المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الباب الثاني في بيت وقف بمكة المشرفة عامر أجره ناظره بشرط الواقف] - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٣

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يُبْطِلُهُ الدَّيْنُ]

- ‌[كِتَابُ الذَّيْلِ الْمُسَمَّى بِكَشْفِ الْغَيْنِ عَمَّنْ ضَلَّ عَنْ مَحَاسِنِ قُرَّةِ الْعَيْنِ]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَاب الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[بَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[رَفْعُ الشُّبَهِ وَالرِّيَبِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِأُخُوَّةِ الزَّوْجَةِ الْمَعْرُوفَةِ النَّسَبِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحِلِّ مِنْ غَيْر تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا ظَاهِرًا وَحِلِّهَا لَهُ بَاطِنًا إنْ كَذَبَ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْوَقْفِ]

- ‌[سَوَابِغُ الْمَدَدِ فِي الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ قَوْلِ الْوَاقِفِ مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَلَد]

- ‌[كِتَابُ الْإِتْحَافِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ أَجْرُ نَاظِرٍ عَلَى وَقْفٍ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَكَانَ الْمَوْقُوفَ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيْتٍ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٍ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ]

- ‌[بَابُ الْهِبَةِ]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْجِعَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]

الفصل: ‌[الباب الثاني في بيت وقف بمكة المشرفة عامر أجره ناظره بشرط الواقف]

فَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْأُخْرَى، بَلْ قَدْ تَرَجَّحَتْ الْمَحْكُومُ بِهَا بِالْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ لَا يُنْقَضُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَك رَدُّ اعْتِرَاضِهِ هَذَا بِأَنَّهُ فَرْقٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَقَوْلُهُ: بَلْ قَدْ تَرَجَّحَتْ إلَى آخِرِهِ مَرَّ مَا يَرُدُّهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يُعَدُّ مُرَجِّحًا، ثُمَّ اعْتَرَضَهُ أَيْضًا بِنَحْوِ مَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ وَقَدْ مَرَّ رَدُّهُ عَلَى السُّبْكِيّ.

قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَاَلَّذِي يَتَحَرَّرُ لِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ بِكَذِبِ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى كَأَنْ تُقَوَّمَ الْحِجَارَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَثَلًا، نُقِضَ الْحُكْمُ بِهَا لِلْقَطْعِ بِكَذِبِهَا فَصَارَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى لَا مُعَارِضَ لَهَا، وَأَمَّا مَعَ الِاحْتِمَالِ فَلَا نَقْضَ لِلْحُكْمِ وَبِدُونِ الْحُكْمِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إمَّا أَنْ تُرَجَّحَ النَّاقِضَةُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا وَيَتَسَاقَطَا انْتَهَى كَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الصُّورَةِ الَّتِي قَدَّمْتهَا مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ بِكَذِبِ الْأُولَى مُبْطِلٌ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ أَيْضًا إجْمَاعُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعَارُضُ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَمَظْنُونٍ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالسُّبْكِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلْخِلَافِ فِيهَا. وَاسْتُفِيدَ مِنْ تَمْثِيلِ أَبِي زُرْعَةَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ اسْتِحَالَةَ أَمْرٍ اسْتَنَدَتْ إلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ حُكْمٌ أَلْغَاهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ

وَاسْتَدَلَّ التَّاجُ السُّبْكِيّ لِأَبِيهِ بِمَسْأَلَةٍ فِي الرَّافِعِيِّ لَكِنَّنِي بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الرَّافِعِيِّ لَا يَدُلُّ لِمَا مَرَّ عَنْ أَبِيهِ: مِنْ إطْلَاقِ عَدَمِ النَّقْضِ، نَعَمْ قَدْ يُشْكَلُ عَلَى مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ قَوْلُ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ: لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَأُخْرَى بِفَسَادِهِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُخْرَى أَنَّهُ بَاعَ بِدُونِهِ رُجِّحَتْ الْأُولَى.

قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: وَبِهِ أَفْتَى أَهْلُ زُبَيْدٍ لَكِنْ أَفْتَى الْعُمْرَانِيُّ بِأَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِكَلَامِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ وَيُجَابُ بِأَنَّ السُّبْكِيّ الْمُخَالِفَ لِابْنِ الصَّلَاحِ لَا يَقُولُ بِتَقْدِيمِ الشَّهَادَةِ بِالْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ، بَلْ يَقُولُ: بِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَيَانِ مِنْ التَّعَارُضِ فَكَانَ مَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَمَا أَخَذَهُ مِنْهُ الْإِسْنَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَارِدًا عَلَى ابْنِ الصَّلَاحِ وَالسُّبْكِيِّ مَعًا، وَيُوَجَّهُ خُرُوجَ هَذِهِ عَنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الصِّحَّةِ، بِأَنَّ الْقِيمَةَ أَمْرُ تَخْمِينٍ. وَالشَّاهِدُ بِهَا إنَّمَا هُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ ظَنٍّ فَلَمْ يُعَوَّلْ عَلَى ظَنِّهِ إلَّا حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهُ ظَنٌّ آخَرُ، فَإِذَا عَارَضَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْحُكْمِ تَسَاقَطَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَانَ أَنَّ الْحُكْمَ بُنِيَ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ لَمْ يَسْلَمْ عَنْ مُعَارِضٍ، فَفَاتَ شَرْطُهُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِمَادِ عَلَى الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْهُ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ وَلَوْ مِثْلَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

وَبِهِ يَظْهَرُ لَك أَنَّ التَّحْقِيقَ مَعَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا اعْتَرَضَ بِهِ السُّبْكِيّ يَرُدُّهُ مَا قَرَّرْتُهُ فَاحْفَظْ ذَلِكَ، وَلَا تَغْفُلْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ نَفِيسٌ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ بَيَانِ الْمَدَارِكِ وَالْمَآخِذِ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَتَحَرَّرُ الْإِفْتَاءُ بِهِ مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ بِوَجْهٍ أَنَّهُ مَتَى عُلِمَ كَذِبُ الْبَيِّنَةِ الْأُولَى بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدَّمْتهَا بَانَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهَا وَالْحُكْمُ الْمُسْتَنِدُ إلَيْهَا فَيُنْقَضُ بِمَعْنَى أَنَّ الْقَاضِيَ يُظْهِرُ بُطْلَانَهُ وَيَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا سُئِلَ فِيهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيْتٍ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٍ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ]

الْبَابُ الثَّانِي فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ وَهُوَ بَيْتٌ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٌ لَا يَحْتَاجُ لِعِمَارَةٍ وَلَا يُخْشَى انْهِدَامُهُ لِمُكْنَةِ بِنَائِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَعَ ذَلِكَ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ مِائَةَ سَنَةٍ. وَحَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ وَعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِمَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ وَذَكَرَ فِي مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ بِشَهَادَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ لِجِهَةِ الْوَقْفِ وَلِلْمَوْقُوفِ فِي إيجَارِهِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ مَثَلًا فَهَلْ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ صَحِيحَةٌ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحَظُّ وَالْمَصْلَحَةُ وَالْغِبْطَةُ تَتَقَيَّدُ بِقَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ أَوْ لَا؟ وَإِذَا تَقَيَّدَتْ فَهَلْ يَكْفِي فِي الْمَصْلَحَةِ كَوْنُ الْأُجْرَةِ زَائِدَةً عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ أَخْذًا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَإِذَا قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ، وَهَلْ يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الْوَاقِفُ لِلنَّاظِرِ: أَنْ يُؤَجِّرَ مَا رَآهُ وَأَنْ لَا يَقُولَ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا كَمَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُهُمْ.

ص: 335

مُسْتَدِلًّا بِمَا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ لَا؟

وَهَلْ إذَا تَعَرَّضَ الْحَاكِمُ الشَّافِعِيُّ لِعَدَمِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ يَكُونُ لِلْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِانْفِسَاخِهَا بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَهَلْ الْعَادَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ أَوْ لَا؟ وَمَا مَعْنَى الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي الْمَكْتُوبِ بِمُقْتَضَى إلَى آخِرِهِ وَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ، وَابْسُطُوا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ لِذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ بِمَكَّةَ فِيهِ وَتَبَايُنِ آرَائِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ.

الْجَوَابُ: أَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ كَالْأَصْحَابِ أَنَّ مِنْ وَظِيفَةِ نَاظِرِ الْوَقْفِ حِفْظَ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَمِنْ وَظِيفَتِهِ أَيْضًا إجَارَتُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ فِي كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ كَغَيْرِهِمَا. وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّيْخُ فِي التَّنْبِيهِ: وَلَا يَتَصَرَّفُ النَّاظِرُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَصَرَّحَ التَّاجُ السُّبْكِيّ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُتَصَرِّفٍ عَنْ الْغَيْرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ وَاسْتَوَيَا لَمْ يَتَصَرَّفْ، وَيَشْهَدُ لَهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَلَامُ ابْنِ الرِّفْعَةِ وَغَيْرِهِ فِي وُجُوبِ أَخْذِ الْوَلِيِّ بِالشُّفْعَةِ لِمَحْجُورِهِ، إنْ كَانَ فِي الْأَخْذِ مَصْلَحَةٌ، وَتَرْكِهِ إذَا عُدِمَتْ فِي الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ مَعًا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وَعِنْدَ اسْتِوَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ لَمْ تُوجَدْ الْأَحْسَنِيَّةُ فَامْتَنَعَ الْقُرْبَانُ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّتُنَا، فَكَانَ مِثْلَهُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ فِعْلُ الْأَصْلَحِ، وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ

فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَاطُ فِي بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ وَفِي إيجَارِهِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِعْلُ الْأَصْلَحِ مِنْ إيجَارِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ وَالْقَصِيرَةَ إذَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَصْلَحَةٌ وَأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَفْسَدَةٌ، وَاسْتَوَيَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ عُلِمَ وَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ أَصْلَحَ مِنْ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِلَا إجَارَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مَفْسَدَةٌ، وَفِي بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِدُونِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَاسْتَوَتْ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيجَارُ، إذْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَتَا تَعَارَضَتَا فَتَسَاقَطَتَا.

وَبَعْدَ أَنْ اتَّضَحَ لَك أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ تَحَقُّقِ كَوْنِهَا أَصْلَحَ مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ بِلَا إيجَارٍ، فَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَ الْقَاضِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ

حَيْثُ جَعَلُوا نَاظِرَ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ وَصَرَّحُوا فِي الْوَصِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُسَجِّلَ بَيْعَهُ إلَّا إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ لِلْمَحْجُورِ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ الْقَاضِي مِنْ بَيَانِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهُمَا: نَشْهَدُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً وَغِبْطَةً كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ قَالَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ ابْنِ أَبِي الدَّمِ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي نَظِيرِ مَسْأَلَتِنَا الْآتِيَةِ.

قَالَ: فَلَا نَسْمَعُ شَهَادَتَهُ الْمُطْلَقَةَ وَإِنْ وَافَقَ الْحَاكِمَ فِي مَذْهَبِهِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَتِّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أَسْبَابِهَا، بَلْ وَظِيفَتُهُ نَقْلُ مَا سَمِعَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مَا شَاهَدَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ، ثُمَّ الْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَآهُ سَبَبًا رَتَّبَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّبَّاغِ كَغَيْرِهِ لَوْ عَلِمَ الشَّاهِدُ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دِرْهَمًا مَثَلًا، بِأَنْ عَرَفَ سَبَبَهُ كَأَنْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ بِاسْتِحْقَاقِهِ عَلَيْهِ دِرْهَمًا وَتُسْمَعُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ كَمَا هُوَ جَلِيٌّ عَلَى شَاهِدٍ فَقِيهٍ مُوَافِقٍ لِلْحَاكِمِ فِي مَذْهَبِهِ بِحَيْثُ يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِتَفَاصِيلِ الْأَسْبَابِ وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، بِخِلَافِ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا مَسَاغَ لِلْحَاكِمِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِهِ فِي مِثَالِهِمْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ حَتَّى لِلْعَوَامِّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فِي غَايَةِ الْخَفَاءِ حَتَّى أَخْطَأَ فِيهَا بَعْضُ الْمُفْتِينَ كَمَا يَأْتِي، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِقَاضٍ شَهِدَ عَامِّيٌّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إجَارَةِ كَذَا مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ قَبُولُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؟ ، هَذَا مِمَّا لَا يَسَعُ شَافِعِيًّا أَنْ يَقُولَ بِعُمُومِهِ.

وَأَمَّا

ص: 336

عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، فَعِبَارَةُ الْمَكْتُوبِ الْمَذْكُورِ صَرِيحَةٌ فِي تَقْيِيدِ الْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ بِكَوْنِ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، هَذَا مِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ عَلَى جَمِيعِ احْتِمَالَاتِهِ وَحِينَئِذٍ فَاَلَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْحَاكِمِ إلَّا بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِهِ مِائَةَ سَنَةٍ بِكَذَا، بِمُقْتَضَى أَنَّ هَذِهِ الْأُجْرَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ فَحَصَرَ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي شَهِدَا بِهَا فِي هَذَا الْفَرْدِ الْخَاصِّ وَصَارَا كَالْمُصَرِّحَيْنِ بِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي الْإِيجَارِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِذَا ظَهَرَ مِنْ عِبَارَةِ مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاتَّضَحَ مِنْهُ مَا قَرَّرْنَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِإِجَارَةِ مِائَةِ سَنَةٍ مَثَلًا عَجِيبٌ غَرِيبٌ، وَقِيَاسُهُ عَلَى بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ أَعْجَبُ وَأَغْرَبُ

وَمِمَّا يُبْطِلُ قِيَاسَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ لِغِبْطَةٍ بِمُجَرَّدِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا شَرَطُوا ثَمَّ فِي الْغِبْطَةِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، بَلْ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِيهِ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مَعَ كَوْنِهِ يَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَقَارَ بِبَعْضِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، قَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ أَوْ الْأَكْثَرُونَ: أَوْ يَجِدُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الْعَقَارِ بِكُلِّ ذَلِكَ الثَّمَنِ فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْغِبْطَةُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ عَقَارِهِ مَعَ بَقَاءِ فَضْلَةٍ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْرَمَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا آخَرَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ الْعَقَارِ الْأَدْوَنِ.

وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ فَجَازَ بَيْعُ الْعَقَارِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مُجَرَّدِ زِيَادَةِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَوْا فِي بَيْعِ غَيْرِ نَحْوِ الْعَقَارِ بِمُجَرَّدِ رِبْحٍ قَلِيلٍ بَلْ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ وَغَيْرُهُ: بِلَا رِبْحٍ بِخِلَافِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالضَّيَاعِ مَعَ أَنَّ لَهُ غَلَّةً وَفَوَائِدَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَاحْتِمَالُ خَرَابِهِ لَيْسَ كَاحْتِمَالِ ضَيَاعِ غَيْرِهِ لِقُرْبِ هَذَا وَبُعْدِ ذَاكَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي بَيْعِ عَقَارِ الْيَتِيمِ مِمَّا ذُكِرَ، فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي إجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ

وَلَيْتَهُ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ بِزِيَادَةٍ لَهَا وَقْعٌ، وَإِلَّا فَالِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ الزِّيَادَةِ لَا يَكْفِي فِي الْبَيْعِ عَلَى الْيَتِيمِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْقَفَّالُ: لَا يَبِيعُ الْعَقَارَ إلَّا بِغِبْطَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَهِيَ مِمَّا لَا يَسْتَهِينُ بِهِ أَرْبَابُ الْعُقُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَرَفِ الْعَقَارِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَحْصِيلِ عَقَارٍ لِلطِّفْلِ وَنَحْوِهِ أَكْثَرَ قِيمَةً وَرَيْعًا مِمَّا يَبِيعُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ اهـ. فَتَأَمَّلْ ضَبْطَهُ لِلْغِبْطَةِ بِمَا ذُكِرَ لِتَعْلَمَ مَا فِي كَلَامِ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ التَّسَاهُلِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا فِي بَيْعِ عَقَارِ الْمَحْجُورِ بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ، لَمْ يُقَسْ بِهِ مَا نَحْنُ فِيهِ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا

فَإِنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَحْجُورِينَ التِّجَارَةَ لَهُمْ، وَمَوْضُوعُهَا إدْخَالُ الْأَعْيَانِ وَإِخْرَاجُهَا لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوِلَايَةِ هُنَا حِفْظُ الْأُصُولِ وَتَحْصِيلُ غَلَّتِهَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقْصُودَيْنِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ثَمَّ لَا يُنَافَى التِّجَارَةَ الْمَقْصُودَةَ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ هُنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُنَافَى الْمَقْصُودَ هُنَا مِنْ بَقَاءِ الْعَيْنِ سَلِيمَةً عَمَّا يُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِهَا وَانْقِطَاعِ حَقِّ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنِهَا، فَاتَّضَحَ فُرْقَانُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَلَا عُذْرَ لِذَلِكَ الْمُفْتِي فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَلَا اعْتِبَارَ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ.

