المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الكلام في مسألة شد الرحال وما وقع للشيخ من فصول] - العقود الدرية في مناقب ابن تيمية - ط عطاءات العلم - الكتاب

[ابن عبد الهادي]

فهرس الكتاب

- ‌ ابن الزَّمْلَكاني

- ‌ ابن سيِّد الناس اليَعْمَري

- ‌ شجاعته وجهاده وإقدامه

- ‌[مصنفات الشيخ

- ‌[مناظرة في الحمد والشكر مع ابن المرحِّل]

- ‌بحث جرى بين شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيميَّة رحمه الله وبين ابن المُرَحِّل

- ‌[عودة إلى ترجمة شيخ الإسلام]

- ‌[كتاب الشيخ في حادثة غزو التتار لبلاد الشام]

- ‌فصل

- ‌[مناظرة الشيخ مع الأحمدية]

- ‌[ملخص محنة الشيخ بسبب الحموية وما جرى له في مصر]

- ‌فصَّل محنة الشيخ بسبب «الحموية»]

- ‌[مجالس المناظرة في العقيدة]

- ‌فصل

- ‌[كتاب باستدعاء الشيخ إلى مصر]

- ‌[الأمير ابن مهنا وإخراج الشيخ من الجبّ]

- ‌[كتاب من الشيخ إلى والدته وغيرها]

- ‌[كتاب الشيخ إلى أخيه لأمه بدر الدين]

- ‌[كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق]

- ‌[سجن الشيخ بالإسكندرية]

- ‌[كتاب شرف الدين ابن تيميّة إلى أخيه لأمه بدر الدين]

- ‌[إحضار الشيخ إلى القاهرة ولقاؤه بالملك الناصر]

- ‌[عفو شيخ الإسلام عمن ظلمه]

- ‌[كتاب الشيخ إلى أصحابه وأقاربه بدمشق]

- ‌[قيام جماعة على أذية الشيخ وعفوه عنهم]

- ‌[أذيّة أخرى للشيخ]

- ‌[عودة الشيخ إلى الشام]

- ‌[مسألة الحَلِف بالطلاق، وما جرى للشيخ فيها من فصول]

- ‌[الكلام في مسألة شدّ الرّحال وما وقع للشيخ من فصول]

- ‌[عدّة أجوبة لعلماء بغداد انتصارًا للشيخ]

- ‌من الجنائز العظيمة في الإسلام:

- ‌ قصيدة لرجل جُنديّ من أهل مصر

- ‌مراثي ومدائح شيخ الإسلاممن نسخ الكتاب مما ليس في نسخة الأصل

الفصل: ‌[الكلام في مسألة شد الرحال وما وقع للشيخ من فصول]

الكلام في أنواع العلوم؛ فَبُهِتَ الحاضرون لكلامه، واشتغلوا بذلك عن الأكل.

ومما حفظتُ من كلامه في

(1)

المجلس قوله:

«يقول الله تعالى في بعض الكتب: أهلُ ذكري أهلُ مشاهدتي، وأهلُ شكري أهلُ زيادتي

(2)

، وأهلُ طاعتي أهل كرامتي، وأهلُ معصيتي لا أؤيسهم من رحمتي؛ إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطَهِّرهم من المعايب»

(3)

.

وحصل في ذلك المجلس خير كثير، وكان فيه غير واحد من المشايخ. واستمرَّ الشيخُ بعد ذلك على عادته.

[الكلام في مسألة شدّ الرّحال وما وقع للشيخ من فصول]

فلمّا كان في سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شدِّ الرِّحال، وإعمال المطِيِّ إلى قبور الأنبياء والصالحين، وظفروا للشيخ بجواب سؤال في ذلك، كان قد كتبه من سنين كثيرة، يتضمَّن حكايةَ قولين في المسألة، وحجَّة كلِّ قولٍ منهما

(4)

.

(1)

بقية النسخ: «في ذلك» .

(2)

(ك): «زيارتي» .

(3)

ذكره شيخ الإسلام في مواضع من كتبه «منهاج السنة» : (6/ 210)، و «مجموع الفتاوى»:(10/ 86، 14/ 319). وابن القيم في «الوابل» (ص 158) وغيره. وانظر «الضعيفة» : (9/ 383) للألباني.

