

وهو في الحقيقة السيل الساكب، والنفع الراسب، والهطل المتعاقب، والوجه الضاحك، واللطف المتدارك، والحسام الصقيل الفاتك. والبشر والسماحة، والفخر والرجاحة، والفضل والسجاحة.

والمحاسن المتنوعة والمفاخر المتفرعة، والصنائع المبدعة. المشهور بالشهامة، والمعروف بالكرامة، والموصوف بالزعامة. صاحب

ص: 310

الملكات النفسية، والهمم السامية العلية، والعزمات الماضية المرضية المضية. الكامل الهمام. والباسل الضرغام. والواحد الذي ما عليه كلام. لا زالت ربوع الأدب العريضة مروغة بهواطل كمالاته وكمال هواطله، ومعالم المعارف الفسيحة ممرغة بفواضل سحائبه وسحائب فواضله. ولا برحت بروج العوارف مشرقة ببدور افضاله، ومطالع اللطائف نيرة بشموس كماله وإجلاله، بمحمد وآله. ما وقب ليل وغسق. وفاح ند وعبق.

وبعد: فالمعروض للجناب المعلى خصه الله بالمكارم، وجعل أفق معاليه مشارق الافاخم الأعاظم. إن لواعج المخلص إلى ذلك المطلع غير متناهية، والتشوقات إلى ذلك النادي الأرفع لأنواع التأسفات حادية. وهو ناد كما قيل فيه.

بطيب نسيم منه يستجلب الكرى

ولو رقد المخمور فيه آفاقا

فلمثل هذا النادي كيف لا أتشوق. وعلى مثله كيف لا أصدو وأتحرق. فالشوق إليه لا يحصره قلم الصابي (1) وابن وائل (2) والقلب الشريف على زيادة الأشواق شاهد عادل. وهو من أوضح البراهين التي لا يحتاج فيه إلى الحجج والدلائل. فو حقكم أن الشوق إلى ذلك المقام، لا يحصى ويحصر ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام. فإني مطوق من ذلك النادي بالإحسان الغزير، ومن لم يعرف القليل لم يعرف الكثير. ولا زال مجلسكم هو الشريف العال. ونثاره الفرائد واللآل.

(1) يريد بالصابي ابراهيم بن هلال الكاتب المتوفى سنة 384 او حفيده هلال بن المحسن المتوفى سنة 448 وكلاهما من بلغاء الكتاب.

(2)

يريد بابن وائل الخطيب المشهور المتوفى سنة اربع وخمسين للهجرة.

ص: 311

ومن اللطائف التي لا ينقضي الإعجاب منها ما كتبه في الجواب:

أزكى سلام صدح في حدائق الوداد هزاره الشائق فأينعت رياضه، وأبهى إكرام سرت نفحات أنسه من مهب قبول الاتحاد فعطرت المشام وأترعت بالإخلاص حياضه. وثناء يفوح منه ما يزري بأنفاس الأزهار إذا طلعت من الأكمام، ودعاء يلوح منه أن عروة وداد المخلص وثقى ليس لها انفصام. إلى جناب من تميز بأنواع البلاغة وأجناسها. وجر على المجرة أذيال الفصاحة الذي هو من لباسها. ولمع بارق مجده في الآفاق، وعلى حسن سيرته وفرط أدبه وقع الاتفاق. وغدا في سؤدده أحد الشهب السيارة، حتى اقتحم من بحر العز لجه وتياره. وطوى لكماله على الحسب أديمه، ونشر من الأدب حديثه وقديمه. معدن السؤدد العد. فرع دوحة شرف النجاد وكرم المحتد. صديقي الولاء، عمري التقى، عثماني الحياء، علوي الحيا، حسني اللقا، حسيني الرضى، حريري التحرير، زمخشري التقرير.

