الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عودة إلى ترجمة شيخ الإسلام]
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي
(1)
ــ في أثناء كلامه في ترجمة الشيخ رحمه الله ــ: وله باعٌ طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقلَّ أن يتكلَّم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب
(2)
الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنَّف فيها واحتجَّ لها بالكتاب والسنة.
ولما كان مُعتقلًا بالإسكندرية التمسَ منه صاحب سَبْتة أن يجيز له مرويَّاته، وينصّ
(3)
على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملةً من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر مُحَدِّث
(4)
.
وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معيَّن، بل بما قام الدليلُ عليه عنده. ولقد نَصَر السُّنةَ المَحْضة، والطريقةَ السلفية، واحتجَّ لها ببراهين ومقدّمات وأمور لم يُسْبَق إليها.
وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجَسَر
(5)
هو عليها، حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام قيامًا لا مزيدَ عليه، وبدَّعوه وناظروه وكابروه
(6)
، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحقَّ المرَّ
(1)
في «الدرة اليتيمية» : (ص 40 ـ تكملة الجامع).
(2)
«الصحابة
…
مذاهب» سقط من (ف).
(3)
(ق، ف): «وبيض» .
(4)
(ق، ف، وجزء الذهبي) زيادة: «يكون» .
(5)
في الأصل «وحسر» والحاء عليها علامة الإهمال تحتها حاء صغيرة.
(6)
(ب، ق): «وكاتبوه» .
الذي أدَّاه إليه اجتهادُه، وحِدَّة ذهنه، وسَعَة دائرته في السنن والأقوال.
مع ما اشتهر عنه
(1)
من الورع، وكمال الفكر، وسرعة الإدراك، والخوف من الله العظيم
(2)
، والتعظيم لحرمات الله.
فجرى بينه وبينهم [ق 47] حَمَلات حربية، ووقائع شامية ومصرية، وكم من نوبةٍ قد رموه بها
(3)
عن قوسٍ واحدة، فينجِّيه الله! فإنه دائم الابتهال، كثير الاستغاثة، قويُّ التوكُّل، ثابت الجأش، له أورادٌ وأذكار يُدْمِنها بكيفيَّةٍ
(4)
وجمعيّة.
وله من الطرف الآخر محبُّون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء. وسائر العامةِ تحبُّه؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا، بلسانه وقلمه.
وأما شجاعته؛ فبها تُضرب الأمثال، وببعضها يتشبَّه
(5)
أكابر الأبطال. فلقد أقامه الله في نوبة
(6)
غازان، والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد، وطلع
(1)
(ب، ق، ف): «ومنه» .
(2)
ليست في (ف، ك، وجزء الذهبي).
(3)
من الأصل.
(4)
الأصل: «بكفية» !
(5)
بقية النسخ: «تتشبّه» .
(6)
(ف): «ولقد أقامه الله نوبة» .
وخرج، واجتمع بالملك
(1)
مرتين، وبخطلوشاه
(2)
وببولاي
(3)
. وكان قَبْجَق
(4)
يتعجَّب من إقدامه وجرأته على المغول.
وله حِدّة قوية تعتريه في البحث، حتى كأنَّه ليثٌ حَرِب
(5)
.
وهو أكبر من أن ينبِّه مثلي على نعوته، فلو حُلِّفْتُ بين الرُّكن والمقام لحَلَفتُ أنِّي ما رأيت بعيني مثله، ولا والله رأى
(6)
هو مثل نفسه في العلم!
قلت: ما فعله الشيخ رحمه الله في نوبة غازان من جميع أنواع الجهاد، وسائر أنواع الخير؛ من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، ودفن الموتى، وغير
(1)
هو ملك التتار غازان ــ والعامة تقول: قازان ــ محمود بن أرغون، سار سيرة جده الأعلى جنكيزخان، وهو صاحب الحملات المتكررة على بلاد المسلمين، آخرها معركة شقحب التي مُني فيها بالهزيمة، وتوفي على إثرها سنة (703). انظر «أعيان العصر»:(4/ 5 - 18)، و «الدرر الكامنة»:(3/ 212 - 214).
(2)
خطلوشاه ــ ويقال: قطلوشاه بالقاف ــ من كبار أمراء التتار، وهو مقدّمهم في وقعة شقحب المشهورة سنة (702) التي شارك فيها ابن تيمية، وهُزم فيها التتر هزيمة نكراء. قتل سنة (707). انظر «أعيان العصر»:(2/ 321 - 322)، و «الدرر الكامنة»:(2/ 85).
