المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب إحياء الموات] - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٣

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يُبْطِلُهُ الدَّيْنُ]

- ‌[كِتَابُ الذَّيْلِ الْمُسَمَّى بِكَشْفِ الْغَيْنِ عَمَّنْ ضَلَّ عَنْ مَحَاسِنِ قُرَّةِ الْعَيْنِ]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَاب الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[بَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[رَفْعُ الشُّبَهِ وَالرِّيَبِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِأُخُوَّةِ الزَّوْجَةِ الْمَعْرُوفَةِ النَّسَبِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحِلِّ مِنْ غَيْر تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا ظَاهِرًا وَحِلِّهَا لَهُ بَاطِنًا إنْ كَذَبَ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْوَقْفِ]

- ‌[سَوَابِغُ الْمَدَدِ فِي الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ قَوْلِ الْوَاقِفِ مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَلَد]

- ‌[كِتَابُ الْإِتْحَافِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ أَجْرُ نَاظِرٍ عَلَى وَقْفٍ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَكَانَ الْمَوْقُوفَ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيْتٍ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٍ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ]

- ‌[بَابُ الْهِبَةِ]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْجِعَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]

الفصل: ‌[باب إحياء الموات]

شَيْئًا فَهَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَبْلَغِ الْمَذْكُورِ إلَّا الْبَوَّابُونَ الْمُقَرَّرُونَ وَالنُّوَّابُ لَهُمْ الْأُجْرَةُ أَوْ يُقَسَّمُ الْمَبْلَغُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُمْ أَوْ مَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِي فَتَاوِيهِ وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ إنْ تَعَلَّقَ بِسَدِّ الْوَظِيفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي نَحْوِ الْبِوَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ مَا يَقْتَضِي جَوَازَ الْإِنَابَةِ أَوْ لَا عُذْرَ مُقْتَضٍ لِجَوَازِهَا فَالْمَعْلُومُ كُلُّهُ لِلنَّائِبِ وَإِلَّا فَلِلْأَصْلِ مَا لَمْ يُعَلَّقْ الِاسْتِحْقَاقُ بِالتَّوْلِيَةِ وَالسَّدِّ لِلْوَظِيفَةِ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

[بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ]

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَنْهُ - فِي مَدْرَسَةٍ جَعَلَ وَاقِفُهَا لَهَا أَرْبَعَةَ مُدَرِّسِينَ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَحُضُورًا وَجَعَلَ بِإِزَائِهَا خَلَاوِي يُسَمَّى مَجْمُوعُهَا فِي الْعُرْفِ رِبَاطًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَنْقَطِعْ نِسْبَتُهَا عَنْ تِلْكَ الْمَدْرَسَةِ مَثَلًا بَلْ يُقَالُ خَلْوَةٌ بِمَدْرَسَةِ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يُعْلَمْ لِوَاقِفِهَا شَرْطٌ فِي سُكَّانِ تِلْكَ الْخَلَاوِي مَثَلًا وَإِنَّمَا جَرَتْ عَادَةُ تِلْكَ الْبَلَدِ بِأَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِيهِمْ تَفَقُّهٌ مَثَلًا بَلْ وَلَا تَصَوُّفٌ فَهَلْ إذَا قَرَّرَ نَاظِرُهَا إنْسَانًا مُحْتَرِفًا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِ عَارِيًّا عَنْ التَّفَقُّهِ مُشْتَغِلًا بِحِرْفَتِهِ عَنْ الْإِقَامَةِ بِتِلْكَ الْخَلْوَةِ. وَثَبَتَ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ عَلَى يَدِ حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ شَافِعِيٍّ وَحَكَمَ بِهِ يُنَفَّذُ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ أَوْ لَا؟

اُبْسُطُوا لَنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ كَثِيرٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَذْهَانِ مُتَشَبِّثُونَ فِيهِ بِمَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنِدُوهُ إلَى قَاعِدَةٍ أَوْ كِتَابٍ، وَإِنَّمَا يُسْنِدُوهُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ مُعْتَقِدِينَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا

(أَجَابَ) فَقَالَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ هِيَ أَنَّ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَنْ يُنْظَرَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ إلَى الْغَرَضِ الَّذِي بُنِيَ لَهُ ذَلِكَ الْمَحَلُّ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ الْغَرَضُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا فَمَا قَضَتْ بِهِ تِلْكَ الْقَرَائِنُ الْمُطَّرِدَةُ اُتُّبِعَ، سَوَاءٌ أَوَافَقَ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ أَمْ لَا، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْغَرَضُ مِنْ وَضْعِ بُيُوتِ الْمَدْرَسَةِ أَنَّهَا تَكُونُ سَكَنًا لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالدَّرْسِ فِيهَا وَمِنْ ثَمَّ بَحَثَ فِي الرَّوْضَةِ مَا حَاصِلُهُ وَتَبِعَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ كَابْنِ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيِّ وَالنَّشَائِيِّ وَالْإِسْنَوِيِّ وَالْأَذْرَعِيِّ وَالْبُلْقِينِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يُمْنَعُ حَيْثُ لَا شَرْطَ لِلْوَاقِفِ غَيْرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ سُكْنَى بُيُوتِ الْمَدْرَسَةِ، سَوَاءٌ وَافَقَ ذَلِكَ عُرْفَ الْبَلَدِ أَوْ خَالَفَهُ وَفِيهِ احْتِمَالٌ إذَا خَالَفَهُ، زَادَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ عُرْفِ زَمَنِ الْوَاقِفِ وَمَا بَعْدَهُ وَأَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَقَوْلُ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّ الِاحْتِمَالَ غَلَطٌ إذَا وُقِفَتْ الْمَدْرَسَةُ عَلَى طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ هُوَ الْغَلَطُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّوْضَةِ كَمَا عَرَفْت حَيْثُ لَا شَرْطَ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ شَرْطٌ، وَيُوَجَّهُ عَدَمُ نَظَرِهِمْ لِلْعُرْفِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْوَاقِفِ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ فِي زَمَنِهِ كَشَرْطِهِ بِأَنَّ الْقَرِينَةَ الْوَضْعِيَّةَ أَقْوَى مِنْ الْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِخِلَافِ هَذِهِ فَإِنَّهَا تَتَغَيَّرُ بِذَلِكَ تَغَيُّرًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ وَضْعَ الْمَدْرَسَةِ قَاضٍ بِأَنَّ بُيُوتَهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ قَدَّمْنَاهُ فَلَا يُقَرَّرُ فِيهَا غَيْرُهُمْ، سَوَاءٌ اقْتَضَى عُرْفُ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ذَلِكَ أَمْ لَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ.

وَقَدْ أَلْغَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمَنْ تَبِعَهُ شَرْطَ الْوَاقِفِ فِي مَسَائِلَ لِكَوْنِهِ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَأَوْلَى هُنَا أَنْ تُقَدَّمَ تِلْكَ الْقَرِينَةُ الْوَضْعِيَّةُ عَلَى الْعُرْفِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ شَرْطِهِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْهُ كَمَا تَقَرَّرَ وَبِمَا قَرَّرْته يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِبُيُوتِ الْمَدْرَسَةِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الْبُيُوتُ الْمَنْسُوبَةُ إلَيْهَا، سَوَاءٌ أَسُمِّيَتْ مَعَ ذَلِكَ رِبَاطًا لِتِلْكَ الْمَدْرَسَةِ أَمْ بُيُوتًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى نِسْبَتِهَا لَهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَالَيْنِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوَضْعُ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ وَضْعَ تِلْكَ الْمَدْرَسَةِ بِإِزَاءِ تِلْكَ الْبُيُوتِ إنَّمَا قُصِدَ بِهِ سُكْنَى مَنْ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ الْمَدْرَسَةِ فَاشْتُرِطَ فِي سَكَنِهَا مَا مَرَّ وَلَمْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ بِالْبُيُوتِ الَّتِي هِيَ دَاخِلُهَا، بَلْ يَشْمَلُ مَا فِيهَا وَمَا خَرَجَ عَنْهَا مِمَّا يُنْسَبُ إلَيْهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ وَأَوْضَحْنَاهُ، وَأَمَّا الرِّبَاطُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا، وَالْمُحَكَّمُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْقَرِينَةُ الْوَضْعِيَّةُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ أَيْضًا هُنَا، وَوَجْهُ انْحِصَارِهِ فِي الْقِسْمَيْنِ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُوضَعَ

ص: 165

بِالطُّرُقِ أَوْ أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَإِمَّا أَنْ يُوضَعَ دَاخِلَ الْبَلَدِ، فَالْقَرِينَةُ الْوَضْعِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ بِقِسْمَيْهِ قَاضِيَةٌ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْمُسَافِرِينَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَمَا قَرَّرُوهُ وَأَطَالُوا الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا لَا غَرَضَ لَنَا فِي بَسْطِهِ، وَقَاضِيَةٌ أَيْضًا بِأَنَّ نَازِلَهُ لَا يُشْتَرَطَ فِيهِ شَيْءٌ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ وَلَوْ سَبَقَ رَجُلٌ إلَى رِبَاطٍ مُسَبَّلٍ فَلَمْ يَخُصَّ نَازِلَهُ بِوَصْفٍ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَالَ عَقِبَهُ أَوْ فَقِيهٌ إلَى مَدْرَسَةٍ أَوْ صُوفِيٌّ إلَى خَانِقَاهُ، وَالْقَرِينَةُ الْوَضْعِيَّةُ فِي الثَّانِي قَاضِيَةٌ بِاخْتِصَاصِهِ بِمَنْ يَأْتِي فِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَفْسِيرُهُمْ لِلرِّبَاطِ بِأَنَّهُ الْمَكَانُ الْمُسَبَّلُ لِلْأَفْعَالِ الصَّالِحَةِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم «فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» ثَلَاثًا إشَارَةً إلَى نَحْوِ كَثْرَةِ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَعُلِمَ مِنْ الْقَرِينَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَتَفْسِيرِهِمْ الْمَذْكُورَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي سَاكِنِهِ مِمَّا يَأْتِي مِنْ الْأَوْصَافِ بِخِلَافِ الْمُحْتَرِفِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ سُكْنَاهَا، وَأَمَّا الْخَانْقَاهْ فَهِيَ دِيَارُ الصُّوفِيَّةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَبِتَفْسِيرِهِمْ لَهَا وَلِلرِّبَاطِ بِمَا ذُكِرَ يُعْلَمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَسَاوِيًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ التَّسَاوِي.

فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُنْزَلِينَ بِهِمَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصُّوفِيَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ أَنْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ مُعْرِضِينَ عَنْ الدُّنْيَا مَعَ الْعَدَالَةِ وَتَرْكِ الْحِرْفَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِنَحْوِ الْوِرَاقَةِ وَالْخِيَاطَةِ أَحْيَانًا فِي رِبَاطٍ لَا حَانُوتٍ وَلَا تَقْدَحُ قُدْرَةُ الْكَسْبِ وَلَا الْوَعْظُ وَالتَّدْرِيسُ وَلَا مِلْكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ وَمَا لَا يَفِي بِخَرْجِهِ دُونَ الثَّرْوَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْعُرُوضِ الْكَثِيرَةِ وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا زِيُّ الْقَوْمِ وَمُسَاكَنَتُهُمْ دُونَ لُبْسِ مُرَقَّعَةٍ مِنْ شَيْخٍ اهـ.

وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِتَسَاوِيهِمَا أَيْضًا قَوْلُ الْفَارِقِيِّ فِي فَوَائِدِ الْمُهَذَّبِ يَجُوزُ لِلْفُقَهَاءِ الْإِقَامَةُ فِي الرُّبُطِ وَتَنَاوُلُ مَعْلُومِهَا وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَصَوِّفِ الْقُعُودُ فِي الْمَدَارِسِ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُطْلَقُ بِهِ اسْمُ التَّصَوُّفِ مَوْجُودٌ فِي الْمُتَفَقِّهَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ اهـ. وَيُوَافِقُهُ صَنِيعُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ قَاضٍ بِأَنَّ الرُّبُطَ تُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ أَعْنِي الْمَدْرَسَةَ وَبُيُوتَهَا وَالْخَانِقَاهْ وَخَانَاتِ الطُّرُقِ وَأَطْرَافَ الْبِلَادِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا نَوْعٌ رَابِعٌ، وَيُوَافِقُهُ أَيْضًا عِبَارَةُ وَسِيطِ الْغَزَالِيِّ وَبَسِيطِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْأُولَى: لَوْ طَالَ مُقَامُ سَاكِنِ الْمَدْرَسَةِ أُزْعِجَ بَعْدَ تَمَامِ غَرَضِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَرَضِ مَرَدٌّ كَرِبَاطِ الصُّوفِيَّةِ فَفِي إزْعَاجِهِ وَجْهَانِ، وَأَشَارَ فِي الثَّانِي إلَى أَنَّ الرَّاجِحَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَقَالَ: يُفَوَّضُ الْأَمْرُ فِي الْخَوَانِقِ لِلْوَالِي لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْبِقَاعِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إخْرَاجِ وَاحِدٍ فَلَهُ ذَلِكَ اهـ.

فَجَعَلَ رِبَاطَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الْخَانْقَاهْ فَحِينَئِذٍ كَلَامُ الْفَارِقِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّيْخَيْنِ مُصَرِّحٌ بِمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ وَضْعَ الْمَدَارِسِ وَبُيُوتِهَا لِلْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَوَضْعَ الرُّبُطِ الَّتِي دَاخِلَ الْبُلْدَانِ لِلصُّوفِيَّةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَلَا مُتَفَقِّهًا وَلَا مُتَصَوِّفًا وَلَا تَابِعًا لِأَحَدِهِمَا صُوفِيًّا وَلَا كَالْبَوَّابِ وَالْخَادِمِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي سُكْنَى بُيُوتِ مَدْرَسَةٍ وَلَا رِبَاطٍ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ أَهْلِهَا فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَمِمَّا قَرَّرْته أَخْذًا مِنْ صَرِيحِ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْمُحْتَرِفَ فِي حَانُوتِهِ وَمَنْ لَا يُعَدُّ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَلَا مِنْ الصُّوفِيَّةِ لَا حَقَّ لَهُ فِي سُكْنَى بُيُوتِ مَدْرَسَةٍ وَلَا رِبَاطٍ وَأَنَّ تَقْرِيرَهُ فِي أَحَدِهِمَا لَغْوٌ، سَوَاءٌ أَحَكَمَ بِهِ شَافِعِيٌّ أَمْ لَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَسِيطِهِ: وَالْمَحِلُّ الْمَبْنِيُّ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ كَالْمَدْرَسَةِ أَيْ: فَيُشْتَرَطُ فِي نَازِلِهِ مَا يُشْتَرَطُ نَحْوُهُ فِي نَازِلِهَا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) فِي أَرْضٍ مُتَحَاذِيَةٍ بَعْضُهَا بِجَنْبِ بَعْضٍ وَعُرُوقُ شَجَرِ كُلِّ مَالِكٍ لِهَذِهِ الْأَرَاضِي الْمَذْكُورَةِ مُتَّصِلَةٌ بِأَرْضِ الْآخَرِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْخَلَاصُ مِنْهَا إلَّا بِالْإِتْلَافِ مَثَلًا فَأَرَادَ بَعْضُ الْمُلَّاكِ أَنْ يَحْفِرَ فِي مِلْكِهِ حَفْرًا عَمِيقًا مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ لِيَقْطَعَ بِهِ عُرُوقَ شَجَرِ جَارِهِ فَهَلْ لِلْجَارِ مَنْعُهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قَطَعَ الْعُرُوقَ مَاتَ الْأَصْلُ؟ وَالْحَالُ أَنَّ عَادَةَ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا إذَا كَانَ مَالِكُ الْأَرْضِ يَتَضَرَّرُ بِعُرُوقِ شَجَرِ الْجَارِ فِي أَرْضِهِ وَأَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ إزَالَتَهَا بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي مَصْلَحَتِهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَهَلْ يُعْمَلُ بِعَادَتِهِمْ وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الشَّجَرَةِ عَلَى إزَالَةِ عُرُوقِهَا مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ إنْ لَمْ

ص: 166

يَكُنْ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَذِنَ لَهُ فِي غَرْسِ الشَّجَرَةِ وَارِسَالِ عُرُوقِهَا فِي أَرْضِهِ وَإِلَّا فَهُوَ مُعِيرٌ فَإِنْ مَنَعَ فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ اهـ.

فَهَلْ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ مُعْتَمَدٌ أَمْ هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ لِكُلٍّ مِنْ الْمُلَّاكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ، فَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ أَيْ: لِمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ وَقَالُوا أَيْضًا: إنْ تَصَرَّفَ بِمَا يَضُرُّ الْمِلْكَ فَلَهُ مَنْعُهُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بِمَا يُضَرُّ الْمَالِكَ فَلَا مَنْعَ وَاخْتَارَ الْمَنْعَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُلِّ مُؤْذٍ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ مُطْلَقًا وَقَالُوا أَيْضًا: الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ فَمَا الرَّاجِحُ عِنْدَكُمْ؟ أَوْضِحُوا لَنَا الْجَوَابَ؟

(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: قَدْ جَاءَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ بِلَادِكُمْ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَأَنَا أَكْتُبُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَذْهَبُنَا الْمُوَافِقُ لِغَيْرِنَا فَكَأَنَّ أَهْلَ بِلَادِكُمْ لَا يَمْتَثِلُونَ الشَّرْعَ وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ انْتَشَرَتْ عُرُوقُ شَجَرَةِ الْغَيْرِ إلَى أَرْضِهِ جَازَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَالِكِ بِتَحْوِيلِهَا أَوْ قَطْعِهَا مِنْ مِلْكِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ، فَلَهُ تَحْوِيلُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ قَطْعُهَا وَقَلْعُهَا بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَمَتَى كَلَّفَ مَالِكَهَا قَلْعَهَا فَنَقَصَتْ الْأَرْضُ بِذَلِكَ لَزِمَ الْقَالِعَ أَرْشُ نَقْصِهَا؟ وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ الْحَاصِلَةِ بِالْقَلْعِ، وَلَا فَرْقَ فِي إجْبَارِ مَالِكِ الْعُرُوقِ عَلَى قَلْعِهَا بَيْنَ أَنْ يَتَضَرَّرَ بِذَلِكَ أَوْ يَمُوتَ بِهِ شَجَرُهُ أَوْ لَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَعْتَادَ أَهْلُ الْبَلَدِ قَلْعَ الْعُرُوقِ الْمُنْتَشِرَةِ إلَى أَرْضِهِمْ أَمْ لَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَحْفِرَ الْأَرْضَ مَالِكُهَا حَفْرًا عَمِيقًا مُخَالِفًا لِلْعَادَةِ حَتَّى تَظْهَرَ الْعُرُوقُ فَيُطَالَبُ مَالِكُهَا بِقَلْعِهَا أَوْ تَكُونَ الْعُرُوقُ ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، نَعَمْ مَنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ مِنْ أَوَّلِ انْتِشَارِ الْعُرُوقِ إلَيْهَا ثُمَّ عَظُمَتْ وَأَضَرَّتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إزَالَتُهَا لِعِلْمِهِ حَالَ الشِّرَاءِ بِأَنَّهَا سَتَزِيدُ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا مَا نَقَلَهُ السَّائِلُ عَنْ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

. (وَسُئِلَ) عَنْ قَوْلِ الرَّوْضَةِ وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْمَاءِ الْمُبَاحِ شَيْئًا فِي إنَاءٍ وَجَعَلَهُ فِي حَوْضٍ مِلْكُهُ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِي مَعْنَاهُ الْإِنَاءُ وَسَوَّقَهُ إلَى بِرْكَةٍ أَوْ حُفْرَةٍ فِي أَرْضِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ فِيهَا: وَإِنْ دَخَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مِلْكُ إنْسَانٍ بِسَيْلٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ قَالَ فِي النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ بِأَنْ حَفَرَ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنْ الْوَادِي، فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ.

كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ مِلْكَهُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ لِسَقْيِ الْأَرْضِينَ، وَأَمَّا الشُّرْبُ وَالِاسْتِعْمَالُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ أَيْ: فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ جَعْلِهِ فِي الْحَوْضِ وَسَوْقِهِ إلَى بِرْكَةٍ وَنَحْوِهَا مِنْ أَمْلَاكِهِ حَيْثُ يَمْلِكُهُ وَبَيْنَ دُخُولِهِ الْأَمْلَاكَ مِنْ نَهْرٍ وَنَحْوِهِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ فَلِمَ لَا يُعْتَبَرُ الْقَصْدُ فِي ذَلِكَ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي سَقْيِ الْأَرْضِ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَالْبِنَاءِ لِتَعْشِيشِ الطَّيْرِ حَيْثُ يَمْلِكُ الصَّيْدَ وَالْبَيْضَ وَالْفَرْخَ بِذَلِكَ؟ لِأَنَّ الْقَصْدَ مَرْعِيٌّ فِي التَّمَلُّكِ وَقَوْلُهُ فِي النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ لِسَقْيِ الْأَرْضِينَ، وَأَمَّا الشُّرْبُ وَالِاسْتِعْمَالُ فَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ سَقْيِ الْأَرْضِينَ وَمَا ذَكَرُوهُ بَعْدَهَا؟ وَهَلْ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِبَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى إبَاحَتِهِ، أَمَّا إذَا قُلْنَا بِمِلْكِهِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ فِي فَاضِلِ الْبِئْرِ وَالْقَنَاةِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الدَّاخِلِ فِي النَّهْرِ مِنْ السَّيْلِ لِاتِّسَاعِهِ غَالِبًا لِلْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ فِيمَا يُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ؟

وَعَلَى الْقَوْلِ بِمَنْعِ سَقْيِ الْأَرْضِينَ لَوْ سَقَى بِهِ الْغَيْرُ أَرْضًا فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ هَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَاءِ؟ كَمَا قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ أَوْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا وَالْمَاءُ فِيهَا مُسْتَوٍ عَلَيْهَا غَيْرَ مَكْسُورَةٍ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا الْآنَ يَابِسَةً كَمَا قَالَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا إذَا كَانَتْ أَرْضُ الْغَيْرِ مُسْتَوِيًا عَالِيهَا الْمَاءُ فَأَجَّرَهَا شَخْصٌ آخَرُ، وَمَا حَقِيقَةُ الْجَعْلِ وَالسَّوْقِ فِي قَوْلِهِمْ جَعَلَ فِي حَوْضِهِ أَوْ سَاقَهُ إلَى أَرْضِهِ فَإِنَّ الْجَعْلَ فِي الْإِنَاءِ فِي الْعُرْفِ إبْقَاؤُهُ فِيهِ وَلَا نَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُهُمْ هُنَا وَالسَّوْقُ لَمْ نَفْهَمْ مَا الْمُرَادَ مِنْهُ هُنَا، فَإِنَّ السَّوْقَ فِي الْعُرْفِ حَثُّ السَّائِقِ لِلْمَسُوقِ مِنْ خَلْفِهِ وَجَوَانِبِهِ إلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الْمَاءِ وَقَوِيَّةٌ فِيهِ وَمِنْ ثَمَّ جَرَى لَنَا وَجْهٌ بِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ، وَإِذَا ثَبَتَ تَأَصُّلُ الْإِبَاحَةِ فِيهِ اُحْتِيجَ فِي تَمَلُّكِهِ إلَى سَبَبٍ قَوِيٍّ دَالٍّ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا وَذَلِكَ السَّبَبُ الْقَوِيُّ، إمَّا أَخْذُهُ فِي إنَاءٍ كَمَا

ص: 167

عَبَّرَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ حِيَازَتُهُ فِيهِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ كُوزًا فِي مَاءٍ مُبَاحٍ فَمَلَأَهُ مِنْهُ مَلَكَ مَا حَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ الْكُوزَ مِنْ الْمَاءِ، بَلْ أَبْقَاهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حِيَازَةٌ لَا أَخْذٌ إذْ هِيَ الِاحْتِوَاءُ عَلَى الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ فَهِيَ أَعَمُّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا جَعْلُهُ فِي حَوْضٍ مَسْدُودِ الْمَنَافِذِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَوْضِ خُصُوصَهُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُمَا كَالْقَمُولِيِّ وَالْأَذْرَعِيِّ وَالزَّرْكَشِيِّ وَآخَرِينَ مِمَّا يَشْمَلُ الْبِرْكَةَ وَالصِّهْرِيجَ وَالْحُفْرَةَ فِي أَرْضِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَادُ بِجَعْلِهِ فِي ذَلِكَ وَسَوْقِهِ إلَيْهِ وَاحِدٌ وَهُوَ حُصُولُ الْمَاءِ فِي وَاحِدٍ مِمَّا ذُكِّرَ بِفِعْلِهِ كَأَنْ يَفْتَحَ سَدًّا بَيْنَ نَحْوِ الْحَوْضِ وَالْمَاءِ الْمُبَاحِ فَيَدْخُلُ فِيهِ وَخَرَجَ بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ السَّبَبُ الضَّعِيفُ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي مِلْكَ الْمَاءِ لِمَا تَقَرَّرَ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَقْتَضِيه كَوْنُ الْمُتَسَبَّبِ بِهِ أَحَقُّ بِمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ الْمَاءِ وَذَلِكَ السَّبَبُ الضَّعِيفُ، إمَّا مُجَرَّدُ دُخُولِ الْمَاءِ مِلْكَ إنْسَانٍ لَا بِفِعْلِهِ وَلَا بِمَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِ، بَلْ بِسَيْلٍ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِفِعْلِهِ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لِضَعْفِهِ كَأَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنْ الْوَادِي الْعَظِيمِ أَوْ مِنْ النَّهْرِ الْمُنْخَرِقِ مِنْهُ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ، لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا فِعْلَهُ هُنَا وَهُوَ الْحَفْرُ لَا يَقْتَضِي مِلْكًا بِخِلَافِهِ فِيمَا مَرَّ فِي صُورَةِ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ بِأَنْ يُقْصَدَ بِحَفْرِهَا فِي الْعَادَةِ الِانْتِفَاعُ بِمَائِهَا فِي سَقْيِ الْمَزَارِعِ وَنَحْوِهَا فَلِذَلِكَ جَعَلُوهُ سَبَبًا فِي كَوْنِهِ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَلِكَوْنِ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ لَا يُخْرِجُ الْمَاءَ عَنْ أَصْلِهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ اكْتَفَى فِيهِ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ وَهُوَ مُجَرَّدُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يُنَافِي أَصْلَهُ الْمَذْكُورَ فَاحْتِيجَ فِيهِ إلَى سَبَبٍ قَوِيٍّ.

