المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌منلا عبد الوهاب الإمام - الروض النضر في ترجمة أدباء العصر - جـ ٢

[عصام الدين العمري]

الفصل: ‌منلا عبد الوهاب الإمام

‌منلا عبد الوهاب الإمام

(1)

هذا العالي المقام. الأديب الذي ما عليه كلام. هلال أدب هل في بروج المعابد، ونجم كمال طلع في سماء المساجد، فغدا إمام جامع الكمالات ومقتدى جموعها، وهمام صوامع المقالات ومهتدى ربوعها. فهو البدر الذي أزهر في غياهب ليالي الجهالة فاشرق، وهو الصبح الصادق الذي أسدل ضياه على طلعة البلادة فابرق. وهو في الحقيقة طود علم في روضة الكمال شاهق، وعبيق فهم في دوحة السؤال والجواب عابق.

(1) ترجم له محمد أمين العمري في منهل الاولياء (1: 307) فقال: «الشيخ عبد الوهاب امام حضرة النبي جرجيس عليه الصلاة والسلام. فقيه محدث، له اطلاع تام على فنون عدة، خصوصا الفروع.

وكان حسن السمت، طلق الوجه في بشاشة ودماثة أخلاق، وسهولة جانب، لين عريكة، وعبارات فصيحة.

أخذ العلم عن الشيخ الموصل، وروى الحديث ودرس فيه. وحضرت مجلسه فما كان عليه قصور سوى خفة الضبط، ومجاوزة القوانين العربية. وللناس فيه اعتقاد، وله عندهم قبول، الى أن مات سنة ثلاث وسبعين ومائة والف.» ثم اورد له قطعة دالية.

وترجم له محمد خليل المرادي في سلك الدرر (3: 146) فقال: «عبد الوهاب الموصلي الشافعي الامام في حضرة النبي جرجيس عليه السلام. ولد في سنة تسع وعشرين ومائة والف. ونشأ بالموصل، وقرأ بها. وكان رحمه الله تعالى خطيبا مصقعا. وبليغا ملسنا، حسن الكلام، حلو النظام، ذا فصاحة ونطق، وبلاغة وصدق. وكان عارفا بامور الناس وأحوالهم، فكان يلاقي كل انسان بما يقتضيه حاله، ويناسبه مقامه، مع طلاقة وبشاشة وخبرة تامة.

وكان عنده من كل فن نبذة، ومن كل ظرافة فلذة. وكان أولا اماما بالحضرة الجرجيسية وكيلا من جهة ابن أخيه، ثم عزل فصيره الوزير المكرم محمد امين باشا امام جامعه وخطيبه وواعظه.

وولاه المدرسة أياما بعد موت ملا أحمد الجميلي ثم عزله، وولاها للسيد موسى العالم المشهور. وله شعر لطيف» وبعد ان ذكر منه ثلاث مقطوعات قال: «وحج صاحب الترجمة في سنة خمس وستين ومائة والف. وكانت له لطائف عديدة. وظرائف مديدة. وكان يدعى أنه اجيز له رواية الحديث.

وربما روى الحديث بسنده متصلا ومعنعنا ومسلسلا. وكان حسن الوعظ، جيد المباحثة.

ص: 426

بحر من الفضل قد مدت جداوله

ما في الورى في النهى شخص يحاوله

عين الفضائل والافضال نهر على

لذاك هام الثريا صار منزله

فهو من خبايا الزوايا الذي ادخره الدهر واكتنزه، والذخيرة الذي أصفده العصر لترصيع هام الزمان فبكماله أبرزه. فإنه العقد النفيس الفائق المكنون، والدر الفاخر الأنيس الرائق المخزون. ادخرته لختام رجال الحدباء، كما ادخرته الأيام والليالي وجعلته إمامة سبحة الأدباء، وعلى كل فهو المقدم وغيره التالي.

- وله اشعار انيقة، ومنظومات رشيقة. وكانت وفاته سنة ثلاث وسبعين ومائة والف. رحمه الله تعالى وترجم له محمد الغلامي في شمامة العنبر (286) فقال: «عبد الوهاب بن حسين الامام، معدود من جلة اصحابي، بل منظوم في سلك اعزة أحبابي. صحبة ترتق فتق الهموم، فتثنى عليه أهل المعاشرة ثناء الرياض على سواكب الغيوم. عاشرته وشبابي الغض كطاقة النرجس لا تحملها كف المجالس الا مع اقرانها قبضة، ولا تعده الاصحاب الاكياس من غرته الا ذهبا وفضة. في مجالس ليل ما في سماء انسها الاهلال أو بدر، مطردة الانس ترد العجز على الصدر. هي حتى مطلع الفجر. وأياما استنشقت من مداعبتها عرف الخلاعة. لما أوردنا هذا الامام كئوس المسرة- كالصلاة جماعة. بأنس رفع بيننا نقاب التكلف الذي هو بالبدور عيب قادح، في زمان هبت به نسائم اللطف التي تجعل الكامن من عرف المودة أذكى فائح، لا يقري قوافي الاحسان الا من بيت القصيدة، ولا يمتحن نحاة مجلسه الا بقوله: كيف أنت وقصعة من ثريد، ولا تتزين نحور المجالس من نوادره الا بالدر النضيد، هي عقلة المستوفز، وزمام الحبيب المتعزز، وبغية الخليع المتجوز.

