المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حديثه، وذكر الخطيب (1) في تاريخه أن الرشيد لما قدم - الصارم المنكي في الرد على السبكي

[ابن عبد الهادي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المحقق

- ‌ترجمة مختصرة للحافظ ابن عبد الهادي

- ‌اسمه:

- ‌ميلاده:

- ‌مشايخه:

- ‌ثناء أهل العلم عليه:

- ‌ الحافظ المزي:

- ‌ الحافظ ابن كثير:

- ‌ الحافظ ابن رجب:

- ‌ الحافظ أبو المحاسن:

- ‌ الإمام الذهبي:

- ‌ الحافظ ابن حجر:

- ‌ الإمام السيوطي:

- ‌ الصفدي:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مقدمه المؤلف

- ‌الباب الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة نصاً

- ‌قال المعترض

- ‌فصل

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض خالد بن يزيد إن كان هو العمري، فقد قال ابن حبان: أنه منكر

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌الباب الثاني: فيما ورد من الأخبار والأحاديث دالاً على فضل الزيارة، وإن لم يكن فيه لفظ الزيارة

- ‌قال المعترض

- ‌فصل: في علم النبي صلى الله عليه وسلم بمن يسلم عليه

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌الباب الثالث: فيما ورد في السفر إلى زيارته صلى الله عليه وسلم صريحاً وبيان أن ذلك لم يزل قديماً وحديثاً

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض: قلت: الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين لا في الزيارة انتهى كلامه

- ‌الباب الرابع: في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض: هذا كلام القاضي وما اختاره يشكل عليه قوله: ((من زار قبري)) فقد أضاف الزيارة إلى القبر إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً فحينئذ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر، ولعله يقول: إن ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا محذور فيه، والمحذور إنما هو ف يقول غيره

- ‌قال المعترض: وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين: أحدهما أنه يقتضي تأكيد نسبة معنى الزيارة إلى القبر، وأنه يجتنب لفظها، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) فرواه أبو داود السجستاني، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ، روى له أربعة ومسلم قال البخاري: تعرف حفظ وتنكر، وقال أحمد بن حنبل لم يكن صاحب حديث كان ضيفاً (3) فيه، ولم يكن في الحديث بذلك، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف حفظه وتنكر، ووثقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال ابن عدي: روى عن مالك غرائب، وهو في رواياته مستقيم الحديث، فإن لم يثبت هذا الحديث فلا كلام، وإن ثبت وهو الأقرب، فقال الشيخ زكي الدين المنذري: يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وأن لا يهمل حتى لا يزار إلا في بعض الأوقات كالعيد الذي لا يأتي في العام إلا مرتين

- ‌الباب الخامس: في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس

- ‌قال المعترض

- ‌فصل

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض

- ‌قال المعترض: بعد حكايته هذا الكلام عن الشيخ: وبقي قسم لم يذكره وهو أن تكون للتبرك به من غير إشراك به فهذه ثلاثة أقسام

- ‌قال المعترض

الفصل: حديثه، وذكر الخطيب (1) في تاريخه أن الرشيد لما قدم

حديثه، وذكر الخطيب (1) في تاريخه أن الرشيد لما قدم المدينة أعظم أن يرقى منبر النبي صلى الله عليه وسلم في قباء أسود ومنطقة فقال أبو البختري: حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء ومنطقة مخنجراً بخنجر فقال المعافي التيمي:

عول وويل لأبي البختري

إذا توافى الناس للمحشر

من قوله الزور وإعلانه

بالكذب في الناس على جعفر

والله ما جالسة ساعة

للفقه في بدو ولا محضر

ولا رآه الناس في دهره

يمر بين القبر والمنبر

يا قاتل الله ابن وهب لقد

أعلن بالزور وبالمنكر

يزعم أن المصطفى أحمداً

أنا جبريل التقي البرى

وعليه خف وقبا أسود

خنجراً في الحقوا بالخنجر

‌قال المعترض

فإن قيل: ما معنى قوله إلا رد الله علي روحي؟

قلت: فيه جوابان.