وَهُوَ حِيَازَتُهُ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ إدْخَالِهِ مَحِلًّا يَقْصِدُ فِي الْعَادَةِ بِحِيَازَتِهِ فِيهِ مِلْكَهُ وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالْحَوْضِ وَالصِّهْرِيجِ، فَبَانَ بِهَذَا الَّذِي قَرَّرْته فَرْقَانِ مَا بَيْنَ إدْخَالِهِ لِنَحْوِ الْحَوْضِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِهِ وَإِدْخَالِهِ لِنَحْوِ النَّهْرِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ الْآتِي عَلَى الْإِثْرِ وَبَانَ بِهِ أَيْضًا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ فِي تَوَسُّطِهِ، وَكُنْت أَوَدُّ لَوْ قِيلَ: إنْ أَجْرَى حَافِرُ النَّهْرِ أَوْ الْقَنَاةِ الْمَاءَ فِيمَا حَفَرَهُ مِنْهَا مَلَكَهُ كَمَا لَوْ حَازَهُ فِي إنَائِهِ، وَوَجْهُ الْجَوَابِ عَنْهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ إجْرَاءَهُ فِي نَحْوِ النَّهْرِ لَا يَقْصِدُ بِهِ تَمَلُّكَهُ عَادَةً بِخِلَافِ حَوْزِهِ فِي إنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ فِي الْإِجْرَاءِ إلَى نَحْوِ النَّهْرِ، وَاعْتَبَرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْضِ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهَا لِمَا قَرَّرْته أَيْضًا مِنْ أَنَّ السَّقْيَ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَالْبِنَاءَ لِتَعْشِيشِ الطَّائِرِ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِقَصْدِ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ وَالطَّيْرِ، فَجَرَوْا فِيهِمَا عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ الْمُحْكَمَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَفِي الْمِيَاهِ وَتَمَلُّكِهَا وَاسْتِحْقَاقِهَا وَجَرَوْا فِي الْحَفْرِ عَلَى مُقْتَضَاهَا أَيْضًا مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ مِنْهُ أَهْلُهَا إلَّا الِارْتِفَاقَ بِالْمِيَاهِ وَالِانْتِفَاعَ بِهَا دُونَ تَمَلُّكِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ مِيَاهَ نَحْوِ الصَّهَارِيجِ وَالْبِرَكِ لَا تُتَّخَذُ فِي الْعَادَةِ إلَّا لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ فَإِنَّهَا لَا تُتَّخَذُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَصَدَ مَا يُوَافِقُ الْعَادَةَ اُعْتُدَّ بِقَصْدِهِ، بَلْ مَا يُوَافِقُهَا لَا يُحْتَاجُ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَى أَنْ يَقْصِدَ وَمِنْ ثَمَّ يَمْلِكُ الْمَاءَ فِي مَسْأَلَةِ نَحْوِ الْحَوْضِ السَّابِقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَهُ وَمَا خَالَفَ الْعَادَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِالْإِجْرَاءِ فِي النَّهْرِ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّمَلُّكَ فَإِنْ قُلْت: لِمَ فَرَّقَ فِي مَسْأَلَةِ سَقْيِ الْأَرْضِ لِتَوَحُّلِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهَا بَيْنَ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ فِي الْمَاءِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةِ نَحْوِ الْحَوْضِ يَمْلِكُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ.

وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِجْرَاءِ إلَى النَّهْرِ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قَصَدَ قُلْت: حِكْمَةُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي الْمَاءِ فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ قَوِيٌّ يُخْرِجُهُ عَنْ أَصْلِهِ لَمْ يُحْتَجْ مَعَهُ إلَى قَصْدٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ قَوِيٌّ لَمْ يُؤَثِّرْ مَعَهُ الْقَصْدُ، وَأَمَّا نَحْوُ الصَّيْدِ فَلَيْسَ الْأَصْلُ فِيهِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لَنَا خِلَافٌ فِي أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالْحِيَازَةِ فَأُدِيرَ الْأَمْرُ فِي التَّسَبُّبِ إلَى مِلْكِهِ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ تَمَلُّكَهُ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْت ذَهَبَ الْإِمَامُ إلَى أَنَّ مَا دَخَلَ فِي نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ يَمْلِكهُ كَالْمُحْرَزِ فِي إنَائِهِ.

وَتَبِعَهُ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الصَّيْدِ

ص: 168

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرْته فِيمَا سَبَقَ قُلْت: لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مُنَابِذٌ لِتَصْرِيحِ الْأَصْحَابِ بِخِلَافِهِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ، بَلْ قَالَ الْمَحَامِلِيُّ: إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِلَا خِلَافٍ وَحِينَئِذٍ فَاخْتِيَارُ ابْنِ الرِّفْعَةِ لَهُ مَرْدُودٌ أَيْضًا وَالشَّيْخَانِ إنَّمَا لَمْ يُضَعِّفَاهُ فِي بَابِ الصَّيْدِ لِلْعِلْمِ بِضَعْفِهِ مِمَّا ذَكَرَاهُ هُنَا فَبَانَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ، وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت: سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ، لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْفَرْقِ مَا فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَنَقَلَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ عَنْهُ وَأَقَرُّوهُ مِنْ أَنَّ الدُّولَابَ الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي كِيزَانِهِ مَلَكَهُ صَاحِبُ الدُّولَابِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَاهُ بِنَفْسِهِ اهـ.

قَالَ غَيْرُهُ: وَفِي مَعْنَاهُ مَا يُدِيرُهُ بِدَابَّتِهِ مِنْ طَرِيقٍ أَوْلَى قُلْت: لَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ حِيَازَةُ الْمَاءِ فِي إنَائِهِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ نَصْبُهُ لِلدُّولَابِ عَلَى الْمَاءِ أَوْ إدَارَتُهُ لَهُ بِدَابَّتِهِ وَحِيَازَةُ الْمَاءِ فِي الْإِنَاءِ مِنْ شَأْنِهَا فِي الْعَادَةِ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا مِلْكَ الْمَاءِ، فَأَخَذَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ بِالْقَاعِدَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ فَرَّقَ فِيهَا بِخُصُوصِهَا الْقَصْدَ بِالْمَاءِ الَّذِي يُدِيرُهُ الدُّولَابُ أَوْ الدَّابَّةُ لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا مَا يُقْصَدُ بِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ إلْحَاقًا لِشَاذِّ الْجِنْسِ بِغَالِبِهِ وَطَرْدًا لِلْبَابِ، وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَقَوْلُهُ: النَّهْرُ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ إلَخْ جَوَابُهُ ظُهُورُ الْفَرْقِ بَيْنَ سَقْيِ الْأَرْضِ وَمَا بَعْدَهُ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ وَمُطَّرِدَةٌ بِأَنَّ النُّفُوسَ تَسْمَحُ مِنْ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ بِنَحْوِ الشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ لِقِلَّةِ مَا يَذْهَبُ بِسَبَبِهِمَا مِنْ الْمَاءِ بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرْضِ فَإِنَّهَا لَمْ تَجْرِ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ لِكَثْرَةِ مَا يَذْهَبُ بِسَبَبِهِ.

فَإِنْ قُلْت يُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الرَّوْضَةِ ضَمَّ إلَى الشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ سَقْيَ الدَّوَابِّ حِكَايَةً فِي الثَّلَاثَةِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ وَالْمُتَوَلِّي وَلَا شَكَّ أَنَّ سَقْيَ الدَّوَابِّ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ مِنْهَا وَهُوَ يَذْهَبُ بِسَبَبِهِ مَاءٌ كَثِيرٌ وَلَا يَسْمَحُ بِهِ مَعَ كَثْرَتِهِ غَالِبُ النَّاسِ قُلْت مَا نَقَلَهُ عَنْ الْعَبَّادِيِّ وَالْمُتَوَلِّي لَمْ يَنْفَرِدَا بِهِ، بَلْ جَرَى عَلَيْهِ أَيْضًا الْمَحَامِلِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ وَسُلَيْمٌ فِي تَقْرِيبِهِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَثِيرِ الدَّوَابِّ وَقَلِيلِهَا وَلَا بَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ بِسَبَبِ سَقْيِهَا نَقْصٌ فِي الْمَاءِ أَوْ لَا، وَحِينَئِذٍ فَيُشْكِلُ بِمَنْعِ سَقْيِ الْأَرْضِينَ وَيُجَابُ بِأَنَّ مِنْ شَأْنِ سَقْيِ الْأَرْضِ أَنَّهَا تَحْتَاجُ لِمَاءٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَاجُهُ الْمَاشِيَةُ وَأَنَّ مُلَّاكَ الْقَنَوَاتِ وَالْأَنْهَارِ يَشِحُّونَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ سَقْيِ الْأَرْضِ، وَإِنْ صَغُرَتْ بِخِلَافِ سَقْيِ الدَّوَابِّ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَأَيْضًا فَسَقْيُ الْأَرْضِ يَلْزَمُ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْهُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِ النَّهْرِ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ التَّمْكِينُ مِنْهُ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ أَنَّ مَالِكَ تِلْكَ الْأَرْضِ قَدْ يَدَّعِي بِأَنَّ لَهَا اسْتِحْقَاقَ شُرْبٍ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ، فَكَانَتْ خَشْيَةُ ذَلِكَ الضَّرَرِ مَانِعَةً مِنْ التَّمْكِينِ مِنْ سَقْيِ الْأَرَاضِي مِنْ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مَاؤُهُ بَاقِيًا عَلَى إبَاحَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ وَتَبِعَهُ فِي الْوَسِيط كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مَائِهَا يَعْنِي الْأَنْهَارَ وَالْقَنَوَاتِ الْمَمْلُوكَةَ بِمَا يُنْقِصُهُ وَيُظْهِرُ نَقْصَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ حَتَّى يَسْقِيَ الْمَوَاشِيَ.

وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ كَالشُّرْبِ أَوْ سَقْيِ دَوَابَّ مَعْدُودَةٍ أَوْ أَخْذِ قِرَبٍ فَقَدْ ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ الْمَنْعُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ وَاسْتَمْسَكُوا بِقَوْلِهِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَاءِ وَالنَّارِ وَالْكَلَإِ.» ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي نَقَلْته عَنْ شَيْخِي فَإِنَّهُ انْتِفَاعٌ، وَذَهَبَ الْقَاضِي وَطَبَقَةُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى إجْرَاءِ الْقِيَاسِ وَالْمَصِيرِ إلَى أَنَّ لِلْمُلَّاكِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ هَذَا، وَمَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ التَّسَامُحِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يَضِنُّونَ بِهَذَا الْقَدْرِ فَصَارَتْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ بِمَثَابَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِبَاحَةِ فَهُوَ كَمَا بَيَّنَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ مُفَرَّعٌ عَلَى رَأْيِهِ الضَّعِيفِ السَّابِقِ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ مَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْقَنَوَاتِ الْمَمْلُوكَةِ مَمْلُوكٌ كَمَاءِ الْبِئْرِ الْمَمْلُوكَةِ وَكَلَامُ الْأَوَّلِينَ أَعْنِي الْعَبَّادِيَّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مُفَرَّعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ إقَامَةً لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، فَلَوْ أَوْرَدَ أَلْفًا مِنْ الْإِبِل إلَى جَدْوَلٍ ضَعِيفٍ فِيهِ مَاءٌ يَسِيرٌ فَلَا أَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ

ص: 169

الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُؤَثِّرُ هَا هُنَا فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ مَا قَامَ مَقَامَهُ فِي الْعُرْفِ اهـ؟

مُلَخَّصًا وَخَالَفَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِيمَا تَوَقَّفَ فِيهِ وَأَفْتَى بِالْجَوَازِ وَيُجَابُ عَنْ عِلَّةِ تَوَقُّفِهِ بِأَنَّ الْإِذْنَ هُنَا لَيْسَ شَرْطًا، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ عَدَمُ الْمَنْعِ وَيُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ نَحْوَ الصَّغِيرِ لَوْ رَشَدَ لَمْ يُمْنَعْ، فَاكْتُفِيَ بِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ تَنَاوُلِ مَا ذُكِرَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِذْنِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَنْعِ وَبِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ كَلَامَ الْإِمَامِ السَّابِقِ مُفَرَّعٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ بَقَاءُ الْمَاءِ عَلَى إبَاحَتِهِ يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَهَلْ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِبَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى إبَاحَتِهِ وَقَوْلُهُ، أَمَّا إذَا قُلْنَا بِمِلْكِهِ فَيَأْتِي فِيهِ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَقَوْلُ السَّائِلِ: أَمْ يُفَرَّقُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ؛ لِأَنَّ مَلْحَظَ إيجَابِ بَذْلِ فَضْلِ الْمَاءِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلَأَ» أَيْ: مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاشِيَةَ إنَّمَا تَرْعَى بِقُرْبِ الْمَاءِ، فَإِذَا مَنَعَ مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْكَلَإِ كَذَا قَالُوهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْقَنَاةِ وَالنَّهْرِ إذَا قُلْنَا إنَّ مَاءَهُ مَمْلُوكٌ

بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا وَجَبَ بَذْلُ فَاضِلِ مَائِهِمَا بِشَرْطِهِ مَعَ قِلَّةِ مَائِهِمَا فَلَأَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي النَّهْرِ الْمُتَّسِعِ الْمَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَإِنْ قُلْت مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي الْمَاءِ يُنَافِيه مَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَطَبِ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ لِمَنْ أَشْعَلَ نَارَهُ فِيهِ مَنْعُ أَحَدٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَعَلَيْهِ وَعَلَى الشِّقِّ الْأَخِيرِ الْآتِي يُحْمَلُ الْحَدِيثُ، وَحَيْثُ كَانَ مَمْلُوكًا جَازَ الْمَنْعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالْأَخْذِ مِنْهَا وَنَحْوِهِ.

وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْقَمُولِيُّ إطْلَاقَ صَاحِبِ الْعِدَّةِ أَنَّ لَهُ الْمَنْعَ وَحَمَلَ قَوْلَ الْمُتَوَلِّي، أَمَّا الِاسْطِلَاءُ أَوْ الِاسْتِصْبَاحُ بِهَا أَوْ مِنْهَا فَلَا مَنْعَ وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْقَمُولِيُّ أَيْضًا قَوْلَ الْمُتَوَلِّي إنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا مَنَعَهُ، وَإِنْ احْتَاجَ لِدَفْعِ بَرْدٍ أَوْ تَخْفِيفِ ثَوْبٍ لَمْ يَمْنَعهُ وَلَا يَأْخُذهُ مِنْهُ عِوَضًا فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تُقَابَلُ بِعِوَضِ بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ اهـ.

قُلْت: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ أَنَّ غَيْرَهُ كَالْحَطَبِ لَا يَسْتَخْلِفُ فِي الْحَال وَيَتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْمَاءِ فِيهِمَا فَلِذَلِكَ سَامَحُوا فِيهِ مَا لَمْ يُسَامِحُوا بِهِ غَيْرَهُ، عَلَى أَنَّ لَك أَنْ تَقُولَ الْحَطَبُ كَالْمَاءِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْمَنْعُ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ إشْعَالَ النَّارِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي مِلْكَهُ وَلَا الِاخْتِصَاصَ بِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ وَلَا فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّ الِاسْتِضَاءَةَ مِنْهُ مُتَسَامَحٌ بِهَا عَادَةً فَهِيَ كَالشُّرْبِ مِنْ الْمَمْلُوكِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْمَنْعُ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَسَامَحُ بِهِ فَهُوَ كَأَخْذِ مَا لَا يُتَسَامَحُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ مَا فِي الرَّوْضَةِ هُنَا مِنْ وُجُوبِ قِيمَةِ الْمَاءِ يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْحَالَةِ الْآتِيَةِ فَإِنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي بَابِ الْغَصْبِ مِنْ أَنَّهُ مِثْلِيٌّ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مَا لَمْ يُغَلَّ بِالنَّارِ نَعَمْ مَحِلُّ وُجُوبِ مِثْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ كَمَا بَيَّنْت ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ فِي بَابَيْ التَّيَمُّمِ وَالْغَصْبِ وَعِبَارَتُهُ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ قَهْرًا بِقِيمَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لِمَا فِي أَمْرِهِ بِأَخْذِ الْمِثْلِ مِنْ الْإِجْحَافِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْحَضَرِ تَافِهٌ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ أَخَذَهُ فِي مَفَازَةٍ، وَإِنْ غَرِمَ الْقِيمَةَ فِي الْوَطَنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لِلْمَاءِ فِيهِ فَإِنَّ فَرْضَ الْغُرْمِ بِمَحِلِّ الشُّرْبِ أَوْ بِمَحِلٍّ آخَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ قِيمَةٌ يَوْمَ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً غَرِمَ مِثْلَ الْمَاءِ كَسَائِرِ الْمِثْلِيَّاتِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَالْعِدَّةِ

وَاسْتُشْكِلَ وُجُوبُ الْمِثْلِ عِنْدَ كَوْنِهَا يَسِيرَةً وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا يُعَدَّلُ حَيْثُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ وَلَا نَظَرَ لِزِيَادَةِ قِيمَةِ الْمِثْلِ وَنَقْصِهَا كَمَا لَا نَظَر لِتَفَاوُتِ الْأَسْعَارِ عِنْدَ رَدِّ الْعَيْن وَهُوَ وَجِيهٌ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ أَيْ: الشَّمْسِ الْجَوْجَرِيِّ: الْإِشْكَالُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ إذَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ دِرْهَمًا وَفِي مَكَانِ الْإِتْلَافِ وَزَمَانِهِ أَلْفًا فَإِيجَابُ دُونَ الْقِيمَةِ إجْحَافٌ بِالْمَالِكِ، وَهُمْ إنَّمَا عَلَّلُوا الْعُدُولَ إلَى الْقِيمَةِ بِدَفْعِ الْإِجْحَافِ يُرَدُّ بِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ الْقِيمَةِ بِالْكُلِّيَّةِ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِجْحَافُ

وَأَمَّا حَيْثُ كَانَ لِلْمِثْلِ قِيمَةٌ فَلَا عُدُولَ عَنْهُ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ الْآتِي فِي الْغَصْبِ، وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ أَيْ: صَاحِبُ الْإِرْشَادِ بِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا لِنَقْلِهِ مُؤْنَةً وَمَنْ أَتْلَفَ شَيْء لِنَقْلِهِ مُؤْنَةً إذَا ظَفِرَ بِهِ الْمَالِكُ فِي غَيْرِ بَلَدِ التَّلَفِ لَا يُطَالِبُهُ بِالْمِثْلِ، بَلْ بِقِيمَةِ بَلَدِ التَّلَفِ وَلَا يُكَلَّفُ الْمَالِكُ قَبُولَ

ص: 170

الْمِثْلِ وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْأَلْيَقَ بِكَلَامِهِمْ مَا مَرَّ مِنْ التَّفْصِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةً أَمْ لَا، وَاعْتِبَارُ مُؤْنَةِ النَّقْلِ أَمْرٌ مَرَّ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ قَدْ يُجَامِعُهُ، وَقَدْ لَا فَحَيْثُ كَانَ الْمِثْلُ مُتَقَوِّمًا وَلَمْ يَكُنْ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةً وَجَبَ وَلَوْ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْإِتْلَافِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ فِيهِ دُونَ قِيمَةِ بَلَدِ الْإِتْلَافِ وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا لَمْ يَجِبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِنَقْلِهِ مُؤْنَةٌ وَمَا اقْتَضَاهُ جَوَابُهُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَاءَ فِي غَيْرِ مَحِلِّ الْإِتْلَافِ إذَا كَانَ لَهُ فِيهِ قِيمَةٌ دُونَ قِيمَةِ مَحِلِّ الْإِتْلَافِ مُخَالِفٌ لِصَرِيخِ كَلَامِهِمْ انْتَهَتْ عِبَارَتُهُ فِي التَّمِيم، وَعِبَارَتُهُ فِي الْغَصْبِ: نَعَمْ إنْ خَرَجَ الْمِثْلِيُّ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِيمَةٌ كَمَا لَوْ غَصَبَهُ فِي مَفَازَةٍ وَتَلِفَ أَوْ أَتْلَفَهُ هُنَاكَ بِلَا غَصْبٍ وَكَجَحْدِ غَصْبِهِ وَتَلِفَ أَوْ أَتْلَفَهُ فِي الصَّيْفِ ثُمَّ اجْتَمَعَا عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ أَوْ بِمَحَلِّ قِيمَتِهِ فِيهِ تَافِهَةٌ كَهِيَ عَلَى الشَّطِّ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا بِقَلِيلٍ فِي الْأَوَّلِ أَوْ فِي الشِّتَاءِ فِي الثَّانِي لَزِمَهُ قِيمَةُ الْمِثْلِ فِي تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَوْ فِي الصَّيْفِ، ثُمَّ إذَا اجْتَمَعَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَفَازَةِ أَوْ فِي الصَّيْفِ فَلَا تَرَادَّ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ بِمَحِلٍّ الْغَالِبُ لَا قِيمَةَ لَهُ أَصْلًا أَوْلَهُ قِيمَةٌ تَافِهَةٌ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ التَّصْوِيرُ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ كَانَتْ وَلَوْ يَسِيرَةً وَجَبَ الْمِثْلُ قَالَهُ ابْنُ النَّقِيبِ

ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو زُرْعَةَ بِأَنَّ الْأَصْلَ الْمِثْلُ وَهُوَ مُتَّجِهٌ، وَإِنْ نَازَعَ الشَّارِحُ أَيْ: الشَّمْسُ الْجَوْجَرِيُّ فِيهِ وَفِي اقْتِضَاءِ كَلَامِهِمْ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ النَّقِيبِ مَا لَا يَخْفَى رَدُّهُ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ إذْ قَوْلُهُ: إنَّمَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ رِفْقًا بِالْمَالِكِ، وَأَيُّ رِفْقٍ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ بِالْمَفَازَةِ أَلْفًا وَبِمَحِلِّ الْإِعْطَاءِ دَانِقًا، يُرَدُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ غَصَبَ بُرًّا مَثَلًا يُسَاوِي أَلْفًا فَرَدَّ مِثْلَهُ وَهُوَ يُسَاوِي دِرْهَمًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَمَا شَمِلَهُ قَوْلُهُمْ لَا أَثَرَ لِلرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ، وَقَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَاءَ لَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الشَّطِّ بِأَنَّ الْغَالِبَ ذَلِكَ حَيْثُ لَا صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي النَّهْرِ كَصَفَاءٍ وَبُرُودَةٍ وَلَوْ وَجَدَهُ لَا عَلَى الشَّطِّ وَنَحْوِهِ، بَلْ فِي مَفَازَةٍ أُخْرَى طَالَبَهُ بِقِيمَةِ مَحِلِّ التَّلَفِ إنْ كَانَ لِحَمْلِ الْمَاءِ مُؤْنَةٌ، وَإِلَّا فَلَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ انْتَهَتْ عِبَارَتُهُ فِي بَابِ الْغَصْبِ، وَبِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي إطْلَاقِ الرَّوْضَةِ مِنْ وُجُوبِ الْقِيمَةِ وَأَنَّ قَوْلَ الْإِسْنَوِيِّ وَأَنَّ مَا فِيهَا سَهْوٌ وَالصَّوَابُ إيجَابُ مِثْلِ الْمَاءِ لَا قِيمَتِهِ، فَإِنَّ الْمَاءَ مِثْلِيٌّ كَمَا سَبَقَ فِي الْغَصْبِ، وَلَمْ يُخَالِفُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فِي الْمَاءِ إلَّا إذَا غَصَبَهُ فِي مَفَازَةٍ ثُمَّ قَدِمَ الْبَلَدَ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ هُنَاكَ غَالِبًا اهـ. فِيهِ تَحَامُلٌ وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى مَا حُمِلَتْ عَلَيْهِ عِبَارَتُهَا لَكَانَ أَصْوَبَ، وَقَدْ جَرَى ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ عَلَى مَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْته

فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ دُولَابٌ عَلَى نَهْرٍ عَظِيمٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ يُدِيرُهُ الْمَاءُ بِنَفْسِهِ وَيَرْتَفِعُ الْمَاءُ إلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مُهَيَّأَةٍ لَهُ فَهَلْ يَدْخُلُ الْمَاءُ فِي مِلْكِهِ بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ فِي كِيزَانِ الدُّولَابِ كَمَا لَوْ اسْتَسْقَاهُ بِنَفْسِهِ فِي إنَاءٍ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ يَنْصَبُّ مِنْ الدُّولَابِ فِي سَاقِيَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمِلْكِ صَاحِبِ الدُّولَاب، فَجَاءَ جَارٌ لَهُ فَخَرَقَ السَّاقِيَةَ حَتَّى انْصَبَّ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ الْجَارِ وَسَقَى بِهِ أَرْضَهُ فَمَا الَّذِي يَلْزَمُهُ أَمِثْلُ الْمَاءِ أَمْ ثَمَنُ مِثْلِهِ أَمْ أُجْرَةُ مِثْلُ الدُّولَابِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي انْتَفَعَ فِيهَا الْغَاصِبُ بِالْمَاءِ وَأُجْرَةُ مَا يُجْرَى مَجْرَاهُ مِنْ السَّاقِيَةِ وَغَيْرِهَا أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ ثَمَنُ الْمَاءِ وَالْأُجْرَةُ جَمِيعًا؟

(فَأَجَابَ) : نَعَمْ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهِ فِي كِيزَانِ الدُّولَابِ، وَيَجِبُ عَلَى الْجَارِ الْغَاصِبِ مِثْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ مُحَصَّلًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ الْمَأْخُوذُ مُعَدَّ السُّقْيَةِ بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهِ جَازَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَ فِي الْبَادِيَةِ مَاءً أَخْذًا يُوجِبُ الضَّمَانَ حَيْثُ قُلْنَا يَضْمَنُهُ فِي الْحَضَرِ بِقِيمَتِهِ لَا بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ بِقَدْرِهِ فِي الْحَضَرِ لَيْسَ مِثْلًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَالْمَاءُ مِثْلِيٌّ اهـ.