(4)

وسيأتي نص السؤال وجوابه (ص 402 وما بعدها).

ص: 396

وكان للشيخ في هذه المسألة كلامٌ متقدِّم أقدمُ

(1)

من الجواب المذكور بكثير

(2)

، ذكره في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم»

(3)

وغيره، وفيه [ق 118] ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به.

وكَثُر الكلام، والقيل والقال، بسبب العثور على الجواب المذكور، وعَظُم التشنيعُ على الشيخ، وحُرِّف عليه، ونُقِلَ عنه ما لم يَقُله، وحَصَلت

(4)

فتنةٌ طار شرَرُها في الآفاق، واشتدَّ الأمر، وخِيْفَ على الشيخ من كَيْد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية، وكثر الدعاءُ والتضرُّعُ والابتهال إلى الله. وضَعُفَ من أصحاب الشيخ من كان

(5)

عنده قوَّة، وجَبُن منهم من كانت له هِمَّة.

وأما الشيخ ــ رحمه الله ــ فكان ثابتَ الجأْش، قويَّ القلب. وظهر صدقُ توكّله واعتماده على ربِّه.

ولقد اجتمع جماعةٌ معروفون بدمشق، وضربوا مشورةً في حقِّ الشيخ؛ فقال أحدهم: يُنفَى، فَنُفِيَ القائل. وقال آخر: يُقطع لسانه، فقُطِعَ لسانُ القائل. وقال آخر: يُعَزَّر، فعُزِّرَ القائل

(6)

. وقال آخر: يُحْبَس، فحُبِسَ القائل. أخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كارهٌ لها.

(1)

ليست في (ب).

(2)

(ف): «بكثرة» .

(3)

(2/ 182 وما بعدها).

(4)

(ك): «وحصل» .

(5)

(ب): «كانت» .

(6)

«وقال آخر

القائل» سقط من (ف).

ص: 397

واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قيامًا عظيمًا، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرَهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك.

***

[حَبْس الشيخ بقلعة دمشق]

ولمَّا كان يوم الاثنين بعد العصر، السادس من شعبان من السنة المذكورة، حضر إلى الشيخ من جهة نائب السلطنة بدمشق مشَدُّ الأوقاف، وابنُ خطير أحد الحُجَّاب

(1)

. وأخبراه أنَّ مرسوم السلطان وردَ بأن يكون في القلعة، وأحضرا معهما مركوبًا، فأظهر الشيخ السرورَ بذلك، وقال: أنا كنتُ منتظرًا ذلك، وهذا فيه خيرٌ عظيم.

وركبوا جميعًا من داره إلى باب القلعة، وأُخْلِيَت له قاعة حسنة، وأُجْري إليها الماء، ورُسِمَ له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زينُ الدين يخدمه بإذن السلطان، ورُسِم له بما يقوم بكفايته.

وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قُرئ بجامع دمشق الكتابُ السلطانيُّ الوارد بذلك، وبمنعه من الفُتيا.

وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعيُّ بحبس جماعة

(1)

يحتمل أن يكون مسعود أو محمود ابنا أوحد بن خطير، وكلاهما ولي الحجوبية بمصر، توفي الأول سنة (752)، والثاني سنة (749). انظر «الدرر الكامنة»:(4/ 348، 323).

ص: 398

من أصحاب الشيخ بسجن الحكم، وذلك بمرسوم النائب وإذنه له في فِعْل ما يقتضيه الشرع في أمرهم.

وأُوذي جماعةٌ من أصحابه، واختفى آخرون، وعُزِّرَ جماعةٌ، ونُودِيَ عليهم، ثم أُطْلِقوا، سوى الإمام

(1)

شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزيَّة، فإنه حُبِسَ بالقلعة، وسكنت القضية

(2)

.

(1)

ليست في (ب).

(2)

بعده في (ف، ك، ط): «وهذه صورة الفتيا وموافقة البغاددة له وغيرهم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على محمد وآله.