وَمِمَّا يُبْطِلُ مَا قَالَهُ أَيْضًا مَا فِي فَتَاوَى الْإِمَامِ الْكَمَالِ الرَّدَّادِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتَعَدٍّ عَلَى وَقْفٍ لَهُ نَاظِرٌ فَطَلَبَ نَاظِرُهُ مِنْ الْحَاكِمِ رَفْعَ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ هَلْ يَلْزَمُ الْحَاكِمَ إجَابَتُهُ؟

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ يَجِبُ. عَلَى الْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُتَعَدَّيْ عَنْهَا وَيُؤَجِّرُهَا النَّاظِرُ عَلَى مَنْ تَرَجَّحَ لَهُ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ. اهـ.

فَاشْتَرَطَ مَعَ الْمَصْلَحَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ فَأَفْهَمْ أَنَّ الْإِيجَارَ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي، فَبَطَلَ مَا زَعَمَهُ ذَلِكَ الْمُفْتِي مِنْ أَنَّهُ يَكْفِي، وَقَالَ الْكَمَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا: وَأَمَّا تَأْجِيرُ النَّاظِرِ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَالْمَنْقُولُ الصِّحَّةُ مَعَ مُرَاعَاةِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ، فَانْظُرْ إلَى هَذَا التَّصْرِيحِ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْإِمَامِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْغِبْطَةِ وَكَوْنِهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ.

وَقَالَ أَيْضًا: عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ فِي الْوَقْفِ بِمَا يَتَوَجَّهُ شَرْعًا مِنْ الْبَدَاءَةِ بِعِمَارَتِهِ وَتَأْجِيرِهِ.

ص: 337

بِالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ عَلَى ثِقَةِ مَلِيءٍ أَمِينٍ. اهـ وَبِذَلِكَ كُلِّهِ عُلِمَ أَنَّ زَعْمَ الِاكْتِفَاءِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَحْدَهَا بَاطِلٌ صَرِيحٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ ظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الَّذِي اسْتَنَدَ إلَيْهِ الْحَاكِمُ إلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ فِيهِ هُوَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تُفِيدُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ فَإِذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى مَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهِ وَلَا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ وَحْدَهُ، فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَادِفٍ لِمَا يُصَحِّحُهُ فَكَانَ لَغْوًا مِنْ أَصْلِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ فَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُجَوِّزَةِ لِإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هِيَ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ، وَقَدْ انْحَصَرَتْ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ لَا إلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا يَأْتِي عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَرَّرْته مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ زِيَادَةِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا تُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ

وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ السُّبْكِيّ حَيْثُ قَالَ: لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا يَأْتِي عَنْهُ فَخَصَّ الْجَوَازَ بِالْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا وَعَلَى مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ الْإِجَارَةَ لِمُجَرَّدِ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ لَا تَجُوزُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ إطْلَاقُ الْأَذْرَعِيِّ امْتِنَاعَ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْوَقْفِ وَمَفَاسِدَ أُخْرَى تُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ فَمَحَلُّ امْتِنَاعِهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ عَائِدَةً لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَقَطْ، وَأَمَّا إطْلَاقُهُ امْتِنَاعَهَا وَإِنْ عَادَتْ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ فَلَا يُتَّجَهُ كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ وَسَيَأْتِي فَتَعَيَّنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَكَذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ تِلْمِيذِهِ الزَّرْكَشِيّ: جَوَازُ إجَارَةِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ وَنَحْوِهَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ وَيَدُلُّ عَلَى حَمْلِ كَلَامِهِ أَعَنَى الزَّرْكَشِيّ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سُرَاقَةَ وَأَبِي الْفَرَجِ الْجَزْمُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْخَرَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ لِيُحْتَكَرَ اهـ.

فَافْهَمْ أَنَّ اسْتِبْعَادَهُ الْأَوَّلَ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي غَيْرِ الْخَرَابِ إنَّمَا تَعُودُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، فَلَمْ تَكُنْ مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ فَلَا تُفْعَلُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْجِعُ إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ حِفْظِهِ بِالْعِمَارَةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ تَوَهُّمِ تَمَلُّكِهِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ اشْتِمَالَهَا عَلَى مَفَاسِدَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ: إنَّ الْحُكَّامَ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُؤَجَّرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ لِئَلَّا يَنْدَرِسَ مَالُوا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَقَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ وَصَاحِبِ الْأَنْوَارِ: مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ.

وَقَوْلُ السُّبْكِيّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ لَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ بِالْقِيمَةِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ صَعْبٌ قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا تَوَقُّعُ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَقَدْ تَتْلَفُ الْأُجْرَةُ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.

قَالَ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا إجَارَةَ بَعْضِ الْحُكَّامِ الْوَقْفَ مُدَّةً طَوِيلَةً أَدَّتْ إلَى تَمَلُّكِهِ وَإِبْطَالِ وَقْفِيَّتِهِ وَانْدِرَاسِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِلَا شَكٍّ. اهـ. وَقَالَ أَيْضًا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ أَنْ تُؤَجِّرَ وَقْفًا خَمْسِينَ سَنَةً بِإِذْنِ الْحَاكِمِ فِرَارًا مِنْ الْبَطْنِ الَّذِي بَعْدَهَا لَا يَجُوز لَهَا ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْإِذْنُ لَهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ لِأُجْرَةِ الْمِثْلِ الْمُدَّةَ الْبَعِيدَةَ صَعْبٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُخْشَى عَلَى الْوَقْفِ إذَا أُجِّرَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ انْدِرَاسُهُ كَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ وَشَاهَدْنَاهُ، عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ وَتِلْمِيذَهُ الْبَغَوِيَّ وَالْمُتَوَلِّي ذَكَرُوا أَنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى مَنْعِ إجَارَةِ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ هَذَا فِي زَمَانِهِمْ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا

الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ قَاضٍ أَمِينٌ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ؟ بَلْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: قُضَاةُ الْعَصْرِ كَقَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَذَا فِي زَمَانِهِ فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا؟ اهـ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقَدْ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ مِنْ نُظَّارِ الْوَقْفِ فِي تَأْجِيرِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَمَاكِنِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ مُنْدَرِسَ الْوَقْفِ وَيُتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمِلْكِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ

ص: 338

ذَلِكَ قَادِحٌ فِي نَظَرِهِمْ فَعَلَى الْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ أَصْلَحَهُمْ اللَّهُ سبحانه وتعالى إزَالَةُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ اهـ.

فَظَهَرَ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مَفَاسِدَ فَلِذَا وَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فِيهَا أَكْثَرَ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ إلَّا إنْ انْحَصَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْوَقْفِ وَبَقَائِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ أَبُو زُرْعَةَ مُحَقِّقُ عَصْرِهِ بِاتِّفَاقِ مَنْ بَعْدَهُ. وَمِنْ ثَمَّ تَرْجُمُوهُ بِأَنَّهُ مَا رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِقْهَ شَيْخَيْهِ الْإِسْنَوِيِّ وَالْبُلْقِينِيِّ وَحَدِيثَ وَالِدِهِ حَافِظِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ مَكَّةَ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا مِمَّنْ يَقُومُ بِعِمَارَتِهَا وَيُقَدِّرُونَ ذَلِكَ أُجْرَتَهَا فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَيَأْذَنُونَ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي صَرْفِهِ فِي الْعِمَارَةِ وَيُقِرُّونَ الدَّارَ مَعَهُ بَعْد عِمَارَتِهَا. عَلَى حُكْمِ الْإِجَارَةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْأُجْرَةِ،

هَلْ هَذَا التَّصَرُّفُ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ وَتَكْرَارُهُ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ تُؤَدِّي إلَى تَمَلُّكِ الْوَقْفِ غَالِبًا، وَذَلِكَ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ الْخَرَابِ وَأَطَالُوا فِي السُّؤَالِ

فَأَجَابَ وَأَطَالَ وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْوَقْفِ كَمَنَافِعِ الطَّلْقِ يَتَصَرَّفُ النَّاظِرُ فِيهَا بِالْمَصْلَحَةِ، وَقَدْ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ تَكْثِيرَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَتَقْلِيلِهَا وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ إجَارَةُ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ مُدَّةً تَبْقَى إلَيْهَا غَالِبًا، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدُّورِ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فِي أَحْكَامِ مَا يَبْنُونَ بِهِ وَإِتْقَانِهِ وَمُدَّةِ بَقَائِهِ غَالِبًا، فَمَا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ الْوَقْفِ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ

إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعَمَّرُ بِهِ، وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّاهُ وَسَوَّغْنَاهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ تَعَيَّنَتْ الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ طَرِيقًا لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَلَا نَظَرَ لِخَشْيَةِ تَمَلُّكِ الْوَقْفِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ إذَا ظُنَّتْ مَصْلَحَتُهُمَا فِي الْحَالِ لَا نَظَرَ فِي إبْطَالِهَا إلَى احْتِمَالِ مَفْسَدَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ.

وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ إنَّمَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ مُدَّتَهُ لَا تَفْرُغُ إلَّا وَقَدْ عَادَتْ الدَّارُ خَرِبَةً كَمَا كَانَتْ لِحُصُولِ غَرَضِ الْوَاقِفِ مَعَ ذَلِكَ بِعِمَارَتِهِ لَهَا، وَذَلِكَ الْغَرَضُ هُوَ بَقَاءُ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ مُنْفَكَّةً عَنْ مِلْكِ الْآدَمِيِّينَ لِرَقَبَتِهَا مَمْلُوكَةً لِلَّهِ سبحانه وتعالى، فَيَبْقَى ثَوَابُهُ مُسْتَمِرًّا حَتَّى يُجْرَى عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَنْتَفِعْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِرَيْعِهَا، وَالصُّورَةُ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا أَنَّ الْإِجَارَةَ الْمَذْكُورَةَ تَعَيَّنَتْ طَرِيقًا لِبَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ تَدَاعَى لِلسُّقُوطِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعْمَرُ بِهِ مِنْ رَيْعٍ حَاصِلٍ وَالْقَرْضِ، وَالْأَوْلَى إذَا خَرِبَ الْوَقْفُ وَلَمْ يَنْهَضْ بِعِمَارَتِهِ إلَّا أُجْرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ أَنْ يُؤَجَّرَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ، لِيُعْمَرَ جَمِيعُهُ بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِ الْوَقْفِ مَقْصُودٌ شَرْعًا فِي غَرَضِ الْوَاقِفِ، وَلَا نَظَرَ إلَى خَشْيَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى تَمَلُّكِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَتَى أَمْكَنَتْ الْمُبَادَرَةُ إلَى عِمَارَةِ الْوَقْفِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ كَمَا كَانَتْ، فَهُوَ حَسَنٌ فَلْيُفْعَلْ ذَلِكَ بِكُلِّ طَرِيقٍ مُمْكِنٍ شَرْعِيٍّ. وَيُحْتَرَزُ عَمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ بِمَا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ بِهِ، وَلَا تُتْرَكُ الْمَصَالِحُ الْمَظْنُونَةُ لِلْمَفَاسِدِ الْمَوْهُومَةِ اهـ.

حَاصِلُ كَلَامِ الْوَلِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ صَرِيحٌ لِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ، لِمَا ذَكَرْته أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْحَاجَةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ عَوْدِهَا إلَى عَيْنِ الْوَقْفِ لِتَوَقُّعِ بَقَائِهَا عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ، إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعْمَرُ بِهِ، وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَرْضَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٌ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّاهُ إلَخْ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ وَقَوْلَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ إلَخْ وَقَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ، لِذَلِكَ تَجِدُ ذَلِكَ كُلَّهُ كَبَقِيَّةِ كَلَامِهِ صَرِيحًا فِيمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِمَارَةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُعَانِدٌ مُكَابِرٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.

وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ السُّبْكِيّ السَّابِقُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ قُلْت: الْحَاجَةُ أَخَصُّ مِنْ.

ص: 339

الْمَصْلَحَةِ وَهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي إجَارَةِ النَّاظِرِ إلَّا الْمَصْلَحَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْأَعَمِّ اشْتِرَاطُ الْأَخَصِّ، وَإِذَا أَجَّرَهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً، فَلِمَ لَا يُسَوَّغُ أَنَّ زِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ هُنَا بِمُجَرَّدِهَا تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ، وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهَا، وَكَلَامُ السُّبْكِيّ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَاجَةِ وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي نَحْوِ الْعِمَارَةِ، فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ: مِنْ جَوَازِ الْإِجَارَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ الْحَاجَةِ أَخَصَّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَوَاضِحٌ

وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُمْ فِي النَّاظِرِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي كُلِّ إجَارَةٍ ثُمَّ بَعْضُ الْإِجَارَاتِ كَاَلَّذِي نَحْنُ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَاجَةُ، وَبَعْضُهَا كَإِجَارَةِ الْمُدَّةِ الْقَلِيلَةِ يَكْفِي فِيهِ مُطْلَقُ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، بَلْ حَيْثُ كَانَ فِي الْإِجَارَةِ مَصْلَحَةٌ اُكْتُفِيَ فِيهَا بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَمْ يُكْتَفَ فِيهَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ، كَمَا مَرَّ عَنْ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَصْلَحَةً كَافِيَةً عَنْ غَيْرِهَا لَا فِي الْإِجَارَةِ الْقَصِيرَةِ، وَلَا فِي الطَّوِيلَةِ، فَبَطَلَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَمْ يَجُزْ النَّظَرُ إلَيْهَا وَبِهَذَا عُلِمَ الْجَوَابُ عَنْهُ.

فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ اشْتَرَطْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْحَاجَةَ وَاكْتَفَيْتُمْ فِي الْقَصِيرَةِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ، قُلْتُ: لِأَنَّ الطَّوِيلَةَ فِيهَا مَفَاسِدُ شَتَّى كَمَا مَرَّ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُطْلِقِينَ لِلْمَنْعِ وَالْمُجَوِّزِينَ لَهَا بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، وَإِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ مُنَافِيَةٍ لِغَرَضِ الْوَاقِفِ وَالشَّارِعِ مِنْ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ، فَكَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهَا، وَمَا كَانَ الْأَصْلُ امْتِنَاعَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ حَاقَّةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِمَارَةَ إذَا تَوَقَّفَتْ عَلَى الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ كَانَ ذَلِكَ إمَّا ضَرُورَةً أَوْ حَاجَةً، فَمِنْ ثَمَّ جَوَّزُوهَا حِينَئِذٍ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً وَلَا حَاجَةً بِأَنْ كَانَ الْمَكَانُ عَامِرًا لَا يُخْشَى عَلَيْهِ انْهِدَامٌ، وَلَا يَحْتَاجُ لِتَرْمِيمٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْعِمَارَاتِ، فَالْمَنْعُ بَاقٍ بِحَالِهِ خَشْيَةً مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ قَالَ فِي رَدِّهِ: مَنْعُ الْأَذْرَعِيِّ الطَّوِيلَةَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَمْ أَرَ مَنْ قَالَهُ هَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا نَظِيرَ يَشْهَدُ لَهُ، وَمَنْعُ الْإِجَارَةِ بِأَمْرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَهُوَ إفْضَاءُ الْأَمْرِ إلَى اسْتِهْلَاكِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُنَا، وَكَيْفَ نُثْبِتُ أَمْرًا بِالشَّكِّ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِنَا سَدُّ الذَّرَائِعِ اهـ.

فَرَدُّهُ لِهَذَا مَعَ تَقْيِيدِهِ الْجَوَازَ بِمَا مَرَّ عَنْهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ إطْلَاقِ الْمَنْعِ لَا أَصْلِ الْمَنْعِ، وَإِلَّا لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْجَوَازِ مَا قَدَّمْتُهُ عَنْهُ، وَنَتَجَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الطَّوِيلَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا لِحَاجَةٍ، وَلَيْسَ عِلَّتُهُ إلَّا مَا قَرَّرْته فَافْهَمْهُ، فَإِنْ قُلْتَ: يُنَافِي مَا ذَكَرْتَهُ كَلَامُ الْكَمَالِ شَارِحِ الْإِرْشَادِ فِي فَتَاوِيهِ

فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ وَقَفَ بَيْتًا يَمْلِكُهُ عَلَى وَلَدَيْ ابْنٍ لَهُ لِيَسْكُنَاهُ وَيُؤَجِّرَاهُ وَيَنْتَفِعَا بِهِ وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمَا. ثُمَّ مَاتَ الْوَاقِفُ وَأَحَدُ الْوَلَدَيْنِ صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ فَاحْتَاجَ إلَى الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ فَنَصَبَ الْحَاكِمُ الِابْنَ الْبَالِغَ عَلَى أَخِيهِ الْيَتِيمِ فَأَجَّرَ الْمَنْصُوبُ حِصَّةَ أَخِيهِ الْيَتِيمِ بِالْمَصْلَحَةِ لِحَاجَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى أَخِيهِ بِأُجْرَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فِي الْوَقْفِ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ وَقَبَضَ لَهُ الْأُجْرَةَ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ أَمْ لَا؟

(فَأَجَابَ) : نَعَمْ تَصِحُّ الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ اهـ.

