الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه، ويأبى الله ذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون:((وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لا يعلمون)) ((وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين وستردون إلى عال الغيب والشهادة فينبكم بما كنتم تعملون)) .
قال المعترض
وقد خرجنا عن المقصود إلى غرضنا وهو الاستدلال على أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم قربة؛ وما يدل على ذلك القياس، وذلك على زيارة النبي صلى الله عليه وسلم البقيع وشهداء أحد وسنيين أن ذلك غير خاص به صلى الله عليه وسلم، بل مستحب لغيره، وإذا استحب زيارة قبر غيره صلى الله عليه وسلم فقبره أولى لماله من الحق ووجوب التعظيم.
فإن قلت: الفرق أن غيره يزار للاستغفار له لاحتياجه إلى ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة أهل البقيع والنبي صلى الله عليه وسلم مستغن عن ذلك.
قلت: زيارته صلى الله عليه وسلم إنما هي لتعظيمه والتبرك به ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه كما إنا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم، وسؤال الله له الوسيلة وغير ذلك مما يعلم أنه حاصل له صلى الله عليه وسلم بغير سؤالنا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى ذلك لتكون بدعائنا له متعرضين للرحمة التي رتبها الله على ذلك.
فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور، وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد.
قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود، ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركاً لما دلت عليه الدلالة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية، وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم ((زوروا القبور)) وعلى ترك قوله:((من زار قبري وجبت له شفاعتي)) وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنة، وهذا بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً وكون الصحابة احترزوا عن ذلك للمعنى المذكور، لأن ذلك قد ورد النهي فيه، وليس لنا نحن أن نشرع أحكاماً من قبلنا {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (الشورى 021) فمن منع زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن له، وقوله مردود عليه، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن، بل ومن الواجبات، والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير
الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك.
ومن تأمل القرآن العزيز وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة ف بتعظيمه وتوقيره والأدب معه،وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك املآ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد، واستكف أن يصغي إليه والله تعالى هو الحافظ لدينه، ومن يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وعلماء المسلمين متكلفون بأن يبينوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم والوقوف عند الحد الذي لا يتجوز مجاوزته بالأدلة الشرعية، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله، ومن أراد الله إضلاله من أفراد الجهال فلن يستطيع أحد هدايته، فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب مع الربوبية فقد كذب على الله تعالى وضيع ما أمر به في حق رسله، وكما أن من أفرط وجاوز الحد إلى جانب الربوبية فقد كذب على رسول الله وضيع ما أمروا به في حق ربهم سبحانه وتعالى، والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين، وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور، انتهى ما ذكره.
والجواب: أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط، والقول بغير علم، والمناقشة على جميع ذلك نفضي إلى التطويل، ولكن التنبيه على البعض كاف لمن وفقه الله.
وأعلم أن هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحق بالباطل (1) ، ولهذا قد يروج كلامه على كثير منهم، وقوله: إن زيارة قبره قياساً على زيارته صلى الله عليه وسلم البقيع وشهداء أحد هو من أفسد القياس لما بين الزيارتين من الفرق المبين، وقد أقر المعترض بالفرق بأن زيارته صلى الله عليه وسلم لهم إحصان إليهم وترحم عليهم واستغفار لهم، وأن زيارة قبره إنما هي لتعظيمه والتبرك به وكيف يقاس على الزيارة التي لا يتعلق بها مفسدة البتة، بل هي
(1) قلت وهو إمام المضللين في عصرنا هذا وبه يقتدون التلبيس على العوام ويخلط الحق بالباطل وبتحريف الكلم عن مواضعه وذلك مثل محمد علوي مالكي ومحمد علي الصابوني والرفاعي وغيرهم.
وانظر كتاب المالكي الذي سماه (مفاهيم يجب أن تصحح) وإلى كتاب الصابوني الذي سماه (الهدي النبوي الصحيح في صلاة التراويح) وإلى كتاب الرفاعي الذي سماه (أهل السنة والجماعة) وأنظر إلى ما فيهما من التلبيس والخيانة ولبس الحق بالباطل.