له قلم اذا ما جال يوما

فما الهندي والعضب المهند

ذو الشرف الشامخ. والعز الراسخ، الذكي الالمعي، والزكي اللوذعي، الأسعد الأكرم، والأوحد المكرم. لابرح مجلسه العالي، محفوظا من طوارق الأيام والليالي، ما أسفرت ذكاء عن وجهها المنير، ورشفت ثغور الاقاح بعارضها المستدير، آمين

أما بعد: حسب ما نجنه من الوداد، ونكنه من صحيح الود وخالص الاتحاد، لم نزل نترقب أخبار صحتكم السارة، ونترصد

ص: 312

آثار عافيتكم البارة. إذ وردنا في أيمن الأوقات كتابكم الكريم المنبئ عن صحة الذات واقتبال وجه العيش الوسيم، ففض المخلص ختامه عن رحيق بلاغة تسلي قهوة الإنشاد، وتلهي عن المدامة والنديم. فابتهجت منه النفوس، ببدائع معان تزهو في الطرس زهو العروس. وكان لما حاز من مزايا الأدب ولطائف بلاغة المقال، حريا بقول من قال:

ورد الكتاب المنتقى الزاهي الذي

قد أحسن الأستاذ في إملائه

ببديع نثر كالزلال لطافة

فيه شفاء الصب من برحائه

ومن جملة ما احتوت عليه مطاويه، وانطوت عليه فحاويه اظهاركم الأشواق وايشادكم الاتواق فتلك ما شهدت به القلوب وأعانت على وجدانها مصدقات الغيوب.

الشوق أعظم أن يختص جارحة

كلي إليك وحق الله أشواق

ومن حال التاريخ القدسي، والكتاب اللطيف الإنسي، ان الجناب حسب ما سبق إليه تلك الإشارة التي وقعت بتعريض طلب المخلص له قد صدعتم الخاطر وكلفتموه باستنساخ الكتاب المذكور وأتعبتموه، وإلى طرف المخلص أرسلتموه.

فقد وصل بلطف الله سبحانه وتعالى أحسن وصول، ورقى أسنى وارفع مواضع القبول. لا غرو أن المخلص كان في غاية الاشتياق إلى هذا. لما فيه من عذوبة سلاسة اللفظ

ص: 313

وفصل الخطاب. فقد كاشفتم في ارساله، وتلطفتم في إيصاله أزعجتم الخاطر في ذلك: وأخجلتم المخلص فيما هنالك، جزاكم الله عنا خير الجزاء، وخصكم بجزيل النعم وسوابغ الآلاء.

ولا برحتم بعين عناية الله ملحوظين، ومن بوائق الدهر والأيام محفوظين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما حدا الحادي وغنى

بهوى سعدى ولبنى

ومما يتناسب ذكره ما ورد فيه نظما. فمن ذلك ما أرسله حجة هذا الفن ونادرة الحين والزمن الشيخ محمد الغلامي إلى الشاب الأديب أخي علي بن علي العمري وهو:

روض طبعي سرت لكم منه نفحه

فأطلنا على سجاياك مدحه

أيهذا الخليل سري عجيب

ولسان الخطوب يسرد شرحه

وحديثي عن الهموم غريب

غير أني أعد ودك فرحه

وزناد القريض زاد خبوا

وتعامى فكيف أطلب قدحه

كان نشد القريض عندي أشهى

من صياح الديوك في دير بحه

وطراز الأقلام كالصدغ في الخ

د إذا أحسن التنمنم سطحه

ص: 314

فإنا الآن لي بقلبي جرح

صدني عن سواه تطبيب جرحه

أفسد العيش ملحة الفكر مني

رب عيش ترميه أن زدت ملحه

ذقت خمر النوى وقد أظهرت لي

من إناء الفؤاد شكواي نضحه

يا أخا الود بالحشى كم سهام

صائبات تطوي على الهم كشحه

وزماني له على الحر دين

أنا أخشى بالكل يطلب ربحه

سيئات الزمان قد أغضبتنا

وبمثل العزيز نطلب صلحه

جاءنا عصرنا بأحسن عذر

فمحا حسن ذلك الطبع قبحه

أن دهرا حبا بريحانة الده

ر جدير بأن نؤمل نجحه

فأجابه ذلك الشاب، بما هو في كئوس الآداب كالحباب، وهو:

نبهت طرف فكرتي منك نفحه

مذ سرت من رياض طبعك منحه

يتمنى النسيم لو يعطى منها

يا أخا المجد والفضائل صحه

أخلجت أهيف القوام المفدى

من عليه من الملاحة مسحه

ص: 315

حبذا نسمة سرت لي سحيرا

من أديب الزمان تحمل مدحه

مفرد الوقت حائز الفضل طرا

من لجسم القريض قد صار روحه

ذو المعالي له الكمال شعار

وهو في روض ذي المحامد دوحه

أيها الخل قد أدرت علينا

كأس خمر قد أعقبت منها فرحه

قطعة كالرياض تزهو وطرفي

في رباها البديع أطلقت روحه

أن يكن متن ذا الخطوب عجيبا

أن صنع الإله يوضح شرحه

أو يكن ليل ذا الهموم طويلا

كلما رمت فجره مد جنحه

فعسى يصدع الإله دجاه

فانتظر من سنا اللطائف صبحه

ولأنت العزيز في كل مصر

ولذاك الزمان حسنت قبحه

أتحفتني الأيام فيك بخل

محكم الود خالط الصفو نصحه

إنما طبعك الزكي سلاف

من أناء الوداد أظهرت نضحه

هكذا الدهر طبعه ليس يصفو

حيث ما جاد أعقب الجود شحه

ليت شعري وللزمان ذنوب

ليس تحصى وقد سمعت أصحه

كلما هز لليراع بنان

منك في الطرس أمضى في الدهر جرحه

فكأن الزمان أغضبت منه

ليله أن رقمت في الطرس صفحه

فراجعه أيضا:

يا أديب الزمان أبديت لمحه

من جمال الحسان في كل ملحه

هزلي سادة اليراع رماحا

حيث جاء الشقيق يعرض رمحه

يا أخا العلم والرسائل والود

وطرس كالمسك ضوعت فتحه

لست أدري أجاء طرسك أم س

حر أم الفجر حين نفست صبحه

ضمنه متن ذي الخطوب عجيب

وصنيع الإله يوضع شرحه

ص: 316

غير أني ما قد قرأت حواشي

الخطوب إلا وفي فؤادي قرحه

أن عثمان كان لي خير ذخر

وشفيق وكان يحفظ جنحه

فتنحى لسوء حظي حتى

لو لقيت الأمين يعرض صفحه

كل أمري مذ غاب عنه سقيم

آه لو عاد لي الزمان بصحه

دون أبوابه حجاب علينا

كان عهدي بالباب مسهل فتحه

صار ملقى الأمير صعبا علينا

وعسيرا إذا توخيت ربحه

قابلتنا من الزمان سنون

آكلات وكان ذخري مدحه

ففقدنا خير الوسائط حتى

لو نظمنا القريض لم نلق منحه

إن عثمان كان أعرف قدرا

بأناشيدنا وأكثر سمحه

فرمينا من الزمان بسهم

من أضاع القريض قد فاز مدحه

أن عثمان هذبته الليالي

فهو في صدر ذي المعارف فسحه

فدواء لمن يحاول طبا

وحسام لمن يحاول جرحه

والثريا لمن أراد اهتداء

والحميا لمن يساوم فرحه

ليت شعري هل الليالي معيد

ات لنا من دجى الحوادث صبحه

فراجعه شاب حبنا علي العمري بقوله:

صحف الشوق بالمدامع سطر

لك يا رونق الجمال وحبر

مغرم كلما أديرت عليه

أكؤس الوجد قلبه يتفطر

من ثناياك كلما شام برق

عارض منك بالمدامع أمطر

لا تهن قلبه فانك فيه

وهو بالشوق والغرام تعمر

يا مليح الدلال أرخصت دمعي

وبخديك مهجتي تتسعر

وعذول إذا لحاني بجهل

قوله فيك يا مليح مكفر

نسخ صبري محقق بعذار

منك قد خطه الجمال وحرر

ص: 317

وحواشي الكمال من قلم الريح

ان في خدك الجني مشعر

بأبي أهيف لقد نام عني

ولجفني القريح أسهى وأسهر

بخدود إذا نظرت إليها

رجع الطرف خاسئا يتحسر

صبروا القلب ثم قالوا تسلى

يا لعمري أنا القتيل المصبر

يا نديمي فقم بنا لرياض

فيها ذيل النسيم أمسى مجرر

منبر البان كللته الغوادي

وخطيب الحمام أملى وكرر

وخرير المياه يعطي سرورا

حيثما في الرياض يغدو مكسر

فضة في الضحى يلوح ولكن

قد كساه الأصيل ثوبا مدنر

وإذا ما الظلام جن عليه

خلت فيه النجوم درا تنثر

لا تقل خده تورد عجبا

بشعاع الذكاء أزهى وأزهر

مد من فوقه النسيم شباكا

ولذا في الهموم أمسى مظفر

ليت لو يشعر الأديب بعيشي

قد صفالي من بعد ما قد تكدر

كيف لم نشكر الزمان بفعل

وبمثل الخليل للنظم أمر

ونعم ذنب ذا الزمان عظيم

وبهذا الصنيع فالذنب يغفر

فكره مقذف عقود لآل

من بحار القريض درا وجوهر

شابهت قطعة الرياض طروس

في يديه والشيء بالشيء يذكر

وإذا طاول القنا ليراع

منه في الطرس بالمضاء تقصر

وإذا خط بالمهارق سطرا

فهو أجلى من الصباح وأسفر

ولقد أحرز الكمال بسبق

في ذكاء وفطنة ليس تنكر

ولئن كان قد تقدم عطرا

غيره عن كماله قد تأخر

فأجابه الشيخ محمد المذكور بقوله:

جاء خد اللجين يحمل عنبر

أم كتاب وبالسطور تعذر

ص: 318

قيد الطرف اذ اقر عيوني

يا أمير الكمال حزت المقرر

مع أخي الرشد غاض بحر قريضي

آه من قصة الرشيد وجعفر

ليت شعري سامرت منك سطورا

أم هو الخال بالطروس مسمر

حج شعري بيت العلوم ولا عت

ب على من يحج أن قيل قصر

أم قدود الملاح لاحت لعيني

لست ادري فالكل قد بان اسمر

ملكت مهجتي برقة معنى

طلت عمرا كيف الرقيق تدبر

لاح من لفظك العلي با صدا

غ حبيبي ميزان شعرك عبر

يا خليلي ذكرتني ذا عذار

سال منه في جنة الخد كوثر

صحف الشوق في عذاريه تملى

فقرأنا من خطه ما تيسر

فقهتنا رسائل الخد لما

بيراع الأنوار أضحى محرر

زاده الشعر في محبيه عزا

فهو في الحالتين يبدو مظفر

غير أني أنفت إذ قال عني

من أديب الزمان خدي أشعر

ص: 319

ملت عنه إلى نقي خدود

حسنها قط ما صفا وتعذر

ناعم الجسم قد حلالي لما

جاءني صدره الشريف بمرمر

ما كفاه سيف اللواحظ حتى

مده الحاجب الجميل بخنجر

آه وا شقوتي لغصن طري

لي عليه من الجدار مسور

ما بدا لي جماله قط إلا

صب دمعي بجفن عيني تعثر

ليت لو يشعر الأديب بعيش

ويدي فوق وجنتي أتفكر

كيف سود الأيام قد بيضت لي

لمتي إذ أرتني الموت أحمر

قلبه الماء رحمة غير أنا

قد رأيناه في الخطوب غضنفر

أورثته الآباء سيفا من العز

م فأجرى في ذلك السيف جوهر

وبنت قبة عليه من المج

د ففي جامع المكارم أزهر

يا شقيق الندى ورب القوافي

لا بل الجود من يديك مصور

لك عندي من الثنا ليس يحصى

ولنا منك رأفة ليس تحصر

يا طبيبا درى منابض دائي

فتحرى إلى الدوا وتخير

عجبا منك يا مهذب من قد

كان إدراك بالدواء وأخبر

يا رجيح المقدار يا عالي القد

ر ويا من على الكرام تأمر

لحت شمسا للمكرمات لعيني

ثم قمرت لي هلالي فأقمر

يا خليلي عذرا لتقصير لفظي

أنني عن منال شأوك أقصر

ولما جرى ما جرى من تعاطي هذه المداعبات التي نفثت مسكا وعنبرا، أنشأ الغلامي قصيدة في مدح الشاب المذكور وهي:

مليح من الولدان ذكرني الخلدا

إذا لمسته الكف من حسنه أعدى

ص: 320

لمست بكفي خده فتضمخت

فها أنا حتى الحشر انشقها ندا

صقيل يريك الوجه مترف جسمه

فمرآة ذاك الصدغ بالصد لن تصدا

إذا احدقته العين ردت كليلة

كما لاح ضوء الشمس في المقلة الرمدا

وان مر في فكري مدام رضابه

يقيم على الأحشاء من هجره الحدا

قضى لي شرع المغرمين بأنه

سيصبح لي مولى وأمسي له عبدا

وافرش من شوق القتاد مضاجعي

وإن كنت من خديه أستقطر الوردا

فأظهر أني في المحبة هازل

ولا أخ لي وجدا لمن يعرف الجدا

ولي عشق ذي فهم أديب لسانه

على كل حال لا أعاد ولا أبدى

أموه في ذكرى بهند وتارة

بسعدى ولا هند بقلبي ولا سعدى

ولكن بي روحا لطيفا حديثه

له كبدي الحراء كم تشتكي البردا (1)

بدا قلت بدرا وانثنى قلت صعدة

وناقلت ظبيا مال فالغصن أو أندى

(1) في الاصل: ولكن بي روح لطيف.

ص: 321

فهبه غدت كل الملاح جنوده

فما باله لم أحص عذاله عدا

وهب أن ذاك الخال في الخد خادم

لمرشفه الأشهى فما بالني أصدى

وما بال هذي الروح في الصدر رددت

وأهجس في رد السلام لها ردا

خليلي أني لم أر غير مغرم

كما مد عين العشق قد جاوز الحدا

تفردت في صدق الغرام كما غدا

علي الوفا ما بين أقرانه فردا

تفردت في قوم خصائلهم إذا

تضعضع بيت الجود كانوا له عمدا

هو الشهم فيه همة عمرية

بأمثالها النساب قد عرفوا الولدا

فلا عدمت أهل الكمال حياة من

أبشهم وجها واكثرهم ودا

وأرجحهم حلما وأسمحهم يدا

وأوفرهم عقلا وأكرمهم جدا

أرى جيد هذا الدهر قد كان عاطلا

فحلاه مولانا بأخلاقه عقدا

وقلده سيفا من العلم بعد أن

بمصقلة الآداب سن له حدا

ص: 322

رأيت عليا أمة لا أرى له

نظيرا بهذا العصر قبلا ولا بعدا

واسمعني أهل القصيد بيوتهم

فأبصرت هذا البيت أعذبهم وردا

فإن يك ناس أحرزوا المجد سرقة

أراه عن الأجداد قد ورث المجدا

وإن تكن الأيام أنست جميلهم

إلى الناس هذا فعله جدد العهدا

لقيت عليا فابتدرت أرى له

رفيقا فأعياني فهمت به وجدا

فلا زال من حاز الفضائل كلها

يحوك له مدحي بأيدي الثنا حمدا

واتفق أن صاحب الترجمة خرج من البلد لبعض مصالح له، فلما رجع أرسلت لقدومه هذه الأبيات، وهي:

قدومك خير فيه كل التكرم

فأهلا وسهلا بالحبيب المكرم

جلبت لنا الأفراح في خير مقدم

فدم واسم في مجد وجود معظم

فأنت أيا ابن الاكرمين كرامة

لقد نلتم العلياء من عهد آدم

سموت بآداب وفضل ومحتد

علوت بعرب في الكمال وأعجم

ص: 323

ملكت من الفضل اللهام وقد جنت

يداك علوما للمكارم تنتمي

غلوت فأرخصت النفوس جميعها

سموت وهل بالفضل مثلك قد سمي

ففضلك معروف ومجدك باهر

وحلمك موصوف بعبس وجرهم

وجودك مذكور وبذلك وافر

وعلمك مشهور بلا كيف أو كم

وفاؤك معلوم لذي كل صاحب

ولست الذي باع الوداد بدرهم

تراعي وداد الحب في كل حالة

وتألفه والله باللحم والدم

فمثلك في حفظ العهود على المدى

وحيد فدم في حفظ ود مسلم

وإن قصر الجسم النحيف بزورة

فذكرك لا يخلو من القلب والفم

فدم بسعود كامل ومكمل

نهارك شمس والليالي كانجم

فأجابني بقوله:

نظمت أيا نجل العلي المكرم

وسابقت في نظم القريض المقدم

ص: 324

وأتحفتني فيها ولست بأهلها

وما هي إلا بهجة المتكلم

وأنسبت فيها للوفاء وإنما

أصاب لذاتي منك قطرة درهم

فلا غرو أن أصبحت أمة وقتنا

بفضل وأفضال وعلم مسلم

فذيلت باهي باهر الشمس منشدا

وطرفت ساهي ساهر الطرف بالفم

ويعجبني من أنواع الجناس المذيل، كما في قوله باهي وباهر، وساهي وساهر، لأنه من غير تكلف، ويسوغ للناظم نظمه، ويعذب فيه نشيده.

فمنه قول كعب بن زهير (1):

ولقد علمت وأنت خير عليمة

أن لا يقربني الهوى لهوان

وما ألطف قول بعضهم:

وسألتها بإشارة عن حالها

وعلي فيها للوشاة عيون

وتنفست صعدا وقالت ما الهوى

إلا الهوان أزيل عنه النون

ومن غراميات البهاء زهير (2) فيه:

أشكو وأشكر فعله

فأعجب لشاك منه شاكر

(1) مرت ترجمته في ص 76 ج 1

(2)

مرت ترجمته في ص 212 ج 1

ص: 325

طرفي وطرف النجم في

هـ كلاهما ساه وساهر

يا ليل بدرك حاضر

يا ليت بدري كان حاضر

حتى يبين لناظري

من منهما زاه وزاهر

وقد اعتنت الشعراء به، فمما نظم فيه قصيدة المارديني (1):

سطا بسيوف مقتله الجوارح

وقد ملك الجوانح والجوارح

هلال في بروج الحسن سار

غزال في مروج القلب سارح

حسام الفتك من عينيه ناض

لذاك دمي على الخدين ناضح

فكيف تخلصي والطرف رام

بسهم جفونه والقد رامح

بصاد لواحظ وعذار لام

حمى ميما يحبر عين لامح

سكرت بعينه من غير جام

فأمسى بالدلال علي جامح

واعجب انه في الحب جان

علي ولا أزال عليه جانح

وهي قصيدة طويلة. ومن مديحها قوله:

جواد لا يخيب لديه راج

كما ميزانه في الفضل راجح

بروض نداه يروي كل صاد

وفيه بلبل المداح صادح

كريم للثنا بالجود شار

مناقبه تعجز كل شارح

تدين له من العليا نواص

لأن علومه أبدا نواصح

فأقلام السعود له جوار

وهم لطيور أعداه جوارح

ومن نظم فيه حسين بن عبد الصمد (2) وهو:

أرق الرق دمع غير راق

ووجدي فيك راق غير راقد

(1) مرت ترجمته في ص 111 ج 1

(2)

هو عز الدين حسين بن عبد الصمد بن محمد الجبعي العاملي الحارثي الهمداني. فقيه امامي اديب شاعر اصله من جبل عامل وقد ولد سنة ثمان عشرة وتسعمائة. وانتقل الى اصفهان فمكث ثلاث سنوات.