أما بعد، فهذه فُتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقيّ الدين أبوالعباس أحمد ابن تيميَّة رضي الله عنه. ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة أنكرها بعض الناس وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور، وذكرت بعبارات شنيعة، ففهم منها جماعة غير ما هي عليه، وانضمَّ إلى الإنكار والشناعة وتغيّر الألفاظ أمورٌ، أوجب ذلك كلّه مكاتبةَ السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى، فجمع قضاة بلده، ثم اقتضى الرأي حبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة، بكتاب ورد سابع شعبان المبارك سنة ست وعشرين وسبعمائة.

وفي ذلك كله لم يحضر الشيخ المذكور بمجلس حكم، ولا وقف على خطه الذي أنكر، ولا ادّعي عليه بشيء.

فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا، وأوقف عليها بعضَ علماء بغداد، فكتبوا عليها بعد تأملها وقراءة ألفاظها.

وسئل بعض مالكية دمشق عنها، فكتبوا كذلك، وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق.

ونبدأ الآن بذكر السؤال الذي كتب عليه أهل بغداد، وبذكر الفتيا وجواب الشيخ المذكور عليها، وجواب الفقهاء بعده.

وهذه صورة السؤال والأجوبة:

المسؤول من إنعام السادة العلماء والهداة الفضلاء أئمة الدين وهداة المسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الهداية، أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه وصورة ذلك».

ص: 399

وهذا صورة السؤال وجواب الشيخ عنه

(1)

:

ما يقول السادة العلماء، أئمة الدين، نفع الله بهم المسلمين، في رجل نوى

(2)

زيارةَ قبور الأنبياء والصالحين

(3)

، مثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيره. فهل يجوز له في سفره أن يَقْصُر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعية أم لا؟

وقد رُوِيَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حجَّ ولم [ق 119] يَزُرْني فقد جفاني» ، «ومن زارني بعد موتي

(4)

كمن زارني في حياتي». وقد رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .

أفتونا مأجورين

(5)

.

(1)

«وهذا

عنه» ليست في «ف» . و (ب): «وهذه

». وقد نُقِلت هذه الفتوى وما بعدها من هنا في «مجموع الفتاوى» : (27/ 183 ــ 213). ومنها نسخة خطية في المكتبة المحمودية برقم (2775) ضمن مجموع، وسنقابل النص بها ونرمز لها بـ (م).

(2)

(ف، ك): «نوى السفر إلى» .

(3)

(م): «أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين

زيارة قبر نبيّ من الأنبياء

».

(4)

(ب): «موتى كان

». (م): «موتي فكأنما

».

(5)

(ف، ك): زيادة: «رحمكم الله» .

ص: 400

الجواب

الحمد لله ربِّ العالمين.

أمَّا من سافر لمجرَّد زيارة قبور الأنبياء والصالحين؛ فهل يجوز

(1)

له قَصْر الصلاة؟ على قولين معروفين:

أحدهما ــ وهو قول متقدِّمي العلماء الذين لا يجوِّزون القَصْرَ في سفر المعصية، كأبي عبد الله بن بطَّة، وأبي الوفاء بن عَقيل، وطوائف كثيرين من العلماء المتقدمين ــ: أنه لا يجوز القَصْر في مثل هذا السفر؛ لأنّه سفرٌ منهيٌّ عنه. [ومذهب مالك والشافعي وأحمد: أنَّ السفر المنهيَّ عنه]

(2)

في الشريعة لا يُقْصَر فيه.

والقول الثاني: أنه يُقْصَر، وهذا يقوله من يُجَوِّز القصرَ في السفر المحرَّم، كأبي حنيفة. ويقوله بعضُ المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد، ممن يجوِّز السفرَ لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، كأبي حامد الغزالي، وأبي الحسن بن عبدوس الحرَّاني، وأبي محمد بن قُدامة المقدسي. وهؤلاء يقولون: إنَّ هذا السفر ليس بمحرَّم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : «زُوروا القبور»

(3)

.

وقد يحتجُّ بعضُ من لا يعرف الحديث بالأحاديث المرويَّة في زيارة

(1)

(ب): «لمجرد قبور

قيل يجوز».

(2)

ما بينهما سقط من الأصل و (ب)، وهو انتقال نظر.

(3)

أخرجه مسلم (976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 401

قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كقوله

(1)

: «من زارني بعد مماتي، فكأنَّما زارني في حياتي» رواه الدارقطني

(2)

.