مصلحة محضة، الزيارة التي يخشى بها أعظم الفتنة وتتخذ وسيلة إلى ما يبغضه المزور ويكرهه ويمقت فاعله حتى لو كانت الزيارة من أفضل القربات، وكانت ذريعة ووسيلة إلى ما يكرهه المزور ويبغضه لنهي عنها طاعة له وتعظيماً ومحبة وتوقيراً وسعياً في محابه، كما نهى عن الصلاة التي هي قربة إلى الله في الأوقات المخصوصة لما يستلزم من حصول ما يكرهه الله ويبغضه، ولم يكن في ذلك إخلال بتعظيم الله بل هذا عين تعظيمه وإجلاله وطاعته، فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه سر الفرق بين عباد القبور وأهل التوحيد.
وقوله: إن زيارته سبب لأن تنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه، فيقال له: كأ، الرحمة لا تنال بالصلاة والسلام عليه عندك إلا من صلى عليه وسلم عند قبره،وهذا ما لا تقوله أنت ولا أحد من المسلمين معك، فهو كلام فيه تمويه وتلبيس، قوله: فإن قلت: الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعيده، سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان، وقوله في جوابه: هذا الكلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته، فيقال نعم تقشعر منه جلود عباد القبور، الذين إذا دعو إلى عبادة الله وحدة وأن لا يشرك به ولا يتخذ من دونه وثن يعبد اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم وأكفهرت وجوههم، ولا يخفى أن هذا نوع شبه موافقة للذين قال الله فيهم {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (الزمر 045) ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول العالمين بمقاصده الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه وكرهه وحذر منه، فإنها لا تقشعر من هذا الفرق، بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم الأكابر وإزراء بهم، وحط لهم من مراتبهم واتباع هؤلاء ضعفاء العقول، وهم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر ومن ترك قبول فيما أخبر، ومنقول القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله وأنه يجب تقديم عقول الرجال وآرائهم على قوله إذا خالفها وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره، ويحعل من أعظم الأعياء ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه ويقدم هديهم على هدي المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك
والبدع ودعى إلى ما كان عليه خيار الأمة وسادتها، ويستحل عقوبته وينسب إلى التنقص والازراء،، فهذا وأمثاله تقشعر منه جلودهم أهل العلم والإيمان.
وقوله: إن في هذا الفرق تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخالية - ففي هذا الكلام من قلب الحقائق وترك موجب النصوص النبوية والقواعد الشرعية والمحكم الخاص المقيد إلى المجمل المتشابه العام المطلق، كما يفعله أهل الأهواء الذين في قلوبهم زيغ ما نبينه بحول الله ومعونته وتأييده، فإن النصوص التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن تعظيم القبور بكل نوع يؤدي إلى الشرك ووسائله من الصلاة عندها وإليها واتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وشد الرحال إليها، وجعلها أعياداً يجتمع لها كما يجتمع للعبد، ونحو ذلك صحيحة صريحة محكمة فيما دلت عليه، وقبور المعظمين مقصودة بذلك النص والعلة ولا ريب أن هذا من أعظم المحاذير.
وهو أصل أسباب الشرك والفتنة به في العالم، فكيف يناقض هذا ويعارض بإطلاق زوار القبور، وبأحاديث لا يصح شيء منها البتة في زيارة قبره، ولا يثبت منها خبر واحد، ونحن نشهد بالله أنه لم يقل شيئاً منها كما نشهد بالله أنه قال:تلك النصوص الصحيحة الصريحة، وهؤلاء فرسان الحديث وأئمة النقل ومن إليهم المرجع في الصحيح والسقيم من الآثار، وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم لم يصححوا منها خبراً واحداً، ولم يحتجوا منها بحديث واحد، بل ضعفوا جميع ما ورد في ذلك وطعنوا فيه وبينوا سبب ضعفه وحكم عليه جماعة منهم بالكذب والوضع.