قُلْت: لَا يُنَافَى مَا ذَكَرْته، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ أَطْلَقَ هُنَا الصِّحَّةَ وَقَدْ قَدَّمْتُ عَنْهُ عِدَّةَ أَمَاكِنَ مِنْ فَتَاوِيهِ مُصَرِّحَةً بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ مَصْلَحَةٍ غَيْرَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ جَوَابَهُ مُنَزَّلٌ عَلَى مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَهُوَ أَنَّهُ أَجَّرَ الْحِصَّةَ بِالْمَصْلَحَةِ وَلِحَاجَةِ الْيَتِيمِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَأَكْثَرَ، فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَسْبَابٍ الْمَصْلَحَةَ وَحَاجَةَ الْيَتِيمِ وَزِيَادَةَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ رَاجِعَةٌ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَلَيْتَ مُسْتَنَدَ الْإِجَارَةِ فِي السُّؤَالِ ذُكِرَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إذْ لَوْ ذُكِرَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ لَكَانَ أَمْرُهُ وَاضِحًا جَلِيًّا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الَّتِي لِلْوَقْفِ وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مُقَيَّدَةٌ بِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ

وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ وَوَضَّحْتُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذِهِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَتَنَبَّهْ لَهُ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُعَانِدِينَ رُبَّمَا اطَّلَعَ عَلَى كَلَامِ الْكَمَالِ هَذَا فَجَعَلَهُ مُسْتَنَدًا لَهُ عَلَى صِحَّةِ مَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ الَّذِي فِي السُّؤَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ مُسْتَنَدٌ لِذَلِكَ بِوَجْهٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ إيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَأَيْت بَعْدَ فَرَاغِي مِنْ جَوَابِ الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ الرَّافِعِيَّ صَرَّحَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْوَجِيزِ بِمَا هُوَ صَرِيحٌ فِيمَا.

ص: 340

قَدَّمْتُهُ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ لِلْوَقْفِ دُونَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ الْوَجِيزِ: وَتَأْثِيرُهُ أَيْ: لُزُومِ الْوَقْفِ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُغَيَّرَ قَوْلُهُ وَحَبْسُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَوْقُوفِ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ اهـ.

كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، فَتَأَمَّلْ تَفْسِيرَهُ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ بِقَصْرِ التَّصَرُّفِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّاظِرِ عَلَى مَا يُلَائِمُ غَرَضَ الْوَاقِفِ وَيَمْنَعُ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ تَجِدْهُ قَاضِيًا بِمَا قُلْنَاهُ: مِنْ أَنَّ مَصْلَحَةَ التَّصَرُّفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَرْجِعَ إلَى غَرَضِ بَقَاءِ الْوَقْفِ، وَأَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ هَذَا مَعَ غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ الْأَوَّلُ وَمُنِعَ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ غَرَضِهِ الْمُنَافِي لَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: لَا شَاهِدَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ مِنْ غَرَضِ الْوَاقِفِ نَفْعَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قُلْتُ: نَعَمْ هُوَ مِنْهُ، لَكِنْ إنَّمَا يُرَاعَى حَيْثُ لَمْ يُعَارِضْ غَرَضَ الْوَقْفِ، أَمَّا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فَيُقَدَّمُ غَرَضُ الْوَقْفِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَوْ جَعَلْنَا مُجَرَّدَ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ مُسَوِّغًا لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةِ الْوَقْفِ إلَى ذَلِكَ

لَكِنَّا قَدَّمْنَا غَرَضَ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى غَرَضِ الْوَاقِفِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لَوْ قَالَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَسْكُنُ الدَّارَ.

وَقَالَ النَّاظِرُ أُؤَجِّرُهَا لِأُرَمِّمَهَا بِأُجْرَتِهَا أُجِيبَ النَّاظِرُ، فَهَذَا فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُمْ بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْوَقْفِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَقَوْلُهُمْ فِي مَوْقُوفٍ لَهُ مَنَافِعُ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْوَاقِفِ، وَأَجْرَى الرَّافِعِيُّ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى انْهِدَامٍ، فَفِيهِ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ إذَا تَقَابَلَ غَرَضُ الْوَاقِفِ وَغَرَضُ الْمُسْتَحِقِّ قُدِّمَ غَرَضُ الْوَاقِفِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ تَقَابَلَ غَرَضَاهُمَا، فَلْيُقَدَّمْ غَرَضُ الْوَاقِفِ مِنْ عَدَمِ الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَى غَرَضِ الْمُسْتَحِقِّ، وَقَوْلُهُمْ يُرَاعَى غَرَضُ الْوَاقِفِ مَا أَمْكَنَ فَانْظُرْ قَوْلَهُمْ مَا أَمْكَنَ تَجِدْهُ صَرِيحًا فِيمَا قُلْنَاهُ، وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ فِي بَابِ التَّفْلِيسِ. وَالْعِبَارَةُ لِلشَّيْخَيْنِ: يُؤَجَّرُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الْمُفْلِسِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةَ إلَى أَنْ يَفِيَ الدَّيْنَ، وَتَبِعَهُمَا الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُمْ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى.

وَلَمْ يَقُولُوا يُؤَجَّرُ مُدَّةً طَوِيلَةً تَرَاهُ شَاهِدًا لِمَا قَرَّرْتُهُ مِنْ رِعَايَةِ غَرَضِ الْوَاقِفِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَكَرُّرِ الْإِجَارَةِ، وَأُجِّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً رِعَايَةً لِغَرَضِهِ مَعَ قُوَّتِهِ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَدُومُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَلْتَفِتْ الْأَئِمَّةُ إلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَيُجَوِّزُونَ الْإِجَارَةَ لِأَجْلِ ارْتِفَاعِ الْحَجْرِ مُدَّةً طَوِيلَةً تَفِي بِالدَّيْنِ، بَلْ أَوْجَبُوا أَنْ يُؤَجَّرَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَإِنْ أَدَّى إلَى دَوَامِ الْحَجْرِ فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ خَالَفَ السُّبْكِيّ كَلَامَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ أَيْ: الْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ مِمَّا تُؤَجَّرُ غَالِبًا لِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ يَغْلِبُ الْبَقَاءُ فِيهَا أُلْزِمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالْمَالِ الْحَاضِرِ عُرْفًا، وَتُضَافُ تِلْكَ الْأُجْرَةُ إلَى بَقِيَّةِ أَمْوَالِهِ وَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَيُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ.

وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: الْأَقْرَبُ أَنَّهُ يُؤَجَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِأُجْرَةٍ مُعَجَّلَةٍ لَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ قُلْتُ: لَا نَظَرَ لِمُخَالَفَتِهِ هَذِهِ فَإِنَّهُ نَفْسَهُ صَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا رَأْيٌ لَهُ وَلَمْ يَرَهُ مَنْقُولًا، وَإِذَا تَعَارَضَ رَأْيُهُ وَمَنْقُولُ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قُدِّمَ الْمَنْقُولُ وَلَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الرَّأْيِ كَمَا هُوَ بَدِيهِيٌّ لِمَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَمَأْخَذِهِ، فَتَأَمَّلْ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَفِيهِ دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ صَرِيحَةٌ لِمَا قَرَّرْتُهُ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ دَلَالَةِ عِبَارَتِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ إيجَارِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ هُنَا؟ قُلْتُ: صَرَاحَةُ عِبَارَتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا تَحْتَاجُ إلَى بُرْهَانٍ، وَكَفَاك شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةُ السُّبْكِيّ الْمَذْكُورَةُ إذْ لَوْلَا أَنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ لِلِاشْتِرَاطِ لَمَا قَالَ خِلَافًا لِلشَّيْخَيْنِ، وَلَمَا قَالَ عَمَّا قَالَهُ هَذَا مَا رَأَيْتُهُ وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ فَهُوَ أَنَّ كَلَامَهُمْ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا فِي النَّاظِرِ بَيْنَ أَنْ يَشْرُطَ لَهُ الْوَاقِفُ الْعَمَلَ بِمَا يَرَاهُ وَأَنْ لَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيهِ لَيْسَ لِحَظِّ الْوَاقِفِ فَحَسْبُ؛ لِأَنَّ الْمِلْك انْقَطَعَ عَنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ صَارَ مِلْكًا لِلَّهِ سبحانه وتعالى، بِمَعْنَى أَنَّهُ انْقَطَعَ عَنْ رَقَبَتِهِ اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّينَ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكُهُ سبحانه وتعالى عَلَى الْحَقِيقَةِ بِكُلِّ تَقْدِيرٍ، وَإِذَا صَارَ الْمِلْكُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

ص: 341

فَلِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ تَعَلُّقٌ بِمَنَافِعِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ النَّاظِرُ مُتَكَلِّمًا عَلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ، فَلَا أَثَرَ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَذْكُورِ، فَإِنْ قُلْتَ: شَرْطُ الْوَاقِفِ مُرَاعًى كَنَصِّ الشَّارِعِ قُلْتُ: مَحَلُّ مُرَاعَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يُخَالِفْ غَرَضَ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّ شَرْطَهُ عَلَى النَّاظِرِ الْعَمَلُ بِمَا يَرَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُؤَجَّرُ بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَلَا مُدَّةً طَوِيلَةً، بِلَا مَصْلَحَةٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ هَذَا يَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَرَاهُ مِمَّا يُوَافِقُ غَرَضَ الشَّارِعِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَمَلِهِ بِمَا يَرَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ إذْ الْأَعَمُّ كَالْحَيَوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ كَالْإِنْسَانِ، وَبِمَا ذَكَرْته أَفْتَى شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ خَاتِمَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ سَقَى اللَّهُ سبحانه وتعالى ثَرَاهُ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَافِعِيٍّ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْبَيْعِ فِي أَمَاكِنَ مَلَكَهَا الْبَائِعُ مِنْ وَالِدَتِهِ، وَثَبَتَ عِنْدَهُ التَّمْلِيكُ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ أَيْضًا، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ؟

(فَأَجَابَ) : بِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي كَوْنِهِ صَحِيحًا أَوْ لَا، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مِلْكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلْعَاقِدِ، فَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُكْمِهِ بِالْمُوجِبِ إنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ عَنْهُ كَعَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَاقِدِ اهـ.

وَكَلَامُهُ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَعَلَ كَأَصْلِهِ وَغَيْرِهِ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ أَهْلِيَّةَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَثُبُوتَ الْمِلْكِ وَالْيَدِ فِي غَيْرِ الْإِقْرَارِ حَالَةَ الْعَقْدِ، وَوُجُودَ الصِّيغَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلِلْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُبُوتُ الْأَهْلِيَّةِ، وَوُجُودُ الصِّيغَةِ، قَالَ: فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ ثُمَّ قَالَ: فَقَوْلُ السُّبْكِيّ: إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ إلَّا أَنَّهُ دُونَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ الْحُكْمُ بِهِ حُكْمٌ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْبَيِّنَةُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَصَحِيحٌ أَوْ فَاسِدًا فَفَاسِدٌ اهـ.

وَقَدْ بَيَّنْت فِي كِتَابِي فِي بَيْعِ الْمَاءِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ حَاصِلَ مَا قَالَهُ السُّبْكِيّ وَالْبُلْقِينِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ مَجْمُوعًا فِي كِتَابٍ، وَبَيَّنْتُ فِيهِ أَنَّ السُّبْكِيّ لَمْ يُطْلِقْ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ حُكْمًا بِهَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ لَكِنْ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَوَارِثِهِ وَمَنْ صَدَّقَهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَالْحُكْمَانِ إنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِيمَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَفِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ السُّبْكِيّ بِزِيَادَةٍ تُبَيِّنُ أَنَّهُ قَائِلٌ: بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ أَعَمُّ فِي كِتَابِهِ الْمُوعَبُ فِي الْقَضَاءِ بِالْمُوجَبِ فَقَالَ: مَا حَاصِلُهُ فَإِنْ قُلْتَ: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُوجَبَ هُوَ الْأَثَرُ الَّذِي يُوجِبُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَالصِّحَّةُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَثَرُ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْأَوَّلُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي شَرْعِيٌّ، وَقِيلَ: عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ لِاسْتِلْزَامِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ التَّحْرِيمُ أَوْ الصِّحَّةُ أَوْ الْفَسَادُ أَوْ السَّبَبِيَّةُ أَوْ الشَّرْطِيَّةُ أَوْ الْمَانِعِيَّةُ، بِخِلَافِ الْكَرَاهَةِ أَوْ النَّدْبِ إذْ لَا الْتِزَامَ فِيهِمَا وَلَا اسْتِلْزَامَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْأَوَّلَ ثُبُوتُ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَمُؤَاخَذَتُهُ بِهِ، وَالثَّانِي كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَشَرْطُ الصِّحَّةِ اخْتِيَارُهُ وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ وَأَنْ لَا يُكَذِّبُهُ حِسٌّ وَلَا عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ

فَالْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ يَقْتَضِي حُصُولَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَا يَحْكُمُ بِهَا إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِحُصُولِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا وَلَا يَضُرُّ احْتِمَالُ كَذِبِ الْمُقِرِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَالْإِقْرَارُ فَاسِدٌ ظَاهِرًا، فَإِذَا صَارَ فِي يَدِهِ صَحَّ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ السَّابِقِ، وَمَتَى عَلِمَ الْقَاضِي فَوَاتَ شَرْطِ الصِّحَّةِ أَوْ عَلِمَ حَجْرًا وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَلَا بِمُوجَبِهِ بَلْ بِفَسَادِهِ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ. أَمَّا فِيهَا فَلَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ إقْرَارِهِ وَلَا بِمُوجَبِهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ.

وَقَوْلُ الْقَاضِي: لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارٍ مُطْلَقٍ حُمِلَ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنْ احْتَمَلَ عَوَارِضَ يَمْنَعُهَا مَحَلُّهُ حَيْثُ لَا مُعَارِضَ حَصَلَ بِسَبَبِهِ شَكٌّ لَمْ يَثْبُتْ.

ص: 342

فَحِينَئِذٍ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَبَيَّنَ عِنْدَهُ حَالُهَا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ انْتِفَاءِ مَانِعٍ فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ حُكْمٌ بِسَبَبِيَّةِ الْمُؤَاخَذَةِ، ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ أَعْمَلْنَا السَّبَبَ وَأَثْبَتْنَا الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ اعْتِمَادًا عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ يَتَلَازَمُ الْحُكْمَانِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ وَبِهِ ظَهَرَ عُذْرُ الْحُكَّامِ فِي تَوَقُّفِهِمْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ دُونَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَشُرُوطُ الْإِقْرَارِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَهَا الْحَاكِمُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ، وَإِلَّا اُكْتُفِيَ بِعِلْمِهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِيهَا ثَلَاثَةٌ: صِحَّةُ الصِّيغَةِ وَإِمْكَانُ الْمُقَرِّ بِهِ وَرُشْدُ الْمُقِرِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَانِعٌ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُوجَبِ الْإِنْشَاءِ وَصِحَّةِ الْإِنْشَاءِ. أَنَّ مُوجَبَهُ أَثَرُهُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ شَرْعًا، وَصِحَّتَهُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ وَلِلصِّحَّةِ شُرُوطٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ ثَبَتَتْ حُكِمَ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَإِنْ ثَبَتَ فَقْدُ بَعْضِهَا حُكِمَ بِفَسَادِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فَمَا رَجَعَ لِلصِّيغَةِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ ظَاهِرٌ مِمَّا سَبَقَ فِي الْإِقْرَارِ أَوْ لِحَالِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوُجُودِيَّةِ كَالْمِلْكِ. وَنَحْوِهِ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ لِلْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ أَوْ الْعَدَمِيَّةِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَنَحْوِهِ لَمْ يُشْتَرَطْ ثُبُوتُهُ، فَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ وَلَا عَدَمُهُ وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ فَيُحْكَمُ بِمُوجَبِهِ، وَلَهُ فَوَائِدُ: كَوْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ سَبَبًا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ كَالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَالْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَاهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَمُؤَاخَذَةُ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ.

وَكَذَا وَارِثُهُ وَكُلُّ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ وَصُرِفَ الرَّيْعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ أَوْ اعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالسَّبَبِيَّةِ وَبِثُبُوتِ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، بَلْ الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ

وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ: الْحُكْمُ بِالشَّرْطِ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ حُكْمٌ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَوْ مُتَجَدِّدَيْنِ بَعْدَهُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا، وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ حُكْمٌ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ التَّامَّةِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، ثُمَّ الْقِسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي الْحُجَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ، وَقَوْلُ الْحَاكِمِ فِي إسْجَالِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ عِنْد الْحَاكِمِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا بَلْ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى الشَّرَائِطَ الْمُعْتَبَرَةَ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ حُكْمَهُ بِالْمُلْكِ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْحُ فِيهِ عَلَى أَنَّ بَعْدَ إلَخْ تَأْكِيدٌ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ الْأَمِينَ الدَّيِّنَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِالصِّحَّةِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ ذَلِكَ.