وَوَقَعَ لِلْأَذْرَعِيِّ فِي تَوَسُّطِهِ أَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَفِيمَا أَطْلَقَهُ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْمَاءَ رِبَوِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِ مَا اُغْتُصِبَ مِنْ مَاءِ الْقَنَاةِ وَنَحْوِهَا وَسَقْيُ الْأَرْضِ بِهِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ أَصْلًا وَلَا سِيَّمَا إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ فَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِقْدَارِ؟ وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ وَلَا شَكَّ فِيهِ فِي مُعْظَمِ الْأَحْوَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِلْزَامِ بِمِثْلِ مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الرِّبَا وَحِينَئِذٍ فَيَغْرَمُ الْقِيمَةَ لِلضَّرُورَةِ تَخْمِينًا اهـ.

وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي ضِمْنِ عَقْدٍ دُونَ نَحْوِ فَسْخٍ

ص: 171

وَأَخْذُ الْبَدَلِ لَيْسَ عَقْدًا فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ: إنَّ ذَلِكَ يُوقِعُ فِي الرِّبَا ثَانِيهمَا كَوْنُهُ فَرَّقَ بَيْن اغْتِفَارِ الْجَهْلِ بِالْمِقْدَارِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقِيمَةِ دُونَ أَخْذِ الْمِثْلِ وَهُوَ يُشْبِهُ التَّحَكُّمَ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُحْتَاطُ لِإِلْزَامِ الْمِثْلِ كَذَلِكَ يُحْتَاطُ لِإِلْزَامِ الْقِيمَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ حِينَئِذٍ بِوُجُوبِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْمِينِ؟ عَلَى أَنَّهُ لَا تَخْمِينَ وَلَا تَعَذُّرَ فِي مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِقْدَارِ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا إذَا بَيَّنَ قَدْرَ مَا غُصِبَ مِنْهُ، ثُمَّ إنْ وَافَقَهُ الْغَاصِبُ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ أُلْزِمَ بِإِعْطَائِهِ مِثْلَهُ، وَإِنْ ادَّعَى قَدْرًا أَنْقَصَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ وَلَزِمَ دَفْعُ مِثْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ غَصَبَهُ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ الْحَاقَّةِ إلَيْهِ، وَيَكُونُ لَهُ قِيمَةٌ خَطِيرَةٌ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِحَاجَةِ الزَّرْعِ وَنَحْوِهِ إلَى السَّقْيِ، فَإِذَا رَامَ رَدَّ مِثْلِهِ فِي حَالَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ تَافِهَةً أَوْ لَا قِيمَةَ لَهُ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ فِي الشِّتَاءِ وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ فِي تَحْصِيلِهِ مِثْلَهُ فِي مَوْضِعِهِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ إضْرَارٌ بِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّ قَنَاتَهُ وَنَحْوَهَا مَلْآنَةٌ بِمَائِهِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْغَصْبِ مِنْ الدُّولَابِ لَا تَسَعُ لِغَيْرِهِ، فَلَوْ أَمَرَ بِرَدِّ ذَلِكَ إلَى مَوْضِعِهِ لَأَضَرَّ بِالْمَالِكِ وَالْمِلْكِ، فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ مِثْلِهِ هُنَاكَ لَوْ تَصَوَّرَ مَعْرِفَةَ مِقْدَارِهِ؟ وَإِذَا كَانَ كَمَا وَصَفْنَا فَلَيْسَ لِكَلَامِهِ مَأْخَذٌ صَحِيحٌ أَوْ مَأْخَذٌ اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْهُ نَظَرٌ أَيْضًا لِمَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ رَدُّ مِثْلِ الْمَاءِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ لَهَا وَقْعٌ دُونَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ أَوْ لَهُ قِيمَةٌ تَافِهَةٌ كَهِيَ عَلَى الشَّطِّ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا بِقَلِيلٍ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَلَفِهِ إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ كَمَا مَرَّ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ لَهُ قِيمَةٌ يَوْمَ التَّلَفِ وَالرَّدِّ فَلَا نَظَرَ إلَى تَفَاوُتِ الْقِيمَتَيْنِ، بَلْ يَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ فَقَوْلُهُ فَإِذَا رَامَ رَدَّ مِثْلِهِ فِي حَالَةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ إلَخْ لَا يَصْلُحُ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِرَدِّ الْقِيمَةِ لَا الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ جَمْدًا فِي الصَّيْفِ ثُمَّ رَامَ رَدَّ مِثْلِهِ فِي الشِّتَاءِ، وَقَوْلُهُ وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ إلَخْ يُرَدُّ بِأَنَّ مَحِلَّ رَدِّ الْمِثْلِ هُنَا حَيْثُ طَالَبَهُ بِهِ الْمَالِكُ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِلَّ بِرَدِّهِ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِيمَنْ غَصَبَ تُرَابًا وَأَتْلَفَهُ وَأَرَادَ رَدَّ مِثْلِهِ مِنْ أَنَّهُ حَيْثُ لَمْ يُطَالِبْهُ الْمَالِكُ بِرَدِّهِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا مَرَّ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي لَمْ يَغْلِ مِثْلِيٌّ إلَّا فِي الْحَالَةِ السَّابِقَةِ، وَمَا نَقَلَهُ السَّائِلُ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قِيمَتِهَا إلَخْ فَهُوَ لَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِنَا إلَّا إنْ فُرِضَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي الْأَرْضِ تَعْيِيبٌ بِأَخْذِ الْمَاءِ مِنْهَا فَيَجِبُ حِينَئِذٍ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَقَوْلُ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَمَا حَقِيقَةُ الْجَعْلِ إلَخْ جَوَابُهُ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَوَّلَ هَذَا الْجَوَابِ، وَتَفْسِيرُهُ الْجَعْلَ وَالسَّوْقَ بِمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْفُقَهَاءِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَيْضًا، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ الْوَاحِدَةُ بَعْضُهَا مُرْتَفِعٌ وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضٌ وَلَوْ سُقِيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ مَثَلًا أَفْرَدَ كُلَّ بَعْضٍ بِالسَّقْيِ مَثَلًا وَطَرِيقُهُ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضَ ثُمَّ يَسُدُّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعَ مَثَلًا فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ لِاثْنَيْنِ وَتَضَرَّرَ الَّذِي يَتَأَخَّرُ سَقْيُهُ فَهَلْ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ قِسْمَةُ الْمَاءِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ شَرِيكٌ عَلَى شَرِيك أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ يُفْرَدُ الْمُرْتَفِعُ بِحَاجِزٍ فَالْحَاجِزُ الَّذِي يَرُدُّ الْمَاءَ

هَلْ هُوَ عَلَيْهِمَا مَعًا أَوْ عَلَى أَيِّهِمَا؟ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ الْوَاحِدَةُ مُنْقَسِمَةً بَيْنَ جَمَاعَةٍ قِطَعًا مُتَفَرِّقَةً وَوَجَدْنَا عَلَيْهَا حَاجِزًا يَرُدُّ الْمَاءَ فَهَلْ الْمِلْكُ فِيهِ لِمَنْ يَلِي مِلْكَهُ مِنْهُمْ كَالْجِدَارِ الْمُتَّصِلِ بِمِلْكِهِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَشِيشٍ وَنَحْوِهِمَا أَمْ هُوَ لِلْجَمِيعِ بِانْتِفَاعِهِمْ بِرَدِّ الْمَاءِ إلَى أَمْلَاكِهِمْ وَحَبْسِهِ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْهَا فَيَكُونُ حَرِيمًا لِهَذِهِ الْأَرْضِ؟ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مُطَّرِدَةٌ فِي جِهَةِ السَّائِلِ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إذَا بِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّهُ يَحُطُّ هَذَا الْحَاجِزَ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ بِعِوَضٍ وَكَذَا يَحُطُّونَ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ الْمَبِيعَةِ بِسَبَبِ وُجُودِ شَجَرٍ فِيهَا لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ مَصَبِّ مَاءٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَضْعُفُ بِسَبَبِهِ الْإِنْبَاتُ هَكَذَا اطَّرَدَ الْعُرْفُ بِذَلِكَ فِي جِهَتِنَا.

فَهَلْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُتَّبَعَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ قَوْلَ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ إلَخْ أَخَذَهُ مِنْ الرَّوْضَةِ، وَعِبَارَتُهَا: وَلَوْ كَانَتْ أَرْض الْأَعْلَى

ص: 172

بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا وَلَوْ سُقِيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْحَدِّ الْمُسْتَحَقِّ أَفْرَدَ كُلَّ بَعْضٍ بِالسَّقْيِ بِمَا هُوَ طَرِيقُهُ قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعَ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ اهـ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَحِلُّهَا إنْ أَمْكَنَتْ وَإِلَّا حُبِسَ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ بِقَدْرِ مَا لَوْ اعْتَدَلَتْ لَبَلَغَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا فِي الْمَطْلَبِ وَعِبَارَتِهِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ وَاحِدٍ أَرْضٌ بَعْضُهَا مُسْتَغَلٌّ وَبَعْضُهَا عَالٍ إنْ حُبِسَ الْمَاءُ فِيهَا حَتَّى يَبْلُغَ الْعَالِي زَادَ عَلَى الْكَعْبَيْنِ فِي الْمُسْتَفَلِ، وَإِنْ حُبِسَ فِي الْمُسْتَفِلِ قَدْرُ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَبْلُغْ الْعَالِي فَلَا يُعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ وَلَكِنْ نَحْبِسُ فِيهَا مِنْ الْمَاءِ بِقَدْرِ مَا لَوْ اعْتَدَلَتْ لَبَلَغَ الْكَعْبَيْنِ قُلْت: وَهَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقَى الْمُسْتَفِلَةَ أَوَّلًا حَتَّى يَصِلَ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهَا وَيُرْسِلُهُ إلَى الْعَالِيَة، أَمَّا إذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ فِعْلُهُ اهـ. وَعِبَارَةُ جَمْعٍ مِنْ شُرَّاحِ الْمِنْهَاجِ وَكَأَنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ سَقَى الْعَالِيَةَ أَوَّلًا حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَيُرْسِلُهُ إلَى السَّافِلَةِ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ تَعَيُّنُهُ قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالْقَمُولِيُّ وَلَا تَخَالُفَ بَيْنَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ، بَلْ حَيْثُ أَمْكَنَ سَقَى الْمُسْتَفِلَةَ أَوَّلًا أَوْ الْعَالِيَةَ أَوَّلًا كَمَا ذُكِرَ تَعَيَّنَ، وَقَوْلُ السَّائِلِ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ لِاثْنَيْنِ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ أَرْضَيْهِمَا إنْ كَانَتَا تُسْقَيَانِ مِنْ مَاءٍ مُبَاحٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَلَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ أَرْضَاهُمَا مُتَحَاذِيَتَانِ أَوْ أَرَادَا شَقَّ النَّهْرِ مِنْ مَوْضِعَيْنِ مُتَحَاذِيَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَهَلْ يُقْرَعُ أَوْ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُقَدِّمُ الْإِمَامُ مَنْ يَرَاهُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا الْعَبَّادِيُّ قُلْت: أَصَحُّهَا يُقْرَعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَكَأَنَّ الصُّورَةَ فِيمَا إذَا أُحْيِيَا دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ جُهِلَ أَسْبَقُهُمَا اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْكَلَامُ عِنْدَ ضِيقِ الْمَاءِ وَإِلَّا سَقَى كُلٌّ مِنْهُمْ مَتَى شَاءَ، أَمَّا إذَا كَانَتْ أَرْضَاهُمَا تُسْقَى مِنْ مَاءٍ مَمْلُوكٍ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّمُ هُنَا الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ سَقْيُهُمَا مَعًا وَلَا بِنَصْبِ خَشَبَةٍ مُسْتَوِيَةِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي عُرْضِ النَّهْرِ وَيُفْتَحُ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِقِسْمَتِهِ بِالْمُهَايَأَةِ كَيَوْمٍ وَيَوْمٍ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَرَاضِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي إذْ قُسِمَ أَمْكَنَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَاءِ أُجِيبَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ حِينَئِذٍ وَأَجْبَرَ صَاحِبَهُ عَلَيْهَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ فِي بَابِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِسْمَتَهَا قِسْمَةُ إجْبَارٍ إذْ الْمُمْتَنِعُ مِنْهَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأَنْصِبَاءُ مُتَفَاوِتَةً إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهَا وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ إفْرَازٌ لَا بَيْعٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فَيَجُوزُ فِي الرِّبَوِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ مَثَلًا وَمِنْ ثَمَّ جَازَتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا بِالْمُهَايَأَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ بِقَوْلِهِمْ: وَإِنْ اقْتَسَمُوا الْمَاءَ بِالْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَاءُ قَلِيلًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا كَذَلِكَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ، وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ أَيْ: الْمَاءُ الْمَمْلُوكُ فَكَيْفَ يَنْقَدِحُ الْقَوْلُ بِالْقِسْمَةِ مُهَايَأَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ؟ وَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهَا إفْرَازُ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ تَأَمُّلٍ وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي كَلَامِهِمْ هُنَا فَتَأَمَّلْهُ اهـ. وَلَا يَحْتَاجُ لِذِكْرِهِمْ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَغْنَوْا بِذِكْرِهِمْ مَا يُصَرَّحُ بِحُكْمِهِ فِي الْقِسْمَةِ كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْته وَقَوْلُ السَّائِلِ: فَإِنْ قِيلَ يَنْفَرِدُ الْمُرْتَفِعُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْفَرِدَ الْمُرْتَفِعُ بِحَاجِزٍ كَمَا فِي الطَّرِيقِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمْ يُحْتَجْ إلَى حَاجِزٍ وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِحَاجِزٍ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُهُ عَلَيْهِمَا

لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْعَائِدَةَ مِنْهُ لَا تَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا، بَلْ هِيَ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى اسْتِيفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَقَّهُ وَلَا نَظَرَ إلَى إمْكَانِ سَقْيِ أَرْضِ أَحَدِهِمَا بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْمَاءِ مَنَعَ النَّظَرَ إلَى هَذَا الْإِمْكَانِ وَصَيَّرَ أَرْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يُمْكِنُ سَقْيُهَا مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْمُشْتَرَكِ إلَّا بِهَذَا الْحَاجِزِ فَاتَّضَحَ عَوْدُ مَنْفَعَتِهِ عَلَيْهِمَا، وَقَوْلُهُ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ إلَخْ جَوَابُهُ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ أَنَّ الْحَاجِزَ الْمَذْكُورَ وَمَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِجَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَرَاضِي الَّتِي تَنْتَفِعُ بِهِ بِرَدِّ الْمَاءِ عَنْهَا فَقَدْ قَالُوا وَتَبِعَهُمْ الشَّيْخَانِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ جُعِلَ عَلَى قَدْرِ الْأَرَضِينَ عَلَى الْأَصَحِّ

ص: 173

لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ وَكُلَّ أَرْضٍ وُجِدَ فِي يَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى الْأَرْضُ إلَّا مِنْهُ وَلَمْ يُدْرَ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْخَرَقَ حُكِمَ لَهُمْ بِمِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ يَدٍ وَانْتِفَاعٍ فَلَا يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَالْمُرَادُ بِالنَّهْرِ فِي الْأُولَى وَمِثْلُهُ الثَّانِيَةُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ إلَّا أَنَّهُمْ يَسْقُونَ أَرَضِيهِمْ مِنْهُ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَبِكَلَامِهِ يُعْلَمُ رَدُّ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْبَعَهُ فِي أَرَاضِيهِمْ الْمَمْلُوكَةِ لَهُمْ فَيَمْلِكُونَهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْبَعُهُ بِمَوَاتٍ أَوْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَهْرٍ عَامٍّ كَدِجْلَةَ وَنَحْوِهَا فَلَا، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ اهـ.

وَأَمَّا تَنْظِيرُ السُّبْكِيّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَفْرِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَنْهَارِ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، وَالْمُحَقَّقُ مِنْ الْيَدِ فِيهِ الِانْتِفَاعُ وَالسَّقْيُ مِنْهُ وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْيَدِ عَلَى الْمِلْكِ؛ إذْ الْيَدُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا الِاسْتِيلَاءُ وَمَنْعُ الْغَيْرِ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْمِلْكِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُمْ، نَعَمْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي قَنَاةٍ أَوْ سَاقِيَةٍ يَظْهَرُ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَحْمُوهَا وَيَسُدُّوهَا فَيَرُدُّهُ أَنَّا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرَهُ وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، وَكَوْنُ الْمُحَقَّقِ مِنْ الْيَد فِيهِ الِانْتِفَاعُ لَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِالْمِلْكِ أَيْضًا عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وَكَوْنُ ذَلِكَ لَا يَكْفِي لِدَلَالَةِ الْيَدِ عَلَى الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ وَدَعْوَى أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ إلَّا إنْ كَانَ مَعَهَا اسْتِيلَاءٌ وَمَنَعَ الْغَيْرَ إنْ أَرَادَ مَنْعَهُ بِالْفِعْلِ فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا أَوْ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ لَازِمُ الِاسْتِيلَاءِ وَبَقِيَّةُ نَظَرِهِ عُلِمَ رَدُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فَالصَّحِيحُ مَا قَالُوهُ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ، وَحِينَئِذٍ فَكَمَا أَنَّ السَّقْيَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَسْقُونَ مِنْهُ كَمَا تَقَرَّرَ عَنْ الْمُتَوَلِّي رَدُّ الْحَاجِزِ هُنَا عَنْ أَرَضِينَ يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا لَهُ

وَلَا نَظَرَ هُنَا لِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِ أَحَدِهِمَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ السَّائِلُ بِأَنَّ الْجِدَارَ لَيْسَ عَلَى مِلْكِهِ لِأَحَدِهِمَا بِخُصُوصِهِ قَرِينَةٌ إلَّا اتِّصَالَهُ بِمِلْكِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ، فَحَيْثُ وُجِدَ هَذَا الِاتِّصَالُ حَكَمْنَا بِمِلْكِهِ لِمَنْ اتَّصَلَ كَذَلِكَ بِمِلْكِهِ وَإِلَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَالْحَاجِزُ هُنَا عَلَى مِلْكِهِ لِأَرْبَابِ الْأَرَاضِي جَمِيعِهِمْ قَرِينَةٌ وَهِيَ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ فَعَمِلْنَا بِهَا، وَلَمْ نَنْظُرْ إلَى اتِّصَالِهِ بِأَحَدِهِمَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَالِاتِّصَال الْمَذْكُورُ فِيهِ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ فَلِهَذَا حَكَمْنَا بِقَضِيَّتِهِ وَمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِلْجَمِيعِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَقَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ لَا يَمْلِكُهُ مَالِكُهَا ضَعِيفٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ مَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فِي مُرْصَدَةٍ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ لَا يَمْلِكُهُ مَالِكُهَا بِخِلَافِ الْمُرْصَدَةِ لِلْكَلَإِ فَتَفْصِيلُهُ ضَعِيفٌ، بَلْ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ: إنَّهُ غَرِيبٌ وَقَوْلُ السَّائِلِ فَهَلْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُتَّبَعَةٌ مَعْمُولٌ بِهَا أَمْ لَا؟ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي حَطِّ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إذَا وَقَعَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ مَلَكَهُ الْبَائِعُ وَاشْتُغِلَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُشْتَرِي، وَقَضِيَّةُ الْعَادَةِ لِضَعْفِهَا لَا تَقْوَى عَلَى إزَالَةِ شَيْءٍ مِمَّا اشْتَغَلَتْ بِهِ الذِّمَّةُ يَقِينًا، بَلْ لَا طَرِيقَ هُنَا إلَّا الْإِعْطَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ، وَأَمَّا إطْرَادُهَا بِأَنَّهُ إذَا بِيعَ كُلُّ ذِرَاعٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا قُلْنَا إنَّ الْحَاجِزَ الْمَذْكُورَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْأَرَاضِي كَانَ بِمَنْزِلَةِ حَرِيمِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْحَرِيمَ هُوَ مَا يَتِمُّ بِهِ الِانْتِفَاعُ وَبَيْعُ الدَّارِ دُونَ حَرِيمِهَا لَا يَصِحُّ بِشَرْطِهِ الْمُقَرَّرِ فِي مَحِلِّهِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ دُخُولَهُ أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فَكَذَا يُقَالُ فِي هَذَا الْحَاجِزِ إنْ شَرَطَ عَدَمَ دُخُولِهِ بَطَلَ الْبَيْعُ، وَالْأَصَحُّ وَدَخَلَ حِصَّةَ الْمَبِيعِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدُخُولِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ شَخْصَيْنِ لِوَاحِدٍ أَعْلَاهَا وَلِلْآخَرِ أَسْفَلُهَا فَأَخْرَبَ السَّيْلُ أَعْلَاهَا وَأَصْلَحَهُ مَالِكُهَا مَثَلًا لَكِنْ بَقِيَ مُنْخَفِضًا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَلَا يَجْرِي إلَى الْأَسْفَلِ إلَّا بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ مَثَلًا وَطَلَبَ الْأَسْفَلُ حَقَّهُ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ وَهَلْ الْإِصْلَاحُ عَلَى مَنْ أَخْرَبَ السَّيْلُ مِلْكَهُ مِنْهُمَا وَاجِبٌ لِيَصِلَ صَاحِبُهُ إلَى سَقْيِ مِلْكِهِ؟ سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا الْعِمَارَةَ أَمْ لَا أَوْ الْحُكْمُ غَيْرُ ذَلِكَ؟ وَمَا هُوَ ذَلِكَ؟ فَلَوْ انْخَفَضَتْ أَرْضُ الْأَسْفَلِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَاءُ فِي أَرْضِ الْأَعْلَى إلَّا بَعْدَ الزِّيَادَةِ فِي السُّفْلَى عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ أَوْ انْخَفَضَ الْحَاجِزُ الَّذِي يَرُدُّ الْمَاءَ وَلَمْ يَرُدَّ لِصَاحِبِهِ إلَى شَرِيكِهِ مَا يَكْفِيه مِنْ الْمَاءِ وَأَوْجَبْنَا الْعِمَارَةَ، لَكِنْ تَعَسَّرَ أَوْ تَعَذَّرَ

ص: 174

رَدُّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ هَلْ يَغْرَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ مَنْفَعَةَ أَرْضِ صَاحِبِهِ مُدَّةَ التَّعْطِيلِ إلَى أَنْ يُكْمِلَ الْإِصْلَاحَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَمَا فِي هَدْمِ السَّقْفِ الْمُسْتَحَقِّ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ بِجَامِعِ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَيْهِمَا أَوْ لَا إذْ لَا تَعَدِّي مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ وَهَلْ رَدَّ الْحَاجِزَ مَنْ أَخْرَبَ السَّيْلُ مِلْكَهُ الْمُجَاوِرَ لِلْعَاجِزِ أَوْ عَلَيْهِمَا أَوْ عِمَارَةُ الْحَاجِزِ تَابِعَةٌ لِمِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ فِيهِ لَهُمَا فَالْعِمَارَةُ عَلَيْهِمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ؟ أَوْضِحُوا لَنَا الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ.

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ صَاحِبَ الْأَعْلَى الَّذِي أَخْرَبَهُ السَّيْلُ إذَا أَرَادَ إصْلَاحَهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ فَإِذَا أَصْلَحَهُ وَبَقِيَ مُنْخَفِضًا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَخْذِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ كَأَنْ يَطِمَّهُ حَتَّى يَرْتَفِعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَإِنْ تَعَذَّرَ وَقَفَ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصْلَاحُ مِلْكِهِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ سَقْيُ مِلْكِ الْأَسْفَلِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ لَا يُجْبَرُ شَرِيكٌ عَلَى إعَادَةِ الْجِدَارِ أَوْ الْبَيْتِ الْمُشْتَرَكِ إذَا انْهَدَمَ وَلَوْ بِفِعْلِهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ، نَعَمْ يُجْبَرُ فِي الْأَرْضِ عَلَى إجَارَتِهَا وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ قَالَ الشَّيْخَانِ وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ وَاِتِّخَاذِ سُتْرَةٍ بَيْنَ سَطْحَيْهِمَا قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: وَلَا يُجْبَرُ أَيْضًا عَلَى سَقْيِ النَّبَاتِ مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُ الْحَوْزِيِّ يُجْبَرُ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ضَعِيفٌ وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِنَظِيرِ مَسْأَلَتِنَا وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُلُوُّ الدَّارِ لِوَاحِدٍ وَسُفْلُهَا لِآخَرَ وَانْهَدَمَتْ فَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ إجْبَارُ الثَّانِي عَلَى إعَادَةِ السُّفْلِ وَلَا لِلثَّانِي إجْبَارُ الْأَوَّلِ عَلَى مُعَاوَنَتِهِ فِي إعَادَتِهِ انْتَهَى، فَإِنْ قُلْتَ صَرَّحُوا هُنَاكَ أَيْضًا بِأَنَّ لِلشَّرِيكِ إعَادَةَ الْمُشْتَرَكِ بِآلَةِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ بِخِلَافِهِ بِآلَةِ شَرِيكِهِ أَوْ بِالْآلَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَبِأَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ بِنَاءَ الْأَسْفَلِ بِمَا لَهُ، وَقِيَاسُهُ هُنَا أَنَّ لِلْأَسْفَلِ إصْلَاحُ الْعُلْيَا إذَا تَوَقَّفَ وُصُولُهُ لِحَقِّهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ قُلْت: يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قِيَاسُ الصُّورَةِ الْأُولَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُومِئُ إلَيْهِ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ فَإِنْ قِيلَ: أَسَاسُ الْجِدَارِ بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ لَهُ بِنَاءَهُ بِآلَتِهِ وَأَنْ يَنْفَرِدَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ قُلْنَا: لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ الْإِعَادَةُ اهـ.