أحدهما: ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقي أن المعنى إلا وقد رد الله علي روحي يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما مات ودفن رد الله عليه روجه لأجل سلام من يسلم عليه واستمرت في جسده صلى الله عليه وسلم.

والثاني: يحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روجه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه.

قلت: هذان الجوابان المذكوران في كل واحد منهما نظر، أما الأول وهو الذي ذكره البيهقي في الجزء اذلي جمعه في حياة الأنبياء عليهم السلام بعد وفاتهم فمضمونه رد روحه صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى جسده واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى المذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله:((إلا رد الله علي روحي)) بعد قوله: ((ما من أحد يسلم علي يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد)) .

(1) انظر تاريخ بغداد 13/451-457 وانظر الضعفاء الصغير للبخاري رقم 386 والضعفاء والمتروكين للنسائي رقم 605 والميزان 4/353-354.

ص: 222

وليعلم أن رد الروح (إلى البدن)(1) وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية، لا تزيل عن الميت اسم الموت.

وقد ثبت في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه في شأن الميت وحاله أن روحه تعاد إلى جسده، مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليس مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي أنواع حياة برزخية، الموت كالحياة البرزخية وإثبات بعض أنواع) (2) الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استيقظ من النوم قال:((الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)) (3) وتعلك الروح بالبدن واتصالها به بنوع أنواعاً.

أحدهما: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً.

الثاني: تعلقها به في البرزخ والأموات متفاوتون في ذلك فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء.

والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزامه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس والشرع والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده صلى الله عليه وسلم على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه.

قال الشيخ تقي الدين في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (4) وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال: ما من رجل يمر بقر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلك عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، ولم يقل أحد أن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قالب أنه يستلزم إثبات حياة نظير الحياة المعهودة، وقال الحافظ، أبو محمد عبد الحق الإشبيلي في كتاب العاقبة، ذكر أبو عمر بن

(1) في طبعة دار الكتب العلمية (بعد للبدن) وهو خطأ.

(2)

ما بين القوسين سقط من طبعة دار الكتب العلمية.

(3)

رواه البخاري 11/113 ومسلم 17/35 النووي وأبو داود 5/300 وابن ماجه 3880 والترمذي 9/362 من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(4)

انظر 2/262.

ص: 223

عبد البر من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام)(1) وهو صحيح الإسناد قال عبد الحق: ويروى من حديث أبي هريرة موقوفاً، فإن لم يعرفه وسلم رد عليه السلام ويروى من حديث عائشة:ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده إلا استأنس بهحتى يقوم، انتهى ما ذكره.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن قدامه الجوهري: حدثنا معن بن عيسى القزاز، حدثنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبي هريرة أه قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسل عليه رد عليه السلام وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام، هكذا رواه موقوفاً على أبي هريرة، ورواية زيد بن أسلم، عن أبي هريرة قد قيل: إنها مرسلة، وهي مذكورة في جامع الترمذي (2)، وقد روى عباس الدوري عن يحيى بن معين أنه قال: زيد بن أسلم لم يسمع من أبي هريرة (3) .

وقال ابن أبي حاتم (4) سمعت علي بن الحسين بن الجنيد يقول: زيد بن أسلك عن أبي هريرة مرسل أدخل بينه وبينه عطاء بن يسار، وقال عبد الرزاق في مصنفه: أنبأنا يحيى بن العلاء، عن ابن عجلان، عن زيد بن أسلك قال: مر أبو هريرة وصاحب له على قبر، فقال أبو هريرة: سلك فقال الرجل: أسلك على قبر، فقال أبو هريرة: إذا كان رآك في الدنيا يوماً قط إنه ليعرفك الآن، ويحيى بن العلاء الرازي شيخ عبد الرزاق لا يحتج بروايته (5) .