(3)
بولاي: أحد مقدمي التتار الذين حضروا مع غازان لغزو الشام. قال الصفدي: اسمه الصحيح «مولاي» وإنما الناس يُحرّفونه تهكّمًا به وبأمثاله. انظر «أعيان العصر» : (2/ 70 - 71).
(4)
قبجق المنصوري، أصله من المغل، وتذبذب أمره في الالتحاق بالمغول أو بالمسلمين، إلى أن استقر أمره على قتال المغول فأبلى حسنًا، وكان شجاعًا مقدامًا ت (710). انظر «أعيان العصر»:(4/ 61 - 72)، و «الدرر الكامنة»:(3/ 241 - 243).
(5)
قيدها في الأصل: «ليثُ حرب» ، وفي (ف):«حُرِب» .
(6)
(ف، وجزء الذهبي) والمطبوعة: «ما رأى» . وبهذه الفقرة ينتهي كلام الذهبي.
ذلك، معروف مشهور.
ثم بعد ذلك بعام سنة سبعمائة، لما قدم التتار إلى أطراف البلاد، وبقي الخلق في شدَّة عظيمة، وغَلَب على ظنّهم أن عسكر مصر قد ارتحلوا
(1)
عن الشام = ركب الشيخ، وسار
(2)
على البريد إلى الجيش المصري في سبعة أيام، ودخل القاهرة في اليوم الثامن، يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى، وأطْلابُ المصريين داخلة، وقد دخل السلطان الملك الناصر.
فاجتمع بأركان الدولة، واسْتَصْرخ بهم، وحضَّهم على الجهاد، وتلا عليهم الآيات والأحاديث، وأخبرهم بما أعدَّ الله للمجاهدين من الثواب، فاستفاقوا وقويت هممهم، وأبدَوا له العذر في رجوعهم مما قاسوا من المطر والبرد بيد عرش
(3)
ونودي بالغزاة، وقَوي العزمُ، وعظَّموه وأكرموه، وتردد الأعيان إلى زيارته.
واجتمع به في هذه السنة الشيخ تقيّ الدين ابن دقيق العيد وسمع كلامه، وذُكِر أنهم سألوه عنه
(4)
بعد انقضاء المجلس فقال: هو رجل حُفَظَة
(5)
.
(1)
كذا في الأصل، وفي (ب، ق، ف، ك): «تخلوا» .
(2)
الأصل و (ب، ق): «وساق» .
(3)
(ب): «مد غرش» ، (ف):«نيد عرس» ومهملة النقط في (ك)، و (ح):«يثد عرس» . و (ط): «منذ عشرين» ! والذي في المصادر «بَدْعَرش» . انظر «ذيل مرآة الزمان» : (1/ 457) و «تاريخ الإسلام» : (52/ 100)، و «أعيان العصر»:(1/ 472)، غيرها. ويفهم من المصادر أنها قرية بقرب قاقون، إحدى محافظات طولكرم في فلسطين.
انظر على الشبكة: www.palestineremembered.com
(4)
ليست في (ك).
(5)
يعني: كثير المحفوظ. وفي مصادر أخرى أنه قال لما اجتمع به: «رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد» . «الجامع» : (ص 320، 335، 514).
قيل له: فهلَّا تكلَّمتَ معه؟ فقال: هذا رجل يحبُّ الكلام، وأنا أحبّ السكوت.
ولقد أخبرني الذهبيّ عن الشيخ رحمه الله أنه أخبره أنّ ابنَ دقيق العيد قال له بعد سماع كلامه: ما كنت أظنُّ أن الله بقي
(1)
يخلق مثلك
(2)
!
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر جمادى المذكور، وصل
(3)
الشيخ إلى دمشق على
(4)
البريد.
(1)
ليست في (ف).
(2)
والمعنى: ما كنت أظن أن سيأتي مثلك في العلم والحفظ، وهي نحو كلمة المزي وغيره: إنه لم ير مثله من نحو خمسمائة سنة. وهذه الكلمة جاءت في عدة مصادر بمثل سياق المؤلف، وأقربها إلى المعنى الذي ذكرته لفظ ابن كثير:«ما أظن بقي يُخلَق مثلك» . انظر «الجامع» : (ص 417، 470، 484، 603، 671، 722). وإن كان الأولى ترك هذا اللفظ لما يوهم ظاهره. انظر «معجم المناهي اللفظية» (ص 488 ــ 489).
(3)
(ك): «وفي يوم
…
»، و (ب): «
…
والعشرين وصل».
(4)
(ف، ك): «على باب» .