الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: في تقرير كون الزيارة قربة وذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس
قال المعترض
وأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء 064) دلت الآية على حث على المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيماً له.
فإن قلت: المجيء إليه في حال الحياة ليستغفر لهم وبعد الموت ليس كذلك قلت: دلت الآية على تعليق وجدانهم الله تواباً رحيماً بثلاثة أمور: المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول، فأما استغفار الرسول فإنه حاصل لجميع المؤمنين،لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للمؤمنين لقوله تعالى:((واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)) ولهذا قال عاصم بن سليمان - وهو تابعي - لعبد اله بن سرجس الصحابي: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية. رواه مسلم (1) .
فقد ثبت أحد الأمور الثلاثة، وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن ومؤمنة، فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته، وليس في الآية ما يعين أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم، بل هي محتملة (2) .
والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنه سواء تقدم، أم تأخر، فإن المقصود إدخالهم بمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا استغفر لهم الرسول معطوفاً على فاستغفروا الله أما
(1) أخرجه مسلم 4/1823 - 1824 والترمذي في الشمائل رقم 22.
(2)
في كتاب السبكي (مجملة) بدلاً من قوله (محتمله) .
إن جعلناه معطوفاً على جاءوك لم يحتج إليه، هذا كله إن سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغفر بعد الموت، ونحن لا نسلم ذلك لما سنذكره من حياته صلى الله عليه وسلم واستغفاره لأمته بعد موته، جاء مستغفراً ربه تعالى، فقد ثبت على كل تقدير أن الأمور الثلاثة المذكورة في الآية حاصلة لمن يجيء إليه صلى الله عليه وسلم مستعفراً في حياته وبعد مماته.
والآية وإن وردت في أقوام معينين في حالة الحياة فتعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت.
ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين، واستحبوا لمن أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلوا هذه الآية ويستغفر الله تعالى، وحكاية العتبي في ذلك مشهورة وقد حكاها المصنفون في المناسب من جميع المذاهب والمؤرخون وكلهم استحسنوها ورأوها من أدب الزائر، ومما ينبغي له أن يفعله، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث، انتهى ما ذكره.
والجواب: أن يقال: قوله: وهي قربة بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، الكلام عليه من وجوه.
الأول: مطالبته بتصحيح دعواه وإلا كانت مجردة عما يثبتها.
الثاني: أن القربة هي ما يجعله الله ورسوله قربة، إما بأمره، وإما باختياره إنها قربة وإما بالثناء على فاعلها، وإما يجعل الفعل سبباً لثواب يتعلق عليه، أو تكفير سيئات، أو غير ذلك من الوجوه التي يستدل بها على كون الفعل محبوباً لله مقرباً إليه.
الثالث: إنه لا يكفي مجرد كون الفعل محبوباً له في كونه قربة، وإنما يكون قربة إذا لم يستلزم أمراً مبغوضاً مكروهاً له، أو تفويت أمر هو أحب إليه من ذلك الفعل، وأما إذا استلزم ذلك فلا يكون قبرة، وهذا كما أن إعطاء غير المؤلفة قلوبهم من فقراء المسلمين وذوي الحاجات منهم؛ وإن كان محبوباً لله فإنه لا يكون قربة إذا تضمن فوات ما هو أحب إليه من إعطاء من يحصل بعطيته قوة في الإسلام وأهله،وإن كان قوياً غنياً غير مستحق.
وكذلك التخلي لنوافل العبادات إنما يكون قربة إذا لم يستلزم تعطيل الجهاد الذي هو أحب إلى الله سبحانه من تلك النوافل، وحينئذ فلا يكون قربة في تلك الحال، وإن كان قربة في غيرها.
وكذلك الصلاة في وقت النهي إنما لم تكن قربة لاستلزامها ما يبغضه الله سبحانه ويكرهه من التشبه ظاهراً بأعدائه الذين يسجدون للشمس في ذلك الوقت.
فها هنا أمران يمنعان كون الفعل قربة: استلزمه لأمر بمغوض مكروه وتفويته لمحبوب هو أحب إلى الله من ذلك الفعل.
ومن تأمل هذا الموضع أحق التأمل أطلعه على سير الشريعة ومراتب الأعمال وتفاوتها في الحب والبغض والضر والنفع، بحسب قوة فهمه وإدراكه ومواد توفيق الله له، بل مبنى الشريعة على هذه القاعدة، وهي تحصيل خير الخيرين، وتفويت أدناهما وتعطيل شر الشرين باحتمال أدناهما، بل مصالح الدنيا كلها قائمة على هذا الأصل.