وكذلك دعواه إجماع السلف والحلف على قوله، فإذا أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء من هذا إلا عن ابن عمر وحده، فإن ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفر ولم يصح هذا عن أحد غيره ولم يوافقه عليه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم.
وقد ذكر عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعم أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة، وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر ويخالف إجماع الأمة، وهذا لا يظنه بمالك إلا
جاهل كاذب على الصحابة والتابعين وأهل الإجماع، وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين الذي هو أفضل أهل بيته وأعلمهم في وقته ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعوا واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً فإن تسليمكم يبلغي أينما كنتم)) (1)، وكذلك ابن عمه حسن بن حسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول القبر: ما لي رأيتك عند القبر، فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا بيتي عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم (2) ، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء)) .
وكذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع، وتركوا تعظيم صاحب القبر وتنقصوا به، فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود وليس مع عباد القبور من الإجماع إلا ما رأوا عليه العوام والطغام في الأعصار التي قل فيها العلم والدين، وضعفت فيها السنن وصار المعروف فيها منكراً، والمنكر معروفاً من اتخاذ القبر عيداً، والحجج إليه واتخاذه منسكاً للوقوف والدعاء، كما يفعل عند موقف الحج بعرفة ومزدلفة وعند الجمرات وحول الكعبة، ولا ريب أن هذا وأمثاله في قلوب عباد القبور لا ينكرونه ولا ينهون عنه، بل يدعون إليه ويرغبون فيه، ويحضون عليه ظانين أنه من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام بحقوقه.
وإن من لم يوافقهم على ذلك خالفهم فيه فهو منتقص تارك للتعظيم الواجب، وهذا قلب لدين الإسلام وتغيير له.
ولولا أن الله سبحانه ضمن لهذا الدين أن لا يزال طائفة من الأمة قائمة به لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لجرى عليه ما جرى على دين أهل الكتاب
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه الحديث وبينا أن لفظه بيتي خطأ.
قبله، وكل ذلك باتباع المتشابه وما لا يصح من الحديث وترك النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة.
وقوله أن من منع زيارة قبره فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وليس لنا ذلك جوابه أن يقال: أما من منع مما منع الله ورسوله منه وحذر مما حذر منه الرسول بعينه ونبيه على المفاسد التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم القبور وجعلها أعياداً واتخاذها أوثناناً ومناسك يحج إليها كما يحج إلى البيت العتيق، ويوقف عندها للدعاء والتضرح والابتهال كما يفعل عند مناسك الحج وجعلها مستغاثاً للعالمين، ومقصداً للحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات.
فإنه لم يشرع ديناً لم يأذن به الله، وإنما شرعه من خالف ذلك ودعا إليه ورغب فيه وحض النفوس عليه، واستحب الحج إلى القبر وجعله عيداً يجتمع إليه كما يجتمع للعبد، وجعله منسكاً للوقوف والسؤال والاستغاثة به، فأي الفريقين الذي شرع من الدين ما لم يأذن به الله إن كنتم تعلمون.
ونحن نناشد عباد القبور: هل هذا الذي ذكرناه عنهم وأضعافه كذب عليهم، أو هو أكبر مقاصدهم وحشو قلوبهم، والله المستعان.
قوله: والقرآن كله والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة وسير الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم الني صلى الله عليه وسلم والمبالغة في ذلك - جوابه أنه قد عرف بما قررناه أهل تعظيمه المتبعون له الموافقون لما جاء به والتارك لتعظيمه بتقرير خلاف ما جاء به والحض على ما حذر منه والتحذير مما رغب فيه وترك ما جاء به لآراء الرجال وعقولهم وتقريره وتقرير سلفه أن اليقين والهدى لا يستفاد بكلامه، وأن ما عليه عباد القبور هو من الغلو لا من التعظيم الذي هو من لوازم الإيمان فلا حاجة إلى إعادته.