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محرز بنعون، حدثنا يحيى بن يمان بن عبد الله زياد بن سمعان، عن زيد بن أسلك، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم، هذا إسناد ضعيف جداً وابن سمعان أحد المتروكين)) (6) .

(1) ذكر هذا الحديث السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للخطيب في التاريخ وابن عساكر عن أبي هريرة ولفظه (ما من عبد..)

وقال المناوي في فيض القدير: قال ابن الجوزي (حديث لا يصح) ثم قال: وأفاد الحافظ العراقي إن ابن عبد البر أخرجه في التمهيد والاستذكار بإسناد صحيح من حديث ابن عباس وممن صححه عبد الحق 5/487.

(2)

أشار إليها تحفة الأشراف 9/454 وذكر أن الترمذي قال: ولا نعرف لزيد سماعاً من أبي هريرة وهو مرسل.

(3)

انظر تاريخ ابن معين رقم 1146.

(4)

لم أجد هذا الكلام في ترجمة زيد بن أسلم من الجرح والتعديل.

(5)

قال في التقريب: رمى بالوضع.

(6)

قال في التقريب: متروك.

ص: 224

وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثني اليسع بن أحمد بن اليسع الدمياطي، حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلك، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام) ، هكذا روي مرفوعاً وهو ضعيف، والمحفوظ موقوف وعبد الرحمن بن زيد بن أسلك لا يحتج به (1) ، وقد سقط ذكر أبيه بينه وبين عطاء بن يسار.

وقال أبو أحمد بن عدي في الكامل (2) : حدثنا محمد بن أبان بن ميمون السراج وأحمد بن محمد بن خالد الرائي (3) قال: حدثنا يحيى الحماني (4) ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((سلموا علي إخوانكم هؤلاء الشهداء، فإنهم يردون عليكم)) وهذا لا يثبت وعبد الرحمن بن زيد في طريقه.

وقد روى في هذا الباب آثار كثيرة ولذكرها موضع آخر.

وفي الجملة: رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كان نوع حياة برزخية وقول من زعم أها نظير الحياة المعهودة مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقة الروح للرفيق الأعلى وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن، والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطبقا التراب والحجارة ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء.

وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله: إلا رد الله علي روحي، بأن معناه إلا وقد رد الله علي روحي، وإن ذلك الرد مستمر وأحياءه الله قبل يوم النشور وأقره تحت التراب واللبن، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى؟ واتخذت بيت تحت الأرض مع البدن، أم في الحال الواحد هي في المكانين؟

وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقاه عنه جماعة المتأخرين والتزموا لأجل اعتقادهم له أمور ظاهرة البطلان، والله الموافق للصواب.

(1) انظر التاريخ الكبير 5/284 والصغير ص71 والجرح والتعديل 5/233 والميزان 2/564 والمغني 2/380 والكاشف 2/146 والمجروحين 2/57 والضعفاء للنسائي ص158 رقم 377.

(2)

انظر الكامل 4/1582.

(3)

في الكامل لابن عدي (البرائي) وهو الصحيح.

(4)

انظر ترجمة في التاريخ الكبير 8/291 والصغير ص120 والجرح والتعديل 9/168 والميزان 4/392 والمعني 2/739 ولسان الميزان 7/734 والتهذيب 11/243 وضعفاء النسائي ص248 رقم 656.

ص: 225

وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا رد معنوي، فإن الروح مشتغلة بالحضرة الشريفة، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم المسلم عليه التفتت إليه لرد سلامه، فهذا الجواب فيه نوع من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير مع أنه لا يصح على أصل شيوخه ومتبوعيه في علم الكلام.