وأمَّا ما يذكره

(3)

بعضُ الناس من قوله: «من حجَّ ولم يزُرْني فقد جفاني»

(4)

فهذا لم يروه أحدٌ من العلماء، وهو مثل قوله: «من زارني وزار أبي

(5)

في عام واحد ضمنتُ له على الله الجنَّة»

(6)

.

فإنَّ هذا أيضًا باطلٌ

(7)

باتفاق العلماء، لم يروه أحد، ولم يحتجّ به أحد، وإنما يحتجُّ بعضُهم بحديث الدارقطني

(8)

.

وقد احتجَّ أبو محمد المقدسي

(9)

على جواز السفر لزيارة القبور

(1)

الأصل: «لقوله» .

(2)

(2/ 278) من حديث حاطب، قال شيخ الإسلام:«وهو ضعيف باتفاق أهل العلم» «الاقتضاء» : (2/ 296). وفي (ب، م) زيادة: «وابن ماجه» ولم أجده فيه.

(3)

(ف، ك): «ذكره» .

(4)

أخرجه ابن حبان في «المجروحين» : (3/ 73) في ترجمة النعمان بن شبل، وقال فيه:«يأتي عن الثقات بالطامات، وعن الأثبات بالمقلوبات» . وقال الذهبي في «الميزان» : (4/ 265): «هذا موضوع» .

(5)

(ك، ط): «أبي إبراهيم» . وهي كذلك في المراجع التي ذُكر فيها الحديث.

(6)

لم أجده مسندًا، وقد سُئِل عنه النووي فقال: باطل موضوع. وكذا قال شيخ الإسلام. انظر «تذكرة الموضوعات» (ص 76)، و «تنزيه الشريعة»:(2/ 213).

(7)

ليست في (ف، ك، ط).

(8)

بعده في (ف، ك، ط): «ونحوه» .

(9)

هو الإمام ابن قدامة المقدسي، انظر كتابه «المغني»:(3/ 117 ــ 118).

ص: 402

بأنه

(1)

صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجدَ قُباء. وأجاب عن حديث: «لا تُشَدُّ الرِّحال» بأنَّ ذلك محمولٌ على نفي الاستحباب.

وأما الأولون؛ فإنَّهم يحتجُّون بما في «الصحيحين»

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» .

وهذا الحديث اتفق

(3)

الأئمةُ على صحَّته والعمل به، فلو نذر بشَدِّه الرَّحْلَ

(4)

أن يصلي بمسجد، أو مشهد، أو يعتكف فيه ويسافر إليه، غير هذه الثلاثة= لم يَجِب عليه ذلك باتفاق الأئمة.

ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام بحجٍّ

(5)

أو عُمرة= وجبَ عليه ذلك باتفاق العلماء.

ولو نَذَر أن يأتي مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو المسجد الأقصى، لصلاةٍ أو اعتكاف= وجب عليه الوفاءُ بهذا النذر، عند مالك والشافعيّ ــ في أحد قوليه ــ وأحمد، ولم يجب عليه

(6)

عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان

(7)

جنسه واجبًا بالشرع.

(1)

(ف، ك، ط): «لأنه» .

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

(ف، ك): «مما اتفق» .

(4)

«بشده الرحل» ليست في (م).

(5)

(ف، ك، ط): «لحج» .

(6)

ليست في (ب، م).

(7)

(ف، م): «ما كان من .. » .

ص: 403

وأما الجمهور؛ فيوجبون الوفاء بكلِّ طاعة، كما ثبت في «صحيح البخاري»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من نَذَر أن يطيع

(2)

الله فَلْيطعه، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يعصِه».

[ق 120] والسفر إلى المسجدين طاعة، فلهذا وجب الوفاء به. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة؛ فلم يوجب أحدٌ من العلماء السفرَ إليه إذا نَذَره، حتى نصَّ العلماء على أنّه لا يُسافَر إلى مسجد قُباء؛ لأنه ليس من

(3)

الثلاثة، مع أنَّ مسجد قباء تُسْتَحبُّ

(4)

زيارتُه لمن كان في المدينة

(5)

؛ لأنَّ ذلك ليس بشدِّ رَحْل. كما في الحديث الصحيح: «من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة»

(6)

.