وَكَذَا يُقَالُ فِي مَسْأَلَتِنَا لَهُ حَقُّ الْإِجْرَاءِ فِي الْعُلْيَا فَإِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا مِنْ إصْلَاحِهَا كَانَ لِلْأَسْفَلِ إصْلَاحُهَا حَتَّى يَصِلَ إلَى حَقِّهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَمَسْأَلَةِ الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بِأَنَّ الشَّرِيكَ مَالِكٌ لِلْبَعْضِ وَلَهُ حَقُّ الْحَمْلِ عَلَى الْمُنْهَدِمِ فَسَاغَتْ لَهُ الْإِعَادَةُ بِخِلَافِ الْأَسْفَلِ هُنَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَعْنِي قَوْلَهُمْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ بِنَاءُ الْأَسْفَلِ بِمَا لَهُ فَقِيَاسُهَا أَنَّ لِلْأَسْفَلِ هُنَا الْإِصْلَاحَ أَيْضًا بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ صَاحِبِ الْعُلُوِّ هُنَا وَالسُّفْلِ ثَمَّ لَيْسَ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِمَّا بَنَى فِيهِ فَكَمَا سَامَحُوا لِلْأَعْلَى فِي ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ مِلْكِهِ لِلْعَرْصَةِ الْمَبْنِيِّ فِيهَا وَلَا لِشَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى يَصِلَ لِحَقِّهِ وَهُوَ الْحَمْلُ عَلَى مَا بَنَاهُ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يُسَامَحَ هُنَا لِذِي السُّفْلَى فِي إصْلَاحِ الْعُلْيَا حَتَّى يَجْرِيَ مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ، وَإِذَا انْخَفَضَتْ السُّفْلَى وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْمَاءُ فِي الْعُلْيَا إلَّا بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَلْزَمْ مَالِكُ السُّفْلَى ذَلِكَ نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، نَعَمْ إنْ أَرَادَ إصْلَاحَهَا أَلْزَمَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْأَمْرُ يَصْطَلِحَا.

وَقِيَاسُ مَا مَرَّ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْيَا إصْلَاحَ السُّفْلَى الْمُتَوَقِّفُ عَلَيْهِ سَقْيُ أَرْضِهِ لِيَصِل إلَى حَقِّهِ، وَإِذَا انْخَفَضَ الْحَاجِزُ الَّذِي يَرُدُّ الْمَاءَ فَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِأَرْضِ أَحَدِهِمَا فَإِصْلَاحُهُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَرْضَيْهِمَا فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إصْلَاحِهِ فَذَاكَ وَإِلَّا لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَدَمَهُ أَحَدُهُمَا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُوبُ إعَادَتِهِ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشْبِيهِ السَّائِلِ لَهُ بِالسَّقْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ، نَعَمْ إنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْأَسْفَلِ الْإِجْرَاءَ فِي مِلْكِ الْأَعْلَى بِعَقْدِ بَيْعٍ وَأَخْرَبَ الْأَعْلَى مَحِلَّ الْإِجْرَاءِ غَرِمَ لِلْأَسْفَلِ قِيمَةَ حَقِّ الْإِجْرَاءِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ بِمَا فَعَلَهُ حَتَّى إذَا أُعِيدَ مَحِلُّ الْإِجْرَاءِ أُعِيدَ الْإِجْرَاءُ وَرَدَّ الْقِيمَةَ لِزَوَالِ الْحَيْلُولَةِ، وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ غُرْمِ الْقِيمَةِ مَبْنِيٌّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا عَلَى أَنَّ مَنْ هَدَمَ جِدَارَ الْغَيْرِ يَلْزَمُهُ أَرْشُ النَّقْصِ لَا إعَادَةُ الْجِدَارِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَادِمُ هُوَ الْمَالِكَ أَوْ غَيْرَهُ خِلَافًا لِمَا صَوَّبَهُ

ص: 175

الْإِسْنَوِيُّ كَالسُّبْكِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَيْسَ مِثْلِيًّا كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ، نَعَمْ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا هَدَمَ جِدَارَ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَحَقَّ غَيْرُهُ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ إعَادَتُهُ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِثْلِيًّا، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَوَّتَ بِالْهَدْمِ عَلَى الْمُشْتَرِي الْمَنْفَعَةَ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ فَلَزِمَهُ تَحْصِيلُهَا بِإِعَادَةِ مَحِلِّهَا اُتُّجِهَ مَا قَالَاهُ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَجِبُ هُنَا عَلَى الْأَعْلَى الَّذِي أَخْرَبَ مَحِلَّ الْإِجْرَاءِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ الْأَسْفَلُ بِعَقْدِ الْبَيْعِ أَنْ يُعِيدَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي اسْتَحَقَّهَا عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ فَلَزِمَهُ تَحْصِيلُهَا بِإِعَادَةِ مَحِلِّهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ هَادِمَ الْجِدَارِ لَا يَغْرَمُ أُجْرَةَ الْبِنَاءِ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ قَالَ الْإِمَامُ: لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى التَّأْبِيدِ وَمَا يَتَقَدَّرُ لَا يَنْحَطُّ مِمَّا لَا يَتَنَاهَى.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ فِيمَا إذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ وَالْمُتَّجَهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ لِلْحَيْلُولَةِ إنَّمَا مَحِلُّهُ عِنْدَ قِيَامِ الْعَيْنِ اهـ. وَبِهِ يُعْلَمُ عَدَمُ صِحَّةِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِ السَّائِلِ هَلْ يَغْرَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ مَنْفَعَةَ عَيْنِ صَاحِبِهِ مُدَّةَ التَّعْطِيلِ إلَى أَنْ يُكْمِلَ الْإِصْلَاحَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَمَا فِي هَدْمِ السَّقْفِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ اهـ؟ وَوَجْهُ رَدِّهِ مَا تَقَرَّرَ فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ أُجْرَتَهُ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ فَلَوْ قَالَ السَّائِلُ: هَلْ يَغْرَمُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ قِيمَةَ حَقِّ الْإِجْرَاءِ الَّذِي أَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْتَحِقِّهِ كَمَا فِي هَدْمِ السَّقْفِ إلَخْ لَصَحَّ التَّشْبِيهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّمْته وَبِمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا عُلِمَ الْجَوَّابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَهَلْ رَدُّ الْحَاجِزِ إلَخْ؟ (فَائِدَةٌ) إذَا انْهَارَ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ أَوْ الْقَنَاةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَانْقَطَعَ ثُمَّ تَوَلَّى أَحَدُ الْمُسْتَحِقِّينَ إصْلَاحَهَا أَوْ عِمَارَتَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الْبَاقِينَ عَنْ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُعُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالِكَ مِنْ الِارْتِفَاقِ بِمِلْكِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَمَّا لَوْ كَانَتْ أَرْضٌ لِاثْنَيْنِ لِأَحَدِهِمَا أَعْلَاهَا أَيْ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَلِي مَصَبَّ الْمَاءِ وَلِلْآخَرِ أَسْفَلُهَا وَالْمَاءُ يَجِيءُ فِيهِ التُّرَابُ فَأَرَادَ الْأَسْفَلُ أَنْ يَجْعَلَ فِي مِلْكِهِ حَاجِزًا لِمَنْعِ التُّرَابِ الْآتِي فِي الْمَاءِ وَيَتْرُكُ فِي الْحَاجِزِ فُتَحًا يَجْرِي مِنْهَا الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ وَيُتْرَكُ الضَّرَرُ مِنْ التُّرَابِ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي أَرْضُهُ مُجَاوِرَةٌ لِمَصَبِّ الْمَاءِ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ أَوْ لَا لِإِضْرَارِهِ بِمِلْكِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الشَّخْصَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ الْمُلَّاكَ لَا الْأَمْلَاكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ تُرَابٌ يُخْشَى الضَّرَرُ بِسَبَبِهِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَلَوْ انْعَكَسَ الْحُكْمُ بِأَنْ أَرَادَ صَاحِبُ مَصَبِّ الْمَاءِ وَهُوَ الْأَعْلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي أَرْضِهِ حَاجِزًا أَوْ يَتْرُكَ لِلْأَسْفَلِ فَتْحًا يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَى الْأَسْفَلِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَلَوْ كَانَتْ أَرْضُ الْأَسْفَلِ يُخْشَى خَرَابُهَا فَخَافَ الْأَعْلَى أَنْ يَخْرُجَ الْمَاءُ عَنْ جَمِيعِ أَرْضَيْهِمَا فَأَرَادَ الْأَعْلَى أَنْ يَجْعَلَ الْحَاجِزَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ فُقَهَاءِ تِلْكَ الْجِهَةِ بِالْمَنْعِ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَسْفَلَ يَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ مِنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ الْعُلْيَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِالْبَعْضِ فَهَلْ مَا قَالَهُ مُقَرَّرٌ أَمْ لَا؟ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ اُعْتِيدَ نَصْبُ مِثْلِ الْحَاجِزِ الْمَذْكُورِ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَضَرَّ أَرْضَ جَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَضَرَّ أَرْضَ جَارِهِ مُنِعَ مِنْهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُمْ فِي بَابِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ مَتَى تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ جَازَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهِ جَارُهُ؟ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَفْضَى إلَى تَلَفٍ كَمَا لَوْ اتَّخَذَ بِئْرًا عَلَى الِاقْتِصَادِ الْمُعْتَادِ فِي دَارِهِ أَوْ حَفَرَ فِيهَا بَالُوعَةً كَذَلِكَ فَاخْتَلَّ بِأَحَدِهِمَا حَائِطُ جَارِهِ أَوْ نَقَصَ بِهِ مَاءُ بِئْرِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَسِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَاوَزَ الْعَادَةَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمِلْكِ دُونَ الْمَالِكِ اهـ. وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْيَا أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا حَاجِزًا أَوْ يَتْرُكَ مَنَافِذَ يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى الْأَسْفَلِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ السُّفْلَى؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ السَّقْيَ بِطَرِيقٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ لَهُ بَدَلَهَا إلَّا بِرِضَاهُ وَلَا نَظَرَ أَيْ: أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِذَ تَكْفِي أَرْضَهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَقِلُّ فَيَرُدُّهُ الْحَاجِزُ عَنْ السُّفْلَى فَلَا يَصِلُ لَهَا مِنْ الْمَنَافِذِ مَا يَكْفِيهَا أَوْ مَا يُسَاوِي مَا كَانَ يَصِلُ لَهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَلِكَ الْحَاجِزُ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ قَوْلُ التَّتِمَّةِ لَوْ اسْتَحَقَّ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي نَهْرٍ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ فَأَرَادَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَفِي وَجْهٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ تَحَوُّلُهُ إلَى بُقْعَةٍ هِيَ أَقْرَبُ إلَى أَرْضِهِ مِنْ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِيهِ عَنْ قَضَاءِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ اهـ.

فَانْظُرْ إلَى

ص: 176

كَوْنِهِ مَنَعَ تَحْوِيلَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ إلَى أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ مِنْ الْأَوَّلِ فَامْتِنَاعُ مَا فِي مَسْأَلَتِنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا يُرِيدُ يَفْعَلهُ مِنْ فَتْحِ الْمَنَافِذِ أَدْوَنَ مِنْ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ يَسْتَحِقُّهُ الْأَسْفَلُ وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا نُقِلَ فِي السُّؤَالِ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّهُ أُفْتِيَ بِالْمَنْعِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي السُّؤَالِ صَحِيحٌ مُقَرَّرٌ مُؤَيِّدٌ بِتَصْرِيحِ صَاحِبِ التَّتِمَّةِ بِمَا يُوَافِقُهُ وَلَا نَظَرَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا لِعَدَمِهَا كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُ التَّتِمَّةِ أَيْضًا لَوْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ نَهْرٌ مُمْتَدٌّ فِي الْأَرْضِ إلَى طَرَفِ مِلْكِ جَارِهِ، وَلَيْسَ لِجَارِهِ نَهْرٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى مِلْكِهِ فَأَرَادَ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي نَهْرِ جَارِهِ، وَاحْتَاجَ صَاحِبُ الْأَرْضِ إلَى سَقْيِ أَرْضِهِ وَسَوْقِ الْمَاءِ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَمْكِينُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكُهُ مُحْتَاجًا إلَى سَوْقِ الْمَاءِ فِيهِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ تَمْكِينُ الْغَيْرِ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا اهـ. مُلَخَّصًا فَإِنْ قُلْت هَذَا الْحَاجِزُ لِمَصْلَحَتِهِمَا فَلِمَ لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ بِوَجْهٍ؟

قُلْت غَايَتُهُ أَنَّ فِيهِ إصْلَاحًا لِلْمِلْكِ أَوْ عِمَارَةً لَهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنْ لَا إجْبَارَ عَلَى ذَلِكَ مُطْلَقًا، فَإِنْ قُلْت سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا يُجْبَرُ، لَكِنْ لِمَ جَازَ لِلْأَسْفَلِ الْمَنْعُ مِنْهُ كَمَا قَرَّرْته مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِصْلَاحِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ عَلَى الْأَسْفَلِ، بَلْ فِيهِ عَوْدُ مَصْلَحَةٍ عَلَى مِلْكِ الْأَسْفَلِ قُلْت: لَا ضَرُورَةَ إلَى كَوْنِ الْحَاجِزِ يُفْعَلُ فِي أَرْضِ الْأَعْلَى وَيُفْتَحُ مِنْهَا مَنَافِذُ يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ لِأَرْضِ الْأَسْفَلِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُجْعَلَ الْحَاجِزُ فِي آخِرِ أَرْضِ الْأَسْفَلِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَالشَّخْصُ لَا يُجْبَرُ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ حَقِّهِ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةُ تَعُودُ عَلَيْهِ نَعَمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحَاجِزُ يَسِيرًا تُمْكِنُ إزَالَتُهُ فِي الْحَالِ وَاضْطُرَّ إلَى وَضْعِهِ وَأَرَادَ وَضْعَهُ زَمَنًا قَلِيلًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ثُمَّ رَفَعَهُ وَلَمْ يَحْصُلْ لِلْأَسْفَلِ مِنْهُ ضَرَرٌ بِوَجْهٍ بِأَنْ يُحَوِّلَ الْمَاءَ الْجَارِي إلَى أَرْضِهِ إلَى مَحِلِّهِ كَأَنْ وَضَعَ الْحَاجِزَ الْمَذْكُورَ فِي مَجْرَاهُ وَفَتَحَ فِيهِ مَنَافِذَ تَكْفِي أَرْضَ الْأَسْفَلِ احْتَمَلَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَخْذًا بِإِطْلَاقِ التَّتِمَّةِ السَّابِقِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَوْ وَجَدْنَا فِي أَرْضٍ حَوَاجِزَ وَالْمَاءُ يَخْرُجُ بَيْنَ الْحَوَاجِزِ إلَى أَسْفَلَ هَذِهِ الْأَرْضِ وَأَعْلَاهَا لِجَمَاعَةٍ وَأَسْفَلُهَا لِآخَرِينَ مَثَلًا فَادَّعَى بَعْضُ الْأَسْفَلِينَ حُدُوثَ الْحَوَاجِزِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَطَلَبَ إزَالَتَهَا وَسُقِيَ نَصِيبُهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ الْعُلْيَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِفَتْحٍ مَثَلًا وَثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاعْتَرَفَ بَعْضُ شُرَكَائِهِ بِكَوْنِ الْحَوَاجِزِ مَوْضُوعَةً بِحَقٍّ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟ وَلَوْ ادَّعَى ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَسْفَلِينَ، لَكِنْ حَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضٌ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ.

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ دَعْوَى بَعْضِ الْأَسْفَلِينَ حُدُوثَ الْحَوَاجِزِ بِغَيْرِ حَقٍّ مَسْمُوعَةٌ، لَكِنْ يَلْزَمُ مَنْ أَنْكَرَ إحْدَاثُهَا وَمَنْ ادَّعَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ بِحَقِّ الْحَلِفِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ مَنْ لَزِمَهُ يَمِينٌ كَذَلِكَ عَنْهَا حَلَفَ الْمُدَّعِي عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، ثُمَّ يُزَالُ حِينَئِذٍ مَا يَخُصُّ النَّاكِلَ مِنْهَا فَإِنْ نَكَلَ الْأَعْلَوْنَ جَمِيعُهُمْ حَلَفَ الْأَسْفَلُونَ وَأُزِيلَتْ كُلُّهَا، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ مَنْ ادَّعَى إحْدَاثَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا صُدِّقَ مَنْ ادَّعَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ بِحَقٍّ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَضْعُهَا بِحَقٍّ كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا لَوْ وَجَدْنَا جِذْعًا لِإِنْسَانٍ مَوْضُوعًا عَلَى جِدَارٍ لِآخَرَ وَلَمْ نَعْلَمْ كَيْفَ وُضِعَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ فَلَا يُنْقَضُ وَيُقْضَى لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ دَائِمًا فَلَوْ سَقَطَ الْجِدَارُ وَأُعِيدَ فَلَهُ إعَادَةُ الْجِذْعِ وَلِمَالِك الْجِدَارِ نَقْضُهُ إنْ كَانَ مُتَهَدِّمًا وَإِلَّا فَلَا اهـ. فَإِنْ قُلْت: يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَفْتَى بِهِ الْبَغَوِيّ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجْرِي مَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَادْعِي الْمَالِكُ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً قُبِلَ قَوْلُهُ، قُلْت: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَصُورَةِ السُّؤَالِ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِي الْحَوَاجِزِ لِجَمِيعِهِمْ وَالْيَدُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ؛ فَلِذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدِّي بِخِلَافِ مَنْ يَدَّعِي مِلْكَ الْمَجْرَى فِي صُورَةِ الْبَغَوِيِّ، فَإِنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ لَهُ بَلْ لِمَالِك الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الْمَجْرَى، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ مِلْكَ الْآخَرِ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُجْرِيه فِيهِ عَارِيَّةً قُبِلَ قَوْلُهُ لِقُوَّتِهِ بِكَوْنِ الْيَدِ عَلَيْهِ لَهُ

وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ تَعَدِّيَ صَاحِبِ الْمَاءِ فَلَا جَامِعَ بَيْنَ مَسْأَلَتِهِ وَصُورَةِ السُّؤَالِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ صُورَةِ الْبَغَوِيِّ وَصُورَةِ الشَّيْخَيْنِ فِيمَا إذَا ادَّعَى صَاحِبُ الْجِدَارِ وَضْعَ الْجِذْعِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ

ص: 177

وَادَّعَى صَاحِبُ الْجِذْعِ وَضْعَهُ بِحَقٍّ فَيُحْكَمُ لِصَاحِبِ الْجِذْعِ بِالظَّاهِرِ مِنْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بِحَقٍّ وَتُفْرَضُ مَسْأَلَةُ الْبَغَوِيِّ فِيمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي بِحَقٍّ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكُ: عَارِيَّةٌ، وَقَالَ مَالِكُ الْمَاءِ: إجَارَةٌ أَوْ بَيْعٌ فَيُصَدَّقُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ أَدْنَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَهِيَ مُحَقَّقَةٌ وَمَا عَدَاهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلِذَا صُدِّقَ الْمَالِكُ، وَهَذَا أَقْرَبُ عِنْدِي وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَوْ اتَّفَقَا فِي مَسْأَلَةِ الْجِدَارِ عَلَى وَضْعِ الْجِذْعِ بِحَقٍّ، وَقَالَ الْمَالِكُ: عَارِيَّةٌ، وَقَالَ مَالِكُ الْجِذْعِ: إجَارَةً أَوْ بَيْعًا صُدِّقَ الْمَالِكُ وَإِنَّ مَالِكَ الْأَرْضِ فِي مَسْأَلَةِ الْبَغَوِيِّ: لَوْ قَالَ: هَذَا الْمَاءُ يَجْرِي بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَالَ مَالِكُهُ: بَلْ يَجْرِي بِحَقٍّ وَلَمْ يُعْلَمْ كَيْفَ وُضِعَ قُضِيَ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ دَائِمًا، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَعَلَّهُ مُرَادُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَغَوِيِّ، فَإِنَّ كَلَامَهُ نَقَلَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ وَأَقَرُّوهُ مَعَ ذِكْرِهِمْ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ السَّابِقَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ وَلَمْ يَعْتَرِضُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ الْكَلَامَيْنِ مُعْتَمَدٌ

وَقَدْ عَلِمْتُ مَا فِيهِمَا وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِهَذَا الْحَمْلِ الَّذِي ذَكَرْته وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى وَلِيُّ التَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ثُمَّ رَأَيْت عِبَارَةَ الْبَغَوِيِّ فِي فَتَاوِيه تُومِئُ لِمَا ذَكَرْته فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهَا رَجُلٌ يُجْرِي مَاءَ بَحْرٍ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْمِلْكِ: لَا حَقَّ لَك فِيهِ إنَّمَا هُوَ عَارِيَّةٌ وَادَّعَاهُ مَنْ كَانَ يُجْرِي الْمَاءَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمِلْكِ مَعَ يَمِينِهِ اهـ. فَأَفْهَمَ قَوْلُهُ لَا حَقَّ لَك فِيهِ إنَّمَا هُوَ عَارِيَّةٌ أَنَّ الْمُرَادَ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَقَوْلُهُ وَادَّعَاهُ مَنْ كَانَ يُجْرِي أَنَّهُ إنَّمَا ادَّعَى مِلْكِيَّتَهُ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا قَدَّمْته فِي تَصْوِيرِ كَلَامِهِ قَبْلَ أَنْ أَرَى عِبَارَتَهُ هَذِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي الْأَرَاضِي الَّتِي تَشْرَبُ عَلَى التَّعَاقُبِ وَلَمْ يَحْبِسْ الْأَوَّلُ الْمَاءَ فِي أَرْضِهِ وَجْهَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ فِي وَقْتِ السَّقْيِ إلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَعَلَيْهِ فَهَلْ لِلْعَادَةِ مِقْدَارٌ مُقَدَّرٌ يُعْرَفُ بِهِ مَا تَحْتَاجُهُ الْأَرْضُ الْعُلْيَا مِنْ الْمَاءِ أَيْ: السَّيْلُ الْأَوَّلُ ثُمَّ مَا يَلِيه إذَا اتَّبَعَتْ السُّيُولُ فَإِنَّ عَادَةَ أَهْلِ الْبِحَارِ الْأَسَفُ عَلَى الْمَاءِ خُصُوصًا فِي جِهَتِنَا مَا يُخْرِجُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ إلَّا وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى حِفْظِهِ.