فإن الروح ليست عندهم ذاتاً قائمة بنفسها منفصلة عن البدن حتى تكون في الملأ الأعلى والبدن في القبر، بل هي عندهم عرض من أعراض البدن كحياته وقدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته وحياة البدن مشروطة بها وموته قطع هذه الصفة عنه، ورغم كثير منهم أن العرض لا يبقى زمانين، فعلى هذا لا تزال الأرواح متجددة فتنعدم روح وتحدث أخرى بدلها، وهذا قول باينوا به سائر العقلاء، كما خالفوا به المعلوم يقيناً من أدلة الشرع، وإنما يجيء هذا على قول جمهور العقلاء سواهم.

وقول أهل السنة من الفقهاء المحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وإنها تفارق البدن وتصعد وتنزل وتقبض وتنعم وتعذب وتدخل وتخرج وتذهب وتجيء وتسأل وتحاسب ويقبضها الملك ويعرج بها إلى السماء ويشبعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنها تحس وتدرك وتأكل وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام على من سلم عليه وهي مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى.

وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة ولا ريب ا، موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تنزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى في قبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة وحلولها في القبر، بل هي في مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي حتى حمله على الصلاة.

وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرم البدن وتقيمه وتؤثر فيه فما الظن بأرواح الأنبياء؟ وقد ثبت في الصحيح: ((أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى

ص: 226

قناديل معلقة تحت العرش)) (1) . وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمه المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها وتشعر بها إذا سلم عليه المسلم.

وقد قال أبو الدرداء: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتي بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود (2) ،ـ ذكره الحافظ أبو عبد الله بن مندة في كتاب الروح، وروى ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق عن ابن لهيعة، حدثني عثمان بن نعيم الرعيني عن أبي عثمان الأصبحي، عن أبي الدرداء قال: إذا نام الإنسان عرج بنفسه (3) ، حتى يؤتي بها إلى العرش فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود (4) .

وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد (5) عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عند ي وهو ساجد لي)) وهذا مرسل.

وقال أبو الطيب: محمد بن حميد الحوراني في جزئه الذي رواه تمام عنه: حدثنا أحمد بن محمد بن نصر الأنطاكي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي حماد القطان، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء عن الأزهري بن عبد الله الأودي، عن محمد بن عجلان، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد ولا أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فهي التي تكذب)) هكذا روى مرفوعاً وليس بمحفوظ والمعروف وقفه على علي.

قال ابن مردويه في تفسيره: حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا جعفر بن محمد، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا بقية، قال: حدثني صفوان بن عمرو قال: حدثني سليم بن عامر أن

(1) انظر صحيح مسلم 3/1502.

(2)

سقط قوله (وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود) .

(3)

في الزهد (بروحه)

(4)

صفحة 194 جاشية (2) .

(5)

2/243 قال ثنا عبد الصمد ثنا سلام قال سمعت الحسن يقول فذكره من قوله والله أعلم، وهذا الأثر في النسخة ذات الجزء الواحد في ص342 طبع دار الكتب العلمية والأثر أيضاً من كلامه وعلى كل فمراسيل الحسن من أضعف المراسيل.

ص: 227

عمر بن الخطاب قال: أتعجب من رؤيا الرجل إنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤيا كأخذ باليد، ويرى الرجل رؤيا فلا تكون رؤيا شيئاً.

قال فقال علي: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين لأن الله يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر 042) فالله تبارك وتعالى يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت في أجسادها تلفتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها، فعجب عمر من قوله.

وقد رواه ابن منده أيضاً في كتاب الروح والنفس من رواية بقية بن الوليد، حدثنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر الحضرمي قال: قال عمر بن الخطاب: عجبت لرؤيا الرجل يرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون كأخذه باليد، ويرى الشي ءفلا يكون شيئاً، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (الزمر 042)

قال: والأرواح يعرج بها في منامها فما رأت وهي في السماء فهو الحق، وإذا ردت إلى أجسادها نقلتها الشياطين في الهواء وكذبتها، فما رأت في ذلك فهو الباطل، قال فجعل عمر يتعجب من قول علي: قال ابن منده: وهذا خبر مشهور عن صفوان بن عمرو وغيره، وروي عن أبي الدرداء.