نَعَمْ تَرَدَّدَ الْأَصْحَابُ فِي شَاةٍ فِي يَدِ رَجُلٍ حَكَمَ لَهُ بِهَا حَاكِمٌ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ حُكْمِهِ، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ وَقَالَ: أَقْيَسُهُمَا لَا يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدَّمَ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَبَتَ عِنْدَهُ عَدَالَةُ الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يُنْقَضُ بِالشَّكِّ. اهـ الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ بِتَأَمُّلِهَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ غَيْرَهُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، وَأَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ أَمْرَانِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ أَخَصُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِتَلَازُمِهِمَا إنَّمَا هُوَ احْتِمَالٌ لَهُ، وَأَنَّ الْحُكْم بِالصِّحَّةِ.

ص: 343

يَزِيدُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ بِشَيْئَيْنِ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِالْمُوجِبِ فِي مُسْتَنَدِ الْإِجَارَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ حُكْمَهُ بِوُجُودِ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمْ حُكْمَهُ ذَلِكَ وَثَبَتَ انْتِفَاءُ بَعْضِ الشُّرُوطِ بَانَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ، وَفِي صُورَةِ السُّؤَالِ بَانَ فَوَاتُ بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَهُوَ وُجُودُ الْمَصْلَحَةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْمُوجِبِ بَاطِلًا كَمَا عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ فَإِنْ قُلْتَ: صَرَّحَ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدِ بِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ فِي وَاقِعَةٍ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْأَوْضَاعَ الشَّرْعِيَّةَ فِي حُكْمِهِ عُمِلَ بِحُكْمِهِ إذَا كَانَ حَاكِمًا شَرْعِيًّا، وَلَا يَتَوَقَّفُ إلَى أَنَّ حُكْمَهُ وَافَقَ الشَّرَائِطَ الشَّرْعِيَّةَ اهـ. كَلَامُهُ.

وَهَذَا مُنَافٍ لِمَا قَدَّمْته وَمُؤَيِّدٌ لِلْعَمَلِ بِمَكْتُوبِ الْإِجَارَةِ السَّابِقِ فِي السُّؤَالِ قُلْتَ: لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا عَنْ ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ أَنَّهُ الْأَقْيَسُ، وَوَجْهُ عَدَمِ مُنَافَاتِهِ تُعْرَفُ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ فِي كَلَامِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةٍ وَلَا بِمُوجِبٍ وَإِنَّمَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحُكْمُ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ حَكَمَ بِصِحَّةٍ أَوْ بِمُوجِبٍ؟ فَحَمَلْنَا حُكْمَهُ عَلَى السَّدَادِ وَلَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُ بِالشَّكِّ. وَلَا كَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّ الْحَاكِمَ فِيهَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ، فَحَكَمْنَا عَلَيْهِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ ثَانِيهِمَا وَهُوَ الْأَحْسَنُ: أَنَّ كَلَامَ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ كَمَا تَرَى فِي حُكْمٍ مُطْلَقٍ لَمْ يُقَيَّدْ بِشَيْءٍ

وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمٍ قُيِّدَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ هِيَ زِيَادَةُ الْأُجْرَةِ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَالْحُكْمُ إذَا أُسْنِدَ لِسَبَبٍ وَكَانَ ذَلِكَ السَّبَبُ بَاطِلًا يَكُونُ الْحُكْمُ بَاطِلًا. وَاَلَّذِي فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أُسْنِدَ لِذَلِكَ السَّبَبِ الْبَاطِلِ فَكَانَ بَاطِلًا، فَبَانَ بَوْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ لِمَا فِي كَلَامِ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْك عَلَى ذِكْرٍ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ، وَهُوَ مِمَّا يَلْتَبِسُ وَيَخْفَى عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّسَوُّرَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِلرُّقِيِّ إلَيْهِ وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، فَكَانَ إفْتَاؤُهُ مُنَادِيًا بِالْخَسَارَةِ وَالْبَوَارِ عَلَيْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ نِقَمِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْبُلْقِينِيُّ قَالَ: إذَا حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ إجَارَةٍ امْتَنَعَ عَلَى الْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهَا الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ لِلْوَرَثَةِ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ بِالصِّحَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتَرَضَهُ تِلْمِيذُهُ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: مَا ذَكَرَهُ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ وَقَعَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ وَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ، وَلَوْ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: حَكَمْتُ بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا إذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ لَغْوًا نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي الْحُكْمِ بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ أَجْنَبِيَّةٍ إذْ هُمَا مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ اهـ.

لَكِنْ فَرَقْتُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فِي كِتَابِي الْمَذْكُورِ فَرَاجِعْهُ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَقَدْ أَفْتَى الْوَلِيُّ بِمَا قَالَهُ هُنَا

فَإِنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مَوْقُوفَةً مِنْ نَاظِرٍ شَرْعِيٍّ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ شَرْطَ الْوَاقِفِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَاسْتَوْفَى شُرُوطَهُ وَحَكَمَ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ وَبِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِمَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَبِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِزِيَادَةِ الْأُجْرَةِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ فَهَلْ هَذَا الْحُكْمُ صَحِيحٌ أَوْ لَا؟

(فَأَجَابَ) : بِأَنَّ حُكْمَهُ بِالْمُوجَبِ صَحِيحٌ، وَمَذْهَبُنَا أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ النَّاظِرِ عَلَى سَائِرِ الْبُطُونِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ. وَلَكِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِهَذَا قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا، وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى، وَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى شَيْءٍ قَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَزِيدُ الْأُجْرَةُ وَقَدْ لَا وَقَدْ يَمُوتُ أَحَدُ الْمُتَآجِرَيْنِ وَقَدْ لَا، فَإِذَا وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ رُفِعَتْ لَهُ الْقَضِيَّةُ مِنْ الْحُكَّامِ فَحَكَمَ بِمَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ نَفَذَ، سَوَاءٌ حَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْإِجَارَةِ أَمْ بِانْفِسَاخِهَا، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ شَافِعِيٍّ الْحُكْمُ حِينَ صُدُورِ الْإِجَارَةِ بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا كَمَا قَدَّمْته وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ حُكْمًا فَلَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، فَإِنَّهُ حُكْمٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ وَتَعْجِيلٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وَقْتِهِ انْتَهَى.

وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ: فَهُوَ أَنَّ الْبُلْقِينِيُّ صَرَّحَ فِي فَتَاوِيهِ بِأَنَّهُ إذَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمُدَّةٍ فِي وَقْفٍ لَمْ تُجِزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ زِيدَ عَلَيْهَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ أَصْلِهَا وَلَمْ تَتَفَرَّقْ الصَّفْقَةُ؛ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْجَائِزَ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ قَدْ يَزِيدُ

ص: 344

قَلِيلًا وَقَدْ يَنْقُصُ قَلِيلًا، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْقَدْرُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِبْطَالِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ فِي زَمَنِ الْوَاقِفِ إذَا عَرَفَهَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِهِ فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ حِينَ الْوَقْفِ قَدْ اطَّرَدَتْ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمَاثَلَةِ لِلْمَوْقُوفِ أَنَّهَا لَا تُؤَجَّرُ إلَّا مُدَّةً مُعَيَّنَةً

فَحِينَئِذٍ يَنْزِلُ ذَلِكَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا، وَيَمْتَنِعُ إيجَارُهُ مُدَّةً أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَادَةَ الْمَذْكُورَةَ كَشَرْطِ الْوَاقِفِ قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ: يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى مَا لَوْ اطَّرَدَتْ عَادَةُ نُظَّارِ وَقْفٍ عَلَى إجَارَتِهِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، وَقَدْ جُهِلَ شَرْطُ الْوَاقِفِ، فَهُنَا يَلْزَمُ النَّاظِرَ الْجَائِيَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى مِنْوَالِهِمْ، فَلَا تَجُوزُ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِنَظِيرِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ إذَا جُهِلَ فِي شَيْءٍ وَاطَّرَدَتْ عَادَةُ نُظَّارِ الْوَقْفِ بِشَيْءٍ

وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ وَامْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ لِشَرْطِ الْوَاقِفِ أَوْ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي زَمَنِهِ الْمُنَزَّلَةِ مَنْزِلَةَ شَرْطِهِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، وَأَمَّا عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ فَهُوَ أَنَّ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَخْ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ لِلْعِلَّةِ، فَهُمَا هُنَا سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ بَلْ فُرُوقٌ لَا بَأْسَ بِبَيَانِهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِخَفَائِهِ وَنُدْرَةِ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، فَنَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، فَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَالسَّبَبُ قَلَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى غَيْرِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] أَيْ: حَبْلٍ إلَى سَقْفِ بَيْتِهِ، وَالْعِلَّةُ: الْمَرَضُ وَكَلِمَاتٌ يَدُورُ مَعْنَاهَا عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ عَنْهُ مَعْنًى آخَرَ، أَوْ يُؤَثِّرُ فِي مَعْنًى آخَرَ.

وَمُرَادُهُمْ بِالتَّأْثِيرِ مَا لَا يَتَخَلَّفُ عَادَةً لَا الِاخْتِرَاعُ، وَيُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيّ: وَذَكَرَ النُّحَاةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، حَيْثُ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّامَ لِلتَّعْلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلَمْ يَقُولُوا لِلتَّعْلِيلِ وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمَا غَيْرَانِ، وَمَثَّلَ لِلسَّبَبِيَّةِ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22]، وَالْعِلَّةُ بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] وَذَكَرُوا أَيْضًا: أَنَّ بَاءَ الِاسْتِعَانَةِ غَيْرُ مَعْنَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ، وَحِينَئِذٍ فَالْبَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي لَهُ قُدْرَةُ أَثَرٍ فِي وُجُودِ مُتَعَلَّقِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ وَبَاءُ السَّبَبِ وَبَاءُ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إنْ صَحَّ نِسْبَةُ الْقَائِلِ إلَى مَصْحُوبِهَا مَجَازًا، فَهِيَ بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ نَحْوَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَتُعَرَّفُ أَيْضًا بِأَنَّهَا الدَّاخِلَةُ عَلَى أَسْمَاءِ الْآلَاتِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ إنَّمَا وُجِدَ لِأَجْلِ وُجُودِ مَجْرُورِهَا، فَهِيَ بَاءُ الْعِلَّةِ نَحْوَ {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، فَوُجُودُ التَّحْرِيمِ لَيْسَ إلَّا لِوُجُودِ الظُّلْمِ، وَتُعَرَّفُ بِأَنَّهَا الصَّالِحَةُ غَالِبًا لِحُلُولِ اللَّامِ مَحَلَّهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، نَحْوَ {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] فَإِخْرَاجُ الثَّمَرَاتِ مُسَبَّبٌ عَنْ وُجُودِ الْمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَاءِ، بَلْ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعِبَادِ فَعُلِمَ أَنَّ بَاءَ الِاسْتِعَانَةِ لَا تَصِحُّ فِي الْأَفْعَالِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى، هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِ النَّاقِلِينَ عَنْ الْعَرَبِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّرْعِ فَالسَّبَبُ وَالْعِلَّةُ يَشْتَرِكَانِ عِنْدَهُمْ فِي تَرَتُّبِ الْمُسَبَّبِ وَالْمَعْلُولِ عَلَيْهِمَا، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّبَبَ مَا يَحْصُلُ الشَّيْءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَالْعِلَّةَ مَا يَحْصُلُ بِهِ، وَأَنْشَدَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَوَاطِعِ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْءَ لِلشَّيْءِ عِلَّةٌ

يَكُونُ بِهِ كَالنَّارِ يُقْدَحُ بِالزَّنْدِ

وَلَكِنَّهُ اخْتَارَ فِي تَعْرِيفِ السَّبَبِ بِأَنَّهُ مَا يُوَصِّلُ إلَى الْمُسَبَّبِ مَعَ جَوَازِ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: تَقَدُّمٌ يُعْقِبُهُ مَقْصُودٌ لَا يُوجَدُ إلَّا بِتَقَدُّمِهِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَالْحَبْلِ سَبَبٌ لِلْوُصُولِ لِلْمَاءِ، ثُمَّ الْوُصُولُ بِقُوَّةِ النَّازِحِ لَا بِالْحَبْلِ، وَالطَّرِيقُ سَبَبُ الْوُصُولِ لِلْمَقْصِدِ وَوُصُولُهُ بِقُوَّةِ الْمَاشِي لَا بِالطَّرِيقِ وَحَلُّ الْقَيْدِ سَبَبٌ لِفِرَارِ الْمُقَيَّدِ وَفِرَارُهُ بِقُوَّتِهِ لَا بِالْحَلِّ، وَمِنْهُ:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] فَضَرْبُهُ بِبَعْضِهَا سَبَبُ الْحَيَاةِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا، وَكَذَا ضَرْبُ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، قَالَ: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُوَصِّلُ مَعَ جَوَازِ الْمُفَارَقَةِ، وَأَطَالَ فِي تَعْرِيفِ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ، وَعَقَدَ لِذَلِكَ بَابًا مُسْتَقِلًّا.

ثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَعْلُولَ يَتَأَثَّرُ عَنْ عِلَّتِهِ

ص: 345

بِلَا وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا وَلَا شَرْطٍ يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يُفْضِي إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ أَوْ وَسَائِطَ، وَلِذَلِكَ يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهُ حَتَّى تُوجَدَ الشَّرَائِطُ وَتَنْتِفِي الْمَوَانِعُ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا إذْ لَا شَرْطَ لَهَا، بَلْ مَتَى وُجِدَتْ أَوْجَبَتْ مَعْلُولَهَا اتِّفَاقًا، كَمَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا، وَوَجَّهُوهُ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ تُحَاكِيهَا أَبَدًا لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا فِي أَنَّ تِلْكَ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهَا بِخِلَافِ هَذِهِ قَالَ الْإِمَامُ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهَا تُوجِبُ الْمَعْلُولَ أَنَّهَا تُثْبِتُهُ كَمَا تَقْتَضِي الْقُدْرَةُ حُدُوثَ الْمَقْدُورِ، لَكِنَّا أَرَدْنَا بِالْإِيجَابِ تَلَازُمَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَاسْتِحَالَةَ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا دُونَ الثَّانِي اهـ.

وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْفَرْقُ الْأَوَّلُ السَّابِقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُلَازِمُ الْمُسَبَّبَ لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِ لِمَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ وَالْعِلَّةُ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فَالْمُلَازَمَةُ فِيهَا مَوْجُودَةٌ أَبَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ مِنْ نَافِذٍ طَلَاقُهُ عِلَّةٌ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْقِبُ الْوُقُوعَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ دَخَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ سَبَبٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدُّخُولِ، فَالسَّبَبُ مَوْجُودٌ وَالْمُسَبَّبُ مَفْقُودٌ، وَلَا كَذَلِكَ الْعِلَّةُ، وَالْأُصُولِيُّونَ لَمْ يَعْتَنُوا بِتَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ رُبَّمَا وَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَقْصَدَهُمْ الْوَصْفُ الَّذِي تَرَتَّبَ بَعْدَهُ الْحُكْمُ وَلَهُ مَدْخَلٌ فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إنْكَارًا مِنْهُمْ لِلْفَرْقِ، بَلْ لَمَّا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ لَمْ يَذْكُرُوهُ وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ وَاسْتَعْمَلَهُ الْغَزَالِيُّ رحمه الله سبحانه وتعالى فِي الْفِقْهِيَّاتِ عَلَى نَحْوِ مَا أَبْدَيْنَاهُ فَقَالَ فِي الْجِرَاحِ: مَا لَهُ دَخْلٌ فِي الزُّهُوقِ فَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ وَلَا فِيمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَالشَّرْطُ كَالْحَفْرِ، وَإِنْ أَثَّرَ فِيهِ وَحَصَّلَهُ فَالْعِلَّةُ كَالْقَدِّ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ بَلْ فِي حُصُولِهِ فَالسَّبَبُ كَالْإِكْرَاهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ سَمَّى الْحَفْرَ سَبَبًا فِي الْغَصْبِ، وَأَجَابَ ابْنُ الرِّفْعَةِ بِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَفْرِ.