قالوا: ولأنَّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعةٌ، لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ولا استحبَّ ذلك أحدٌ من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادةً، وفَعَلَه، فهو مخالفٌ

(1)

رقم (6696).

(2)

الأصل و (ف، ك): «يطع» .

(3)

(ف، ك، ط): «من المساجد» .

(4)

من الأصل و (م).

(5)

هكذا في النسخ غير الأصل، وغيّره في الأصل:«بالمدينة» وكتب في الهامش: «أصل: في المدينة» ولم يبين سبب التغيير، فأبقينا النص كما في الأصول.

(6)

أخرجه ابن ماجه (1412)، والنسائي (699)، وأحمد (15981)، والحاكم:(3/ 12) من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه. وصححه العراقي في «تخريج الإحياء» : (1/ 208). والألباني في «الصحيحة» (3446).

ص: 404

للسنَّة ولإجماع الأئمة.

وهذا مما ذكره أبو عبد الله بن بطَّة في «الإبانة الصغرى»

(1)

من البدع المخالفة للسنة والإجماع.

وبهذا يظهر ضَعْف

(2)

حجة أبي محمد

(3)

؛ لأنَّ زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لمسجد قباء لم تكن بشدِّ رَحْلٍ، ولأن السفر إليه لا يجبُ بالنذر.

وقوله

(4)

: «لا تُشَدُّ الرِّحال .. » محمولٌ على نفي الاستحباب؛ يجابُ عنه بوجهين

(5)

:

أحدهما: أنَّ هذا ــ إن سُلِّم ــ فيه أنَّ هذا السفر ليس بعملٍ صالح، ولا قُرْبة، ولا طاعة، ولا هو من الحسنات. فإذًا من اعتقد أنَّ السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قُرْبة وعبادةٌ وطاعة، فقد خالف الإجماع. وإذا سافر لاعتقاده أنَّها

(6)

طاعة؛ كان ذلك محرَّمًا بإجماع المسلمين، [فصار التحريم من جهة اتخاذه قُربة]

(7)

، ومعلومٌ أنَّ أحدًا لا يسافر إليها إلاّ لذلك.

(1)

(ص 243).

(2)

(ف، ك، ط): «بطلان» .

(3)

(ف، ك، ط) زيادة: «المقدسي» .

(4)

(ف، ك، ط) زيادة: «بأن الحديث الذي مضمونه» .

(5)

(ب، م): «عنه جوابان» ، (ف):«من وجهين» .

(6)

(ف، ك، ط): «أن ذلك» .

(7)

من (ف، ك، ط). وفي (م): «فصار التحريم من وجهين» .

ص: 405

وأما إذا نَذَر الرّجُل أن يسافر إليها لغرضٍ مباح، فهذا جائز، وليس من هذا الباب.

والوجه الثاني: أنَّ هذا

(1)

الحديث يقتضي النهي، والنهيُ يقضي التحريم. وما ذكره

(2)

من الأحاديث في زيارة قبر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فكلُّها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة، لم يرو أحدٌ من أهل السنن المعتمدة شيئًا منها، ولم يحتجَّ أحدٌ من الأئمة بشيءٍ منها، بل مالكٌ ــ إمام أهل المدينة النبوية وأصحابه

(3)

الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة ــ كَرِه أن يقول الرجل: زُرْتُ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم . ولو كان هذا اللفظ معروفًا

(4)

عندهم، أو مشروعًا، أو مأثورًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالمُ أهل المدينة.

والإمام أحمد ــ أعلم الناس في زمانه بالسنة ــ لما سُئِلَ عن ذلك، لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«ما مِنْ رجلٍ يُسَلِّم عليَّ إلاّ ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام»

(5)

.

وعلى هذا اعتمد أبوداود في «سننه»

(6)

.

(1)

«هذا» ليست في (ب، ف، م).

(2)

(ف، ك، ط): «ذكروه» . (م): «ذكر» .

(3)

من الأصل فقط.

(4)

الأصل: «مشروعًا» سهو.

(5)

أخرجه أحمد (10815) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(6)

رقم (1745). قال النووي: بإسناد صحيح. «رياض الصالحين» (ص 124). وقال العراقي: سنده جيد.