فهذه روح النائم متعلقة ببدنه وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أقصر وقت، فروح النائم مستقرها البلد تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك ولم تفارق البدن فراقاً كلياً وعكسه أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء مستقرها في عليين وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (1) ، وهذا قرب الروح نفسها من الرب ولم تفارق البدن، والرب تعالى فوق سمواته على عرشه)) .

ولا يتلفت إلى كثافة طبع الجهمي وغلظ قلبه، ورقة إيمانه ومبادرته على تكذيب ما

(1) الحديث أخرجه مسلم 482 وأبو داود 875 وغيرهما.

ص: 228

لم يحط بعلمه، فالروح تقرب حقيقة بنفسها في حال السجود من ربها تبارك وتعالى لا سيما في النصف الأخير من الليل حين يجتمع القرباء، إذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأقرب ما يكون (الرب) من عبده في جوف الليل حين ينزل إلى السماء الدنيا ويدنو من عبادة، فتحس الروح بقربها حقيقة من ربها سبحانه.

ومع هذا فهي بدنها وهو (سبحانه) فوق سمواته على عرشه، وقد دنا من عباده ونزل إلى السماء الدنيا، فإن علوه سبحانه وعلى خلقه أمر ذاتي، له معلوم بالعقل والفطرة وإجماع الرسل، فلا يكون فوقه شيء البتة، ومع هذا فيدنوا عشية عرفة من أهل الموقف وينزل إلى سماء الدنيا (1) ، وهذا الذي ذكرناه من دنو الرب تبارك وتعالى من عباده مع كونه عالياً على خلقه هو قول كثير من المحققين من أهل السنة.

قالوا: وإذا كان شأن الأرواح ما ذكرنا وهي مخلوقة محصورة متحيزة، فكيف بالخالق الذي يحيط ولا يحاط به؟

وأعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء، وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك.

وأما المعتزلة " الجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال عثمان بن سعيد الدارمي: هو أغيظ حديث للجهمية، وقال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ثابت من جهة النقل الصحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته.

وقال سليمان بن حرب سأل بشر بن السري حماد بن زيد فقال: يا أبا إسماعيل الحديث الذي جاء: ينزل الله إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان، فسكت حماد، ثم قال: هو في مكانه يقرب من خلقه كيف يشاء.

وقال إسحاق بن راهوية: جمعني وهذا المبتدجع - يعني إبراهيم بن صالح - مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال إبراهيم: كفرت

(1) لشيخ الإسلام ابن تيمية شرح لحديث النزول فراجعه فإنه مقيد للغاية فجزاه الله خيراً.

ص: 229

برب ينزل من سماء إلى سماء، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، قال:فرضي عبد الله كلامي، وأنكر على إبراهيم.

وسأل رجل عبد الله بن المبارك عن النزول فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ فقال عبد الله: " كدخداي خويش كد " ينزل كيف يشاء، وقال أبو الطيب أحمد بن عثمان حضرت عند أبي جعفر الترمذي فسأله سائل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)) فالنزول كيف يكون يبقى فوقه علو؟ فقال أبو جعفر الترمذي: البنزول معقول، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.

وأبو جعفر هذا اسمه محمد بن أحمد بن نصر (1) ، وكان من كبار فقهاء الشافعية ومن أهل العلم والفضل والزهد في الدنيا أثنى عليه الدارقطني وغيره، وقد قال في النزول كما قال مالك رحمه الله في الاستواء، وهكذا القول في سائر الصفات.