وَإِنْ انْعَدَمَتْ التَّرْدِيَةُ وَفِي الْجِرَاحِ لَا قِصَاصَ بِهِ إذَا انْعَدَمَتْ، وَمِنْ ثَمَّ جُعِلَ الْحَفْرُ سَبَبًا لِلدِّيَةِ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهِ وَإِنْ انْعَدَمَتْ التَّرْدِيَةُ، فَالْحَفْرُ صَالِحٌ لِلسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ كَانَ سَبَبًا، وَحِينَئِذٍ فَالرَّوَابِطُ بَيْنَ الْأَحْكَامِ وَالْأَسْبَابِ إمَّا مُسْتَقِلَّةٌ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا وَهِيَ الْعِلَلُ، وَإِمَّا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ، فَمَا لَهُ دَخْلٌ فِي التَّأْثِيرِ وَمُنَاسَبَةٌ أَيًّا كَانَ فِي قِيَاسِ الْمُنَاسَبَاتِ فَهُوَ السَّبَبُ، وَمَا لَا مَدْخَلَ لَهُ وَلَكِنَّهُ إذَا انْعَدَمَ يَنْعَدِمُ الْحُكْمُ فَهُوَ الشَّرْطُ، فَالْعِلَّةُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُمَا، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ بِالْمُبَاشَرَةِ، وَهِيَ الْعِلَّةُ دُونَ الشَّرْطِ مُطْلَقًا وَدُونَ السَّبَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، فَهُوَ رُتْبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ، نَعَمْ الشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ

وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَقْوَى مِنْ السَّبَبِ إذْ هُوَ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسَبَّبِ انْتِفَاءً وَثُبُوتًا، بِخِلَافِ الشَّرْطِ وَمِنْ ثَمَّ فَرَّقَ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ بِأَنَّ مَا جَرَى مُقَارِنًا لِلشَّيْءِ أَوْ غَيْرَ مُقَارِنٍ وَلَا تَأْثِيرَ، فَالسَّبَبُ وَمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ فَالشَّرْطُ فَهُوَ مُقَارِنٌ غَيْرُ مُقَارَنٍ كَالْعِلَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: الشَّرْطُ مَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهِ أَيْ لِكَوْنِهِ عَلَامَةً عَلَيْهِ، وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ، بَلْ يُوجِبُ مُصَادَفَتَهُ وَمُوَافَقَتَهُ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَوْلُ الْوَسِيطِ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ زَمَنِ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى تَفْصِيلٍ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ دَائِمًا، بَلْ سَبَبٌ لِإِفَادَتِهِ إنْ وُجِدَتْ شُرُوطُهُ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ كَالْخِيَارِ، فَسَبَبِيَّةُ الْبَيْعِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا ثُمَّ عِنْدَنَا السَّبَبُ مُتَّصِلٌ بِالْمُسَبَّبِ حَتَّى فِي زَمَنِ الْخِيَارِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا وَمِنْ فَرْقِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ قَوْلُهُمْ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِرِضَا فُلَانٍ؛ لَمْ يَقَعْ إلَّا إنْ رَضِيَ بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ لِرِضَا فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُخَالِفُ مَا مَرَّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بَلْ يُوَافِقُهُ، فَإِنَّ جَعْلَهُ الرِّضَا سَبَبًا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِوُقُوعِهِ، فَعَلَّقْنَا الْوُقُوعَ بِتَحَقُّقِ الرِّضَا، بِخِلَافِ جَعْلِهِ عِلَّةً فَإِنَّهُ جَزْمٌ بِوُقُوعِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْوُقُوعِ، فَأَخَذْنَاهُ بِمُقْتَضَاهُ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنَّ ذَلِكَ لَوْ صَدَرَ مِنْ عَامِّيٍّ أَوْ نَحْوِيٍّ قَالَ: أَرَدْت بِالْعِلَّةِ مَعْنَى السَّبَبِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا إنْ وُجِدَ الرِّضَا وَهُوَ مُتَّجِهٌ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالُوهُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ أَنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بِفَتْحِ أَنْ إذَا تَقَرَّرَ

ص: 346

ذَلِكَ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ، فَنَقُولُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُقْتَضَى الْوَاقِعِ فِي لَفْظِ الْحَاكِمِ وَمِثْلُهُ الشَّاهِدُ.

فَنَقَلَ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا انْفِكَاكَ لَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَإِنَّهُ مَفْعُولٌ اُقْتُضِيَ أَيْ طُلِبَ، وَالطَّلَبُ قَدْ يَكُونُ مَعَ إلْزَامٍ وَمَعَ عَدَمِهِ، ثُمَّ الْمُقْتَضَى هُنَا هُوَ كَوْنُ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً إذْ إضَافَةُ مُقْتَضَى إلَى مَا بَعْدَهُ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ أَوْ إضَافَةُ أَعَمَّ إلَى أَخَصَّ، وَعَلَى كُلٍّ تَكُونُ الْأُجْرَةُ كَذَلِكَ مُقْتَضَى أَيْ مَطْلُوبًا، وَحِينَئِذٍ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ ثَبَتَتْ بِمَطْلُوبٍ هُوَ أَنَّ تِلْكَ الْأُجْرَةَ زَائِدَةٌ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ، وَكُلٌّ مِنْ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ يَقْتَضِي تَوَقُّفَ الْمُسَبَّبِ أَوْ الْمُعَلَّلِ عَلَى وُجُودِهِ سَوَاءٌ قُلْنَا: إنَّ الْمُقْتَضَى يَتَخَلَّفُ أَوْ لَا يَتَخَلَّفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ السَّبَبِ لَا بِهِ وَبِالْعِلَّةِ لَا عِنْدَهَا، أَوْ فِي أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وَاسِطَةٍ بِخِلَافِهَا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ حُكْمٌ هُنَا، وَلَيْسَ مَا هُنَا نَظِيرَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَتَيْ الطَّلَاقِ لِمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِيهِمَا، وَإِذَا اقْتَضَى كُلٌّ مِنْ ذَيْنَك أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْإِيجَارِ الْمَذْكُورِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ، اقْتَضَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَرَتِّبَةً إلَّا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا عِلَّةَ وَلَا سَبَبَ لِوُجُودِهَا غَيْرَ هَذَا الْمُقْتَضَى.

أَلَا تَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ سبحانه وتعالى {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] وَقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [النساء: 160] مِنْ أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَالتَّحْرِيمَ إنَّمَا تَرَتَّبَا عَلَى الْمَاءِ وَالظُّلْمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَإِذَا انْحَصَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي الْمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ دَلَّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ إلَّا الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَقَدْ بَسَطْنَا لَك الْقَوْلَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ هَذَا وَحْدَهُ كَافٍ وَغَيْرُ مُسَوِّغٍ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

(الْخَاتِمَةُ) فِي السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَهُوَ مَا قَوْلُكُمْ فِي مُسْتَنَدِ إيجَارِ مَكَان وُقِفَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ صَدَرَ مِنْ نَاظِرٍ شَرْعِيٍّ: حَكَمَ شَافِعِيٌّ فِيهِ بِالْمُوجَبِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مَعْرِفَةُ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَأَنَّ الْأُجْرَةَ الَّتِي قَدَّرَهَا كَذَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ يَوْمَئِذٍ لِلْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فِيهِ وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ الْوَافِرَةَ كَمَا شُرِحَ بِمُقَدِّمَةِ الْمُسْتَنَدِ الْمَذْكُورِ فِي إيجَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَعْلَاهُ بِالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِيهِ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ أَعْلَاهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ فَهَلْ قَوْلُهُ بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ إلَى آخِرِهِ يَتَعَلَّقُ بِالْحَظِّ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْغِبْطَةِ الْوَافِرَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ آخَرَ مَعَ أَنَّ الْمُوَثِّقَ لِلْمُسْتَنَدِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ ثُبُوتِ خَرَابِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ وَلَا لِإِشْرَافِهِ عَلَى الْخَرَابِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسَوِّغَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَارِ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ مَثَلًا وَهَلْ يَحْتَاجُ فِي إيجَارِ الْأَوْقَافِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَى ثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ لِلْوَقْفِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِالِاحْتِيَاجِ فَهَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ تُعَدُّ مَنْفَعَةً أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مِنْ الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ الْمَذْكُورِ أَعْلَاهُ حُكْمٌ بِالصِّحَّةِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ الْإِيجَارُ الْمَذْكُورُ صَحِيحٌ عَلَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ الْمَشْرُوحِ أَوْ لَا؟ (فَأَجَبْتُ) : الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَنَدُ الْمَذْكُورُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إنَّمَا اسْتَنَدَ فِيهِ إلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ

وَأَنَّ حَاصِلَ صِيغَةِ تِلْكَ الشَّهَادَةِ أَشْهَدُ أَنَّ الْمَكَانَ الْمَوْصُوفَ بِكَذَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ كَذَا لِمُدَّةِ مِائَةِ سَنَةٍ، وَأَنَّ الْحَظَّ وَالْمَصْلَحَةَ وَالْغِبْطَةَ الْوَافِرَةَ لِجِهَتَيْ الْوَقْفِ وَالْمُسْتَحَقِّينَ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ بِتِلْكَ الْأُجْرَةِ، بِمُقْتَضَى أَنَّ الْأُجْرَةَ الْمَذْكُورَةَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ حَاصِلُ لَفْظِ الشَّاهِدِ الَّذِي اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَقَطْ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مُؤَدَّى هَذَا اللَّفْظِ ثُمَّ حُكْمِهِ، فَمُؤَدَّاهُ أَنَّ الْحَظَّ وَمَا بَعْدَهُ لِتَيْنَك الْجِهَتَيْنِ فِي ذَلِكَ الْإِيجَارِ مُسَبَّبٌ أَوْ مَعْلُولٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، إذْ الْبَاءُ إمَّا لِلسَّبَبِيَّةِ أَوْ الْعِلَّةِ، وَالْمُقْتَضَى الْمَطْلُوبُ وَإِضَافَتُهُ لِمَا بَعْدَهُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ، وَالْبَاءُ بِقِسْمَيْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمُتَعَلِّقِ خَبَرِ أَنَّ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ أَوْ بِخَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَمَدْلُولُ اللَّفْظِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ حَصْرِ الْحَظِّ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، إذْ الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِسَبَبٍ وَهُوَ مَا يُوجَدُ عِنْدَهُ الْحُكْمُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِعِلَّةٍ وَهِيَ

ص: 347

مَا يُوجَدُ بِهَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، دَلَّ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ عَلَى أَنَّهُ لَا سَبَبَ لَهُ أَوْ لَا عِلَّةَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ الْمَذْكُورَ فَقَطْ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ أَوْ عِلَّةٌ أُخْرَى، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ سَبَبًا وَلَا عِلَّةً، وَإِنَّمَا السَّبَبُ أَوْ الْعِلَّةُ مَجْمُوعُ الْمَذْكُورِ وَالْمَحْذُوفِ أَوْ الْمَحْذُوفُ فَقَطْ وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَوَجَبَ أَنْ لَا سَبَبَ أَوْ لَا عِلَّةَ إلَّا الْمَذْكُورَ وَحِينَئِذٍ ظَهَرَ حَصْرُ الْحَظِّ وَمَا بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ الْمُقْتَضِي وَأَنَّهُ لَا حَظَّ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ غَيْرُهُ

وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُؤَدَّى لَفْظِ الشَّاهِدِ الْمَذْكُورِ فَلْنُبَيِّنْ حُكْمَهُ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى عِبَارَاتِ الْأَئِمَّةِ بِأَوْجَزِ عِبَارَةٍ تَعْوِيلًا عَلَى مَا بَسَطَتْهُ فِي تَقْرِيرِهَا فِي غَيْرِ هَذَا فَنَقُولُ: قَدْ تَبَايَنَتْ آرَاءُ الْأَئِمَّةِ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ فَمَنَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْأَذْرَعِيُّ وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ الزَّرْكَشِيُّ، فَاسْتَبْعَدَ جَوَازَهَا، وَجَوَّزَهَا آخَرُونَ بِشَرْطٍ مِنْهُمْ السُّبْكِيّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَجَرَى عَلَيْهِ الْكَمَالُ الرَّدَّادُ شَارِحُ الْإِرْشَادِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَفَاسِدَ، فَالْمَانِعُونَ نَظَرُوا إلَيْهَا فَأَطْلَقُوا مَنْعَهَا نَظَرًا لِلْعَادَةِ الْمُحَقَّقَةِ لَهَا غَالِبًا، وَالْمُجَوِّزُونَ لَهَا نَظَرُوا إلَى أَنَّهَا مَوْهُومَةٌ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إذَا حَقَّتْ مَنَعَتْ النَّظَرَ إلَيْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِجَارَةِ وَفِي حِفْظِ الْأُصُولِ، وَلَا يَتِمُّ الِاحْتِيَاطُ فِي هَذَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ إلَّا إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا كَمَا ذُكِرَ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُتَصَرِّفِ عَلَى الْغَيْرِ أَنْ يُرَاعِيَ فِي تَصَرُّفِهِ الْأَغْبَطَ وَالْأَصْلَحَ، فَفِي مُدَدِ الْإِجَارَاتِ يَلْزَمُهُ رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ مِنْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الصَّالِحِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلَحِ، فَلَا يَفْعَلُ الْإِجَارَةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ كَوْنُهَا أَصْلَحَ.

وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُسَجِّلُ نَحْوَ إجَارَتِهِ إلَّا إنْ ثَبَتَ مُسَوِّغُهَا عِنْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ مُؤَيِّدٌ لِلْمُجَوِّزِينَ لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ، بِشَرْطِ الْحَاجَةِ لِتَوَقُّفِ بَقَاءِ عَيْنِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا عَلَيْهَا، فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ زِيَادَةِ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَثُرَتْ الزِّيَادَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ كَلَامُ الْوَلِيِّ أَبِي زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ وَسَبَقَهُ إلَى نَحْوِهِ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي كَافِيهِ وَابْنُ رَزِينٍ صَاحِبُ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَفَرْضُ كَلَامِهِ فِي إجَارَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا الظَّنُّ بِمِائَةٍ؟ وَنَحَا إلَى ذَلِكَ السُّبْكِيّ وَالْبُلْقِينِيُّ، بَلْ الرَّافِعِيُّ فِي الْعَزِيزِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْوَجِيزِ، وَجَزَمَ بِهِ شَارِحُ الْإِرْشَادِ الرَّدَّادُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فَتَاوِيهِ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِإِجَارَةٍ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ إجَارَةِ الْوَقْفِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِنَا وَاعْتَمَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ فِي الْمَطْلَبِ: إيجَارُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مُشَبَّهٌ بِإِيجَارِ مِلْكِ الْيَتِيمِ أَوْ بَيْعِهِ فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ أَوْ فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنْ يَجِدَ مِثْلَهُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ أَوْ خَيْرًا مِنْهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ جَرَيَانُ نَظِيرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّ مَدَارَ ذَلِكَ عَلَى التِّجَارَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِخْرَاجِ مَا فِي الْيَدِ لِأَصْلَحَ مِنْهُ، وَلَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ إلَّا بِمَا ذُكِرَ وَهُنَا عَلَى حِفْظِ عَيْنِ الْوَقْفِ وَعَدَمِ تَطَرُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ

فَاتَّضَحَ فُرْقَانُ مَا بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَأَنَّهُ لَا جَامِعَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ لَا أَثَرَ لَهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ مَصْلَحَةٌ أَوْ حَاجَةٌ جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَمَتَى انْتَفَى كُلٌّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ امْتَنَعَتْ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ زَادَتْ الْأُجْرَةُ، وَإِنَّمَا اكْتَفَيْنَا فِي الْقَصِيرَةِ بِمُجَرَّدِ الْمَصْلَحَةِ، وَاشْتَرَطْنَا فِي الطَّوِيلَةِ الْحَاجَةَ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ فِي الطَّوِيلَةِ مَفَاسِدَ فَلَمْ تَجُزْ، إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ لِحَاجَةٍ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.

وَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ مِنْهُمْ السُّبْكِيّ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ فِي عَقْدٍ لَيْسَ حُكْمًا بِوُجُودِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ مُتَرَادِفَانِ، فَلَا يَنْفَعُ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمُوجَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى شَيْءٍ، وَإِلَّا نَزَلَ حُكْمُهُ عَلَى السَّدَادِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدِ، وَإِنَّمَا حَكَمَ مُسْتَنِدًا إلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُسْتَنَدِ، وَشَهَادَتُهُمَا إنَّمَا هِيَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِجَارَةِ كَوْنُ الْأُجْرَةِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَزِيَادَةً، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذِهِ وَحْدَهَا لَا تَكُونُ مَصْلَحَةً مُسَوِّغَةً لِلْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ

وَإِذَا اسْتَنَدَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ إلَيْهَا وَحْدَهَا بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، فَإِذَا

ص: 348

ثَبَتَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنْ لَا مَصْلَحَةَ فِي تِلْكَ الْإِجَارَةِ أَبْطَلَهَا وَلَا نَقْضَ فِي ذَلِكَ لِحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ اسْتِنَادَهُ لِمَا لَا يُسَوِّغُهُ صَيَّرَهُ لَغْوًا فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الشَّاهِدَ أَطْلَقَ الْمَصْلَحَةَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَارِ كَذَا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ هَذَا مِنْهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِفْسَارُهُ كَمَا أَفْهَمَهُ كَلَامُ الْأَئِمَّةِ بَلْ كَلَامُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ مُخْتَلِفَةٌ وَتَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَا يَأْتِي هُنَا الْخِلَافُ فِي إطْلَاقِ الشَّاهِدِ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو مِائَةً عُرِفَ سَبَبُهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ ثَمَّ عَلَى آدَمِيٍّ بَرْهَنَ هُوَ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى رَدِّهَا.