وَهَلْ يُقَالُ: إنَّ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ مَا يُرَدُّ بِهِ الشَّجَرُ وَالثَّمَرُ وَالزَّرْعُ وَنَحْوُهَا أَمْ هُوَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمَا هُوَ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ مَعْنَى تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلُ الْمَذْكُورُ فِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْبِسُ الْمَاءَ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ بِهِ هُوَ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لِلْحَدِيثِ وَتَبِعَهُمْ الْحَاوِي الصَّغِيرُ كَالْمُحَرَّرِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ نَقَلَ الشَّيْخَانِ بَعْدُ عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْأَوْلَى التَّقْدِيرُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُقَدِّمُ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ السُّبْكِيّ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي، وَمَا فِي الْحَدِيثِ وَاقِعَةُ حَالٍ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْأَوْلَى وَإِلَّا ضُبِطَ التَّقْدِيرُ بِالْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَبِاخْتِلَافِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ وَعَلَيْهِ فَهَلْ لِلْعَادَةِ إلَخْ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَادَةِ الْحَاجَةُ كَمَا تَقَرَّرَ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ إلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ فَبَيَّنَ بِعَطْفِ الْحَاجَةِ عَلَى الْعَادَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَاجَةَ عَلَى قَدْرِ عَادَةِ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ السَّاقِيَةَ أَيْ النَّهْرَ مُسْقًى لِأَهْلِ هَذَا النَّخْلِ مَثَلًا وَأَنَّ هَذَا النَّخْلَ يَشْرَبُ أَوَّلًا ثُمَّ هَذَا ثُمَّ أَنَّ النَّخْلَ الْمُقَدِّمُ الْمُتَقَدَّمُ شُرْبُهُ تَعَطَّلَ بِأَنْ ارْتَفَعَ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ بِسَبَبِ إهْمَالِ مَالِكِهِ فَصَارَ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ الْمَاءِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى مَنْ خَلْفَهُ الَّذِي مُتَرَتِّبٌ شُرْبِهِ عَلَى شُرْبِهِ فَهَلْ يُجْبَرُ الْأَوَّلُ عَلَى تَعْمِيقِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ أَرْضِهِ حَتَّى يَسْقِيَ مَنْ خَلْفَهُ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَامْتَنَعَ وَأَرَادَ مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُعَمِّقَهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَيْهِ فَهَلْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَذَاكَ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَقَدْ تَعَطَّلَ شُرْبُ مَنْ خَلْفَهُ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا إضْرَارٌ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ مَرَّ مَبْسُوطًا فِي الْجَوَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ وَالْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَعْمِيقِ الْمُرْتَفِعِ مِنْ أَرْضِهِ وَأَنَّ لِمَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُعَمِّقَهُ حَتَّى يَصِلَ

ص: 178

الْمَاءُ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ ثَمَّ مَعَ بَيَانِ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ أَصْلَحَهُ عَادَ حَقُّ الْأَوَّلِ بِحَالِهِ وَصَارَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ كَمَا عُلِمَ بِالْأَوْلَى مِمَّا مَرَّ فِي الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ آخِرَ الْجَوَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَوْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِبَلَدٍ أَنَّ الْأَوَّلَ يَسُدُّ الْمَاءَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ بِتُرَابٍ مَعْلُومٍ أَوْ حَجَرٍ مَعْدُودٍ أَوْ بِخَشَبٍ أَوْ سَعَفِ نَخْلٍ هَلْ هَذِهِ الْعَادَةُ لَازِمَةٌ مُتَّبَعَةٌ مَعَ عَدَمِ انْضِبَاطِهَا، وَإِنْ اطَّرَدَتْ أَمْ لَا؟ مَعَ أَنَّهُ لَا خَفَاءَ أَنَّ التُّرَابَ يَسُدُّ جَمِيعَ الْمَاءِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَى الْأَسْفَلِ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ بَعْدَهُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ أَنَّ الْحَقَّ لِلْأَوَّلِ فَيَسُدُّ إلَى تَمَامِ حَاجَتِهِ عَمَّنْ بَعْدَهُ بِمَا شَاءَ مِنْ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ، نَعَمْ إنْ اُعْتِيدَ السَّدُّ بِشَيْءٍ يَنْزِلُ مِنْ خِلَالِهِ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ إلَى أَرْضِ مَنْ بَعْدَهُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ لَهَا بِمَا يَصِلُهَا مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْقَلِيلِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَاطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَسُدَّ بِذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّدُّ بِمَا يَمْنَعُ أَكْثَرَ مِمَّا اُعْتِيدَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَسُدَّ بِمَا يَمْنَعُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فِي أَرْضَيْنِ مُسْتَوِيَتَيْنِ أَوْ عُلْيَا وَسُفْلَى بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ هَلْ الْيَدُ فِيهِ لِمَالِكَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْيَا؟ وَكَلَامُهُمْ فِي الْمِيَاه يَقْتَضِي الْأَوَّلَ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ شَجَرٌ كَنَخِيلٍ هَلْ يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُ الشَّجَرِ دُونَهُمَا أَوْ بِبَعْضٍ مِنْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ مَبْسُوطًا أَوَاخِرَ الْجَوَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّ الْيَدَ فِي الْحَاجِزِ الْمَذْكُورِ لِمُلَّاكِ الْأَرْضَيْنِ وَأَنَّ مَا يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَهُمْ أَيْضًا وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمْ، نَعَمْ إنْ كَانَ شَجَرٌ لِغَيْرِهِمْ فَالْيَدُ فِيهِ لِمَالِك الشَّجَرِ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الشَّجَرِ عَلَى مِلْكِ مُغْرِسِهِ لِمَالِكِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ انْتِفَاعِ الْأَرَاضِي بِهِ مِنْ حَيْثُ حَبْسُهُ لِلْمَاءِ حَتَّى يَعُمَّهَا وَيَسْقِيهَا عَلَى مِلْكِ مَالِكَيْهَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ مُتَّصِلٌ بِهِ وَثَابِتٌ، وَالثَّانِي مُجَرَّدُ انْتِفَاعٍ وَهُوَ أَمْرٌ تَقْدِيرِيٌّ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ.

وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ لِمَالِكِهِ فَإِنْ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّخْلَ كَانَ لَهُمْ وَبَاعُوهُ لِأَجْنَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ، وَحِينَئِذٍ فَهُوَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَقَاءَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُهُ مَنْفَعَةَ الْمُغْرَسِ مَا بَقِيَ الشَّجَرُ فِيهِ قُلْت لَا نَظَرَ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ الْأَرْضَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، وَإِنَّمَا سَاقِيَاهُ عَلَى تِلْكَ الْأَرَاضِي وَيَكُونُ مَالِكُهَا أَذِنَ لَهُمْ فِي جَعْلِهَا حَاجِزًا لِمِيَاهِهِمْ فَلَمَّا تَعَارَضَ الِاحْتِمَالَانِ قَدَّمْنَا الْأَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمِلْكِ وَهُوَ النَّخْلُ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ لَهُمْ وَإِلَّا قُدِّمَ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِمِلْكِهِ، وَلِأَصْحَابِ الْأَرْضِ تَحْلِيفُ صَاحِبِ النَّخْلِ أَنَّ الْمِلْكَ لَهُ هَذَا كُلُّهُ إنْ كَانَ الْحَاجِزُ هُوَ مَغَارِسُ النَّخْلِ، أَمَّا لَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَغَارِسِ فَيَكُونُ هُوَ لِمُلَّاكِ الْأَرْضِ وَتَكُونُ هِيَ لِمَالِك الشَّجَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَوْ ادَّعَى جَمَاعَةٌ عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الشُّرْبَ مِنْ أَرْضِهِ لِأَرْضِهِمْ أَوْ شَجَرِهِمْ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُمْ وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَيْهِمْ فَحَلَفَ بَعْضُهُمْ وَنَكَلَ بَعْضُهُمْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إفْرَادُ نَصِيبِ الْحَالِفِ بِالسَّقْيِ فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَوْا اسْتِحْقَاقَ الشُّرْبِ مِنْ نَهْرِهِ لِأَرْضِهِمْ وَاقْتَضَى الْحَالُ تَحْلِيفَ بَعْضِهِمْ وَنُكُولَ بَعْضٍ فَهَلْ يُفَوَّتُ حَقُّ الْحَالِفِ حَذَرًا مِنْ اسْتِحْقَاقِ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ بِيَمِينِ غَيْرِهِ أَوْ يُرْسَلُ لِلْحَالِفِ بِمِقْدَارِ نَصِيبِهِ مِنْ الشُّرْبِ فَقَطْ؟ .

وَإِنْ أَدَّى إلَى أَنْ يَسْقِيَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُرْسَلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَحْلِفْ وَفِي فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِهَةِ السَّائِلِ كَلَامٌ ظَاهِرُهُ التَّنَاقُضُ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمُدَّعِينَ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَرْضُهُمْ وَاحِدَةً وَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِيهَا عَلَى الْإِشَاعَةِ، أَوْ مُتَعَدِّدَةً مُتَمَايِزٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَتَعَذَّرَ سَقْيُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ظَاهِرٌ بِخِلَافِهِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَى كُلٍّ فَمَنْ حَلَفَ بَعْدَ نُكُولِ جَاحِدِ اسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ مِنْ أَرْضِهِ أَوْ نَهْرِهِ اسْتَحَقَّ نَصِيبَ شُرْبِ أَرْضِهِ مِنْ أَرْضِ النَّاكِلِ أَوْ نَهْرِهِ ثُمَّ إنْ قُسِمَتْ الْمُشْتَرَكَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَأَمْكَنَ سَقْيُ نَصِيبِهِ فِيهَا وَفِي الثَّانِيَةِ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يُقَسَّمْ أَوْ فُرِضَ عَلَى بُعْدِ عَدَمِ سَقْيِ أَرْضِهِ أَوْ شَجَرِهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ، بَلْ إذَا طَلَبَهُ أَرْسَلَ لَهُ بِقَدْرِهِ وَلَا نَظَرَ لِعَوْدِ نَفْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذَا رَضِيَ هُوَ بِذَلِكَ فَإِنْ قُلْت

ص: 179

يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّوْضَةِ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَاءِ وَسَقَى بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا شُرْبًا لَمْ يَكُنْ قُلْت كَلَامُ الرَّوْضَةِ إنَّمَا هُوَ كَمَا تَرَى فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ وَيَسْقِي بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا لَمْ يُرِدْ سَقْيَ أَرْضِ شَرِيكِهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ سَقْيَ أَرْضِ نَفْسِهِ الَّتِي ثَبَتَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِسَقْيِ أَرْضِ شَرِيكِهِ أَوْ جَارِهِ إنْ فُرِضَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُفَوِّتَ عَلَيْهِ حَقَّهُ مَعَ عُذْرِهِ بِخِلَافِ مَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ سَقْيِ أَرْضِهِ الَّتِي لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ فَإِذَا أَرَادَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ الَّذِي لَهَا وَيَصْرِفَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ مُنِعَ مِنْهُ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته مَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الرُّويَانِيِّ مِنْ أَنَّ مَحِلَّ الْمَنْعِ مَا إذَا سَاقَ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ ابْتِدَاءً

أَمَّا لَوْ سَاقَهُ إلَى أَرْضِهِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلشُّرْبِ ثُمَّ نَقَلَهُ مِنْهَا إلَى أُخْرَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلُهَا فِي مَبْحَثِ قِسْمَةِ الْمَاءِ، وَيَسُوقُ كُلُّ وَاحِدٍ نَصِيبَهُ فِي سَاقِيَتِهِ إلَى أَرْضِهِ وَلَهُ أَنْ يُدِيرَ رَحًى بِمَا صَارَ لَهُ اهـ. فَدَلَّ كَلَامُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُدِيرَ بِهِ الرَّحَى وَلَوْ فِي أَرْضٍ أُخْرَى لَهُ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْأُخْرَى الَّتِي يُدِيرُ الرَّحَى فِيهَا هُنَا مُنْفَرِدَةٌ لَا ضَرُورَةَ إلَى الْإِدَارَةِ فِيهَا بِخِلَافِ سَقْيِ أَرْضِ الشَّرِيكِ أَوْ الْجَارِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ لِتَوَقُّفِ سَقْيِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْت: قَيَّدَ الْمَحَامِلِيُّ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا بِمَا إذَا كَانَ يُدِيرُهَا فِي أَرْضِهِ الَّتِي لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْهُ قُلْت كَلَامُهُمَا لَا يَقْتَضِي هَذَا التَّقْيِيدَ فَيَحْتَمِلُ اعْتِمَادَ إطْلَاقِهِمَا وَيَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِقَضِيَّةِ التَّقْيِيدِ، وَعَلَيْهِ فَلَا يُنَافِي مَا قُلْنَاهُ لِمَا عَلِمْته مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا مِنْ أَنَّ هَذَا لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنْ قُلْت مَا ذَكَرَهُ فِيهَا هَلْ هُوَ فِي النَّهْرِ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَمْلُوكِ؟ قُلْت ظَاهِرُ كَلَامِهِمَا أَنَّهُ فِي الْمَمْلُوكِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الرُّويَانِيُّ، وَإِنْ كَانَ الشُّرْبُ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَأَرَادَ أَنْ يُنْقَلَ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ إذَا لَمْ يُضَيِّقْ الْمَاءَ وَإِلَّا قُدِّمَ الْأَسْبَقُ وَتَنْظِيرُ الْأَذْرَعِيِّ فِيهِ فِي قُوَّتِهِ بِأَنَّهُ قَدْ لَا يَضِيقُ الْآن وَيَضِيقُ فِيمَا بَعْدُ فَيَثْبُتُ لَهُ عَلَى طُولِ الْأَمَدِ شُرْبٌ فِيهِ لَا أَصْلَ لَهُ يُرَدُّ بِقَوْلِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي النَّهْرِ الْمُبَاحِ: وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ إحْيَاءَ مَوَاتٍ وَسَقْيَهُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَإِنْ ضَيَّقَ عَلَى السَّابِقِينَ مُنِعَ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا أَرْضَهُمْ بِمَرَافِقِهَا وَالْمَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَرَافِقِهَا وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ وَسَلَكَ فِي تَوَسُّطِهِ طَرِيقَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مَا فِي الرَّوْضَةِ مِنْ الْمَنْعِ مَحِلُّهُ إذَا قُلْنَا إنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الْمَاءَ وَمَا فِي غَيْرِهَا كَالْكَافِي وَجَرَى عَلَيْهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عَدَمِ الْمَنْعِ فِي صُورَةِ الرَّوْضَةِ مَحِلُّهُ مَا إذَا كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا لَهُمْ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ إفْرَازِهِ مَا شَاءَ

وَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ أُجْبِرُوا عَلَيْهِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ ضَعِيفَةٌ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ كَلَامِ الرَّوْضَةِ يَرُدُّهَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ، وَبَحَثَ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَنَّ مَحِلَّ الْمَنْعِ فِي كَلَامِ الرَّوْضَةِ فِي أَرْضٍ يُجْعَلُ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ وَهُوَ أَعْلَى السَّاقِيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ حَقِّ التَّقْدِيمِ لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي أَسْفَلِهَا بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهَا أَرْضٌ لَهَا حَقُّ شُرْبٍ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ لَا يُعَطِّلُ عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حَقٌّ عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ لَمْ يَكُنْ اسْتِدْلَالًا بِظَاهِرِ الْحَالِ عِنْدَ انْطِوَاءِ مَعْرِفَةِ أَصْلِ ذَلِكَ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فَبَحْثُ ابْنِ الرِّفْعَةِ ضَعِيفٌ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْ قَوْلِ الرَّوْضَةِ: لَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْحَفْرِ اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ ثُمَّ لَهُمْ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ مُسْتَوِيَةِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ فِي عُرْضِ النَّهْرِ وَيُفْتَحُ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَة أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ هَلْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْبَارِ إذْ لَا يَسْتَوِي النَّصِيبُ مِنْ الْمَاءِ إلَّا بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَقُومُ الْبِنَاءُ بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ مَقَامَ الْخَشَبَةِ أَمْ لَا؟ .

قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: لَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ هَلْ يُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ الْأَرَضِينِ أَمْ لَا؟ وَصَحَّحَ الْأَوَّلُ هَلْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَوَاسِمُ لِلْمَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ فَهَلْ تَدُلُّ عَلَى الْيَدِ أَمْ لَا؟ فَلَوْ وَجَدْنَا الثُّقَبَ مُتَسَاوِيَةً مَعَ تَفَاوُتِ الْأَرْضِينَ أَوْ بِالْعَكْسِ وَذَلِكَ هُوَ مَعَ جَهْلِنَا بِمِلْكِ النَّهْرِ فِي الْأَصْلِ، وَلَكِنْ وَجَدْنَا عَمَلَ أَهْلِهِ الْآنَ

ص: 180

مَعْلُومًا فِيهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إلَى الْعِمَارَةِ فَمَا الرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَرْضِينَ أَوْ الْقَوَاسِمِ أَوْ الرَّصَدَاتِ بَيْنَهُمْ أَوْ الْعَمَلِ فِي عِمَارَةِ النَّهْرِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَصْلٌ لَهُ؟

(فَأَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَ الرَّوْضَةِ لَهُمْ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا إجْبَارَ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْصُلُ الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ كَمَا قَدَّمْته أَوَائِلَ الْجَوَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ فَرَاجِعْهُ إذْ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَلَوْ أَرَادُوا قِسْمَةَ النَّهْرِ وَكَانَ عَرِيضًا جَازَ وَلَا يَجْرِي فِيهَا الْإِجْبَارُ كَمَا فِي الْجِدَارِ الْحَائِلِ، فَإِنْ قُلْت يُعَارِضُهُ مَا فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا فِي الشُّفْعَةِ مِنْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الطَّاحُونُ وَالْحَمَّامُ وَالْبِئْرُ وَالنَّهْرُ إذَا أَمْكَنَ جَعْلُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَكَذَا مَسِيلُ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ وَبِئْرُ الزِّرَاعَةِ.

قُلْت الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ مَزَارِعَ وَهِيَ عَلَى حَافَّتَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِالْجِدَارِ الْحَائِلِ وَالثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى حَفْرِ أَنْهَارٍ وَسَوَاقٍ يَأْتِي إلَيْهَا الْمَاءُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي تَرْكِ الْقِسْمَةِ هُنَا ضَرَرًا عَظِيمًا فَأُجْبِرَا عَلَيْهِ إزَالَةً لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي عَدَمِ الْقِسْمَةِ، بَلْ فِيهَا نَفْعٌ وَالْبِنَاءُ بِنَحْوِ الْحَجَرِ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ ثُقْبٌ كَمَا يُجْعَلُ فِي الْخَشَبَةِ قَامَ مَقَامَهَا وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ بِنَصْبِ الْخَشَبَةِ مَحِلُّهُ إنْ أُمْكِنَتْ الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ، أَمَّا إذَا لَمْ تُمْكِنُ إلَّا بِهَا فَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَيْهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَذْرَعِيُّ فِي تَوَسُّطِهِ حَيْثُ قَالَ عَقِبَ قَوْلِ الرَّوْضَةِ ثُمَّ لَهُمْ قِسْمَةُ الْمَاءِ بِنَصْبِ خَشَبَةٍ إلَخْ قُلْت وَيَتَعَيَّنُ هَذَا الطَّرِيقُ عِنْدَ التَّشَاجُرِ وَعَدَمِ التَّرَاضِي بِالْمُهَايَأَةِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يَصِلُ بِهِ كُلٌّ إلَى جِهَةِ حَقِّهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إذْ فِي الْمُهَايَأَةِ تَأْخِير أَحَدِهِمْ عَنْ حَقِّهِ فَاشْتُرِطَ فِيهَا التَّرَاضِي اهـ. وَمَا صَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ جُعِلَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِينَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّ النَّهْرَ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ إلَّا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ يَسْقُونَ أُرَاضِيهِمْ مِنْهُ، وَاعْتَرَضَ الْبُلْقِينِيُّ مَا فِي الرَّوْضَةِ بِأَنَّ الْأَصَحَّ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ أَنَّهُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ لَا يُنْظَرُ إلَيْهَا قَالَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا فِي كِتَابَةِ عَبْدَيْنِ خَسِيسٍ وَنَفِيسٍ عَلَى نُجُومٍ مُتَفَاوِتَةٍ بِحَسَبِ قِيمَتِهَا فَأَحْضَرَا مَالًا وَادَّعَى الْخَسِيسُ أَنَّهُ سَوَاءٌ بَيْنَهُمَا

وَالنَّفِيسُ أَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ عَلَى قَدْرِ النُّجُومِ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْخَسِيسِ عَمَلًا بِالْيَدِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجِدَارِ لَا أَنْظُرُ إلَى مَنْ إلَيْهِ الدَّوَاخِلُ وَالْخَوَارِجُ وَلَا أَنْصَافُ اللَّبِنِ وَلَا مَعَاقِدُ الْقِمْطِ وَنَصَّ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يَخْتَلِفُ فِيهِ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهمَا يَحْلِفَانِ وَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا نَظَرَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ عَادَةً وَلَا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَرْأَةِ اهـ.

وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ الْجَلَالُ فَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ أَنَّهُ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الِاسْتِوَاءَ اهـ. وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْن مَا هُنَا وَفِي الْكِتَابَةِ بِأَنَّ الْيَدَ هُنَا عَلَى النَّهْرِ حُكْمِيَّةٌ لَا حِسِّيَّةٌ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ لَيْسَ فِي قَبْضَتِهِمْ يَقِينًا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا مَرَّ عَنْ الْمُتَوَلِّي، وَإِنَّمَا نَزَلَ اسْتِحْقَاقُهُمْ الشُّرْبَ مِنْهُ مَنْزِلَةَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ وَيَدُ الْمُكَاتَبَيْنِ عَلَى مَا أَحْضَرَاهُ حِسِّيَّةٌ وَلَا حُكْمِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَدَ الْحِسِّيَّةَ أَقْوَى فَلَمْ يُنْظَرْ لِمُعَارِضِهَا مِنْ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مَعَ دَلَالَةِ الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ فَعَمِلُوا بِهِ وَهُنَا وُجِدَ لِلْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ مُعَارِضٌ حِسِّيٌّ وَهُوَ تَفَاوُتُهُمْ فِي الْأَنْصِبَاءِ الْمُسْتَلْزِمُ غَالِبًا أَنَّ النَّهْرَ تَكُونُ الشَّرِكَةُ فِيهِ كَذَلِكَ وَالْحِسِّيُّ أَقْوَى مِنْ الْحُكْمِيِّ فَقُدِّمَ هَذَا الْمُعَارِضُ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ لِضَعْفِهَا فَانْدَفَعَ قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَظَهَرَ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَاضِحًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي مَسْأَلَةِ الْجِدَارِ فَالْيَدُ عَلَيْهِ حِسِّيَّةٌ أَيْضًا، وَتِلْكَ الْقَرَائِنُ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، بَلْ وَلَا غَالِبَةً فَلَمْ تَقْوَ عَلَى مُعَارَضَتِهَا فَأُلْغِيَ النَّظَرُ إلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَانِ يَدُهُمَا عَلَى أَمْتِعَةِ الْبَيْتِ حِسِّيَّةٌ، وَقَدْ تَكُونُ يَدُ الزَّوْجَةِ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالزَّوْجِ وَعَكْسُهُ فَلَمْ يَقْوَ ذَلِكَ عَلَى دَفْعِ مَا اقْتَضَتْهُ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا عَلَى مَسْأَلَتِنَا لَا تُشْبِهُهَا؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا يَدًا قَوِيَّةً وَمُعَارِضُهَا ضَعِيفٌ، وَالْمَوْجُودُ فِي مَسْأَلَتِنَا يَدٌ ضَعِيفَةٌ وَمُعَارِضُهَا قَوِيٌّ فَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا

ص: 181

وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ فَاتَّجَهَ مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله وَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ الْبُلْقِينِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَإِذَا قُلْنَا بِمَا فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ تُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ الْأَرَضِينَ وَوَجَدْنَا الْأَرَضِينَ مُتَفَاوِتَةً وَالثُّقَبَ مُتَسَاوِيَةً لَمْ يَكُنْ تُسَاوِيهَا بِمُجَرَّدِهِ مُقْتَضِيًا لِلتَّسَاوِي فِي الْأَرَضِينَ أَخْذًا مِنْ قَوْلَيْ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الثُّقَبُ مُتَسَاوِيَةً مَعَ تَفَاوُتِ الْحُقُوقِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الثُّلُثِ يَأْخُذُ ثُقْبَةً وَالْآخَرُ ثُقْبَتَيْنِ اهـ.

فَإِذَا تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ حِينَئِذٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ الِاسْتِوَاءَ فِي السَّقْيِ لِاسْتِوَاءِ الثُّقَبِ وَبَعْضُهُمْ الِاخْتِلَافَ فِيهِ عَلَى قَدْرِ الْأَرَضِينَ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ الثُّقَبِ الْمُتَسَاوِيَةِ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِ صُدِّقَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ إذْ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَنْصِبَاءِ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَرْضَيْنِ، وَالتَّسَاوِي فِي الثُّقَبِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِي الْأَنْصِبَاءِ لِمَا عَلِمْته مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَمَّا لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي الثُّقَبِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَنْصِبَاءِ عَمَلًا بِاخْتِلَافِ الْأَرَضِينَ وَبَعْضُهُمْ الِاسْتِوَاءَ فِيهَا عَمَلًا بِتَسَاوِي الثُّقَبِ، فَإِنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِيمَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي الْأَنْصِبَاءِ يُمْكِنُ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَرْضَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ، بَلْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ إنَّهُ الصَّوَابُ كَمَا مَرَّ عَنْهُ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْأَنْصِبَاءِ لَا يُمْكِنُ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الثُّقَبِ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُ الْأَرْضَيْنِ مُرَجِّحًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَكَانَ الِاسْتِوَاءُ فِي الثُّقَبِ مُرَجِّحًا فَقُدِّمَ. وَحُكْمُ الِاسْتِوَاءِ فِي الْعِمَارَةِ حُكْمُ الِاسْتِوَاءِ فِي الثُّقَبِ، فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى الِاسْتِوَاءِ فِيهَا وَادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَنْصِبَاءِ عَمَلًا بِاخْتِلَافِ الْأَرْضَيْنِ وَبَعْضُهُمْ الِاخْتِلَافَ فِيهَا عَمَلًا بِالتَّسَاوِي فِي الْعِمَارَةِ صُدِّقَ الثَّانِي لِنَظِيرِ مَا تَقَرَّرَ فَإِنْ تَعَارَضَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بِأَنْ اسْتَوَوْا فِي الثُّقَبِ وَتَفَاوَتُوا فِي الْعِمَارَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَهُوَ مَحِلُّ نَظَرٍ، وَيَتَّجِهُ تَقْدِيمُ الثُّقَبِ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ مُسْتَمِرَّةٌ يَكْثُرُ فِيهَا الْمُنَازَعَةُ وَالْمُشَاحَّةُ فَيَبْعُدُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَلَى التَّرَاضِي بِاسْتِوَائِهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ الْأَنْصِبَاءِ وَبِاخْتِلَافِهِمَا مَعَ تَسَاوِي الْأَنْصِبَاءِ بِخِلَافِ الْعِمَارَةِ فَإِنَّهَا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا وَيَغْلِبُ فِيهَا الْمُسَامَحَةُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ لِدَلَالَةِ الثُّقَبِ، وَإِنْ كَانَتْ قَوِيَّةً فِي نَفْسِهَا وَمِنْ ثَمَّ لَوْ انْفَرَدَتْ عَنْ الثُّقَبِ عَمِلْنَا بِهَا كَمَا مَرَّ وَبِمَا قَرَّرْته يُعْلَمُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: فَلَوْ وَجَدْنَا الثُّقَبَ مُتَسَاوِيَةً إلَخْ السُّؤَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) لَوْ وَجَدْنَا ثُقَبًا فِي نَهْرٍ بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا أَوْ بَعْضُهَا مُتَّسِعًا وَبَعْضُهَا ضَيِّقًا مَعَ إمْكَانِ إحْدَاثِ الِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَالسَّعَةِ وَالضِّيقِ وَنَحْوِهِ هَلْ يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْيَدِ أَمْ لَا؟ وَلَوْ رَفَعَهَا لِرِفْعَةِ أَرْضِهِ بِسَيْلٍ أَوْ وَضْعِ تُرَابٍ مِنْ الْمَالِكِ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَلَى الْمُمْتَنِعِ وَقَالَ لِلطَّالِبِ: اخْفِضْ أَرْضَك لِيَنَالَهَا الْمَاءُ وَالْخَفْضُ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَوْ يَضْعُفُ بِسَبَبِهِ الْإِنْبَاتُ وَرَفْعُ الْقَوَاسِمِ أَسْهَلُ فَمَنْ الْمُجَابُ مِنْهُمَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّا إذَا وَجَدْنَا ثُقَبًا فِي النَّهْرِ مُتَفَاوِتَةً فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ وَالِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ وَلَمْ نَعْلَمْ أَصْلَ ذَلِكَ هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ حَادِثٌ؟ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ قَدِيمٌ مَوْضُوعٌ بِحَقٍّ دَالٌّ عَلَى الْيَدِ لِمُسْتَحِقَّيْهِ وَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى حُكْمِهِ، فَمَنْ ادَّعَى حُدُوثَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ تَغْيِيرِهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَإِنَّمَا عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ الَّتِي رَفَعَهَا السَّيْلُ تَنْظِيفُهَا إنْ أَرَادَ سَقْيَهَا، سَوَاءٌ أَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَضَعُفَ بِسَبَبِهِ الْإِنْبَاتُ أَمْ لَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْته عَنْ التَّتِمَّةِ فِي الْجَوَابِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ.