وقد اختلف المثبتون للنزول هل يلزم منه خلو العرش منه أم لا، ونحن نشير إلى ذلك إشارة مختصرة فنقول: قالت طائفة: لا يلزم منه خلو العرش، بل ينزل إلى سماء الدنيا وهو فوق العرش، قالوا وكذلك كلم موسى من الشجرة وهو فوق عرشه وكذلك يحاسب الناس يوم القيامة، ويجيء ويأتي وينطلق وهو فوق العرش، لأنه سبحانه أكبر من كل شيء، كما دل عليه السمع والعقل،وهو العلي العظيم،فلا يزال سبحانه علياً على المخلوقات كلها العرش وغيره في كل وقت، وفي كل حال من نزول وإتيان وقرب وغير ذلك، فلو خلا منه العرش حال نزوله لكان فوقه شيء، وكان غير عال وهذا ممتنع في حقه سبحانه، لأن علوه من لوازم ذاته فلا يكون غير عال أبداً، ولا يكون فوقه شيء أصلاً.

وقالت طائفة أخرى: بل خلوا العرش منه من لوازم نزوله، فتقول: ينزل إلى سماء الدنيا ويخلو منه العشر إذا نزل، لأن النزول الحقيقي يستلزم ذلك،

(1) كان زاهداً ورعاً سكن بغداد وكان شيخ الشافعية بالعراق ابن شريح وتفقه على الربيع ابن سليمان المرادي وغيره من أصحاب الشافعي وكان حنفياً ثم صار شافعياً لمنام رآه قال الدارقطني ثقة مأمون ناسك، من مؤلفاته،" اختلاف أهل الصلاة " ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومئتين، انظر ترجمته في البداية والنهاية 11/107 والأنساب للمسعاني 3/43 ووفيات الأعيان 3/334 وشذرات الذهب 2/220 والعبر 2/103 وطبقات الشافعية لابن هداية ص37، وتاريخ بغداد 1/365.

ص: 230

والقول بإثبات النزول معكونه فوق العرش غير معقول، وكذلك القول بأنه يحاسب الناس يوم القيامة في الأرض، وأنه يجيء ويقبل ويأتي وينطلق ويتبعونه، وأنه يمر أمامهم، وأنه يطوف في الأرض ويهبط عن عرضه إلى كرسيه، أو غيره، ثم يرتفع إلى عرشه كما ورد هذا كله في الحديث، وأنه كلم موسى عليه السلام من الشجرة حقيقة (1) ، وهو مع ذلك كله فوق عرشه أملا يتصوره العقل، ولم يدل عليه النقل فيجب القول به والانقياد له، بل هو شيء لا يخطر ببال من سمع الأحاديث في ذلك وكان سليم الفطرة إلا أنه يوافقه عليه من يعتقد فيقرره في ذهنه.

وقد علم أن نزول الرب تبارك وتعالى أمر معلوم معقول كاستوائه وباقي صفاته، وأن كانت الكيفية مجهولة غير معقولة، وهو ثابت حتى حقيقة لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وما لزم الحق فهو عين الحق.

قال هؤلاء: ونحن أقرب إلى الحق وأولى بالصواب ممن خالفنا، لأننا قلنا بالنصوص كلها، ولم نرد منها شيئاً ولم نتأوله، بل أثبتنا نزول الرب تبارك وتعالى حقيقة مع إقرارنا بأنه العلي العظيم الكبير المتعال، فلا شيء أعلى منه، ولا أعظم منه ولا إله غيره ولا رب سواه هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وكونه علياً عظيماً لا ينافي نزوله حقيقة عند من عقل معنى النصين وفهم معنى الخبرين، قالوا: فنحن قلنا بموجب النصين العلو والنزول.

وأما مخالفتنا القائل بأنه ينزل ولا يخلو منه العرش فحقيقة قوله إما نفي معنى النزول بالكلية، وإثبات مجرد لفظه، وإما حمله له على أمر لا يعقل أصلاً، وأما تفسيره بما يخالف ظاهر اللفظ وحقيقته وهو القول بنزول بعض الذات.