ورحل الى قزوين فاستمر فيها شيخا للاسلام سبع سنوات. وتوجه الى هراة، وعاد الى قزوين. ثم حج واقام في البحرين الى ان توفي سنة اربع وثمانين وتسعمائة. وكان من تلامذة الشهيد الثاني. وهو الذي-

ص: 326

وعقرب صدغك اللساع راق

بخدك وهو بالنيران راقد

فلم أر قبله نارا بماء

على غصن نضير القد مائد

وخال من نفوس غير خال

لذلك صار في الميزان خالد

ومنها أيضا:

يصول على المتيم صول تال

فاخفق في الغرام كخفق تالد

يهز قوام غصن منه زاه

ويرغب عن محب غير زاهد

فيأمن دمعه كالوبل هام

على الأطلال يهمي غير هامد

إلى م ترى تهيم بكل واد

فلا معنى فتب واصلح ووادد

وبالمهدي أمعن في معان

على رغم المساوي والمعاند

أمام حبه قربي موال

كريم في السجايا والموالد

وهي طويلة. فمن تتمة القصيدة المترجمة:

تحاميت عما ظل في النظم حمية

تساميت ته دلا على كل أعلم

فكم لك في يوم الفضائل رفعة

وكم لك من نظم بديع مترجم

فإن جئت للآداب أديت دأبها

وإن جئت للتقوى توازي ابن أدهم

وان قالت العرب الكرام مناشدا

لقلت أقيل الكل عند التكلم

- اجازه اجازة عامة. من كتبه «دراية الحديث» مطبوع و «شرح الفقيه الشهيد» و «ديوان شعر» وغيرها وهو والد بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول. ايضاح المكنون 1: 346 وروضات الجنات 192 وامل الآمل 1: 74 وأعيان الشيعة 26: 226 والاعلام 2: 260.

ص: 327

وما هو إلا منحة ووراثة

عن الجد والآباء من عهد آدم

سلكت سلوك الاقدمين أولي النهى

ملكت ملوك الفضل للمجد فانتمى

وذا الود مذود القريض بمدحكم

فجئني بضعف في ملال منظم

وما قارف البال الهنا غير لمحة

فخار يراعي مثل ليت غشمشم

وأن كان هذا النظم راق لناظر

فقد قيل أن الفضل للمتقدم

فلا زلت يا عزي بسعد ورفعة

وفيض وافضال وقدرك قد سمى

وبوئت يا ذا الجود أكمل صحبة

بطول بقاء في نجاح معظم

ومن شعره قوله معجزا ومصدرا لبيتين هما سؤال وجواب للرامي وقاسم بن حسن. (1)

قل لي إذا زارك المحبوب في سحر

وكان في القلب من هجرانه نار

وقد أتى خفية والناس في سنة

بلا رقيب فماذا منه تختار

الجواب:

أشمه قبل أن يحظى النسيم به

لانني رجل في الحب مغوار

(1) هو قاسم بن محمد حسن وسيترجم له المؤلف.

ص: 328

وأحتظي بورود الخد في مهل

والثم الثغر لكن غير غدار (1)

ومن شعره أيضا، معجزا ومصدرا البيتين الشهيرين عن لسان الليالي واعتذارها، قوله:

كل يوم أريد أن أتملى

وجهك الباهر البهي المنور

ودواما أود أن أتباهى

بك والدهر بيننا يتعذر

والليالي تقول لي بلسان

مجمل بل مفصل ومكرر

أيها العاشق المحب اجتماعا

لا تلمني فالاجتماع مقدر

***

(1) في البيت اقواء

ص: 329