أَمَّا إذَا أَرَادَ إصْلَاحَ الثُّقَبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ لَهَا عَنْ مَحِلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى شُرَكَائِهِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ بِوَجْهٍ فَلَا يُجَابُونَ إلَى مَنْعِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَعَنُّتٍ مَعَ تَصَرُّفِهِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ يُجَابُ هُوَ إلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِإِزَالَةِ ضَرَرٍ أَمْ لِزِيَادَةِ نَفْعٍ لِأَرْضِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) لَوْ كَانَ لِاثْنَيْنِ أَرْضَانِ إحْدَاهُمَا تَشْرَبُ قَبْلَ الْأُخْرَى وَمَاءُ السُّفْلَى يَخْرُجُ مِنْ الْعُلْيَا فَأَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْيَا أَنْ يَرْفَعَ مَخْرَجَ الْمَاءِ إلَى الْفَتْحَةِ الَّتِي فِي الزَّبِيرِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الْمَاءُ إلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى وَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ الْفَتْحَةَ إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الزَّبِيرِ مَعَ أَنَّ الْمَاءَ يَنْزِلُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فِي الْحَالَيْنِ

ص: 182

فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَقَدْ قَالَ بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ رَفْعِ الْفَتْحَةِ بَعْضُ أَكَابِرِ فُقَهَاءِ الْجِهَةِ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّفْعَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تَأْخُذَ الْعُلْيَا فَوْقَ قَدْرِ الْحَاجَةِ لِمَنْعِ خُرُوجِ الْمَاءِ بِرَفْعِ مَنْفَذِ الْمَاءِ فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ كَلَامِ التَّتِمَّةِ السَّابِقِ فِي الْجَوَابِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ أَنَّهُ حَيْثُ أَرَادَ تَحْوِيلَ الْمَنْفَذِ مِنْ مَحِلِّهِ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ وَلَمْ يَرْضَ شَرِيكُهُ مُنِعَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ يُحَوِّلُهُ إلَى مَحِلٍّ أَصْلَحَ لَهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَصْلَحِ وَغَيْرِهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَرَّ.

ثَمَّ عَنْ التَّتِمَّةِ اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّ أَثَرَ عُمَرَ مُنْقَطِعٌ وَيُوَافِقُ ذَلِكَ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ تَقْدِيمَ رَأْسِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ أَوْ تَأْخِيرَهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَ بَابَ دَارِهِ إلَى بَابِ السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ هُنَاكَ فِي الْجِدَارِ الْمَمْلُوكِ وَهُنَا فِي الْحَافَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ اهـ. وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا أَفْتَى بِهِ مَنْ ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ بَعْضِ أَكَابِرِ فُقَهَائِكُمْ وَحَيْثُ أُبْقِيَ الْمَنْفَذُ عَلَى مَحِلِّهِ وَسَعَتِهِ أَوْ ضِيقِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إصْلَاحَهُ بِمَا يَعُودُ مِنْهُ نَفْعٌ عَلَى أَرْضِهِ وَأَرْضِ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ عَلَى أَرْضِهِ فَقَطْ وَلَا ضَرَرَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ حِينَئِذٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَلَوْ أَرَادَ الشُّرَكَاءُ الَّذِينَ أَرْضُهُمْ أَسْفَلَ تَوْسِيعَ فَمِ النَّهْرِ لِئَلَّا يَقْصُرَ الْمَاءُ عَنْهُمْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِرِضَا الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الشَّرِيكِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ؛ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِكَثْرَةِ الْمَاءِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِينَ تَضْيِيقُ فَمِ النَّهْرِ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِينَ اهـ. وَوَجْهُ عَدَمِ الْمُنَافَاةِ أَنَّ مَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّوْضَةِ إضْرَارٌ وَتَصَرُّفٌ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ بِخِلَافِ مَا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْت: الْإِصْلَاحُ الَّذِي فِي مَسْأَلَتِنَا فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخَانِ بِامْتِنَاعِهِ قُلْت: مَحِلُّ امْتِنَاعِهِ حَيْثُ لَمْ يُقَصِّرْ الشَّرِيكُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: لَوْ انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْمُشْتَرَكُ وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا بِنَاءَهُ بِخَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِ صَاحِبِهِ جَازَ كَمَا مَرَّ مَبْسُوطًا بِمَا فِيهِ فِي الْجَوَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ فَكَمَا جَازَ هُنَاكَ فَلِيَجُزْ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا إذَا امْتَنَعَ شُرَكَاؤُهُ مِنْ الْإِصْلَاحِ مَعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْهُ لَوْ وَجَدْنَا أَرْضَيْنِ يَشْرَبَانِ مَعًا وَتَحْتَ أَحَدِ الْأَرْضَيْنِ أَرْضٌ ثَالِثَةٌ تَشْرَبُ مِنْ الَّتِي فَوْقَهَا بَعْدَ رَيِّ الْأُخْرَى وَقُلْنَا إنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِقَدْرِ الْأَرَاضِي فَهَلْ يَدْخُلُ الْمُتَأَخَّرُ شُرْبُهُ فِي التَّقْدِيرِ أَوْ يَخْتَصُّ التَّقْدِيرُ بِالْمُتَقَدِّمِ شُرْبُهُ وَهَلْ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ شُرْبُهُ مِثْلُ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَصْرُوفِ عِمَارَةِ النَّهْرِ إذَا قُلْنَا بِالْإِجْبَارِ؟ وَهَلْ يُعْرَفُ التَّقْدِيرُ فِي الْأَرْضَيْنِ بِالْمِسَاحَةِ أَوْ بِالتَّقْوِيمِ؟ فَإِنَّ أَرْضًا قَلِيلَةَ الْمِسَاحَةِ قَدْ تَكُونُ خَيْرًا مِنْ أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْمِسَاحَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الرَّوْضَةِ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُتَأَخِّرَ شُرْبُهَا إذَا كَانَ شُرْبُهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ دُونَ غَيْرِهِ تَدْخُلُ فِي التَّقْدِيرِ فَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا مِنْ النَّهْرِ بِحِصَّتِهَا، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ: كُلُّ أَرْضٍ أَمْكَنَ سَقْيُهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ إذَا رَأَيْنَا لَهَا سَاقِيَةً مِنْهُ وَلَمْ نَجِدْ لَهَا شُرْبًا مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شُرْبًا مِنْهُ انْتَهَتْ. وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمْ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى عِمَارَةِ النَّهْرِ كَالشُّرَكَاءِ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى إعَادَةِ الْمُشْتَرَكِ إذَا انْهَدَمَ ثُمَّ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْإِصْلَاحِ جَبْرًا عَلَى الضَّعِيفِ أَوْ اخْتِيَارًا عَلَى الصَّحِيحِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي حَاوِيهِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُؤْنَةِ الْحَفْرِ كَيْفَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ مَعَ الْأَوَّلِ فَيَحْفِرُونَ مَعَهُ حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ مِلْكِهِ خَرَجَ وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّانِي فَإِذَا انْتَهَى لِآخِرِ مِلْكِهِ خَرَجَ وَحَفَرَ الْبَاقُونَ مَعَ الثَّالِثِ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْأَخِيرِ فَيَنْفَرِدُ وَحْدَهُ بِحَفْرِ مَا يَلِيه وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَاءَ النَّهْرِ كُلَّهُ يَجْرِي عَلَى أَرْضِ الْأَوَّلِ فَاشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي حَفْرِهِ، وَمَاءُ الْأَوَّلِ لَا يَجْرِي عَلَى الثَّانِي فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْفِرَ مَعَهُ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ مُؤْنَةَ الْحَفْرِ مُقَسَّطَةٌ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى مِسَاحَاتِ الْأَرَضِينِ وَقَدَّرَ جَرَيَانَهَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْجَارِي يَسْبَحُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مِسَاحَتِهَا وَجَرَيَانِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَسَّطَهَا عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضَيْنِ الَّتِي عَلَى النَّهْرِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْحَفْرِ تَزِيدُ بِطُولِ مِسَاحَةِ

ص: 183

الْوَجْهِ الَّذِي عَلَى النَّهْرِ وَتَقِلُّ بِقِصَرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِهِ اهـ. كَلَامُ الْحَاوِي مُلَخَّصًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ كَعَادَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَحْرِهِ وَعِبَارَةُ الشَّيْخَيْنِ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَتَنْقِيَةُ هَذَا النَّهْرِ وَعِمَارَتُهُ يَقُومُ بِهَا الشُّرَكَاءُ بِحَسَبِ الْمِلْكِ وَهَلْ عَلَى وَاحِدٍ عِمَارَةُ الْمَوْضِعِ الْمُسْتَفِلِ عَنْ أَرْضِهِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْبَاقِينَ وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ أَنَّ التَّوْزِيعَ فِي الْأَرْضَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مِسَاحَتِهَا لَا قِيمَتِهَا؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّمَا زَادَتْ مِسَاحَتُهَا زَادَ شُرْبُهَا فَلَزِمَ صَاحِبَهَا أَكْثَرُ مِنْ صَاحِبِ مَا هِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا وَلَا نَظَرَ لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا دَخْلَ لَهُ هُنَا كَمَا هُوَ جَلِيٌّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) لَوْ كَانَتْ أَرْضٌ مُقَدَّمَةٌ فِي الشُّرْبِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَرَاضِي وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيهَا إلَّا بِالزَّرْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَكْتَفِي بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ فَهَلْ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا شَجَرًا وَنَحْوَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ مَا يُعْتَادُ مِنْ الْمَاءِ أَمْ لَا لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تَكُونُ مُشَاعَةً فَيَشْتَرِطُونَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ الِانْتِفَاعَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ لِلْمُقَدَّمِ بِالشُّرْبِ، فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ وَيَلْزَمُ أَوْ يَكُونُ مُفْسِدًا؟ وَمَا الَّذِي يَصِحُّ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْقِسْمَةِ بِتَقْدِيمٍ فِي السَّقْيِ أَوْ تَأْخِيرٍ عَلَى خِلَافِ الْمَعْهُودِ أَوْ بِشَرْطِ الزَّرْعِ دُونَ الْغَرْسِ وَمَا الَّذِي لَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّ مَنْ أَرَادَ إحْدَاثَ نَحْوِ شَجَرٍ فِي أَرْضِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ لِزِيَادَةِ سَقْيٍ لَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِمَنْعِهِ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ أَرْضَهُ تَكُونُ بَعْدَهَا أَرْضٌ أُخْرَى تَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ مِمَّا يَصِلُ إلَيْهَا زِيَادَةً أَوْ لَا يَكُونُ بَعْدَهَا شَيْءٌ بِأَنْ تَكُونَ هِيَ آخِرَ الْأَرَاضِي الَّتِي تَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَنْزِلُ فِي أَرْضِهِ مِنْ الْمَاءِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا أَرَادَ وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى لَوْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُحْدِثَ فِي أَرْضِهِ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ مِمَّا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْتَادُ مِنْ الْمَاءِ فَمَنَعَهُ شُرَكَاؤُهُ فَقَالَ: أَنَا أَسُوقُ لَهُ مِنْ مَحِلٍّ آخَرَ مَا يَكْفِيه مِنْ الْمَاءِ فَهَلْ يُجَابُ هُوَ أَوْ هُمْ؟ وَقَضِيَّةُ مَا مَرَّ عَنْ الرَّوْضَةِ فِي الْجَوَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَاءِ وَيَسْقِي بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنِعَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا رَسْمَ شُرْبٍ لَمْ يَكُنْ أَنَّهُمْ يُجَابُونَ؛ لِأَنَّا إذَا مَكَّنَّاهُ مِنْ غَرْسِ مَا ذَكَرَ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِهِمْ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ يَسْتَدِلُّ بِغَرْسِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَحِقَّةِ لِلشُّرْبِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ أَيْضًا فَإِنْ قُلْت يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يَفْعَلْ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ الْآنَ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ مَا أَحْدَثَهُ مِنْ الْغَرْسِ سَاقَ لَهُ مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيه وَثَمَّ أَحْدَثَ مَا يَضُرُّهُمْ الْآنَ وَهُوَ إجْرَاءُ مَاءِ أَرَاضِيهمْ إلَى غَيْرِهَا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ وَالْمُتَوَقَّعِ قُلْت: هَذَا الْفَرْقُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَضُرُّهُمْ الْآنَ، وَإِنَّمَا جَاءَ الضَّرَرُ مِنْ أَنَّهُ إذَا اسْتَمَرَّ يَسْقِي تِلْكَ الْأَرْضَ مِنْ مَائِهِمْ وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ مَنْ يَعْرِفُ أَصْلَهَا ظَنَّ حِينَئِذٍ أَنَّ لَهَا رَسْمَ شُرْبٍ، فَمَنْ ادَّعَاهُ صُدِّقَ فِيهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَالِ، فَالضَّرَرُ فِيهَا إنَّمَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ أَيْضًا، فَإِنْ قُلْت: هَذَا يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ هُنَا بِالْغَرْسِ وَنَحْوِهِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ؟

قُلْت وَهُنَا يَتَصَرَّفُ فِي مَائِهِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ أَوْ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فَكَمَا قَالُوا ثَمَّ بِمَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِجَرِّ الضَّرَرِ عَلَى الشُّرَكَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَقِينًا بَلْ احْتِمَالًا، فَكَذَلِكَ الضَّرَرُ يَمْنَعُ هُنَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِذَلِكَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الشَّرْطُ فِي الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَتْ إفْرَازًا لَمْ يُؤَثِّرْ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَقْدًا حَتَّى يَتَأَثَّرَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَيَلْزَمُ فِيهَا الشَّرْطُ الصَّحِيحُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ كَانَ مِلْكَهُ، وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَلَا يُعْتَدُّ بِالشَّرْطِ فِيهَا مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا تَأْتِي فِيهَا التَّفْصِيلُ فِي الشُّرُوطِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا وَافَقَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَانَ لَازِمًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ فَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ إلَّا التَّأْكِيدُ وَمَا نَافَى مُقْتَضَاهُ يُبْطِلُهُ إنْ وَقَعَ فِي صُلْبِهِ أَوْ فِي مَجْلِسِهِ، وَمَا لَا يُنَافِيه وَلَا يَقْتَضِيه يَكُونُ لَغْوًا وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَالْأَرْضُ الَّتِي يَقْتَسِمُونَهَا هُنَا إنْ كَانَتْ مُسْتَوِيَةَ الْأَجْزَاء صَحَّتْ الْقِسْمَةُ وَلَمْ يُعْتَدَّ

ص: 184

بِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الشُّرُوطِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَوِيَةَ الْأَجْزَاء كَانَتْ قِسْمَتُهَا تَعْدِيلًا أَوْ رَدًّا وَكِلَاهُمَا بَيْعٌ، فَإِذَا شُرِطَ فِيهَا تَقْدِيمٌ أَوْ تَأْخِيرٌ أَوْ زَرْعٌ فَقَطْ وَكَانَ ذَلِكَ يُنَافِي مُقْتَضَاهَا بَطَلَ وَأَبْطَلَهَا وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(سُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) لَوْ كَانَ النَّهْرُ الْأَصْلِيُّ الْمَمْلُوكُ يَتَفَرَّعُ مِنْهُ سَوَاقٍ تَنْقَسِمُ عَلَى أَرَاضٍ فَارْتَوَى أَحَدُهُمْ أَيْ أَحَدُ أَهْلِ السَّوَاقِي الْمُتَفَرِّعَةِ قَبْلَ شَرِيكِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَوِي صَرْفُ الْمَاءِ إلَى شَرِيكِهِ فِي الْفَرْعِ أَوْ لَهُ صَرْفُهُ كَيْفَ شَاءَ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: يَجِبُ الصَّرْفُ إلَى الشَّرِيكِ وَاحْتَاجَ صَرْفُ الْمَاءِ إلَى كُلْفَةٍ وَمُؤْنَةٍ فَهَلْ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَوِي أَوْ عَلَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ إلَيْهِ وَإِذَا ارْتَوَى جَمِيعُ الْمُتَفَرِّعِينَ عَنْ النَّهْرِ الْأَصْلِيِّ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ صَرْفُ مَا أَخَذُوهُ مِنْ الْمَاءِ إلَى النَّهْرِ الْأَصْلِيِّ أَمْ لَهُمْ صَرْفُهُ كَيْفَ أَرَادُوا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِصَرْفِهِ إلَى النَّهْرِ الْأَصْلِيِّ فَهَلْ يَجِبُ صَرْفُهُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِ أَمْ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ أَمْ عَلَى الْجَمِيعِ أَمْ عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالْمَاءِ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُرْتَوِي صَرْفُ الْمَاءِ إلَى مَنْ بَعْدَهُ فِي السَّقْيِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلْزَمُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ مَنْ بَعْدَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ الَّذِي اسْتَحَقَّ مَنْ بَعْدَهُ سَقْيُ أَرْضِهِ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ إذَا احْتَاجَ إلَى مُؤْنَةٍ وَكُلْفَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَذَا الْمَاءِ حِينَئِذٍ خَاصَّةٌ بِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ ارْتَوَى إلَّا التَّمْكِينُ فَقَطْ.

وَعَدَمُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَاءِ بِمَا يَضُرُّ مَنْ اسْتَحَقَّ السَّقْيَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَرَغَتْ حَاجَتُهُ مِنْهُ صَارَ مُسْتَحَقًّا لِلْغَيْرِ، وَمَا اسْتَحَقَّهُ الْغَيْرُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ ذَلِكَ الْغَيْرَ، وَإِذَا ارْتَوَى جَمِيعُ الْمُتَفَرِّعِينَ عَنْ النَّهْرِ الْأَصْلِيِّ فَتَارَةً يَكُونُ مَاءُ النَّهْرِ مُبَاحًا وَتَارَةً يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُمْ فَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا يَصِلُ إلَى أَرْضِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِالْقِسْمَةِ يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُقَيَّدًا قَبْلَ اسْتِغْنَاءِ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ مِنْ أَرْضِهِ وَمُطْلَقًا بَعْدَ اسْتِغْنَاءِ مَنْ بَعْدَهُ، وَإِذَا مَلَكَهُ مِلْكًا مُطْلَقًا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ؟ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى النَّهْرِ أَيْضًا، نَعَمْ إنْ اُعْتِيدَ رَدُّهُ إلَى النَّهْرِ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَمْلُوكِ لِيَكُونَ مَحْفُوظًا فِيهِ إلَى الِارْتِوَاءِ مِنْهُ لِشُرَكَائِهِ ثَانِيًا حُرِّمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا يَمْنَعُ رَدَّهُ إلَى النَّهْرِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الرَّدُّ إلَيْهِ، بَلْ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَدِّهِ إلَيْهِ وَمَرَّ فِي الْجَوَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبه مِنْ مَاءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَمْلُوكٍ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ وَيَسْقِي بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنِعَ فَلَا يَغِبْ عَنْك اسْتِحْضَارُ ذَلِكَ هُنَا فَمَحِلُّ تَصَرُّفِهِ فِيهِ هُنَا كَيْف شَاءَ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ لِأَرْضٍ لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ وَإِلَّا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا مَرَّ ثَمَّ مَبْسُوطًا مَثَلًا وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا لِوَاحِدٍ وَأَبَاحَ لِآخَرَ السَّقْيَ مِنْهُ أَوْ أَعَارَهُ لَهُ بِطَرِيقِهِ بِأَنْ أَعَارَهُ مَحِلَّ نَبْعِهِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ أَيْضًا كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يَرْجِعْ الْمُبِيحُ أَوْ الْمُعِيرُ، أَمَّا إذَا رَجَعَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْمُسْتَعِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) لَوْ وَجَدْنَا سَاقِيَةً يَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُرُوعٌ بَعْضُهَا فِي بَطْنِهَا بِنَاءٌ بِالْحِجَارَةِ كَالثُّقْبِ فِي الْخَشَبَةِ مَثَلًا وَبَعْضُهَا أَيْ: الْفُرُوعُ خَالِيَةٌ عَنْ الْبِنَاءِ فَطَلَبَ الَّذِي فِي بَطْنِ سَاقِيَتِهِ الْبِنَاءُ بَقِيَّةَ شُرَكَائِهِ أَيْ أَهْلَ الْفُرُوعِ الَّذِينَ لَا بِنَاءَ فِي سَوَاقِيهِمْ أَنْ يَبْنُوا مِثْلَهُ فَهَلْ يُجْبَرُونَ حَيْثُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ سِوَى كُلْفَةِ الْبِنَاءِ أَمْ لَا لَا وَلَوْ حَصَلَ الطَّلَبُ مِنْ أَحَدِ الَّذِينَ لَا بِنَاءَ عَلَيْهِمْ فِي سَوَاقِيهِمْ وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا هَلْ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمُمْتَنِعُ حَيْثُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَفَائِدَةُ الْبِنَاءِ الْفِرَارُ مِنْ أَنْ يَخْفِضَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَرْضَهُ وَالسَّاقِيَةَ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ فَيَفُوزَ بِكُلِّ الْمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ دُونَ شُرَكَائِهِ. وَبِالْبِنَاءِ يَزُولُ الْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) : بِأَنَّا حَيْثُ وَجَدْنَا بَعْضَ الْفُرُوعِ فِي بَاطِنِهِ بِنَاءٌ بِالْحِجَارَةِ وَبَعْضُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَا نَدْرِي هَلْ وُضِعَ كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ لَا؟ حَكَمْنَا بِحَقِّيَّةِ كُلِّ سَاقِيَةٍ أَوْ فَرْعٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.

وَلَا يُجَابُ مَنْ طَلَبَ اسْتِوَاءَهَا فِي الْبِنَاءِ أَوْ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ لَا يُعْلَمُ أَصْلُهُ أَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ فَلَا يُجَابُ مَنْ طَلَبَ تَغْيِيرَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ أَمْ لَا، وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ قَدْ يَخْفِضُ أَرْضَهُ وَسَاقِيَتَهُ فَيَفُوزُ بِكُلِّ الْمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِ وَلَا إلَى أَنَّ الْبِنَاءَ يُزِيلُ هَذَا الْمَحْذُورَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ فِعْلِ ذَلِكَ وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مُتَمَكِّنٌ مِنْ

ص: 185

رَفْعِ الْفَاعِلِ إلَى الْحَاكِمِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.

. (وَسُئِلَ) لَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ أَوْ يُحْيِيَ تَحْتَهَا مَوَاتًا وَيَسْقِيَ مَا أَحْيَاهُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يَحْتَاجُ لِفَاضِلِ الْمَاءِ أَمْ لَا؟ وَلَوْ كَانَ يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَمَا حُكْمُهُ؟ وَقَوْلُ الْإِرْشَادِ لَا حَادِثَ ضَيِّقٌ يُشِيرُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الضِّيقِ وَمَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الضِّيقِ الْمَانِعِ مِنْ سَقْيِ الْحَادِثِ؟ وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ الرَّوْضَةِ وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَاءِ وَيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنِعَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا شُرْبًا لَمْ يَكُنْ اهـ.