قوله: ومن تأمل القرآن وما تضمنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه، وما كنت الصحابة تعامله به من ذلك امتلأ قلبه إيماناً واحتقر هذا الخيال الفاسد واستكشف أن يصغي إليه، وجوابه: أن يقال: أنت وأضرابك من أقل الناس نصيباً من ذلك التعظيم، وإن كان نصيبكم من الغلو الذي ذمه وكره ونهى عنه نصيباً وافراً، فإن أصل هذا التعظيم وقاعدته التي يبنى عليها هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، وأنت وأضرابك اكتفيتم من طاعته بأن أقمتم غيره مقامه: تطيعونه فيما قاله
وتجعلون كلامه بمنزلة النص المحكم وكلامه المعصوم إن التفتم إليه بمنزلة المتشابه، فما وافق نصوص من اتخذتموه من دونه وقبلتموه وما خالفها تأولتموه، أوردتموه، أو أعرضتم عنه ووكلتموه إلى عالمه، فنحن ننشدكم الله هل تتركون نصوص من قلدتموه لنصه، أو تتركون نصه لنص من قلدتموه واكتفيتم من خبره عن الله وأسمائه وصفاته بخبر من عظمتموه من المتكلمين الذين أجمع الأئمة الأربعة والسلف على ذمهم والتحذير منهم، والحكم عليهم بالبدعة والضلالة فاكتفيتم من خبره عن الله وصفاته بخبر هؤلاء وجعلتهم خبرهم قواطع عقلية، وأخباره ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ولا يجوز تقديمها على أقوال المتكلمين.
ثم مع هذا العزل الحقيقي عظمتم ما يكره تعظيمه من القبور وشرعتم فيها وعندها ضد ما شرعه، وعدتم بها التعظيم على مقصوده بالإبطال، فعظمتم بزعمكم ما يكره تعظيمه وتقربتم إليه بما يباعدكم منه واستهنتم بما الإيمان كله في تعظيمه ونبذتموه وراء ظهوركم،واتخذتم من دونه من عظمتم أقواله غاية التعظيم حتى قدمتموها عليه، وما أشبه هذا بغلو الرافضة في عطي، وهم أشد الناس مخالفة له، وكذلك غلو النصارى في المسيح، وهم من أبعد الناس منه، وإن ظنوا أنهم معظمون له فالشأن كل الشأن في التعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا به وهو لازم وملزوم له والتعظيم الذي لا يتم الإيمان إلا بتركه،فإن إجلاله عن هذا الإجلال و (3) وتعظيمه عن هذا التعظيم متعين.
وقوله: إن المبالغة في تعظيمه واجبة - أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أجد تعظيماً حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب محبته وطاعته ومعرفة حقوقه وتصديق أخباره، وتقديم كلامه على كلام غيره ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك، فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به، ولكن هذا المعترض وأضرابه عن هذا بمعزل، وإذا أخذ الناس منازلهم من هذا التعظيم فمنزلتهم منه أبعد منزل وهو وخصومه كما قال الأول.
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وقوله: ((إن من ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوة زاعماً بذلك الأدب
مع الربوبية إلى آخر كلامه، فنعم، ولكن الشأن في التعظيم المشروع وتركه وهل هو إلا طاعته وتقديمها على طاعة غيره وتقديم خبره على خبر غيره، وتقديم محبته على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، فمن ترك هذا فقد كذب على الله وعصى أمره، وترك ما أمر به من التعظيم، وأما جعل قبره الكريم عيداً تشد المطايا إليه كما تشد إلى البيت العتيق، ويصنع عنده ما يكره الله ورسوله ويمقت فاعله ويتخذ موقفاً للدعاء وطلب الحاجات وكشف الكربات، فمن جعل ذلك من دينه، فقد كذب عليه وبدل دينه، وبالله تعالى التوفيق
تم الكتاب بإعانة رب الأرباب فالله الحمد على كل حال وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.