وَسَبَبُهَا كَالْإِقْرَارِ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، بِخِلَافِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمَلِكَ فِي الْمَوْقُوفِ لِلَّهِ سبحانه وتعالى وَأَسْبَابُ الْمَصَالِحِ مُخْتَلِفَةٌ فَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ لَا يَقْبَلَ الشَّهَادَةَ بِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى، وَقَدْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ الِاسْتِفْسَارِ عَلَيْهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَمَسْأَلَتُنَا هَذِهِ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ أَكْثَرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ الْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الشَّاهِدِ وَالْوَاقِعَةِ فِي لَفْظِ الْحَاكِمِ فَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ: حَكَمْتُ بِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ بِمُوجَبِهَا لِثُبُوتِ الْمَصْلَحَةِ عِنْدِي لَمْ يَقْدَحْ فِي حُكْمِهِ عَدَمُ بَيَانِهَا، بَلْ لَوْ حَذَفَهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ، وَسَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ حَمْلًا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَى السَّدَادِ مَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا إذَا أَسْنَدَ الْحَاكِمُ حُكْمَهُ إلَى شَهَادَةٍ بِمُطْلَقِ مَصْلَحَةٍ أَوْ بِمَصْلَحَةٍ، لَا تُعَدُّ فِي مَذْهَبِهِ مَصْلَحَةً، فَيَكُونُ حُكْمُهُ لَغْوًا وَجَهْلًا مِنْهُ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُرْضِيهِ عَنِّي وَأَنْ يُجِيرَنِي مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَإِلَيْهِ أَفْزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، يَا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِك وَعَظِيمِ سُلْطَانِك حَمْدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ عَدَدَ خَلْقِك وَرِضَاءَ نَفْسِكَ وَزِنَةَ عَرْشِك وَمِدَادَ كَلِمَاتِك، وَسُبْحَانَ اللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ عَدَدَ مَعْلُومَاتِك وَمِدَادَ كَلِمَاتِك، كُلَّمَا ذَكَرَك وَذَكَرَهُ الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِك وَذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182]

(مَسْأَلَةٌ: سُئِلْتُ) عَنْ كِتَابِ وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ لِمِيَاهٍ وَأَرَاضٍ فِي مَرِّ الظَّهْرَانِ حَكَمَ بِمُوجَبِهِ حَنَفِيٌّ ثُمَّ مَاتَ قَاضِيهِ وَشُهُودُهُ فَأَثْبَتَهُ الْحَاكِمُ الْمَالِكِيُّ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ فَوَضَعَ إنْسَانٌ يَدَهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْمَاءِ مُدَّةً مَدِيدَةً بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ شَافِعِيٌّ ثُمَّ ثَبَتَ الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ الْمَاءَ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَرَادَ نَاظِرُ الْوَقْفِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ بِغَلَّةِ ذَلِكَ الْمَاءِ لَدَى شَافِعِيٍّ فَهَلْ لَهُ سَمَاعُ هَذِهِ الدَّعْوَى عَمَلًا بِمَذْهَبِهِ أَنَّ مَاءَ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ مَمْلُوكٌ لِوَاضِعِي الْأَيْدِي عَلَيْهِ فَيُضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ عَلَى مَا حَرَّرُوهُ فِي الْغَصْبِ أَمْ لَا؟ نَظَرًا لِحُكْمِ الشَّافِعِيِّ بِالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بَانَ فَسَادُهُ

وَبِتَبَيُّنِ فَسَادِهِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ سَمَاعُهَا نَظَرًا لِحُكْمِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ بِنَاءً عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بَعْضُ مُفْتِيِي مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمَاءَ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ، لَكِنْ خَالَفَهُ مُفْتٍ آخَرُ مِنْهُمْ فَقَالَ: الْمَاءُ الْمَحْضُ لَا يُضْمَنُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ الْمَوْقُوفُ وَغَيْرُهُ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مَعَ الْبَسْطِ التَّامِّ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا (فَأَجَبْتُ) : بِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَسْتَدْعِي بَسْطًا، فَلَا تَضْجَرْ مِنْهُ، فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ نَفِيسَةً لَا تَظْفَرُ بِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ، وَلْنَجْعَلْهُ فِي أُمُورٍ، لَكِنَّ بَعْضَهَا مُقَدِّمَاتٌ وَبَعْضُهَا مَقَاصِدُ أَحَدُهَا تَحْرِيرُ مَاءِ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَان وَغَيْرِهِ مِنْ أَوْدِيَةِ الْحِجَازِ هَلْ هُوَ مِلْكٌ لِأَهْلِهَا أَوْ مُسْتَحَقٌّ فَقَطْ فَلَا يُضْمَنُ؟

وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا الثَّانِي وَعِبَارَةُ الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِي عَلَيْهِ وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ بِأَنْ لَمْ تُمَلَّكْ مِنْ الْأَوْدِيَةِ كَالسَّيْلِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَوَاتِ وَسُيُولِ الْأَمْطَارِ يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» وَصَحَّ خَبَرِ «ثَلَاثَةٌ لَا يُمْنَعْنَ الْمَاءُ وَالْكَلَأَ وَالنَّارُ» فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ

ص: 349

تَحَجُّرُهَا وَلَا لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا إجْمَاعًا، ثُمَّ قُلْتُ: وَلَيْسَ مِنْ الْمُبَاحَةِ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَمَحَلُّهُ إذَا كَانَ مَنْبَعُهُ مِنْ مَمْلُوكٍ لَهُمْ، بِخِلَافِ مَا مَنْبَعُهُ بِمَوَاتٍ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ نَهْرٍ عَامٍّ كَدِجْلَةَ، فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ اهـ.

وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَاءَ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ وَنَحْوِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعُيُونَ مَنَابِعُهَا غَائِصَةٌ فِي جِبَالٍ مُبَاحَةٍ لَا يُعْلَمُ مُنْتَهَى تِلْكَ الْمَنَابِعِ وَلَا أَصْلُهَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِيَاهٌ مِنْ أَسْفَلَ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَقَدْ جِيءَ إلَى ذَلِكَ الْأَسْفَلِ، وَبُنِيَ عَلَيْهِ جُدْرَانٌ بَيْنَهُمَا قَنَاةٌ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَاءُ مِنْ ذَلِكَ السُّفْلِ جَرَى بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِدَارَيْنِ إلَى أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى أَرَاضٍ يَسْقِيهَا.

وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْمَنَابِعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، كَمَا شَمِلَهُ قَوْلُ الْمِنْهَاجِ " وَالْعُيُونُ فِي الْجِبَالِ " وَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: وَمَحَلُّهُ إنْ كَانَ مَنْبَعُهُ فِي غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُمْ إلَى آخِرِهِ، وَتَأَمَّلْ حِكَايَتَهُمْ الْإِجْمَاعَ، عَلَى أَنَّ مَاءَ الْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَحَجُّرُهَا الصَّرِيحُ فِي بَقَائِهَا عَلَى إبَاحَتِهَا، وَإِنْ بَنَى عَلَيْهَا وَحَجَّرَ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْبِنَاءَ عَلَى تِلْكَ الْعُيُونِ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ إسْلَامِيٌّ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَاهِلِيٌّ، فَلَا يُسْتَدَلُّ بِوُجُودِهِ لِلْمِلْكِ وَلَا لِعَدَمِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا ذَكَرْته أَوَّلًا تَصْرِيحُهُمْ: بِأَنَّ الْمَاءَ النَّابِعَ فِي الْمُبَاحِ كَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ بِالتَّحَجُّرِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمَنَابِعَ فِي جِبَالٍ مُبَاحَة، فَلَا تُمْلَكُ بِإِحْيَاءٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا بِتَحَجُّرٍ، وَبِهَذَا صَحَّ الْحَدِيثُ وَقَامَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَمَّا الْحَدِيثُ: فَهُوَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ رَجُلًا مِلْحَ مَأْرَبِ أَيْ مَدِينَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَنْعَاءَ كَانَتْ بِهَا بِلْقِيسُ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ أَيْ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ لَا انْقِطَاعَ لِمَنْبَعِهِ فَقَالَ: فَلَا إذْنَ» فَعُلِمَ أَنَّ الْمَاءَ الْعِدَّ وَهُوَ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لِمَنْبَعِهِ لَا يُمْلَكُ، وَتِلْكَ الْمَنَابِعُ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمَاءِ، فَلَا يُمْلَكُ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ مَشَارِعِ الْمَاءِ أَيْ الَّتِي مِنْهَا مَنَابِعُهُ، وَعَبَّرُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِ إقْطَاعِ مَشَارِعِ الْمَاءِ، فَكَذَا الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ الْعَامَّةِ اهـ.

وَبَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ لَمْ يَبْقَ لِمُنَازِعٍ فِيمَا ذَكَرْته حُجَّةٌ يَتَمَسَّكُ بِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ أَيُّ مُهِمٍّ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْبُلْقِينِيُّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لَهَا مَنْبَعٌ غَالِبًا

فَأَجَابَ فِيهَا بِجَوَابٍ طَوِيلٍ مُسَطَّرٍ فِي فَتَاوِيهِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْأَصْلُ الَّذِي يَنْبُعُ مِنْهُ غَالِبًا جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ اهـ. فَفِيهِ أَوْضَحُ تَصْرِيحٍ بِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ مَاءَ الْعُيُونِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَنْبَعُهَا يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إبَاحَتِهِ وَإِنْ وَصَلَ إلَى تِلْكَ الْقَنَاةِ.

وَخَرَجَ مِنْهَا كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحَلُّ النَّبْعِ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْمَمْلُوكُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَصِلُ الْمَاءُ إلَيْهِ فَإِذَا صَدَرَ بَيْعٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ.

وَلِهَذَا إذَا خَرَجَ مِنْ أَرْضِهِ كَانَ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَإِذَا بَاعَ الْقَرَارَ لَمْ يَدْخُلْ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الْأَرْضِ فِيهِ الْمُسَمَّى بِالشِّرْبِ اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَرَأَيْتُ السُّبْكِيّ قَالَ فِي فَتَاوِيهِ مَا حَاصِلُهُ: لَا أَشُكُّ فِي نَهْرِ دِمَشْقَ الْمُسَمَّى بِبَرَدَا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ بِأَرْضِهِ، وَالْعَيْنُ الَّتِي يَجْرِي الْمَاءُ فِيهَا إمَّا مُبَاحَةٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِمَّا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِكُفَّارٍ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُمْ إلَى مُسْلِمِينَ، وَأَيَّا مَا كَانَ فَلَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَبَقِيَّةُ أَنْهَارِهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَيْضًا كَذَلِكَ وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ، وَيُحْتَمَلُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا كَانَ بِانْخِرَاقٍ فِي مَوَاتٍ فَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَمَا كَانَ بِحَفْرٍ، بِأَنْ قَصَدَ بِهِ حَافِرُهُ الْإِبَاحَةَ فَكَذَلِكَ أَوْ نَفْسَهُ فَمِلْكٌ لَهُ، لَكِنَّا الْآنَ لَا نَعْلَمُهُ هُوَ وَلَا وَارِثُهُ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ.

وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَخْصِيصُ طَائِفَةٍ بِجَمِيعِهِ وَلَا بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْأَمْلَاكِ الْمُنْتَقِلَةِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ الَّتِي يَبِيعُ فِيهَا وَيُعْطِي مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ نَفْعُهَا عَامٌّ دَائِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهَا عَلَيْهِمْ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ الْبِيَعِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا.

وَمَتَى جُهِلَ الْحَالُ هَلْ هُوَ بِانْخِرَاقٍ أَوْ حَفْرٍ فَهُوَ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَقَوْلُهُمْ: لَوْ رَأَيْنَا نَهْرًا يُسْقَى بِهِ أَرَضُونَ، وَلَمْ

ص: 350

يُدْرَ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْخَرَقَ، حَكَمْنَا بِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ مَحَلُّهُ إذَا كَانَتْ أَيْدِيهِمْ الْخَاصَّةُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ أَيْ: بِأَنْ كَانُوا مُسْتَوْلِينَ عَلَى مَنْبَعِهَا وَمَا بَعْدَهُ نَظِيرُ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ. اهـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قَدَّمْتُهُ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ قَالَ: وَالْمَاءُ الَّذِي يَمُرُّ فِي تِلْكَ الْأَنْهَارِ مُبَاحٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَيْ: لِأَنَّ مَنْبَعَهَا غَيْرُ مَمْلُوكٍ بَلْ وَلَا مَعْرُوفٍ ثَانِيهِمَا: تَحْرِيرُ حُكْمِ مَا إذَا اجْتَمَعَ فِي قَضِيَّةٍ أَحْكَامٌ مُتَنَاقِضَةٌ كَمَا فِي صُورَةِ السُّؤَالِ، فَإِنَّهَا مِنْ الْعَوِيصَاتِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ تَتَبُّعٍ لِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَاطِّلَاعٍ عَلَى فَتَاوِيهِمْ وَمُؤَلَّفَاتِهِمْ فِي الْأَقْضِيَةِ وَأَحْكَامِ الْقُضَاةِ الْمُتَعَارِضَةِ بِالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَسَبَبُ إشْكَالِهَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيُّ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ الَّذِي أَثْبَتَ حُكْمَهُ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ.

وَالْحَاكِمُ إذَا أَثْبَتَ حُكْمَهُ بِطَرِيقٍ لَا يَقُولُ بِهَا، كَيْفَ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْإِثْبَاتِ الْمُنَاقِضِ لِمَذْهَبِ الْمُثْبَتِ حُكْمَهُ، وَأَيْضًا الشَّافِعِيُّ الْمُتَدَاعَى عِنْدَهُ بِضَمَانِ الْمَاءِ لَا يَرَى مَا يَثْبُتُ بِهِ الْوَقْفُ وَلَا الْوَقْفُ عَلَى النَّفْسِ وَلَا وَقْفُ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنْ حَكَمَ بِمِلْكِهِ.

وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَدَاعَى فِيهَا إنَّمَا هِيَ مَاءٌ مُجَرَّدٌ ثَبَتَ وَقْفُهُ، وَحِينَئِذٍ فَالشَّافِعِيُّ هُنَا لَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ بِمَذْهَبِ إمَامِهِ وَلَا بِمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، لِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّ الْحُكْم بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ إلَّا إنْ كَانَ الْحَاكِمُ بِالْوَقْفِ مَالِكِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَرَى ثُبُوتَ حُكْمِهِ هَذَا بِتِلْكَ الطَّرِيقِ وَإِلْزَامَ الْعَمَلَ بِهِ، فَتَنْتِفِي وَصْمَةُ التَّلْفِيقِ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ أُثْبِتَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ حُكْمُ حَنَفِيٍّ أَوْ شَافِعِيٍّ، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِآثَارِ هَذَا الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ عَمَلٌ بِحُكْمَيْنِ مُلَفَّقَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِمَا إمَامٌ وَاحِدٌ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَالْحُكْمِ بِالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَوَقْفِ الْمَاءِ الْمُسْتَقِلِّ.

وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِضَمَانِ الْمَاءِ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ مُلَفَّقٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ مُتَنَاقِضَةٍ، بَلْ أَرْبَعَةٍ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَلَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَالْحُكْمِ بِالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ، وَالْحُكْمِ بِوَقْفِ الْمَاءِ الْمُسْتَقِلِّ وَلَا يَقُولُ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَلَا الْحَنَفِيُّ، وَالْحُكْمِ بِضَمَانِ الْمَاءِ لَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الْحَنَفِيُّ، ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ الْعِمَادِ ذَكَرَ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْتُهُ بَلْ مَا يُصَرِّحُ بِهِ فَإِنَّهُ قَالَ كَمَا حَكَيْته عَنْهُ فِي كِتَابِي فِي إجَارَة الْأَوْقَافِ هُنَا

(فَائِدَةٌ) يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصَوَّرُوا ذَلِكَ بِصُوَرٍ مِنْهَا أَنْ يَحْكُمَ حَنْبَلِيٌّ بِأَنَّ الْخُلْعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسْخٌ فَعِنْدَهُ يَجُوزُ إعَادَةُ الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحَلِّلٍ فَلَوْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ حُكْمِ الْحَنْبَلِيِّ بِأَنَّ ذَلِكَ فَسْخٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِلَا مُحَلِّلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَكَيْفَ يَتَعَاطَاهُ؟ فَإِذَا تَعَاطَاهُ نُقِضَ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَاطَاهُ حَنْبَلِيٌّ وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِثُبُوتِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ بِالْخَطِّ، وَحَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّتِهِ فَهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ الْآنَ بِاتِّفَاقِ الْحَاكِمَيْنِ الْمَالِكِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَقْفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالْحَنْبَلِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْخَطِّ، وَهَذَا كُلُّهُ مَقِيسٌ عَلَى مَا لَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ صَلَّى وَبِهِ نَجَاسَةٌ كَلْبِيَّةٌ مُقَلِّدًا لِمَالِكٍ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا عَلَى مَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ، بَلْ رَكَّبَ فِيهَا قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ قَوْلِ آخَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ قَائِلًا بِبُطْلَانِهَا الشَّافِعِيِّ مِنْ جِهَةِ النَّجَاسَةِ وَمَالِكٍ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ مَسْحِ الرَّأْسِ.

قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَمَّا لَفَّقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ مُجْتَهِدٍ آخَرَ نُقِضَ حُكْمُهُ، قَالَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ يَجِبُ عَزْلُهُمْ وَلَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُمْ اهـ. كَلَامُهُ وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِمَا لَفْظُهُ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ الْمُلَفَّقُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَصُورَتُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ يَرَى الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، فَإِذَا أَثْبَتَ الْخَطَّ وَحَكَمَ بِهِ وَاتَّصَلَ بِشَافِعِيٍّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: صلى الله عليه وسلم عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ أَيْ عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ

وَالْخَطُّ يَحْتَمِلُ التَّزْوِيرَ وَتَجْرِبَةَ الْقَلَمِ فَلَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَلَا الْحُكْمُ بِهِ، فَلَوْ أَثْبَتَ الْخَطَّ قَاضٍ مَالِكِيٌّ وَلَمْ يَحْكُمْ وَأَنْهَاهُ إلَى قَاضٍ شَافِعِيٍّ، فَحَكَمَ بِالْخَطِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ وَإِنْ حَكَمَ نُقِضَ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَعْتَقِدُ جَوَازَ ذَلِكَ

ص: 351

وَكَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْقُضَاةِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الشَّافِعِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ الْقُضَاةِ يَجِبُ عَزْلُهُمْ وَلَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُمْ وَكَذَلِكَ الْحَنْبَلِيُّ إذَا حَكَمَ بِكَوْنِ الْخُلْعِ فَسْخًا لَيْسَ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ مُلَفَّقٌ، بَلْ الطَّرِيقُ أَنْ يُزَوِّجَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ، وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَثْبَتَ الْمَالِكِيُّ الْخَطَّ بِمَكْتُوبِ وَقْفٍ قَدْ مَاتَ شُهُودُهُ وَاتَّصَلَ بِقَاضٍ مُحَلِّلٍ شَافِعِيٍّ فَنَفَّذَهُ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْخَطِّ لِيُمَيِّزَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ تَعَاطِيهِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ وَقَضَاءٌ مُلَفَّقٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا إذَا تَوَضَّأَ وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَاضِي الْمُحَلِّلُ لَوْ لَفَّقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ قَوْلِ آخَرَ وَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ اهـ.

فَعَلَى مَا قَرَّرَهُ لَا مِرْيَةَ فِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ لَا يَحْكُمُ فِي صُورَةِ السُّؤَالِ بِضَمَانِ الْمَاءِ وَلَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى بِهِ، لَكِنْ رَأَيْت فِي فَتَاوَى السَّيِّدِ السَّمْهُودِيّ مَا يُعَكِّرُ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ وَأَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ لِهَذَا التَّلْفِيقِ، وَكَانَ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا طَابَقَ بَاطِنُ الْأَمْرِ فِيهِ ظَاهِرَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَيَصِيرُ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ مَثَلًا لِشَافِعِيٍّ بِمَا لَا يَرَاهُ الشَّافِعِيُّ كَشُفْعَةِ الْجِوَارِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ نَقْضِ حُكْمِهِ بِهَا وَهُوَ الْأَصَحُّ جَازَ لِلشَّافِعِيِّ الْأَخْذُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي حَنَفِيٍّ حَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ بَيْعُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى الضَّعِيفِ، بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ تَعْلِيلُهُ وَزَعْمُهُ أَعْنِي ابْنَ الْعِمَادِ أَنَّ حُكْمَ الْمَالِكِيِّ بِالْخَطِّ يُنْقَضُ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّعِيفِ

إذْ الْمُعْتَمَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَالْبُطْلَانِ فِي الْعَرَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ بِخِلَافِهِ عَدَمُ النَّقْضِ، وَإِنْ أَطَالَ جَمْعٌ فِي خِلَافِهِ لِأَنَّ تَأْوِيلَ الْمُخَالِفِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ وَمَنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ «عَلَى مِثْلِ هَذَا فَاشْهَدْ» لَا يَرِدُ عَلَى الْمُخَالِفِ أَصْلًا؛ لِأَنَّا اتَّفَقْنَا نَحْنُ وَهُوَ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْخَطَّ الْمَعْرُوفَ يُفِيدُ ذَلِكَ فَأُرِيدَ بِمِثْلِيَّةِ الشَّمْسِ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ الْمُؤَكَّدَ أَوْ الْعِلْمَ، فَلَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ الْمُخَالِفِ الْحَدِيثُ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ آخِرَ الْكِتَابِ مَا يُبَيِّنُ لَك عَدَمَ النَّقْضِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ الْمَالِكِيُّ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ وَغَيْرِهِ فَرَاجِعْهُ، بَلْ فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ أَبْلَغُ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ.

وَذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ الشَّافِعِيَّ يَخْتَصُّ بِأُمُورٍ فِي زَمَنِهِ وَمَا قَبْلَهُ كَالنَّظَرِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَفِي الْأَوْقَافِ وَالْأَيْتَامِ وَبَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ اعْتَقَدَ حَقِّيَّةَ وَصِيَّةٍ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا فِي مَذْهَبِهِ كَأَنْ قَامَتْ قَرَائِنُ بِصِحَّةِ مَسْطُورٍ عَلَى مَيِّتٍ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِقَاضٍ مَالِكِيٍّ لِيُثْبِتَهُ بِالْخَطِّ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَكَذَا فِي الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ يَأْذَنُ لِحَنَفِيٍّ أَوْ حَنْبَلِيٍّ فِي إثْبَاتِهِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ يَنْبَغِي لِلشَّافِعِيِّ الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ تَجِدْهُ أَبْلَغَ رَادٍّ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيّ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ نَفَّذَ كِتَابَ وَقْفِ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ لِلصَّلَاحِيَّةِ الَّتِي بِالْقُدْسِ، وَذَلِكَ الْكِتَابُ لَمْ يَتَّصِلْ لِلسُّبْكِيِّ إلَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ مِمَّنْ يَرَاهُ تَارِيخُ وَقْفِهِ ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَارِيخُ تَنْفِيذِ السُّبْكِيّ شَهْرُ مُحَرَّمٍ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَسَبْعمِائَةٍ، فَبَيْنَهُمَا فَوْقَ مِائَةِ سَنَةٍ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقَبْلَ السُّبْكِيّ تَلَامِيذُ جَمَاعَةٍ أَجِلَّاءٍ غَالِبُهُمْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إلَّا بِمَا وَصَلَ بِهِ لِلسُّبْكِيِّ، فَهَذَا إطْبَاقٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ بِالْخَطِّ وَتَنْفِيذِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَاحْتِمَالُ أَنَّ كُلًّا إنَّمَا نَفَّذَ بِتَنْفِيذِ مَنْ قَبْلَهُ الثَّابِتِ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا إلَى الْوَاقِفِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ فِي عِبَارَةِ السُّبْكِيّ مَا قَدْ يُتَلَمَّحُ مِنْهُ ذَلِكَ وَفِي الرَّوْضَةِ وَغَيْرِهَا وَجَزَمَ بِهِ مُخْتَصِرُوهَا وَغَيْرُهُمْ

بَلْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ لَوْ قَضَى حَنَفِيٌّ لِشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُصَيِّرُ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الْحِلُّ عَلَى تَقْلِيدٍ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ لَقَالُوا: حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ إنْ قَلَّدَ إمَامَ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَأَيْضًا فَالتَّقْلِيدُ نَفْسُهُ كَافٍ فِي الْحِلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى حُكْمٍ فَنَتَجَ أَنَّ

ص: 352

التَّقْلِيدَ يُبِيحُ وَحْدَهُ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخَالِفِ يُبِيحُ وَحْدَهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا الَّتِي يَعْسُرُ تَأْوِيلُهَا وَلِذَا قَالَ كَثِيرُونَ: بِنَقْضِهِ فَالْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ أَوْلَى بِعَدَمِ النَّقْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا وَمِمَّا يَدُلُّ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْحِلِّ بِالْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْحِلَّ هُنَا وَلَا تَكَلَّمُوا عَلَى حِلِّ الشَّهَادَةِ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيِّ، وَفَصَلَ الْإِسْنَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْجِوَارِ فَيَحِلَّ أَوْ بِاسْتِحْقَاقِهَا فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِلشَّاهِدِ إلَّا إنْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ، هَذَا عَنْ الْحُكْمِ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى التَّقْلِيدِ

وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اثْنَانِ لِقَاضٍ: قَدْ حَكَمَ بَيْنَنَا فُلَانٌ الْقَاضِي فِي كَذَا بِكَذَا وَنُرِيدُ أَنْ تَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَذْهَبِك وَنَرْضَ بِحُكْمِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ إجَابَتُهُمَا، بَلْ يُمْضِي حُكْمَ ذَلِكَ الْقَاضِي حَيْثُ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَضُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ فَانْظُرْ إيجَابَهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَ حُكْمَ غَيْرِهِ الْمُخَالِفَ لِمَذْهَبِهِ وَأَنْ يُلْزِمَ بِهِ يَظْهَرْ لَك رَدُّ مَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يُصَيِّرُهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ يَصِيرُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَحُكْمُ الْمَالِكِيِّ بِثُبُوتِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ أَوْ الشَّافِعِيِّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ يُصَيِّرُ الْخَطَّ حِينَئِذٍ كَبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالشَّيْءِ يُصَيِّرُهُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَلَا نَظَرَ حِينَئِذٍ إلَى كَوْنِ الْمَالِكِيِّ يَقُولُ بِالْحُكْمِ الَّذِي أَثْبَتَهُ، وَلَا إلَى أَنَّ الْمُخَالِفَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ لَا يَقُولُ بِهِ، كَيْفَ يُنَفِّذُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ؟ وَلَا تَلْفِيقَ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَرِّعْ حُكْمَهُ عَلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ بَلْ عَلَى حُكْمٍ أُعْطِيَ حُكْمَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

وَبِهَذَا الَّذِي قَرَّرْتُهُ انْدَفَعَ قِيَاسُ ابْنِ الْعِمَادِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ مَسْحِ الرَّأْسِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ يُصَيِّرُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَفِيهَا التَّلْفِيقُ الْمُجْمَعُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ صَارَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ الثَّانِي صَارَ كَذَلِكَ فَانْتَفَى التَّلْفِيقُ فَإِنْ قُلْت: مَا ذَلِكَ الَّذِي أَشَرْتَ إلَيْهِ أَوَّلًا أَنَّهُ يُعَكِّرُ عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ وَيُصَرِّحُ بِأَنَّ عُلَمَاءَ مِصْرَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَهُ قُلْت: قَوْلُهُ أَعْنِي السَّيِّدَ مَسْأَلَةٌ وَقَعَتْ بِمِصْرَ فِيمَنْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَشَرَطَ فِيهِ أَنَّ لَهُ إدْخَالَ مَنْ شَاءَ وَإِخْرَاجَ مَنْ شَاءَ مَثَلًا وَحَكَمَ بِهِ حَنَفِيٌّ ثُمَّ أَدْخَلَ الْوَاقِفُ زَوْجَتَهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ فَاسْتَحْكَمَتْ بِنْتُهُ مَالِكِيًّا مَثَلًا فَحَكَمَ بِانْحِصَارِ الْوَقْفِ فِيهَا وَمَنَعَ مَنْ يُعَارِضُهَا مَثَلًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ عُلَمَاءُ مِصْرَ فَأَفْتَى غَالِبُهُمْ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: بِصِحَّةِ إدْخَالِ الزَّوْجَةِ نَظَرًا لِسَبْقِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ، وَأَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ لَمْ يَتَنَاوَلْ إدْخَالَ الزَّوْجَةِ لِتَجَدُّدِهِ بَعْدَهُ، بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى حُكْمٍ، فَمَا الْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ؟ الْجَوَابُ: أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الذِّهْنِ لِتَضَمُّنِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ صِحَّةَ اشْتِرَاطِ مَا ذُكِرَ وَإِذْنَهُ لِلْوَاقِفِ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنْ الْإِدْخَالِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي، وَاسْتُدِلَّ لَهُ بِمَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ إنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْ الْآثَارِ إلَّا مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، وَإِدْخَالُ الزَّوْجَةِ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ عِنْدَ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَجَدَّدَ بَعْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ.

وَنُقِلَ كَلَامُ أَبِي زُرْعَةَ فِي ذَلِكَ بِرُمَّتِهِ وَمَتْنِهِ، وَلْنَذْكُرْ مِثَالًا فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ وَاقِفًا جَعَلَ لِنَفْسِهِ التَّغْيِيرَ وَالزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَحَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِهِ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ الْوَاقِفِ التَّغْيِيرُ، هَلْ لِلشَّافِعِيِّ الْمُبَادَرَةُ بَعْدَ التَّغْيِيرِ إلَى الْحُكْمِ بِإِبْطَالِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَالْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِذْنَ لِلْوَاقِفِ فِي التَّغْيِيرِ فَقَدْ فَعَلَ مَا هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ مِنْ حَاكِمٍ شَرْعِيٍّ، فَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ مَنْعُهُ وَلَا الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهِ لَوْ وَقَعَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَالْمِثَالِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ إلَى الْآنَ لَمْ يَقَعْ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إذْنِ الْحَنَفِيِّ لَهُ فِي التَّغْيِيرِ وُقُوعُهُ فَقَدْ يُغَيِّرُ وَقَدْ لَا، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ. اهـ قَالَ السَّيِّدُ: فَجَعَلَ أَيْ أَبُو زُرْعَةَ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى الْمِثَالِ الثَّانِي مُجَرَّدَ احْتِمَالٍ، وَكَذَا عَلَى الْأَوَّلِ وَالْأَرْجَحُ عِنْدِي التَّخْرِيجُ عَلَى الثَّانِي اهـ. كَلَامُ السَّمْهُودِيِّ.

وَوَجْهُ رَدِّ مَا حَكَاهُ لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الْعِمَادِ: أَنَّ الْحَنَفِيَّ حَكَمَ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَشَرْطِ التَّغْيِيرِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَقُولُ بِهِ الْمَالِكِيُّ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَالِكِيِّ

ص: 353

هَلْ صَادَفَ مَحَلًّا أَوْ لَا؟ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ صَارَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي بَعْدَهُ هَلْ يَسُوغُ وَإِنْ خَالَفَ مَذْهَبَ الْحَنَفِيِّ؟ فَقَالَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَعُمُّ الْآثَارَ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا: هُوَ سَائِغٌ، وَقَالَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ مُخْتَصٌّ بِمَا دَخَلَ وَقْتُهُ: لَا يَسُوغُ، فَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ كَوْنِ حُكْمِهِ لَا يَرَى بِهِ الْمَالِكِيُّ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّ الْحُكْمَ الثَّانِيَ يُعَارِضُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ شَمِلَ مَا حَكَمَ بِهِ أَوْ لَا يُعَارِضُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَشْمَلْهُ صَرِيحٌ أَيْ: صَرِيحٌ فِي رَدِّ كَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ وَالِاحْتِيَاجُ إلَيْهِ عَامٌّ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ وَإِطْبَاقِ قُضَاةِ هَذَا الْعَصْرِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْتُهُ أَنَّهُ لَا تَلْفِيقَ هُنَا وَأَنَّ ابْنَ الْعِمَادِ اسْتَرْوَحَ فِي قِيَاسِ هَذَا عَلَى مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ.

وَسَيَأْتِي عَنْ السُّبْكِيّ آخِرَ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ تَنْفِيذَ الْحَاكِمِ لِحُكْمِ حَاكِمٍ آخَرَ تَصْحِيحٌ لَهُ وَقَطْعٌ لِلنِّزَاعِ فِيهِ وَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ: التَّنْفِيذُ لَيْسَ حُكْمًا مُبْتَدَأً وَإِنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُخَالِفَ إذَا نَفَّذَ حُكْمَ مُخَالِفِهِ صَارَ صَحِيحًا عِنْدَهُ مَقْطُوعَ النِّزَاعِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِيهِ، فَلَمْ يَنْظُرْ السُّبْكِيّ هُنَا لِتَلْفِيقٍ لِمَا قَرَّرْتُهُ أَنَّهُ لَا تَلْفِيقَ مَعَ النَّظَرِ لِلْحُكْمِ الْمُصَيَّرِ لِلْمَحْكُومِ بِهِ، كَأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِمَّا يُرَدُّ أَيْضًا عَلَى ابْنِ الْعِمَادِ قَوْلُ أَبِي زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ: سُئِلْت عَنْ قَاضٍ مَالِكِيٍّ عَمِيَ، وَمَذْهَبُهُ بَقَاءُ وِلَايَةِ الْأَعْمَى، فَهَلْ تَنْفُذُ أَحْكَامُهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ نَقْضُهَا، بَلْ يَجِبُ تَنْفِيذُهَا، كَمَا لَوْ قَضَى الْبَصِيرُ بِقَضَاءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَضَى عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ فَأَجَبْتُ: بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِالْعَمَى، فَعَرَضَ لِبَعْضِ قُضَاتِهِمْ عَمًى فَإِنْ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ انْعَزَلَ وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى وِلَايَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى عَقِيدَتِهِ، فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ أَيْضًا عَقِيدَتُهُ ذَلِكَ فَلَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ نَقْضُهَا وَلَا الِامْتِنَاعُ مِنْ تَنْفِيذِهَا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا الَّتِي لَا تُخَالِفُ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا جَلِيًّا، وَهَذِهِ كَذَلِكَ فَلَا يَسُوغ لِمَنْ يَرَى انْعِزَالَ الْقَاضِي بِالْعَمَى الِامْتِنَاعُ مِنْ تَنْفِيذِهَا وَلَا نَقْضُهَا وَلَا يُقَالُ: هَذَا غَيْرُ قَاضٍ عَلَى عَقِيدَةِ مَنْ رَفَعَ إلَيْهِ حُكْمَهُ فَكَيْفَ يُنَفِّذُهُ؟ وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ أَحْكَامَ الْقُضَاةِ لِأَنَّا نَقُولُ: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْمُخَالِفُ فِي وَضْعِ الْخِلَافِ، لَيْسَ حُكْمَ اللَّهِ سبحانه وتعالى عِنْدَ مَنْ رُفِعَ إلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْقُضُهُ إذْ لَا قَاطِعَ عَلَى إبْطَالِهِ، وَكَذَلِكَ هَذَا لَا قَاطِعَ عَلَى انْعِزَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ عَلَى عَقِيدَةِ ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِنْ عَلِمَ بِعَمَاهُ وَلَمْ يَعْزِلْهُ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالظَّاهِرُ اسْتِمْرَارُ وِلَايَتِهِ أَيْضًا إلَى أَنْ يَعْزِلَهُ. اهـ.