قَالَ السَّمْهُودِيُّ فِي فَتَاوِيهِ: وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ زَادَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مُنِعَ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ شُرْبًا لَمْ يَكُنْ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمَاءُ الْجَارِي فِي النَّهْرِ وَاسِعًا فَإِنْ مَنَعْنَاهُ أَضْرَرْنَا بِهِ، وَإِنْ تَرَكْنَاهُ يُحْيِي وَيَسْقِي أَضْرَرْنَا بِشُرَكَائِهِ إذَا حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شُرْبًا لَمْ يَكُنْ، وَيُجْعَلُ الْمِلْكُ فِي النَّهْرِ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضَيْنِ عِنْدَ طُولِ الزَّمَانِ وَانْدِرَاسِ الْحُقُوقِ وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْمَاءِ الْمَمْلُوكَيْنِ وَالْمُبَاحَيْنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ أَمْ لَا؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟

(فَأَجَابَ) : قَدْ مَرَّ الْجَوَابُ مَبْسُوطًا آخِرَ الْجَوَابِ الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ فَلَا نُطِيلُ بِذِكْرِهِ هُنَا، وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَأْخِيرَهُ إلَى هُنَا لَكِنَّهُ عِنْدَ كِتَابَتِهِ ثَمَّ لَمْ أَدْرِ أَنَّكُمْ أَفْرَدْتُمُوهُ بِسُؤَالٍ مُسْتَقِلٍّ، وَحَاصِلُ الَّذِي مَرَّ ثَمَّ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ وَيَسْقِي بِهِ أَرْضًا أُخْرَى لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ لَيْسَ لَهَا رَسْمُ شُرْبٍ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ مُنِعَ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ تَحْتَ أَرْضِهِ مَوَاتًا وَيَسْقِيَهُ بِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، أَمَّا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَهْرٍ مُبَاحٍ فَإِنْ كَانَ يُضَيِّقُ بِهِ عَلَى مَنْ اسْتَحَقُّوا الشُّرْبَ مِنْهُ مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْيَاءِ وَتَبِعَهُ فِي الْإِرْشَادِ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَمُنَازَعَةُ الْأَذْرَعِيِّ فِي تَصْرِيحِ الرُّويَانِيِّ بِذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ غَيْرِ الْإِحْيَاءِ رَدَدْتهَا ثَمَّ بِكَلَامِ الرَّوْضَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِحْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالضِّيقِ الْمَانِعِ مِنْ إحْدَاثِ الْإِحْيَاء أَنْ لَا يَكُونَ الْمَاءُ يَفِي بِالْحَادِثِ مَعَ الْقُدَمَاءِ، أَمَّا إذَا كَانَ يَفِي بِالْجَمِيعِ أَيْ: بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَأَنْوَاعِ الْمَزْرُوعَاتِ وَالْمَغْرُوسَاتِ فَلَا يُمْنَعُ الْحَادِثُ مِنْ الْإِحْيَاءِ، بَلْ يَسْقِي كُلَّ مَا شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَمَا ذَكَرَهُ السَّمْهُودِيُّ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ الرَّوْضَةِ صَحِيحٌ، وَقَوْلُ السَّائِلِ: لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْمَاءُ الْجَارِي إلَخْ جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا نَظَرَ لِسَعَتِهِ حَيْثُ أَضَرَّتْ بِشُرَكَائِهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَ كَوْنِ النَّهْرِ مَمْلُوكًا لَهُمْ

أَمَّا عِنْدَ كَوْنِهِ مُبَاحًا فَيُنْظَرُ إلَى سَعَتِهِ وَضِيقِهِ كَمَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَعِظَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِهِمْ، فَقَالَ حَاكِمُ تِلْكَ الْبَلْدَةِ: إنِّي لَا آذَنُ لَكُمْ أَنْ يَعِظَكُمْ الرَّجُلُ الْعَالِمُ لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ أَوْ هَلْ يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَلْدَةِ أَنْ يَتَّعِظُوا بِدُونِ إذْنِ الْحَاكِمِ حِينَ يُخَالِفُ الْحَاكِمُ لِخُصُومَتِهِ؟

(فَأَجَابَ) : إنْ كَانَ فِيمَنْ يُرِيدُ وَعْظَ النَّاسِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ يَسْلُكُ مَا يَسْلُكُ وُعَّاظُ هَذَا الزَّمَنِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْقِصَصِ الْكَاذِبَةِ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِذَلِكَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدٍ صَغِيرٍ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى وَعْظِهِ فِتْنَةٌ جَازَ لَهُ الْوَعْظُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْوَعْظِ بِأَنْ لَمْ يُحْسِنْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَإِلَّا نَهَاهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْوَعْظُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْحَاكِمُ، نَعَمْ إنْ كَانَ يَعِظُ مِنْ كِتَابٍ مَوْثُوقٍ كَالْإِحْيَاءِ لَلْغَزَالِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ فِيمَا يَقْرَؤُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ جَازَ لَهُ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَذْكُرُ فِي وَعْظِهِ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ الْبَاطِلَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ أَوْ الْقِصَصِ الْكَاذِبَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَصْلَحَهُ اللَّهُ مَنْعُهُ وَزَجْرُهُ زَجْرًا يَلِيق بِهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ كَمَا ذُكِرَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي وَعْظِهِ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ وَأَرَادَ الْجُلُوسَ لِذَلِكَ

ص: 186

فِي الْمَسْجِدِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ جَرَتْ عَادَةُ تِلْكَ الْبَلَدِ بِاسْتِئْذَانِ حَاكِمِهَا عِنْدَ الْجُلُوسِ لِذَلِكَ وَنَحْوِهِ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا إنْ أَذِنَ لَهُ الْحَاكِمُ، وَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ يَجْلِسُونَ لِذَلِكَ بِلَا إذْنِهِ لَمْ يَحْتَجْ لِاسْتِئْذَانِهِ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّحْ الْحَاكِمُ لَهُ بِالْمَنْعِ، أَمَّا إذَا مَنَعَهُ مِنْ الْوَعْظِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ نَهْيِهِ امْتِثَالًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَمْنُوعِ، وَأَمَّا الْحَاكِمُ الْمَانِعُ لَهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ تَأَهَّلَ لِوَعْظٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ لِيَرُدَّ بِهِ شَارِدَهُمْ وَيَسْتَتِيبَ بِصَوَاعِقِ تَخْوِيفِهِمْ عَاصِيَهُمْ، وَمَتَى فَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ لِحَظِّ نَفْسِهِ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَقْتِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَكَانَ خَصْمًا لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَرَّضَ مَنْ تَأَهَّلَ لِذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى فِعْلِهِ تَحْرِيضًا شَدِيدًا أَكِيدًا وَنَهَى عَنْ السَّعْيِ فِي تَعْطِيلِ أَسْبَابِ الْخَيْرِ نَهْيًا بَلِيغًا:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ بِرْكَةٍ فِي مَسْجِدٍ يَتَحَصَّلُ إلَيْهَا مَاءٌ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ هَلْ يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنْ مَائِهَا إلَى الْبُيُوتِ لِلطَّهُورِ أَوْ غَيْرِهِ؟

(فَأَجَابَ) : لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْقُلَ مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْبِرْكَةِ شَيْئًا لَا لِطَهُورٍ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ صَارَ مُخْتَصًّا بِمَاءِ تِلْكَ الْبِرْكَةِ الَّتِي هِيَ مِلْكٌ لَهُ أَوْ وَقْفٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا اخْتَصَّ بِمَائِهَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ مِنْهَا وَفِي الْخَادِمِ عَنْ الْعَبَّادِيِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْ الْمَاءِ الْمُسَبَّلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحِلِّ كَمَا لَوْ أَبَاحَ لِوَاحِدٍ طَعَامًا لِيَأْكُلَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ حَمْلُ الْحَبَّةِ مِنْهُ وَلَا صَرْفُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْآكِلِ ثُمَّ قَالَ: وَفِي هَذَا تَضْيِيقٌ شَدِيدٌ وَعَمَلُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَعَلَى الْأَوَّلِ الْأَوْجَهِ فَهَلْ الْمُرَادُ بِالْمَحِلِّ فِي كَلَامِهِ الْمَحَلَّةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا كَنَقْلِ الزَّكَاةِ أَوْ مَوْضِعُهُ الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ عَادَةً بِحَيْثُ يَقْصِدُ الْمُسَبَّلَ أَهْلُهُ بِذَلِكَ؟ مَحِلُّ نَظَرٍ وَالثَّانِي أَقْرَبُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) هَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا فِي طَرِيقِ السَّيْلِ يَزْرَعُهُ وَيَسْقِي بِهِ قَبْلَ مَنْ لَهُمْ أَمْلَاكٌ تَسْقِي بِالسَّيْلِ الْمَذْكُورِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ إحْدَاثُ الْإِحْيَاءِ الْمَذْكُورِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَ مَنْ لَهُ الْأَمْلَاكُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى إحْيَائِهِ الْحَادِثِ أَوْ لَا؟ وَإِذَا قُلْتُمْ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ يَشْرَبُ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى هَلْ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْمُتَقَدِّمُ مِلْكُهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْحَادِثِ أَمْ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْأَقْرَبُ إلَى مَجْرَى السَّيْلِ؟ وَإِنْ كَانَ إحْيَاؤُهُ حَادِثًا فَإِنْ قُلْتُمْ: الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى هُوَ السَّابِقُ مِلْكُهُ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْحَادِثِ فَهَلْ لِلْمُلَّاكِ الْأَقْدَمِينَ مَنْعُ الْمُحْيِي الْحَادِثِ مِنْ التَّقَدُّمِ بِالسَّقْيِ أَمْ لَا؟

وَإِذَا قُلْتُمْ: لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَلْ مَنْعُ بَعْضِ الْمُلَّاكِ كَافٍ فِي مَنْعِهِ مِنْ التَّقَدُّمِ عَلَى الْجَمِيعِ أَمْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمَانِعِ فَقَطْ؟ وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي مَنْعِهِ مِنْ التَّقَدُّمِ بِالسَّقْيِ بَيْنَ مَنْعِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْ إذْنِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ أَوْ بِسُكُوتِهِمْ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضُهُمْ أَوْ لَا؟ وَهَلْ إذَا تَقَدَّمَ بِالسَّقْيِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَمَاتَ وَلَهُ وَرَثَةٌ هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ هُوَ لَوْ كَانَ حَيًّا أَمْ لَا؟ وَهَلْ مَنْعُهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الضَّيْعَةِ الَّتِي أَحْيَا فَوْقَهُمْ أَمْ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يَشْرَبُ بِالسَّيْلِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَ فِي ضَيْعَةٍ أُخْرَى قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ؟ وَهَلْ لِمَنْ كَانَ لَهُ مِلْكٌ سَابِقٌ فِي الضَّيْعَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِحْيَاءُ فَوْقَهَا وَمِلْكٌ سَابِقٌ بِضَيْعَةٍ أُخْرَى تَشْرَبُ بِالسَّيْلِ الْمَذْكُورِ مَنْعُهُ مِنْ التَّقَدُّمِ بِسَبَبِ مِلْكِهِ الَّذِي فِي الضَّيْعَةِ الْأُخْرَى قَرُبَتْ أَمْ بَعُدَتْ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) : أَصْحَابُ الْأَرَاضِي الَّتِي تُسْقَى بِالسَّيْلِ يَمْلِكُونَ مَرَافِقَهَا، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَرَافِقِ مَمَرُّ ذَلِكَ السَّيْلِ الْمُسْتَقِرُّ لَهُ فَلِكُلٍّ مِنْ مُلَّاكِ تِلْكَ الْأَرَاضِي الْمَنْعُ مِنْ الْإِحْيَاءِ فِي ذَلِكَ الْمَمَرِّ مُطْلَقًا، فَإِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ الْمَمَرِّ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ إلَّا إنْ أَرَادَ سَقْيَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَمَرِّ الْمُسْتَحَقِّ لِأُولَئِكَ فَلَهُمْ حِينَئِذٍ مَنْعُهُ مِنْ نَفْسِ الْإِحْيَاءِ إذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ بِهِ قَالَ الشَّيْخَانِ: لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا أَرْضَهُمْ بِمَرَافِقِهَا، وَالْمَاءُ أَعْظَمُ مَرَافِقِهَا، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِحْيَاءُ خَارِجًا عَنْ الْمَمَرِّ وَلَمْ يُرِدْ الْمُحْيِي سَقْيَ مَا أَحْيَاهُ مِنْهُ أَوْ أَرَادَهُ وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَى أَرْبَابِ تِلْكَ الْأَرَاضِي فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مَنْعُهُ مِنْ الْإِحْيَاءِ حِينَئِذٍ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّقْيَ مِنْ ذَلِكَ السَّيْلِ الْمُسْتَحَقِّ لِتِلْكَ الْأَرَاضِي إلَّا بَعْدَ أَنْ تَشْرَبَ جَمِيعُ

ص: 187

الْأَرَاضِي السَّابِقِ إحْيَاؤُهَا عَلَى إحْيَائِهِ، سَوَاءٌ الَّتِي فِي ضَيْعَتِهِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا.

وَإِنْ بَعُدَتْ وَفَحُشَ بُعْدُهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ سَبَقَ إحْيَاؤُهَا عَلَى إحْيَاءِ هَذَا الْحَادِثِ تَسْتَحِقُّ الشُّرْبَ قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَقْرَبَ إلَى مَجْرَى السَّيْلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ السَّبْقَ لَيْسَ بِالْقُرْبِ، بَلْ بِالسَّبَقِ فِي الْإِحْيَاءِ وَحَيْثُ قُلْنَا بِأَنَّ لَهُمْ مَنْعَهُ مِنْ الْإِحْيَاءِ أَوْ السَّقْيِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كُلِّهِمْ وَبَعْضِهِمْ وَلَا بَيْنَ سُكُوتِهِمْ عَنْهُ مُدَّةً وَمُبَادَرَتِهِمْ بِالْمَنْعِ عَقِبَ الْإِحْيَاءِ فَلِبَعْضِهِمْ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ الْمُحْيِي الْحَادِثِ إلَى أَنْ مَاتَ أَنْ يَمْنَعَ وَرَثَتَهُ مِنْ الْإِحْيَاءِ أَوْ السَّقْيِ بِتَفْصِيلِهِمَا السَّابِقِ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِحْيَاءِ لَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ، فَإِذَا مَنَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ كَفَى، وَأَمَّا الْمَنْعُ مِنْ السَّقْيِ فَيُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ وَاحِدٌ مَثَلًا امْتَنَعَ حَتَّى تُسْقَى أَرْضُ السَّابِقِ إحْيَاؤُهَا، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ أَمْ تَعَدَّدَتْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ أَرَاضِيه فِي ضَيْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ ضِيَعٍ، نَعَمْ لَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَ أَرَاضِي وَاحِدٍ أَرْضٌ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَنْ يُؤْثِرَ ذَلِكَ الْحَادِثَ بِقَدْرِ مَا تَسْتَحِقُّهُ أَرْضُهُ مِنْ الشُّرْبِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ سَابِقِ إذْنٍ فَيُقَدَّمُ الْمَأْذُونُ لَهُ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْآذِنِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْآذِنُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِإِذْنِ بَعْضِهِمْ إلَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ السَّقْيِ فَقَطْ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِحْيَاءِ فَلَا يَكْفِي إذْنُ بَعْضِهِمْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِ جَمِيعِهِمْ لِمَا مَرَّ أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَلِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ إذْنِهِ، فَإِنْ رَجَعَ الْكُلُّ بَعْدَ إذْنِهِمْ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ أَذِنُوا كُلُّهُمْ ثُمَّ رَجَعَ بَعْضُهُمْ أَثَّرَ رُجُوعُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْعِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْمُحْيِي لَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْعِ مِنْ السَّقْيِ إلَّا فِيمَا يَخُصُّهُ فَقَطْ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ، نَعَمْ يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِيمَا إذَا رَجَعُوا عَنْ إذْنِهِمْ بَعْدَ أَنْ أَحْيَا وَعَمَّرَ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْتِيَ هُنَا نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي رُجُوعِ الْمُعِيرِ.

(وَسُئِلَ) هَلْ يَحْرُمُ الْمُرُورُ فِي سُوقِ الصَّاغَةِ؟

(فَأَجَابَ) نَعَمْ يَحْرُمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُمَا وَالْكَلَامُ فِي الْمُرُورِ حَالَ الْمُعَامَلَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَالرِّبَا لَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ مَلْحَظَ الْحُرْمَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ الْإِقْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ حَرَامٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: يَحْرُمُ الْجُلُوسُ مَعَ الْفُسَّاقِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرُورَ عَلَى الْمُتَبَايِعِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فِيهِ إقْرَارٌ لَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَغَيْرِهِ يَحْرُمُ الْمُرُورُ أَيَّامَ الزِّينَةِ، وَمَلْحَظُهُ مَا فِيهِ مِنْ التَّقْرِيرِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَمِمَّا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ ذِكْرَ الصَّاغَةِ مَثَلٌ وَإِلَّا فَمَحِلُّ كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَذَلِكَ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فِي بِئْرٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ أَقْوَامٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمٌ مَعْلُومٌ وَعَلَيْهَا أَرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ وَمُنْخَفِضَةٌ مَثَلًا فَالْمُرْتَفِعَةُ لَهَا رَفِيعٌ يُسَاقُ مِنْ عَلَيْهِ الْأَرَاضِي الْمُرْتَفِعَةُ، وَالْمُنْخَفِضَةُ لَهَا أَيْضًا رَفِيعٌ يُسَاقُ مِنْ عَلَيْهِ وَتُرَابُ الرَّفِيعَيْنِ مَعًا مِلْكٌ لِزَيْدٍ وَلِبَاقِي الشُّرَكَاءِ الْمُرُورُ بِالْمَاءِ إلَى أَرَاضِيِهِمْ مِنْ تُرَابِ زَيْدٍ فَانْهَدَمَ الرَّفِيعُ الْأَعْلَى الَّذِي يُسَاقُ مِنْ عَلَيْهِ الْأَرَاضِي الْمُرْتَفِعَةُ وَهِيَ خَاصَّةُ زَيْدٍ أَعْنِي الْأَرَاضِيَ الْمُرْتَفِعَةَ فَعَجَزَ زَيْدٌ عَنْ عِمَارَتِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ لِلتُّرَابِ الْمَذْكُورِ فَأَرَادَ أَنْ يَمْضِيَ بِمَائِهِ مِنْ الْبِئْرِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مَمَرِّ الشُّرَكَاءِ إلَى أَرْضِهِ الْمُرْتَفِعَةِ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِمَا يُوَافِقُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ ضَرَرٌ عَلَى شُرَكَائِهِ أَوْ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) رحمه الله: نَعَمْ لِزَيْدٍ أَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ أَرَادَ مِنْ جِهَاتِ مِلْكِهِ الْخَاصَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرَاضِي الْمَذْكُورَةِ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، بَلْ وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى عِمَارَةِ الْمَمَرِّ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ فِي أَرْضِهِ فَإِنْ أَرَادُوا عِمَارَتَهُ مِنْ مَالِهِمْ حَتَّى يَجْرِيَ الْمَاءُ إلَى أَرَاضِيهِمْ لَمْ يَكُنْ لِزَيْدٍ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلْتُ) عَنْ أَرْضٍ لَهَا شُرْبٌ مِنْ أَرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَرَادَ صَاحِبُهَا الِاقْتِصَارَ عَلَى سَقْيِهَا مِنْ بَعْضِهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ لِتَرْكِهِ بَعْضَ حَقِّهِ أَوْ لَا لِحُصُولِ الضَّرَرِ عَلَى الْمَسْقِيِّ مِنْهُ؟ فَأَجَبْت الْقِيَاسُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِعَادَةِ تِلْكَ الْأَرْضِ فَإِذَا اطَّرَدَتْ بِشُرْبِهَا مِنْ أَرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَالِكِهَا الِاقْتِصَارُ بِشُرْبِهَا جَمِيعِهَا عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَرَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اطَّرَدَ فِيهَا ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الِاسْتِحْقَاقُ إلَّا بِقَدْرِ تِلْكَ الْحِصَصِ الَّتِي تَخُصُّهَا مِنْ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَرَاضِي فَإِذَا أَرَادَ مَالِكُهَا أَنْ يَسْقِيَهَا كُلَّهَا مِنْ أَحَدِ

ص: 188

تِلْكَ الْأَرَاضِي كَانَ آخِذً أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ الْمَعْمُولِ بِهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَطَّرِدْ بِأَنْ كَانَتْ مَرَّةً تُسْقَى مِنْ جَمِيعِهَا وَمَرَّةً تُسْقَى مِنْ بَعْضِهَا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا اخْتِصَاصٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الْكُلِّ وَلَا مِنْ الْبَعْضِ، بَلْ الثَّابِتُ لَهَا مُطْلَقُ اسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ فَلِمَالِكِهَا اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَرَاضِي كُلِّهَا وَمِنْ بَعْضِهَا وَلَا نَظَرَ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ بَعْضَ مَالِكِيِّ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا لَا عَلَى التَّعْيِينِ وَعِنْدَ تَقَرُّرِ هَذَا الثُّبُوتِ لَا يُنْظَرُ لِلُحُوقِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فِيمَا إذَا كَانَ مَوْضِعٌ فِي صَحْرَاءَ يَسِيلُ مَاؤُهُ فِي بُسْتَانِ شَخْصٍ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرَى نَحْوُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا فَأَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يَحْفِرَ فِيهِ بِئْرًا أَوْ يُجْرِيَ فِيهِ نَهْرًا أَوْ يَغْرِسَ فِيهِ غَرْسًا أَوْ يَبْنِيَ فِيهِ بَيْتًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ فِيهِ مَطْرَحُ رَمَادٍ وَسِرْجِينٌ وَقُمَامَاتٌ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ الَّذِي أُرِيدَ فِيهِ إحْدَاثُ مَا ذُكِرَ إنْ كَانَ مِنْ حَرِيمِ الْبَلَدِ أَوْ بَعْضِ مَزَارِعِهَا أَوْ أَنْهَارِهَا أَوْ مَجَارِي سُيُولِهَا الَّتِي تُرْوَى بِهَا مَزَارِعُهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَسَاتِينِهَا أَوْ مِنْ حَرِيمِ ذَلِكَ الْبُسْتَانِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ أَوْ مَجْرَى مَائِهِ لَمْ يَجُزْ فِيهِ إحْدَاثُ مَا ذُكِرَ إلَّا بِإِذْنِ جَمِيعِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي الْأُولَى أَوْ صَاحِبِ الْبُسْتَانِ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهِ اسْتِحْقَاقٌ فَهُوَ مَوَاتٌ فَلِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ إحْيَاؤُهُ وَمَنْ أَحْيَاهُ مَلَكَهُ بِشَرْطِهِ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) سُؤَالًا صُورَتُهُ: سُئِلَ بَعْضُ الْمُفْتِينَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ صَحْرَاءَ يَسِيلُ مَاؤُهَا فِي مَعْمُورٍ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْنِيَ فِي تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بَيْتًا بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُ نُزُولَ الْمَاءِ إلَى الْمَعْمُورِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْمَعْمُورِ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتًا فِي الصَّحْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَهْلُ الْمَعْمُورِ إذَا لَمْ يَضُرُّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَهَذَا مِنْ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اهـ.

جَوَابُهُ فَهَلْ جَوَابُكُمْ كَذَلِكَ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ الَّذِي يُرِيدُ الْبِنَاءَ فِيهِ إنْ كَانَ مَجْرَى مَاءِ الْمَعْمُورِ أَوْ مِنْ حَرِيمِهِ فَلِأَهْلِ الْمَعْمُورِ مَنْعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ مُطْلَقًا، نَعَمْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْأَنْهَارَ الْمُبَاحَةَ فَضْلًا عَنْ الْمَمْلُوكَةِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى حَافَّاتِهَا وَلَا فِي حَرِيمِهَا؛ لِأَنَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا حَقًّا فَهِيَ كَالشَّوَارِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) سُؤَالًا صُورَتُهُ: قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ مِنْ الْبَابِ السَّابِعِ فِي الْفَتَاوَى إذَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ جُنْدِيًّا أَرْضًا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهَا أَمْ لَا؟ الْجَوَابُ نَعَمْ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِمَنْفَعَتِهَا وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهَا مُعَرَّضَةً لَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا السُّلْطَانُ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُؤَجِّرَ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ صَدَاقُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَرَّضَةً لَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْهَا بِفَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ اهـ.

قَالَ الْبُرْهَانُ الْفَزَارِيّ: وَكَانَ وَالِدِي يُفْتِي بِبُطْلَانِ إجَارَةِ الْإِقْطَاعِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ إجَارَةُ الْإِقْطَاعِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَأَنَا مُوَافِقٌ فِي ذَلِكَ وَتَحْقِيقُ الْبَحْثِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرْجِعُ إلَى شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُقْطَعَ هَلْ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ الْمُقْطَعَةِ بِالْإِقْطَاعِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ مَلَكَهَا فَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا لَمْ تَصِحَّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَكَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَالْمُسْتَعِيرِ.

فَنَقُولُ: لَمْ يَمْلِكْهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: الْمُؤَبَّدُ مِنْ الْإِقْطَاعِ يَكُونُ تَمْلِيكًا وَيَكُونُ غَيْرَ تَمْلِيكٍ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «لَمَّا قَدِمَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَقْطَعَ النَّاسَ الدُّورَ» مَعْنَاهُ أَنْزَلَهُمْ فِي دُورِ الْأَنْصَارِ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ إقْطَاعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُهَاجِرِينَ الدُّورَ عَلَى مَعْنَى الْعَارِيَّةِ فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ الْمِلْكُ.

وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ وَكَانَ قَبْلَ الْإِقْطَاعِ لِغَيْرِ الْمُقْطَعِ قَطْعًا احْتَمَلَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءُ الْمِلْكِ الْمُحَقَّقِ فَلَا يَكُونُ الْمُقْطَعُ مَالِكًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سِوَى مُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْطَعُ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا التَّحْقِيقَ عَرَفْت انْدِفَاعَ الْقِيَاسِ الَّذِي

ص: 189

ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مَحْيِي الدِّينِ وَأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي هِيَ صَدَاقٌ لِلزَّوْجَةِ مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ وَلَيْسَ مِلْكُ الصَّدَاقِ مُتَوَقِّفًا عِنْدَنَا عَلَى الدُّخُولِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَى الدُّخُولِ الِاسْتِقْرَارُ وَهُنَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُقْطَعُ الْأَرْضَ بِلَا شَكٍّ وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ بَيْعَهَا مُنِعَ مِنْهُ وَالتَّرَدُّدُ وَقَعَ فِي مِلْكِهِ الْمَنْفَعَةَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَيْسَ الْمُقْطَعُ مَالِكًا لِأَرْضٍ وَلَا مَنْفَعَتِهَا، وَالصَّدَاقُ مَمْلُوكٌ لِلزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ وَقَاسَ بَعْضُهُمْ إجَارَةَ الْإِقْطَاعِ عَلَى إجَارَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ هَذَا الْقِيَاسُ أَيْضًا، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ الْوَقْفِ.