ثم إنه يرد على قائل هذا ما أورده علينا من أنه يبقى شيء من المخلوقات فوق بعض الذات، وذلك ينافي العلو المطلق الذي هو من لوازم ذاته، فمخالفتنا يلزمه أمران:

أحدهما: ما أورده علينا.

(1) نؤمن أن موسى تلقى كلام الله تعالى حقيقة وأنه سمعه بأذنيه ولقد أخطأ سيد قطب رحمه الله تعالى حيث قال في 5/2692 من الظلال في سورة القصص.. تلقاه لا تدري كيف وبأي جارحة، ولسيد قطب رحمه الله أخطاء في كتابه الظلال خصوصاً في باب العقيدة وأرشد القارئ إلى مراجعة ما كتبه الشيخ الدويش رحمه الله في كتابه (الموارد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال)

ص: 231

والآخر: مخالفته اللفظ وحمله (له) على المجاز دون الحقيقة من غير دليل، ونحن لا يلزمنا محذور أصلاً، فإنا جمعنا بين نصوص الكتاب والسنة وقلنا بها كلها وحملناها على الحقيقة دون المجاز لم نتأول منها شيئاً برأينا ولا صرفنا منها شيئاً عن ظاهر بعقلنا.

قالت الطائفة الأولى القائلة بعدم الخلو: بل نحن أولى بالحق منكم، فإنا نحن القائلون بالنصوص كلها الجامعون بين الأدلة العقلية والسمعية.

وأما أنتم فيلزمكم مخالفة ما ورد من نصوص العظمة، وأن يكون المخلوق محيطاً بالخالق، وما ذكرتموه من استلزم النزول بخلو العرش هو عين الجهل، وإنما ذلك لازم في نزول المخلوق والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته،ولا في أفعاله، وهو العالي في دنوه، القريب في علو، ليس فوقه شيء ولا دونه شيء بل هو العالي على جميع خلقه في حال نزوله، وفي غير حال نزوله، وهو الواسع العليم، أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء،وهو المحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يده إلا كخردلة في يد أحدكم، وهو الموصوف بالعلو المطلق، ولم يزل عالياً ولا يكون إلا عالياً سبحانه وتعالى.

وفي هذا كله ما يبطل قولكم إنه إذا نزل يخلوا منه العرش، فإن ذلك يلزم منه أمور ممتنعة، منها إحاطة المخلوق بالخالق، وأن لا يكون الخالق أكبر من كل شيء ولا أعظم من كل شيء وكل ذلك محال.

وقالوا: وأما نحن فنقول لا يخلو منه العرش إذا نزل، بل هو فوق عرشه يقرب من خلقه كيف شاء وإن كنا قد نقول إنه غير موصوف بالاستواء حال النزول، فإن الاستواء علو خاص،وهو أمر معلوم بالسمع.

وأما مطلق العلو فإنه معلوم بالعقل، وهو من لوازم ذاته، فقربه إلى خلقه حال نزوله لا ينافي مطلق علوه على عرشه، قالوا: وما ذكره مخالفنا من أنا ننفي معنى النزول بالكلية أو نفسره بأمر لا يعقل، باطل، بل النزول عندنا أمر معلوم معقول غير مجهول، وهو قرب الرب تبارك وتعالى من خلقه كيف يشاء، وقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ((ينزل ربنا)) (1) كقوله تعالى {فََلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأعراف 143)

(1) أخرجه البخاري في كتاب التهجد (الباب الرابع عشر الدعاء والصلاة من آخر الليل) وفي كتاب الدعوات (باب الدعاء نصف الليل) وفي التوحيد (باب قوله تعالى يريدون أن يبدلوا كرام الله) ومسلم 1/521.

ص: 232

وقد ثبت أن الذي تجلى منه مثل الخنصر، أو مثل طرف الخنصر مع إضافة التجلي إليه، فكذلك النزول من غير فوق، ولا يلزمنا على هذا ما لزمكم من إحاطة المخلوق بالخالق وكونه غير علي عظيم.