ص: 406

وكذلك مالك في «الموطأ»

(1)

، روى عن عبد الله بن عمر: «أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ

(2)

، ثم ينصرف».

وفي «سنن أبي داود»

(3)

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَه قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ، فإنَّ صلاتكم تبلُغني حيثما كنتم» .

وفي «سنن سعيد بن منصور» : أنَّ عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب رأى رجلًا يختلفُ إلى قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إن رسول [ق 121] الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم»

(4)

فما أنتَ ورجلٌ بالأندلس منه إلاّ سواء.

وفي «الصحيحين»

(5)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موته: «لعن الله اليهودَ والنصارى، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» يُحَذِّرُ ما فعلوا

(6)

. ولولا ذلك لأُبرِز قبره، ولكن كره أن يُتَّخذ مسجدًا.

وهم دفنوه في حُجرة عائشة، خلاف ما اعتادوه من الدّفْن في

(1)

لم أجده فيه، وعزاه شيخ الإسلام في «الاقتضاء»:(2/ 243) لسعيد بن منصور. وأخرجه ابن أبي شيبة: (11915) بسندٍ صحيح.

(2)

(ب): «يا أبه» .

(3)

رقم (1746). وأخرجه أحمد (8804). قال المصنف: بإسناد حسن.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور، وساق المصنف سنده في «الاقتضاء»:(1/ 338، 2/ 172)، وابن أبي شيبة:(7625) وسنده جيد.

(5)

البخاري رقم (1390)، ومسلم رقم (529). وفي (ك، ط): زيادة: «عن عائشة» .

(6)

بعده في (ب، م): «قالت عائشة» .

ص: 407

الصحراء؛ لئلا يصلِّي أحدٌ عند قبره ويُتَّخذ مسجدًا، فيُتَّخَذَ

(1)

قبرُه وثنًا.

وكان الصحابة والتابعون ــ لمّا كانت الحُجْرة النبويّة منفصلةً عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك ــ لا يدخُل أحدٌ إليه، لا لصلاةٍ هناك، ولا تَمَسُّحٍ

(2)

بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد.

وكان السلفُ من الصحابة والتابعين إذا سلَّموا عليه

(3)

، وأرادوا الدعاء دَعَوا مستقبلي القبلة، ولم يستقبلوا القبر.

وأما الوقوف للسلام

(4)

عليه؛ فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة أيضًا، ولا يستقبل القبر.

وقال أكثر الأئمة: بل يستقبلُ القبر عند السلام خاصَّةً. ولم يقل أحدٌ من الأئمة: إنَّه

(5)

يستقبل القبر عند الدعاء، وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تُروى عن مالك، ومذهبه بخلافها. واتفق الأئمة على أنه لا يَمسّ قبرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يُقَبِّلُه.

وهذا كلُّه محافظةً على التوحيد، فإنَّ من أصول الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا

(1)

(ك): «ويتخذه

»، (ف):«ويتخذه فيتخذ» ، (م):«ويتخذوه» . وسقطت «فيتخذ» من (ب).

(2)

(الأصل، ب): «يمسح» . والمثبت هو الموافق للسياق.

(3)

(ف، ك): «على النبي صلى الله عليه وسلم » .

(4)

(م): «وأما وقوف المسلِّم» .

(5)

«بل يستقبل .. إنه» سقطت من (ف، ك، ط).

ص: 408

تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]. قالوا: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوَّروا على صُوَرِهم تماثيل، ثم طال عليهم الأمَدُ فعبدوها».

وقد ذكر هذا المعنى البخاريُّ في «صحيحه»

(1)

عن ابن عباس، وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في «التفسير»

(2)

عن غير واحد من السَّلف، وذكره وَثِيمَة

(3)

وغيره في «قصص الأنبياء» من عدّة طرق، وقد بسطتُ الكلامَ على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع.

وأولُ من وضع هذه الأحاديث في السَّفرَ لزيارة المشاهد التي على القبور: أهلُ

(4)

البدع، من الرافضة ونحوهم، الذين يُعَطِّلون المساجد، ويعظّمون المشاهد

(5)

التي يُشْرَك فيها ويُكْذَب

(6)

، ويُبْتَدَع فيها دينٌ لم

(1)

رقم (4920).