وموعظة المتعصب المتحرز. مع ما هو عليه من طبع يجعل المعاشر لرقته رقيق، ويصير المسك لذكاته تهوى به الريح في مكان سحيق. لازمت صحبته سنين متوالية، وأياما خالية. ولكن جوانحي من تذكرها غير خالية.

كنت اغدو مجلسه تبكير الغراب، والتقى بمصباح غرته والليل مؤذن بالذهاب والشرق محمر الوجه من مباشرة الشمس لما تقدمت اليه ان يرفع اليها النقاب. والغرب من حنق عليه كالح الوجه مسود الاهاب، وانا اقول في نفسي عند صدور أصحابنا عن مورد هذا المجلس في العود تسبق العرجاء فتسحرني طيب مندامته فلا أرجع عنه الا وقد فتح نسيم الاصل عيون نرجس السماء».

ثم ذكر له من شعره تخميسا. وقصيدة دالية.

ص: 427

وكيف لا وهو خلاصة العقود والفرائد، وخاتمة هؤلاء الأدباء الذين جعلهم الله في عصر واحد. إذ هو إمامهم في جامع البيان ورئيسهم في الأدب الذي لم يكن له ثان.

أخذ الأدب المعجز بعنانه. ونفث السحر من قلمه وبنانه.

فنظمه جري بلا مثال سابق، ونثره حري بالقبول كاللؤلؤ المتناسق. له سهام أدب يعضده الرضاء، وحسام كمال لا يخونه المضاء. ترنو البلاغة من احداقه. وتدفق الفصاحة من بين أشداقه له صدر النادي في الانشاء والقريض، وكرسي الوعظ في زهر البراعة المريض. فالأدب مشغوف بلسانه، والكمال موقوف على تقريره وبيانه. فهو من حين ما بدر هلاله، أربى على انهلال السحب انهلاله.

وأيامه كالشمس فهي مضيئة

وأعوامه في الحسن أبهى من البدر

وما قيل إجمال لبعض صفاته

ولا يمكن التفصيل بالنظم والنثر

فمجمر طبعه على الدوام يفوح منه نظم المسك والند، ويضوع في كل ناحية من فريضة العرار والرند. تظن سوق الطيب تحت ردائه العطر. فهو العنبر الأغبر والمسك الازفر ولا فخر.

فقد أوردت من شعره الصاف. ومن عقود نظمه الرائق الشفاف وقد أثبت منه ما هو لهذه الرسالة، كالبدر في السماء الصاحية والغزالة. فمن ذلك قوله:

بطيبة طابت نفسنا من سقامها

وهل مثلها في سائر الكون يوجد

فما تربها إلا شفاء قلوبنا

وكيف ولا نشفى وفيها محمد

ص: 428

نبي بشير شافع لعصاتنا

نصوح أمين شاهد ومجاهد

رسول له الخلق العظيم سجية

به جاءت الآيات وهو المؤيد

رسول رقى السبع الطباق بنعله

وخاطبه المولى العظيم الممجد

رسول أتانا بالهدى بعد غينا

ويشفع فينا يوم حشر ويسجد

يقال له فاشفع تشفع لك الهنا

وسل تعط ما تختار فالله موجد

رسول الهدى غوث لمن أم طالبا

وغيث الندى ورد لمن جاء يعضد

فأنت وحق الله لا شك منجنا

وعندي بهذا جاء نص ومسند

فيا فوز قوم يحمدون جنابه

ينادونه يا غوثنا أنت أحمد

عليك صلاة الله ما هبت الصبا

وما صاح قمري الحمام المغرد

ومن مخمساته:

ظبية الحي مهجتي في يديها

وفؤادي لا زال يصبو إليها

ثم لما أن صار قلبي لديها

حاولت زورتي فنم عليها

قرطها في الدجى ومسك الغلالة

يا لها زورة لقد طهرتني

بل وبعد الخفاء لقد أظهرتني

وبعهدي القديم قد خبرتني

ثم لما أن سلمت ذكرتني

مدح من سلمت عليه الغزالة

تسليم الغزالة والتصرف فيه من مخترعات علاء الدين الوداعي (1)

