الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: ((من زار قبري)) فقد أطلق اسم الزيارة وقيل: لأن ذلك لما قيل: إن الزائر أفضل من المزور، وهذا أيضاً ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وليس عموماً.
وقد ورد في حديث أهل الجنة زيارتهم لربهم ولم يمنع هذا الفظ في حقه والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له لإضافة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لو قال: زرنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (1) فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك قطعاً للذريعة، وحسماً للباب والله أعلم.
قال المعترض: هذا كلام القاضي وما اختاره يشكل عليه قوله: ((من زار قبري)) فقد أضاف الزيارة إلى القبر إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً فحينئذ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر، ولعله يقول: إن ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا محذور فيه، والمحذور إنما هو ف يقول غيره
.
قلت: هذا الإشكال الذي ذكره المعترض على كلام القاضي ليس بشيء، وما ذكره من الخبر الذي فيه إضافة الزيارة إلى قبره ليس بثابت عند مالك ولا في نفس الأمر، بل هو حديث ضعيف غير ثابت عن أهل العلم بالحديث، كما قد بينا ذلك فيما تقدم،ولو كان ثابتاً لم يحسن من عالم أنيف رق في إطلاق لفظه بين كونه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أومن قول غيره كما ذكره.
ثم قال: وقد قال عبد الحق الصقلي، عن أبي عمران المالكي أنه قال: إنما كره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الزيارة من شاء فعلها، ومن شاء تركها وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم واجبة.
قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة ينبغي أن لا تذكر الزيارة فيه كما تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ومن شاء ترك، والنبي صلى الله عليه وسلم أشرف وأعلى من أن يسمى أنه يزار.
قال المعترض: وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين: أحدهما أنه يقتضي تأكيد نسبة معنى الزيارة إلى القبر، وأنه يجتنب لفظها، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر
.
(1) تقدم تخريجه.
والثاني أنه يقتضي التسوية في كراهية اللفظ بين قوله زرت القبر وقوله وزرت النبي صلى الله عليه وسلم وجواب القاضي يقتضي الفرق بينهما.
قلت: هذا الذي قال أبو عمران المالكي لم يتابع عليه، بل هو متضمن للغلو والكلام بغير حجة، ولم يذهب أحد من أهل العلم المتقدمين منهم والمتأخرين إلى القول بوجوب الزيارة، وإنما كره مالك والله أعلم إطلاق هذا اللفظ لأنه لم يثبت عنده فيه حديث، ولم يصح فيه عنده خبر بخصوص، وقد ذكرنا الأحاديث المروية في ذلك وبينا عللها وسبب ضعفها وعدم ثبوتها، ولأن هذا اللفظ قد صار يستعمل في عرف كثير من الناس في الزيارة الشرعية، ولأن زيارة قبره لا يتمكن منها أحد كما يتمكن من الزيارة المعروفة عند قبر غيره.
قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم (1) بعد أن ذكر قول مالك وما تأوله القاضي عياض به قلت: غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة القبور في الزيارة البدعية الشركية، لا في الزيارة الشرعية، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً لا أهل الصحاح، ولا أهل السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره.
وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره، وأجل حديث روي في ذلك حديث رواه الدارقطني (2) وهو ضعيف باتفاق أهل العلم، بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله ((من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة)) و ((من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي، ومن حج ولم يزرني فقد جفاني)) (3) ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة وموضوعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاً بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال:((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)) (4) وفي الصحيح عنه أنه قال: ((استأذنت ربي في أن استغفر لأمي، فلم يأذن
(1) 2/763 - 764 التي حققها الدكتور العقل.
(2)
قال النووي في المجموع 8/481 وهذا باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ وقد تقدم هذا.
(3)
انظر المقاصد الحسنة ص427-428 وكشف الخفاء 2/346، 347،348 والفوائد المجموعة 117-118.
(4)
تقدم تخريجه.
لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة)) (1) فهذه زيارة لأجل تذكرة الآخرة.
ولهذا تجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم، فهذه زيارة مختصة بالمسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين.
وقال أيضاً في أثناء كلامه في بعض مصنفاته المتأخرة (2) : وذلك أن لفظ زيارة قبره ليس المراد بها نظير المراد بزيارة قبر غيره، فإن قبر غيره يوصل إليه ويجلس عنده ويتمكن الزائر مما يفعله الزائرون للقبور عندها من سنة ويدعه.
وأما هو صلى الله عليه وسلم فلا سبيل لأحد أن يصل إلا إلى مسجده لا يدخل أحد بيته ولا يصل إلى قبره، بل دفنوه في بيته بخلاف غيره، فإنهم دفنوه في الصحراء، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (3) يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره، لكن كره أن يتخذ مسجداً فدفن في بيته لئلا يتخذ قبره مسجداً ولا وثناً ولا عيداً، فإن في سنن أبي داود من حديث أحمد بن صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي صالح عن عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) (4) .
وفي الموطأ وغيره عنه أنه قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (5) .
وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: قبل أن يموت بخمس: ((أن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) فلما لعن من يتخذ القبور مساجد تحذيراً لأمته من ذلك ونهاهم أن يتخذوا قبره عيداً، دفن في حجرته
(1) تقدم تخريجه.
(2)
انظر الرد على الأخنائي ص136.
(3)
أخرجه البخاري 1/532 وأخرجه في مواضع كثيرة ومسلم 1/377.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.