وقد ثبت أن جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، مع العلم بأن صورته التي خلق عليها لم تزل ولم تعدم في تلك الحال، بل تمثل له بعضها في صورة دحية، فخاطبه، ولبس في الشرع ولا في العقل ما ينافي ذلك.

قالت الطائفة الأخرى القائلة بالخلو: الواجب علينا كلنا اتباع النصوص كلها والجمع بينها وأن لا نضرب بعضها ببعض، ولا يخفى أن جميع ما ورد من نصوص العظمة نحن به مصدقون، وإليه منقادون وبه موقنون، وما ذكرتموه من العلو والعظمة لا ينافي حقيقة النزول، ونحن لا نمثل نزول الرب تبارك وتعالى بنزول المخلوق ولا استواءه باستوائه، وكذلك سائر الصفات نعوذ بالله من التمثيل والتعطيل.

لكن إثبات القدر المشترك لا بد منه كما في الوجود، وباقي الصفات، وإلا لزم التعطيل المحض، فنحن نثبت النزول على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ونقول قد أخبر (به) الصادق وما أخبر به فهو عين الحق، وما لزم الحق فهو حق، ونقول: أن النزول الحقيقي يستلزم ما ذكرناه وما استروح إليه مخالفتنا من أن المراد نزول بعض الذات كما في قوله {فََلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (الأعراف 143) والمراد تجلي البعض أمر غير معقول منه، والفرق بين الموضوعين ظاهر والدليل هناك دل على إرادة البعض فلا يلزم من الحمل على إرادة البعض في مكان بديل الحمل على إرادة البعض في مكان آخر من غير دليل.

وما ذكر من أمر جبير وتمثل بعضه للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، أمر لم يدل على عقل ولا شرع، فلا يجوز المصير إليه بمجرد الرأي،ـ بل الذي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية هو جبريل حقيقة، ولعظيم مرتبته وعلو منزلته أقدره الله تعالى على أن يتحول من صورة إلى صورة، ومن حال إلى حال، فيرى مرة كبيراً، ومرة صغيراً كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى في السموات والأرض.

وقد دل العقل والنقل على قيام الأفعال الاختيارية به فهو الفاعل المختار بفعل ما يشاء ويختار، ذو القدرة التامة والحكمة البالغة والكمال المطلق، وقد ثبت في الصحيح أنه يتحول من صورة إلى صورة وثبت أنه يتبدى لهم في صورة غير الصورة التي رأوه فيها

ص: 233

أول مرة ثم يعود في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.

وهذا كله حق لأن الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى قد أخبر به،وليس في العقل ما ينفيه، بل جميع ما أمر به صاحب الشرع يوافقه العقل الصحيح ويؤيده وينصره ولا يخالفه أصلاً.

وإذا عرف هذا فقد يقال ما ورد من الأدلة الدالة على العظمة وكبر الذات، ليس بينها وبين ما قيل إنه يعارضها منافاة ولا معارضة، بل جميع ذلك حق والجمع بين ذلك كله سهل يسير بعد العلم بإثبات الأفعال الاختيارية،وأن الله هو الفعال لما يريد وهو الفاعل المختار يفعل ما يشاء ويختار لا إله غيره ولا رب سواه.

وقالت طائفة ثالثة: نحن لا نوافق الطائفة الأولى ولا الثانية، بل نقول:ينزل كيف يشاء غير مثبتين للخلو ولا نافعين له بل مقتصرين على ما جاء في الحديث سالكين في ذلك طريق السلف الصالح.

وقد روى (أبو) الشيخ عن إسحاق بن راهويه، قال: سألني ابن طاهر عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يعني في النزول، فقلت له: النزول بلا كيف، وروى الأوزاعي عن الزهري ومكحول أنهما قالا: امضوا الأحاديث على ما جاءت، وقال الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد وغيرهم من الأئمة: أمروا الأحاديث كما جاءت بلا كيف، ولبسط الكلام في هذا موضع آخر والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 234