قال لي العاذل المفند فيها

يوم وافت فسلمت مختاله

قم بنا ندعى النبوة في العش

ق فقد سلمت علينا الغزاله

(1) هو علي بن المظفر بن ابراهيم الكندي الوداعي وقد مرت ترجمته في ص 145 ج 1

ص: 429

وتبعه ابن نباتة فقال:

يا غزالا أهدي السلام إلى المغ

رم لا تنكرن حالي لديه

كيف لا يدعي النبوة في العش

ق وقد سلم الغزال عليه

وللصفي الحلي في معناه:

تنبا فيك قلبي واسترابت

قلوب صدهم عنه ظلال

وردهم الهوى أن يؤمنوا بي

وقالوا ان معجز هم محال

فمذ سلمت سلمت البرايا

علي وقيل كلمه الغزال

ولبعضهم فيه:

أتاني بالسلام إلي منها

رسول حين بلغني الرساله

فقلت له اصح لديك أني

نبي العاشقين بلا محاله

تأمل كيف مال الغصن نحوي

وكيف علي سلمت الغزالة

ومن اللطائف قول بعضهم في عكس هذا المعنى وهو:

مر الحبيب علي غير مسلم

ظن العواذل أنه غضبان

قلت انصفوا يا قوم لست بمرسل

حتى علي تسلم الغزلان

ومما قلته في أثناء التحرير من هذا الباب:

خطرت ظبية ومرت علينا

وحلت في مرورها بالغلاله

وأنا عند مجمع من أناس

بين روض له من الزهر هاله

دونهم سلمت علي ومالت

مثل غصن مر النسيم أماله

آمنوا كلهم بمعجز وجدي

حيث قد سلمت علي الغزاله

ص: 430

والبيتان المخمسان من قصيدة لعلاء الدين البرمكي الحموي ومطلعها:

هل لصب قد غير البعد حاله

زورة منكم علي أي حاله

يا لقومي من للفتى من فتاة

مزجت كأس صدها بالملاله

بغزال الكناس تزري لحاظا

وبنظراتها تفوق الغزاله

قلت إذ مد شعرها لي ظلاما

أسبغ الله لي عليه ظلاله

ليت شعري مع الهوى كيف مالت

ولها القد شاهد بالعداله

ومنها يقول:

آه من قدها أما لفؤادي

شافع من حديث واش اماله

فهي شمس تطلعت من خباها

وعليها من البراقع هاله

رأت البدر في الكمال فأبدت

واضحا بالسنا تريه كماله

وعارض هذه القصيدة الشيخ شهاب الحجازي (1) فقال:

من لصب عذوله قد أسأله

ولدمع من جفنه قد أساله

أخلف الصب وعده مذ رآه

محرما مغرقا بدمع وقاله

(1) هو احمد بن محمد بن علي الأنصاري الخزرجي، شهاب الدين، المعروف بالشهاب الحجازي.

من شيوخ الادب في مصر. ولد في القاهرة سنة تسعين وسبعمائة ونشأ فيها. وقرأ الحديث واللغة والفقه ونظم الشعر، وعني بالموسيقي. وتصدر للتدريس. وله عدة مصنفات منها «قلائد النحور من جواهر البحور» مطبوع وهو رسالة في ما وقع في القرآن الكريم على اوزان البحور العروضية.

و«جنة الولدان» و «الكنس الجواري» رسالتان طبعتا مع الاولى و «شرح المقامات الحريرية» و «تخميس البردة» و «ديوان شعره» «شرح المعلقات» و «التذكرة» في نحو سبعين جزء وغيرها وتوفي بالقاهرة سنة خمس وسبعين وثمانمائة. نظم العقيان 63 وبدائع الزهور 2: 125 والضوء اللامع 2: 147 وحسن المحاضرة 1: 275 والاعلام 1: 219 وفيه مصادر خرى. ومعجم المطبوعات العربية 1151.

ص: 431

أمطرت أدمعى لبرق الثنايا

فاخاف الحبيب دمعى وهاله

وأحال الغرام دمعي على الص

ب لهذا أضحى دما مذ أحاله

ومن السقم قد كسيت لباسا

لي حاكته مقلة من غزاله

وسائغ منها قوله:

وحكى قده المفدى شقيقا

وعليه من ياسمين غلاله

وغدا الحب مائس القد لما

سلب الغصن لينه واعتداله

وقف الغصن في الرياض مطيعا

مذ رآه قلا له وشكا له

هذا آخر ما انتخبناه من علماء بلدنا وشعرائهم. وما أثبتناه من محاسن اشعارهم، ونفائس آثارهم. والحمد لله رب العالمين.

***

ص: 432