الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: في نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان أن ذلك مجمع عليه بين المسلمين
قال المعترض
قال القاضي عياض رحمه الله زيارة قبره صلى الله عليه وسلم سنة بين المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها.
قلت: هذا الإجماع الذي حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى حكاه شيخ الإسلام أيضاً، في غير موضع، وقد قدمناه غير مرة ذكر في مصنفاته وفتاويه ومناسكه استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه المشروع، ولم يذكر في ذلك نزاعاً بين العلماء، وإنما ذكر الخلاف بينهم في السفر لمجرد زيارة القبور، واختار المنع من ذلك كما هو مذهب مالك وغيره من أهل العلم، وهو الذي اختاره القاضي عياض مع حكايته هذا الاجماع.
ومقصوده المعترض الاحتجاج على الشيخ بهذا الإجماع الذي ذكره القاضي عياض، والشيخ لا يخالف هذا الإجماع، بل يوافقه ويذهب إليه ويحكيه في مواضع مع قوله بالنهي عن السفر لزيارة القبور، كما ذهب إليه القاضي عياض ناقل هذا الإجماع، وينبغي للمعترض وأمثاله أن يعرفوا الفرق بين مواقع الاجتماع ومحال النزاع ولا يخلطوا بعضها ببعض.
ولا ريب أن الإنسان إذا أتى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم استحب له أن يفعل فيه ما يشرع له من الصلاة والصلاة على الرسول والتسليم والثناء (عليه) ونشر فضائله ومناقبه وسننه وما يوجب محبته وتعظيمه والإيمان به وطاعته، وهذا هو المقصود من الزيارة الشرعية والسفر إلى مسجده للصلاة فيه، وما يتبع ذلك مستحب بالنص والإجماع، والسفر لمجرد زيارة القبر فيه نزاع.
قال الشيخ في أثناء كلامه (1) : والقاضي عياض مع مالك وجمهور أصحابه يقولون: إن السفر إلى غير المساجد الثلاث محرم كقبور الأنبياء، فقول القاضي عياض: إن زيارة
(1) انظر الرد على الأخنائي ص167.
قبره سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها، المراد، به الزيارة الشرعية، كما ذكره مالك وأصحابه من أنه يسافر إلى مسجده، ثم يسلم عليه ويصلي عليه كما ذكره في كتبهم، ثم أطال الكلام وقال.
والمقصود أمن ما حكى القاضي عياض فيه الاجتماع لم ينه عنه في الجواب، بل السفر إلى مسجده وزيارته على الوجه المشروع سنه مجمع عليها، كما ذكره القاضي عياض وبعضهم يسميها زيارة لقبره، وبعضهم يكره أن يسميها زيارة، ولا يدخل في ذلك السفر إلى غير المساجد الثلاث، كالسفر إلى قبور الأنبياء والصالحين ومن سافر لمجرد قبورهم فلم يزر زيارة شرعية بل بدعية، فلهذا يقول أحمد أنه مجمع على أنه سنة، ولكن هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس؛ فينبغي لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية، ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجتمع عليه من المتنازع فيه.
فإن الزيارة فيها مسائل متعددة فيها، ولكن لم يتنازعوا فيها علمت في استحباب السفر إلى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه فيه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا غفير ذلك فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تشد الرحال)) حديث متفق على صحته وعلى العمل به عند الأئمة المشهورين، وعلى أن السفر إلى زيارة القبور داخل فيه، فإما أن يكون نهياً، وإما أن يكون نفياً للاستحباب، وقد جاء في الصحيح بصيغة النهي صريحاً فتعين أنه نهي.
فهذان طرفان لا أعلم فيهما نزاعاً بين الأئمة الأربعة والجمهور، والأئمة الأربعة وسائر العلماء لا يوجبون الوفاء على نذر أن يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم، أو غير قبورهم، وما علمت أحداً أوجبه غير ابن حزمن فإنه أوجب الوفاء على ما نذر مشياً أو ركوباً، أو نهوضاً إلى مكة، أو المدينة، أو بيت المقدس.
قال: وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء، قال: فإن نذر مشياً، أو نهوضاً أو ركوباً إلى مسجد من المساجد غير الثلاث لم يلزمه، وهذا عكس قول الليث بن سعد فإنه قال:من نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد، وابن حزم فهم من قوله:((لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) أي لا تشد إلى مسد، وهو لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه، فلا يجعل هذا نهياً عما هو دون المساجد في الفضيلة بطريق الأولى بل يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه)) إنه لو
بال، ثم صب البول فيه لم يكن منهياً عن الاغتسال فيه وداود الظاهري عنه في فحوى الخطاب، روايتان هذه إحداهما، وابن حزم ومن قال بإحدى روايتي داود الظاهري، يقولون: إن قوله: ((ولا تقل لهما أف)) لا يدل على تحريم الشتم والضرب، وهذا قول ضعيف جداً، في غاية الفساد عند عامة العلماء، فإنهم يقولون: إذا كان البائل الذي يحتاج إلى البول قد نهى أن يبول فيه، ثم يغتسل فيه، فالذي بال في إناء، ثم صبه فيه أولى بالنهي، كما أنه لما نهى عن الاستجمار بطعام الجن وطعام دوابهم العظام والروث كان ذلك تنبعاً على النهي، عن الاستجمار بطعام الإنس بطريق الأولى، وكل ما نهى عنه الاستجمار به فتلطيخه بالعذرة أولى بالنهي، فإنه لا حاجة إلى ذلك، ولهذا فهم الصحابة من نهيه أن يسافر إلى غير المساجد الثلاث، أن السفر إلى طور سيناء داخل في النهي وإن لم يكن مسجداً، كما جاء عن بصره بن أبي بصرة وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم.
وحديث بصرة معروف في السنن والموطأ قال لأبي هريرة، وقد أقبل من الطور لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) .
وأما ابن عمر فروي أبو زيد شبه النميري في كتاب أخبار المدينة حدثنا ابن أبي الوزير حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن طلق عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور؟ فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور فلا تأته، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، وهذا النهي من بصرة بن أبي بصرة، وابن عمر، ثم موافقة أبي هريرة يدل على أنهم فهموا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم النهي، فلذلك نهوا عنه لم يحملوه على مجرد نفي الفضيلة.
وكذلك أبو سعيد الخدري وهو رواية أيضاً، وحديثه في الصحيحين، فروى أبو زيد حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، حدثنا شهر بن حوشب، قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة، في الطور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) (1) فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه، مع أن اللفظ
(1) تقدم تخريجه بلفظ لا تشد الرحال.. وهذا الإسناد وفيه شهر بن حوشب.