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: زَوَائِدُ الْوَقْفِ وَمَنَافِعُهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ جَزَمَ بِذَلِكَ وَحَكَى قَوْلًا أَنَّهُ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِقْطَاعُ كَالْوَقْفِ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُقْطَعَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْقُوفَ إذَا صَحَّ لَزِمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَالْإِقْطَاعُ إنَّمَا يُخْرِجُهُ الْإِمَامُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ لَا عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ فِيهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ إجَارَةُ الْوَقْفِ لِكَوْنِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُؤَجِّرُهُ إذَا جَعَلَهُ الْوَاقِفُ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَنَظِيرُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْمُقْطَعَ لَا يُؤَجِّرُ الْإِقْطَاعَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَقْطَعًا، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِجَارَةِ جَازَ حِينَئِذٍ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مَلَكَ مَنْفَعَةَ الْوَقْفِ جَزْمًا وَالرَّقَبَةَ عَلَى قَوْلٍ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ بِكَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، فَالْمُقْطَعُ أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَجِّرَ الْإِقْطَاعَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُقْطَعًا فَإِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ الرَّقَبَةَ جَزْمًا وَلَا يَثْبُتُ مِلْكُهُ لِلْمَنْفَعَةِ بَلْ الْأَصْلُ عَدَمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْحِصْنِيُّ فِي الْمُرْشِدِ: وَلِلْمُقْطَعِ أَنْ يُؤَجِّرَ الْأَرْضَ الَّتِي أَقْطَعَهَا الْإِمَامُ وَلَوْ بِلَا إذْنِهِ فِي الْمُخْتَارِ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ بِمِلْكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَهُ إجَارَتُهُ وَإِعَارَتُهُ وَالتَّصَرُّفُ كَيْفَ شَاءَ اهـ.

وَقَالَ الْعُثْمَانِيُّ الصَّفَدِيُّ: وَالْمَشْهُورُ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ صِحَّتُهَا قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: لِأَنَّ الْجُنْدِيَّ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ قَالَ السُّبْكِيّ مَازِلْنَا نَسْمَعُ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ إجَارَةِ الْإِقْطَاعِ

(فَأَجَابَ) جَلَى اللَّهُ عَنْ مِرْآةِ قُلُوبِنَا بِفَيْضِ مَدَدِهِ وَمَعْلُومَاتِهِ رِبْقَةَ الْإِشْكَالِ: الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ وَهِيَ أَنَّ التَّقِيَّ السُّبْكِيّ قَالَ: الْإِقْطَاعَاتُ الْمَعْرُوفَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ السُّلْطَانِ لِلْجُنْدِ فِي أَرْضٍ عَامِرَةٍ تَسْتَغِلُّهَا وَتَكُونُ لَهُمْ فَوَائِدُهَا وَمَنَافِعُهَا مَا لَمْ يَنْزِعْهَا مِنْهُمْ أَوْ يَمُوتُوا لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، وَتَسْمِيَتُهُ إقْطَاعًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْإِقْطَاعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَوَاتِ، وَتَجْوِيزُهُ يَحْتَاجُ إلَى أَصْلٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَإِلَى تَخْرِيجِ طَرِيقٍ فِقْهِيٍّ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْمُقْطَعَ بِمُجَرَّدِ الْإِقْطَاعِ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ وَالْفَوَائِدَ وَأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَإِنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي اسْتِغْلَالِهَا وَإِيجَارِهَا ثُمَّ يَسْتَأْثِرُ بِمَا تَحَصَّلَ اقْتَضَى تَسْلِيطُ الْإِمَامِ عَلَى أَخْذِهِ قَبْلَ اسْتِئْثَارِهِ بِهِ، وَأَنَّهُ مِلْكٌ لِرَبِّ الْمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ مُشْكِلٌ.

وَعَلَى الْفَقِيهِ الْفِكْرُ فِيهِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْإِقْطَاعَاتِ، بَلْ الرِّزَقِ الَّتِي يُطْلِقُهَا السُّلْطَانُ لِلْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَجْرِي فِيهَا هَذَا الْكَلَامُ وَمِنْ فَوَائِدِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى أَحَدٌ وَزَرَعَهَا هَلْ نَقُولُ يَجِبُ عَلَيْهِ أُجْرَتُهَا لِصَاحِبِهَا لِأَنَّهُ مَلَكَ مَنْفَعَتَهَا بِالْإِقْطَاعِ أَوْ الْإِطْلَاقُ مُجَرَّدُ الِاخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى اشْتِرَاكِ النَّاسِ فِيهَا وَالزَّارِعُ أَحَدُهُمْ؟ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْإِقْطَاعُ تَسْوِيغُ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا لِمَنْ يَرَاهُ أَهْلًا لِذَلِكَ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي إقْطَاعِ الْأَرْضِ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهَا لَهُ مَا يُجَوِّزُهُ، وَأَمَّا أَنْ يُمَلِّكَهُ إيَّاهُ فَيُعَمِّرَهُ أَوْ يَجْعَلَ لَهُ غَلَّتَهُ مُدَّةً هَذَا مَعْنَى الْإِقْطَاعِ الَّذِي فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا لَمْ يَذْكُرُوهُ اهـ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَا أَظُنُّ فِي جَوَازِ الْإِقْطَاعِ الْمَذْكُورِ إذَا صَدَرَ فِي مَحِلِّهِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ قَدْرًا يَلِيقُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِ مُجَازَفَةٍ خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ قَالَ: ثُمَّ بِعَدَدِ هَذَا وَقَفْت عَلَى مُصَنَّفٍ قَدِيمٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا سَمَّاهُ كِتَابَ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ أَرَاضِي الْإِسْلَامِ وَتَصَرُّفِ الْإِمَامِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ الْجُنْدِيَّ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْر زِيَادَةٍ، قَالَ وَمَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدِيُّ عَلَى الزِّرَاعَةِ لَيْسَ بِخَرَاجٍ

ص: 190

بَلْ هُوَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَيَحِلُّ لَهُمْ تَنَاوُلُ الْغَلَّةِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُرَاضَاةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَحَرَامٌ قَطْعًا، وَكَذَا مَا يَأْخُذُهُ الْمُقْطَعُونَ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَالْمُزَارِعِينَ مِنْ الْغَنَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْعَسَلِ وَالدَّجَاجِ فَهُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ اهـ.

وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِ السُّبْكِيّ: هَذِهِ الْإِقْطَاعَاتُ الْمَعْرُوفَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَمْ أَجِدْ لَهَا ذِكْرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ إقْطَاعِ الِاسْتِغْلَالِ وَجَعْلِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: عُشْرٍ، وَخَرَاجٍ لَيْسَ هُوَ هَذَا الْإِقْطَاعَ الْمَعْرُوفَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا هُوَ إقْطَاعُ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ أَيْ: أَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا إقْطَاعُ الْعُشْرِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ زَكَاةٌ لِأَصْنَافٍ يَصِيرُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُهُمْ عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا وَقْتَ اسْتِحْقَاقِهَا؛ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِشُرُوطٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ لَا تُوجَدَ فَلَا تَجِبُ قَالَ: وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ إقْطَاعِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ مُقْطَعِهِ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ.

وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ مَفْرُوضٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْطَعُوهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقْطَعُوا مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ نَفْلِ أَهْلِ الْفَيْءِ لَا مِنْ فَرِيضَتِهِ كَمَا يُعْطَوْنَ مِنْ غَلَّاتِ الْمَصَالِحِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونُوا مِنْ مُرْتَزِقَةِ أَهْل الْفَيْء وَفَرِيضَة الدِّيوَان وَهُمْ الْجَيْشُ فَهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِجِوَارِ الْإِقْطَاعِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَرْزَاقًا مُقَدَّرَةً تُصْرَفُ إلَيْهِمْ مَصْرِفَ الِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّهَا أَعْوَاضٌ عَمَّا أَرَصَدُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ مِنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَالذَّبِّ عَنْ الْحُرَمِ، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْسَامِ وَالشُّرُوطِ يَجْرِي فِي إقْطَاعَاتِ هَذَا الزَّمَانِ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يَخْلُو إقْطَاعُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدِهَا أَنْ يُقَدِّرَ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ إذَا رُوعِيَ فِيهِ كَوْنُ رِزْقِ الْمُقْطَعِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِنْدَ بَاذِلِ الْإِقْطَاعِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ.

وَكَوْنُ قَدْرِ الْخَرَاجِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُقْطَعِ وَالْبَاذِلِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا، الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِهَذَا الْإِقْطَاعِ عَنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ إلَى الْأَمْلَاك الْمَوْرُوثَةِ وَحِينَئِذٍ فَمَا اجْتَبَاهُ بِإِذْنٍ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ بَيْنَ أَهْلِ الْخَرَاجِ يَقْبِضُهُ وَيُحَاسَبُ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ رِزْقِهِ، فَإِنْ زَادَ رَدَّ الزِّيَادَةَ وَإِلَّا رَجَعَ بِالْبَاقِي، وَأَظْهَرَ لَهُ السُّلْطَانُ فَسَادَ الْقَبْضِ حَتَّى يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبْضِ وَهُمْ مِنْ الدَّفْعِ، فَإِنْ دَفَعُوا بَعْدَ إظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ لَمْ يَبْرَءُوا لَهُمْ، الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يُقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ إذَا قِيلَ: إنَّ حُدُوثَ زَمَانَتِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ رِزْقِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ اهـ.

حَاصِلُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَ عُدْنَا إلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ: كَلَامُ النَّوَوِيِّ فِي فَتَاوِيهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْطَاعِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إجَارَتِهِ فَرْعُ صِحَّتِهِ، وَقَدْ مَرَّ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ، وَمَا نَقَلَهُ فِيهِ مِنْ الصِّحَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا أَفْتَى بِهِ النَّوَوِيُّ فَهُوَ الْأَصَحُّ الْمَعْمُولُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ التَّقِيُّ ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ يُفْتِي بِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ طُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، لَكِنْ إذَا خَرَجَ الْإِقْطَاعُ عَنْهُ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الْفَزَارِيّ، أَمَّا تَرَدُّدُهُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُقْطَعِ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ أَوْ لَا فَنَقُولُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا لِقَوْلِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي إقْطَاعِ الِاسْتِغْلَالِ لِأَنَّهَا أَعْوَاضٌ عَمَّا أَرْصَدُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ إلَخْ فَهِيَ عِوَضٌ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ فَمَلَكُهَا كَالْأَجِيرِ، وَلِقَوْلِ الْمِنْهَاجِ: وَأَمَّا الْأَخْمَاسُ الْأَرْبَعَةُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لِلْمُرْتَزِقَةِ، فَاللَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: الْمُرْصَدُونَ لِلْجِهَادِ أَيْ: بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ، وَالْعَجَبُ مِنْ الْفَزَارِيّ كَيْفَ شَبَّهَهَا بِالْمُسْتَعِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ عِوَضًا، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا فَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ وَكَذَا قِيَاسُ النَّوَوِيِّ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَرْضِ الْإِقْطَاعِ لِكَوْنِهِ بَذَلَ فِي مُقَابَلَتِهَا مَا مَرَّ كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ بَذَلَتْ فِي مُقَابَلَةِ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عِوَضًا وَهُوَ كَوْنُهَا أَرْصَدَتْ نَفْسَهَا لِتُمَتِّعَ الزَّوْجَ، وَقِيَاسُ إجَارَةِ الْإِقْطَاعِ عَلَى إجَارَةِ الْوَقْفِ صَحِيحٌ أَيْضًا.

قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ: هَذَا حُكْمُ مَنْقُولِ الْفَيْءِ أَيْ: أَنَّهُ يُخَمَّسُ، فَأَمَّا عَقَارُهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْعَلُ وَقْفًا وَتُقَسَّمُ غَلَّتُهُ كَذَلِكَ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: بَلْ يَصِير وَقْفًا بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَقْفٌ عَلَى الْمُرْتَزِقَةِ، وَقَدْ صَارُوا بِتَعْيِينِ

ص: 191

الْإِمَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَمَلَكُوا مَنْفَعَةَ الْمَوْقُوفِ، لَكِنْ فَارَقُوا الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِمْ الَّذِينَ عَيَّنَهُمْ الْوَاقِفُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْإِمَامِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ حِمَايَةُ الْبَيْضَةِ بِأَيِّ جَمْعٍ كَانُوا، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَشْبِيهُهُمْ بِالزَّوْجَةِ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمْ أَرَصَدُوا أَنْفُسَهُمْ وَبَذَلُوهَا لِلذَّبِّ، كَمَا أَرْصَدَتْ بُضْعَهَا وَبَذَلَتْهَا لِلِاسْتِمْتَاعِ، فَمَلَكَتْ الْمَنْفَعَةَ وَتَصَرَّفَتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الزَّوْجِ، فَكَذَلِكَ الْمُرْتَزِقَةُ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى مُرَاجَعَةِ الْإِمَامِ فِي الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاجَعَتِهِمْ لِلنَّاظِرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَرْصُدُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَمْ يَبْذُلُوهَا لِلْوَاقِفِ.

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةَ، فَسَمَّى بَذْلَهَا بَيْعًا وَجَعَلَ ثَمَنَهُ الْجَنَّةَ وَسَمَّاهُ شِرَاءً وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] إلَى أَنْ قَالَ {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] وَكَذَا فِي آيَةِ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] فَأُتِيَ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمِلْكِ وَالْمُقْتَضِيَةِ؛ لِأَنَّ مَا يُصْرَفُ لِلْمُرْتَزِقَةِ مِنْ مَنْقُولِ الْفَيْءِ مِلْكٌ لَهُمْ رَقَبَةً وَمَنْفَعَةً فَإِنْ كَانَ مِنْ عَقَارِهِ قَبْلَ إنْشَاءِ الْوَقْفِ وَرَأَى الْإِمَامُ تَمْلِيكَهُمْ إيَّاهُ فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ، وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَمْلِكُونَهُ رَقَبَةً وَمَنْفَعَةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ إنْشَائِهِ فَقَدْ تَعَذَّرَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَبَقِيَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ يَمْلِكُونَ الْمَنْفَعَةَ وَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَلِلَّهِ} [الحشر: 7] الْآيَةَ حَيْثُ أَتَى فَاللَّامُ الْمِلْكِ فَقَدْ زَالَ التَّرَدُّدُ الَّذِي قَالَهُ الْفَزَارِيّ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَتَبَيَّنَ بِالنَّصِّ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا وَبَطَلَ التَّشْبِيهُ بِالْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَإِنَّمَا مَلَكَ أَنْ يَنْتَفِعَ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَنْ أَرْضٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِوَاحِدٍ عُلُوُّهَا وَلِلْآخَرِ سُفْلُهَا وَالْمَاءُ يَدْخُلُ مِنْ عُلُوِّهَا لِسُفْلِهَا فَأَخْرَبَ السَّيْلُ عُلُوَّهَا فَأَصْلَحَهُ مَالِكُهُ مَثَلًا لَكِنْ بَقِيَ مُنْخَفِضًا يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ انْعَكَسَ الْحَالُ فَمَا يَكُونُ الْحُكْمُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تَسْتَحِقُّ السَّقْيَ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَكَانَتْ تُسْقَى كَذَا فَخَرِبَ أَعْلَاهَا فَعُمِّرَ وَبَقِيَ مُنْخَفِضًا أُجْبِرَ عَلَى تَسْوِيَتِهِ بِالتُّرَابِ حَتَّى يَصِيرَ فِي الِارْتِفَاعِ كَالسُّفْلَى فَإِنْ تَعَذَّرَ وُقِفَ الْأَمْرُ حَتَّى يَصْطَلِحَا وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَال حَقِّ السُّفْلَى، وَكَذَا فِي صُورَةِ الْعَكْسِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلَى تَسْوِيَتُهَا كَذَلِكَ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَالْوَقْفُ كَمَا ذُكِرَ وَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا عِمَارَةُ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ بِتَقْصِيرِهِ فِي إخْرَابِ السَّيْلِ لِأَرْضِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُمْ فِي الصُّلْحِ. وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ كُلًّا يَسْتَحِقُّ السَّقْيَ فِي مِلْكِ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ صَاحِبَهُ إلَى حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ فَأَفْتَاهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ عِمَارَةُ مِلْكِهِ مُطْلَقًا نَظَرًا لِذَلِكَ ضَعِيفٌ وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ الْمُسْتَأْجِرُ سَاقِيَةً تَعَدِّيًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ تُعَادَ كَمَا كَانَتْ.

(وَسُئِلَ) هَلْ لِمَالِكِ أَرْضٍ لَهَا شُرْبٌ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ الِاسْتِقَاءِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا يَكْفِي أَرْضَهُ لَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنْهُ.

(وَسُئِلَ) عَنْ قَوْلِ الرَّوْضَةِ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَلَوْ أَرَادُوا قِسْمَةَ النَّهْرِ وَكَانَ عَرِيضًا جَازَ وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِجْبَارُ كَالْجِدَارِ الْمَائِلِ هَلْ هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: قَدْ يُعَارِضُهُ مَا فِي الشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الطَّاحُونُ وَالْحَمَّامُ وَالْبِئْرُ وَالنَّهْرُ إذَا أَمْكَنَ جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَا الشَّرِكَةُ فِي مَسِيلِ الْمَاءِ إلَى الْأَرْضِ وَفِي بِئْرِ الْمَزْرَعَةِ دُونَ الْمَزْرَعَةِ كَالشَّرِكَةِ فِي الْمَمَرِّ، وَحُمِلَ الْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ مَزَارِعَ وَهِيَ عَلَى حَافَّتَيْهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا لَا عَلَى حَفْرِ أَنْهَارٍ وَسَوَاقِيَ وَسَوْقِ الْمَاءِ إلَيْهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ الْعَظِيمَةِ وَلِمَا فِي تَرْكِ الْقِسْمَةِ فِي هَذِهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ الْعَظِيمَةِ.

(وَسُئِلَ) نُقِلَ عَنْ الْفَارِقِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَقْطَعَ وَمَاتَ لَا يَجُوزُ لِلْمُقْطَعِ أَنْ يَسْتَدِيمَ مَا أُقْطِعَ إلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ مِنْ الْإِمَامِ الثَّانِي فَهَلْ هُوَ مُعْتَمَدٌ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْغَزِّيِّ فِي بَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.

(وَسُئِلَ) كَمْ يَمْلِكُ الرَّجُلُ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي فَوْقَ أَرْضِهِ مَثَلًا وَإِذَا كَانَ فَوْقَ أَرْضِهِ وَادٍ صَغِيرٍ وَأَرْضُهُ تَحْتَمِلُ جَمِيعَ مَا يَرِدُ مِنْ الْمَاءِ فَهَلْ يَمْلِكُ هَذَا الْمَسِيلَ جَمِيعَهُ؟

(فَأَجَابَ) إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ قَدْرَ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِهِ فَمَا عَرَفَ مِنْ حُقُوقِهَا عِنْدَ نَحْوِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِرْثِ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ دُونَ غَيْرِهِ.

(وَسُئِلَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) عَمَّنْ

ص: 192

أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي بُسْتَانِهِ فَدَخَلَ فِي ثَقْبٍ وَأَفْسَدَ دَارَ جَارِهِ فَهَلْ يَضْمَنُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الثَّقْبُ مَوْجُودًا قَبَلَ الْإِرْسَالِ ضَمِنَ، وَإِنْ جَهِلَهُ، وَإِنْ حَدَثَ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَلَا وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ: إنَّمَا يَضْمَنُ إنَّ خَرَجَ عَنْ عَادَةِ مِثْلِهِ فِي السَّقْيِ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ وَمِثْلُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَا لَوْ سَقَى مَعَ عِلْمِهِ بِالثَّقْبِ وَكَوْنِهِ يَنْفُذُ لِدَارِ جَارِهِ وَإِنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ.

وَسُئِلَ) عَنْ أَرْضٍ تُسْقَى مِنْ أَرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَرَادَ صَاحِبُهَا الِاقْتِصَارَ عَلَى سَقْيِهَا مِنْ بَعْضِهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ لِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ أَوْ لَا لِحُصُولِ الضَّرَرِ عَلَى أَهْلِ الْمُسْتَقَى مِنْهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ إنْ كَانَ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ يُؤَدِّي إلَى لُحُوقِ ضَرَرٍ بِالْأَرْضِ الْمُسْتَقَى مِنْهَا فَلِصَاحِبِهَا مَنْعُهُ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ اعْتِيَادَ شُرْبِهَا مِنْ مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ يُصَيِّرُ اسْتِحْقَاقَهَا الشُّرْبَ مِنْ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَالِّ بِطَرِيقِ التَّوْزِيعِ لَا بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ، فَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقْلَالَ كَانَ مُرِيدًا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالْغَيْرِ مَنَعَهُ مِنْهُ هَذَا كُلُّهُ إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهَا تَشْرَبُ مِنْ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَالِّ بَعْضَ كِفَايَتِهَا، أَمَّا لَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّهَا يَأْتِيهَا الْمَاءُ الَّذِي يَكْفِيهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَحَالِّ فَهِيَ حِينَئِذٍ تَسْتَحِقُّ الِاسْتِقْلَالَ مِنْ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَالِّ، فَإِذَا أَرَادَ الِاقْتِصَارَ حِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِلْغَيْرِ مَنْعُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَادَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ مُحَكَّمَةٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا عَلَى وَفْقِهَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ وَإِنْ أَضَرَّ بِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا لَا عَلَى وَفْقِهَا مُنِعَ مِنْهُ.

. (وَسُئِلَ) عَنْ شَخْصٍ لَهُ حَدِيقَةُ نَخْلٍ ثُمَّ اشْتَرَى عُلُوَّهَا أَرْضًا أُخْرَى وَغَرَسَهَا نَخْلًا وَجَعَلَهُمَا حَدِيقَةً وَاحِدَةً وَجَعَلَ سَقْيَهُمَا مِنْ أَعْلَى الْحَدِيقَةِ لِيَعُمَّهُمَا الْمَاءُ فَهَلْ لِأَحَدٍ التَّحَجُّرُ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيقَةِ بِأَنْ لَا يَسْقِيَهَا إلَّا مِنْ أَسْفَلَهَا أَوْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِصَاحِبِ الْحَدِيقَةِ أَنْ يَسْقِيهَا مِنْ أَيِّ مَحَلٍّ اخْتَارَ اخْتَارَ لِأَنَّ الْمِلْكَ مِلْكُهُ وَالْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ مَثَلًا وَإِذَا انْتَهَى زَمَنُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمَاءِ سَدَّ مَحَلَّ السَّقِيَّةِ لِيَذْهَبَ الْمَاءُ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ بَعْدَهُ؟

(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ الْمَاءُ الَّذِي تُسْقَى مِنْهُ الْحَدِيقَةُ الْأُولَى إنْ كَانَ مِنْ نَهْرٍ مُبَاحٍ جَازَ لِأَهْلِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعُوا صَاحِبَ الْحَدِيقَةِ مِنْ سَقْيِ الْحَدِيقَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ النَّهْرِ قَبْلَهُمْ إنْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ سَبَقَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ شُرْبٍ مِنْ النَّهْرِ قَبْلَ شِرَاءِ الْحَدِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ نَهْرٍ مَمْلُوكٍ جَازَ لَهُمْ أَيْضًا مَنْعُهُ مِنْ تَقْدِيمِ رَأْسِ سَاقِيَتِهِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ وَمِنْ تَأْخِيرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي الْحَافَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اقْتِسَامُهُمْ لِلْمَاءِ بِالزَّمَنِ كَالسَّاعَةِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَحِلَّ السَّقْيِ مِنْ أَعْلَى الْحَدِيقَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَافَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ شُرَكَاؤُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّ أَرْضٍ وُجِدَ بِيَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى إلَّا بِهِ. وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْخَرَقَ يُحْكَمُ لَهُمْ بِمِلْكِهِ فَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَرَّرَ فِي النَّهْرِ الْمَمْلُوكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ عَنْ سَيْلٍ يَنْزِلُ مِنْ جَبَلٍ عَالٍ وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مَزَارِعُ فَوَضَعَ رَجُلٌ أَحْجَارًا وَأَخْشَابًا بِمَجْرَاهُ فَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَأَتْلَفَ الْأَرْضَ الْمُتَحَوِّلَ إلَيْهَا فَهَلْ يَضْمَنُهَا؟ وَهَلْ لِمَالِكِ هَذِهِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَكَانَ الَّذِي عَنْهُ تَحَوَّلَ؟

(فَأَجَابَ) نَعَمْ يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ السَّيْلُ الَّذِي حُوِّلَ إلَيْهَا إذَا تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا بِهِ وَمَا تَحَوَّلَ عَنْهُ إنْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِأَصْحَابِ تِلْكَ الْأَرْضِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ تَمَلُّكُهُ؛ لِأَنَّ انْتِفَاعَ أَرَاضِيِهِمْ بِهَذَا الْمَجْرَى الْمُرَتَّبِ لَهَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَهُمْ بِأَنْ مَهَّدَ السَّيْلُ مَجْرًى أَوْ أَرْضًا فِي مَوَاتٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِهِمَا اسْتِحْقَاقٌ لِأَحَدٍ جَازَ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ إحْيَاء ذَلِكَ؛ إذْ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغَيْرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَسُئِلَ) بِمَا صُورَتُهُ اُقْتُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَ مَالِكِ أَرْضَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ بِأَنْ يَجْعَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا رَسْمَ شُرْبٍ يَجْرِي إلَى أَرْضِهِ ثُمَّ يُرْسِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْمَاءَ مِنْ أَرْضِهِ بَعْدَ رَيِّهَا إلَى أَرْضٍ تَحْتَهَا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُمَا لِمَنْ بَعْدَهُمَا لِمَنْ بَعْدَهُ وَهَكَذَا حُكْمُ جَمِيعِ الْمُتَفَرِّعِينَ يَكُونُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَى النَّهْرِ أَحَقُّ بِجَمِيعِ حِصَّتِهِ مَثَلًا وَحِصَّةُ مُجَاوِرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ مَثَلًا وَلَوْ جَرَتْ عَادَةٌ بِإِجْرَاءِ كُلٍّ لِمَنْ بَعْدَهُ قَبْلَ رَيِّ الْمُجَاوِرِ فَهَلْ لِهَذِهِ الْعَادَةِ اتِّبَاعٌ أَمْ لَا لِمُخَالِفَتِهَا اسْتِحْقَاقَ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى، وَإِنْ قُسِمَ الْمَاءُ أَجِيبُوا جَوَابًا شَافِيًا؟

(فَأَجَابَ)

ص: 193