(2)

(23/ 303 ــ 305).

(3)

هو: وَثِيمة ــ بفتح الواو ــ بن موسى بن الفرات أبو يزيد الوشاء الفارسي الفسوي، أخباري، له مصنفات في «الردة» و «قصص الأنبياء» وغيرها. (ت 237). قال العقيلي: صاحب أغاليط، وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به، وفي كتبه مناكير كثيرة وموضوعات.

انظر: «ميزان الاعتدال» : (6/ 5)، و «لسان الميزان»:(8/ 374)، و «وفيات الأعيان»:(6/ 12 ــ 13).

(4)

(ب، م): «هم أهل» .

(5)

(ف، ك) زيادة: «يَدَعون بيوتَ الله التي أمر أن يُذكر فيها اسمه، ويُعْبَد وحده لا شريك له، ويعظِّمون المشاهد» .

(6)

بعده في (ب، م): «فيها» .

ص: 409

يُنْزِل الله به سلطانًا، فإنَّ الكتاب والسنة إنما فيهما

(1)

ذِكْر المساجد دون المشاهد، كما قال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. وقال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114].

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في «الصحيح»

(2)

أنَّه كان يقول: «إنّ مَنْ كان قبلكم كانوا يتَّخِذون القبورَ مساجد. ألا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك» .

هذا آخر ما أجاب به شيخُ الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.

***

وله من الكلام في مثل هذا كثير، كما أشار إليه في الجواب. ولمَّا ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه، وبعثوا به إلى الدّيار المصرية، وكتب عليه قاضي الشافعية: قابلتُ الجوابَ عن هذا السؤال المكتوب [ق 122] على خطِّ ابن تيمية فصحّ. إلى أن قال: وإنما المحرَّرُ

(3)

جَعْلُه زيارة قبر

(1)

بقية النسخ: «فيه» .

(2)

أخرجه مسلم (532) من حديث جندب رضي الله عنه.

(3)

كذا في الأصل، وفي (ب) وكتاب ابن كثير:«المَحَزّ» ، (ف):«المخر» ، (ك):«المحه» وبهامشها «لعله: المحرف» وكذلك أثبتها في (ط). وليس كذلك، والسياق يأباه. والأقرب ما في الأصل، ويكون المعنى أن المتحرر من فتوى ابن تيمية كذا وكذا. أو ما في (ب)، والمعنى: أن موضع النقد هو جعله زيارة قبور الأنبياء معصية. وعلى هذين التفسيرين يصح استنكار ابن عبد الهادي على هذا القاضي، وأنه حرَّف كلام ابن تيمية.

ص: 410

النبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصيةً بالإجماع مقطوعًا بها.

هذا كلامه! فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام! والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين. وإنما فيه ذِكْر

(1)

قولَين في شدِّ الرّحل والسفر إلى مجرَّد زيارة القبور. وزيارةُ القبور من غير شدِّ رَحْلٍ إليها مسألةٌ، وشدُّ الرّحْلِ لمجرَّد الزيارة مسألةٌ أخرى.

والشيخُ لا يمنع الزيارة الخالية عن شدِّ رَحْل، بل يستحبّها، ويندُب إليها. وكُتُبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرَّض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا، ولا قال: إنَّها معصية، ولا حكى الإجماعَ على المنع منها. والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية.

ولمَّا وصل خطُّ القاضي المذكور إلى الديار المصرية، كَثُرَ الكلامُ وعَظُمت الفتنة، وطُلِبَ القضاة بها

(2)

، فاجتمعوا وتكلّموا، وأشار بعضُهم بحبس الشيخ، فرسم السلطان به، وجرى ما تقدَّم ذكره

(3)

.

ثم جرى بعد ذلك أمورٌ على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذِكْرها في هذا الموضع

(4)

.

(1)

(ب): «فيه ذكر» .

(2)

بعده في (ف): «واجتمع بها» .

(3)

(ص 396 وما بعدها).

(4)

ليته ذكرها مفصلًا، وسبقت إشارته إجمالًا إلى بعض ما وقع لهم (ص 397 ــ 398).

ص: 411