وتأمل نهي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عن زيارة القبور سداً للذريعة الشرك، وإن فاتت مصلحة الزيارة، ثم لما استقر التوحيد في قلوبهم وتمكن منها غاية التمكن إذن في القدر النافع من الزيارة، وحرم ما هو داع إلى غيره، فحرم اتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والصلاة إليها فحرم جعلها قبلة ومسجداً، ونهى عن اتخاذ قبره الكريم عيداً وسأل ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، وقد استجاب له ربه تعالى بأن حال يبين قبره وبين المشركين بما لم يبق معه لهم وصول إلى عبادة قبره، وأمر الأمة بالصلاة عليه حيثما كانوا عقب قوله:((لا تتخذوا قبري عيداً)) فقال: ((وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)) (1) .
فهو صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على تحصيل القرب لأمته وقطع أسباب أضدادها عنهم، وإنما دخل الداخل على من ضعفت بصيرته في الدين، وكانت بضاعته في العلم مزجاة فلم يتسع صدره للجمع بين الأمرين، ولم يفطن لارتباط أحدهما بالآخر.
وهذا القدر بعينه هو الذي ضاقت عنه عقول الخوارج، وقصرت عنه أفهامهم حتى قال له قائلهم في قسمته، أعدل فإنك لم تعدل (2) ، فإنه لما لحظ مصلحة التسوية ولم يلتفت إلى مصلحة الإيثار، وما يترتب على فواته من المفاسد قال ما قال، هؤلاء سلف كل متمعقل متمعلم على ما جاء به الرسول، بعقله أو رأيه أو قياسه أو ذوقه.
والمقصود أن كون الفعل قربة ملحوظة فيه هذان الأمران.
الوجه الرابع: أنه كيف يتقرب إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعين ما نهى عنه وحذر منه الأمة بقوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً)) (3) ومعلوم أن جعل الزيارة من أفضل
(1) تقدم مراراً.
(2)
أخرجه البخاري 10/552 و 12/290 ومسلم 2/470 - 744 وابن ماجة رقم 172 وأحمد 3/56، 65، 353، 355.
(3)
تقدم.
القرب مستلزم لجعل القبر من أجل الأعياد، وهذا ضد ما حذر منه الأمة ونهاهم عنه وهو تقرب إليه بما يسخطه ويبغضه.
الوجه الخامس: الكلام على ما ذكره من الأدلة مفصلاً وبيان عدم دلالته على ما ادعاه وأنه هو وغيره عاجز عن إقامة دليل واحد فضلاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
فأما استدلاله بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} (النساء 064) فالكلام فيها في مقامين.
أحدهما: عدم دلالتها على مطلوبة.
الثاني: بيان دلالتها على نقيضه، وإنما يتبين الأمران بفهم الآية، وما أريد بها وسيقت له وما فهمه منها أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه، وهم سلف الأمة ومن سلك سبيلهم ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء إذا ظلم نفسه وأخبر أنه من المنافقين فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون 005) وكذلك هذه الآية إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف وغيره من الطواغيت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم، ثم لم يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فإن المجيء إليه ليستغفر له توبة وتنصل من الذنب، وهذه كانت عادة الصحابة معه صلى الله عليه وسلم أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة جاء إليه فقال: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي وكان هذا فرقاً بينهم وبين المنافقين.
فلما استأثر الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أجد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، وافترى على الصحابة والتابعين وهم خير القرون على الإطلاق هذا الواجب الذي ذم الله سبحانه من تخلف عنه وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له لمن لا توبة له من الناس ولا يعد في أهل العلم، وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام وهداة الأنام من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة فلم يدعوا إليه ولم يحضوا عليه ولم يرشدوا إليه ولم يفعله أحد منهم
البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسود الغلاة فيما يكرهه وينهي عنه من الغلو والشرك الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية.
ولما كان هذا المنقول شيخاً في حلوق البغاة وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبه قابلوه بالتكذيب، والطعن في الناقل، ومن استحيي منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأتي الله إلا أن يعلي منار الحق، ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاندة فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده ويطرده وعغمص أهله من يشاء.
وبالله العجب أكان ظلم الأمة لأنفسها ونبيها حي بين أظهرها موجود، وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن هذا المجيء، فلما توفي صلى الله عليه وسلم ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له؟ وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة.
ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه، وبطلان هذا التأويل أظهر من أن يطنب في رده، وإنما ننبه عليه بعض التنبيه.
ومما يدل على بطلان تأويله قطعاً أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وقد ظلم نفسه ليستغفر له فأعرض عن المجيء، واباه مع قدرته عليه كان مذموماً غاية الذم مغموصاً بالنفاق، ولا كذلك من دعى إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين وبين المدعويين وبين الدعوتين، فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق.
وأما دلالة الآية على خلاف تأويله فهو أنه سبحانه صدرها بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ} (النساء 064) وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم طاعة له، ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة، ولم يقل مسلم أن علي من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة له لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها ووفق لها هؤلاء الغلاة العصاة وهذا بخلاف قوله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (النساء 065) فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حياً أو ميتاً ففي حياته كان هو الحاكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه، يوضح ذلك أنه قال:((لا تجعلوا قبري عيداً)) ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذه مضادة صريحة لدينه وما جاء به.