وَفِيهِ فَوَائِدُ وَأَبْلَغُ رَدٍّ لِكَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ فَإِنْ قُلْتَ فِي فَتَاوَى السُّبْكِيّ: نَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ حُكْمٌ لَا يَرَاهُ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ، وَذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يُنَفِّذُهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَمَا مَحْمَلُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ؟ قُلْت: يُحْمَلُ عَلَى حُكْمٍ يَنْتَقِضُ فَهَذَا إذَا رُفِعَ لِحَاكِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ، وَإِلَّا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْطَالُهُ وَنَقْضُهُ، وَاخْتَارَ السُّبْكِيّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا، حَاصِلُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ إنْ كَانَ مِمَّا اسْتَقَرَّ فِي مَذْهَبٍ مُعْتَبَرٍ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يُنْقَضُ نَفَّذَهُ لِضَرُورَةِ الْمَحْكُومِ لَهُ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهُ، وَإِنْ اعْتَقَدَ خَطَأَهُ لِاجْتِهَادٍ أَوْ لِشَيْءٍ فِي خُصُوصِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَعْرَضَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمٌ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ.

قَالَ: وَقَوْلِي أَوَّلًا نَفَّذَهُ أَيْ جَوَازًا لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ، فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ الْجَوَازُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهُ لِتَقَارُبِ الْمَأْخَذِ عِنْدَهُ وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ صَارَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ عَدَمُ نَقْضِهِ لَا اعْتِقَادِهِ اهـ.

وَتَفْصِيلُهُ مُتَّجِهٌ إلَى قَوْلِهِ بِجَوَازِهِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ نَفْسِهِ إنَّ تَنْفِيذَهُ لِلضَّرُورَةِ لِئَلَّا يَضِيعَ حَقُّ الْمَحْكُومِ لَهُ فَإِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي وُجُوبِهِ.

وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْجَوَازَ لَا يُفِيدُهُ، أَمَّا النَّصُّ فَلِمَا عَلِمْتَ مِنْ مَحْمَلِهِ الَّذِي قَدَّمْتُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ إلَخْ فَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمَ مِنْ وُجُوبِ تَنْفِيذِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ حَقِيقَتَهُ، بَلْ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّا لَا نَعْتَقِدُ بُطْلَانَ أَحْكَامِ

ص: 354

الْمُخَالِفِينَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: بُطْلَانُهَا عِنْدَ مُقَلِّدِنَا أَرْجَحُ مِنْ صِحَّتِهَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ لِضَرُورَةِ بَقَاءِ حَقِّ الْمَحْكُومِ لَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ، ثَالِثُهَا: تَحْرِيرُ الْمُعْتَمَدِ فِيمَا قَالَهُ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ مِمَّا مَرَّ، نَقْلُهُ عَنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْ الْآثَارِ إلَّا مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَضِيَّةُ كَلَامِ السُّبْكِيّ وَصَرِيحُ كَلَامِ شَيْخِهِ الْبُلْقِينِيُّ خِلَافُهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ السُّبْكِيّ قَالَ: وَإِذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِمُوجَبِ الْقَرْضِ وَعَقِيدَتُهُ أَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ مِلْكًا تَامًّا يَمْنَعُ رُجُوعَ الْمُقْتَرِضِ فِي عَيْنِهِ، امْتَنَعَ عَلَى الشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِالرُّجُوعِ فِي عَيْنِهِ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَإِنْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تُنَافِي الرُّجُوعَ فِيهِ، وَإِنْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِمُوجَبِ الرَّهْنِ أَوْ الْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَاهُ امْتَنَعَ عَلَى الْمُخَالِفِ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي لَا يَقُولُ بِهَا ذَلِكَ الْحَاكِمُ، أَوْ بِصِحَّتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمُخَالِفِ ذَلِكَ. اهـ.

فَقَضِيَّةُ إطْلَاقِهِ الْآثَارَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ، وَأَنَّ الْبُلْقِينِيُّ قَالَ: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ تَدْبِيرٍ امْتَنَعَ عَلَى الشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِالْبَيْعِ، أَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِمُوجَبِ شِرَاءِ دَارٍ لَهَا جَارٌ امْتَنَعَ عَلَى الْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ مَثَلًا أَوْ بِمُوجَبِ إجَارَةٍ امْتَنَعَ عَلَى الْحَنَفِيِّ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِهَا بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ؛ لِأَنَّ مِنْ مُوجَبِهَا الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ لِلْوَرَثَةِ. اهـ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ آخِرًا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا حَضَرَ وَقْتُهُ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَحْضُرْ، لَكِنْ اعْتَرَضَهُ تِلْمِيذُهُ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مَمْنُوعٌ وَفَارَقَتْ الصُّورَتَيْنِ قَبْلَهَا بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهِمَا بِالْمُوجَبِ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْبِيَعِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فَنَفَذَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ الْبِيَعِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، فَامْتَنَعَ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِمَا كَمَا لَوْ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِمَا صَرِيحًا، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ وَقْتُهُ وَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ وَلَوْ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِ فَقَالَ: حَكَمْتُ بِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا إذَا مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ لَغْوًا نَظِيرَ مَا مَرَّ فِي الْحُكْمِ بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ أَجْنَبِيَّةٍ إذْ هُمَا مِنْ وَادٍ وَاحِد اهـ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الصُّورَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا السُّبْكِيّ كَمَا ذَكَرَهُمَا الْبُلْقِينِيُّ، وَالثَّالِثَةُ الَّتِي زَادَهَا الْبُلْقِينِيُّ هِيَ الَّتِي تَوَجَّهَ عَلَيْهَا اعْتِرَاضُ تِلْمِيذِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ مَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِيهَا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا تَوَجَّهَ إلَى عَدَمِ الِانْفِسَاخِ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا الَّذِي تَوَجَّهَ إلَيْهِ بِالذَّاتِ هُوَ بَقَاءُ الْعَقْدِ وَاسْتِمْرَارُهُ إلَى مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ، وُجِدَ مَوْتٌ أَمْ لَا، وَهَذَا قَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَتَنَاوَلَهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ، وَبِهِ فَارَقَتْ مَسْأَلَةَ تَعْلِيقِ طَلَاقِ أَجْنَبِيَّةٍ، فَإِنَّهُ حَالَ حُكْمِهِ ثَمَّ بِالْمُوجَبِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ حَتَّى يَنْصَبَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، فَيَسْتَتْبِعَ مَنْعَ التَّزْوِيجِ، وَهُنَا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ تَوَجَّهَ إلَى مَوْجُودٍ حَالَ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ وَالِاسْتِمْرَارُ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَصَحَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَمَنْ لَازَمَهُ امْتِنَاعُ الْحَنَفِيِّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْفَسْخِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ يُنَافِي حُكْمَ الشَّافِعِيِّ بِالْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَبِهَذَا يَزُولُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْوَلِيُّ عَلَى شَيْخِهِ.

وَمِمَّا يُقَوِّي مَا قَالَهُ شَيْخُهُ وَيَدْفَعُ مَا اُعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُضَاةَ مِنْ بَعْدِ الْوَلِيِّ، وَإِلَى الْآنَ كَادُوا يُجْمِعُونَ عَلَى مَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الْإِجَارَةِ تَارَةً وَبِصِحَّتِهَا أُخْرَى، وَمِنْهُ عَدَمُ انْفِسَاخِهَا بِالْمَوْتِ فَإِنَّك لَا تَرَى مُسْتَنَدَ إجَارَةٍ عَنْ شَافِعِيٍّ قَدِيمٍ أَوْ جَدِيدٍ إلَّا وَفِيهِ التَّعَرُّضُ لِلْحُكْمِ بِأَحَدِ الْكَيْفِيَّاتِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ عَنْ مُخَالِفٍ قَطُّ أَنَّهُ أَبْطَلَ هَذَا الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مُحْتَرَمٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُتَآجِرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقُضَاةَ وَالْعُلَمَاءَ مُعْتَمِدُونَ لِكَلَامِ الْبُلْقِينِيُّ غَيْرُ نَاظِرِينَ لِاعْتِرَاضِ تِلْمِيذِهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا لِذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ أَنَّ غَالِبَ عُلَمَاءِ مِصْرَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَ بِمُوجَبِ وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ شَرَطَ فِيهِ الْإِدْخَالَ وَالْإِخْرَاجَ، فَأَدْخَلَ الْوَاقِفُ زَوْجَتَهُ تَنَاوَلَ هَذَا الْإِدْخَالَ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ وَلَمْ يَكُنْ لِمُخَالِفٍ إبْطَالُهُ، فَتَأَمَّلْ جَعْلَهُمْ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ شَامِلًا لِلْإِدْخَالِ مَعَ كَوْنِهِ حَادِثًا مُتَجَدِّدًا بَعْدَ الْحُكْمِ تَجِدْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِتَنَاوُلِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ لِلْآثَارِ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا حَالَ الْحُكْمِ، وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا حِينَئِذٍ.

وَتَأَمَّلْ

ص: 355

أَيْضًا أَنَّ السَّيِّدَ السَّمْهُودِيَّ لَمَّا كَانَ يَعْتَمِدُ تَفْصِيلَ أَبِي زُرْعَةَ خَالَفَ عُلَمَاءَ مِصْرَ، وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إنَّ لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ الْإِدْخَالِ وَيُبْطِلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ فَنَتَجَ أَنَّ غَالِبَ عُلَمَاءِ مِصْرَ الَّذِينَ فِي زَمَنِ السَّيِّدِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ تَلَامِذَةُ أَبِي زُرْعَةَ أَوْ تَلَامِذَةُ تَلَامِذَتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا بِمَا قَالَهُ مِنْ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: بِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْحَادِثَ الْمُتَجَدِّدَ وَحَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ مُخَالِفٌ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ اعْتِمَادُهُ وَبِهِ يَلْتَئِمُ أَطْرَافُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَنَاوَلُ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ سَبَبِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِدْخَالِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ الْحَاكِمَ بِالْمُوجَبِ تَضَمَّنَ حُكْمُهُ الْإِذْنَ لِلْوَاقِفِ فِي الْإِدْخَالِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْإِدْخَالُ كَأَنَّهُ وُجِدَ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنْ إذْنِ الْحَاكِمِ لَهُ فِيهِ أَوْ وَقْتِ مَا يَشْمَلُهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا تَوَجَّهَ إلَى الدَّوَامِ الشَّامِلِ لِمَنْعِ الِانْفِسَاخِ بِالْمَوْتِ، فَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا يَتَنَاوَلُهَا الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ كَمَا يَتَنَاوَلُ مَا دَخَلَ وَقْتُهُ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُ مُحَقِّقِي مَشَايِخِنَا وَقَالَ: الْمُوجَبُ مُفْرَدٌ مُضَافٌ وَهُوَ لِلْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْآثَارِ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا.

وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ التَّصْرِيحُ بِهِ وَمَعَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعُمُومِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ طَلَاقِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَهُ وَجْهٌ وَحَاصِلُ كَلَامِهِ فِيهَا: أَنَّ مَنْ عَلَّقَ طَلَاقَ أَجْنَبِيَّةٍ عَلَى تَزْوِيجِهِ بِهَا فَحَكَمَ مَالِكِيٌّ أَوْ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَبَادَرَ شَافِعِيٌّ وَحَكَمَ بِاسْتِمْرَارِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ وُقُوعَ الطَّلَاقِ لَوْ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَقَعْ إلَى الْآنَ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ؟ وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مُتَحَقِّقٍ فَمَا هَذَا مِنْهُ إلَّا فَتْوَى، وَتَسْمِيَتُهُ حُكْمًا جَهْلٌ أَوْ تَجَوُّزٌ يَعْنِي بِهِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ الشَّرْعِ عِنْدَهُ لَا أَنَّهُ بَتَّهُ وَأَلْزَمَ بِهِ، وَكَيْفَ يُلْزِمُ بِمَا لَمْ يَقَعْ؟ وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ عُمُومٍ وَهُوَ الْمُوجَبُ بَلْ حَكَمَ بِهَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ الْخَاصَّةِ فَقَالَ: حَكَمْتُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إنْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا وَعُدَّ سَفَهًا وَجَهْلًا، وَكَيْفَ يَحْكُمُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ؟ فَيَقُولُ: حَكَمْتُ بِصِحَّةِ بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ لَوْ وَقَعَ بِشُرُوطِهِ وَبِصِحَّةِ نِكَاحِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ لَوْ وَقَعَ بِشُرُوطِهِ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ فِي الْمُدَبَّرِ بَعْدَ تَدْبِيرِهِ: حَكَمْتُ بِمَنْعِ بَيْعِهِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ وَوَقْتِهِ فَنَفَذَ فَافْهَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُهِمٌّ حَسَنٌ وَوَقَعَ بِسَبَبِ عَدَمِ تَدَبُّرِهِ خَبْطٌ فِي الْأَحْكَامِ.

وَتَوْجِيهُ الْحَنَفِيِّ أَوْ الْمَالِكِيِّ حُكْمَهُ إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الَّتِي يَتَزَوَّجُ بِهَا، وَحُكْمُهُ بِمَنْعِ التَّزْوِيجِ بِهَا أَفْسَدُ مِنْهُ، فَإِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِلَا تَوَقُّفٍ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ صُدُورِ النِّكَاحِ، وَلَا يَدْرِي، هَلْ يَقَعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْحُكْمِ إلَى مَنْعِ النِّكَاحِ كَمَا وَجَّهَ الْحَنَفِيُّ حُكْمَهُ إلَى مَنْعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَلَا إلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي عِصْمَةٍ لَا يَدْرِي، هَلْ تَقَعُ فِي نَفْسِ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ نَفْسَ الطَّلَاقِ لَمْ يَقَعْ قَبْلَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا وَقَعَ تَعْلِيقُهُ، وَالتَّعْلِيقُ غَيْرُ مُوقِعٍ فِي الْحَالِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ بِشَيْءٍ لَمْ يَقَعْ، هَذَا وَاضِحٌ لِصَاحِبِ الْأَلْمَعِيَّةِ الْخَالِي عَنْ الْعَصَبِيَّةِ اهـ.

وَلِمَا ذَكَرَهُ فِي خُصُوصِ هَذَا الْمِثَالِ وَجْهٌ كَمَا مَرَّ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِطْلَاقُهُ إلْغَاءَ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَأَشْبَاهِهِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَعْنَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ يَقُولُ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ: لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ وَقْتِ الْمَحْكُومِ بِهِ فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْوَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مَا قَالَهُ الْوَلِيُّ مِنْ بُطْلَانِ حُكْمِ الْمُخَالِفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالْحَقُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَأَشْبَاهِهَا إنَاطَةُ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ فَحَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ التَّعْلِيقِ قَبْلَ الْمِلْكِ صَحِيحًا فِي مَذْهَبِهِ، لَزِمَ كُلَّ أَحَدٍ تَنْفِيذُ حُكْمِهِ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ مُخَالِفٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ رَأْيِهِ، بَلْ وَلَا مِنْ قِبَلِ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ وَلَا أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِفْتَاءِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اجْتِهَادِهِ أَوْ اجْتِهَادِ مُقَلَّدِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُخَالِفِ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ حَيْثُ وَقَعَ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ نَصًّا صَرِيحًا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا

ص: 356

جَلِيًّا وَلَا الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ وَلَا مُعْتَمَدَ مَذْهَبِهِ، حَيْثُ كَانَ مُقَلِّدًا اُعْتُدَّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ وَلَا الطَّعْنُ فِيهِ، وَبِهَذَا يَزْدَادُ تَعَجُّبُكَ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْوَلِيُّ إنْ كَانَ الْحَاكِمُ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَأَنَّهُ حُكْمٌ حَقِيقَةً لَا إفْتَاءٌ، وَكَانَ أَقَلُّ مَا عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِ الْحَاكِمِ بِهِ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ حُكْمٌ صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ أَرَاحَ نَفْسَهُ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ، وَإِنْ قَالُوا: إنَّهُ مُجَرَّدُ إفْتَاءٍ نَقَلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يُشَنِّعْ بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا تُذْكَرَ، وَإِذَا اقْتَضَى اجْتِهَادُ مُقَلَّدِهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ التَّعْلِيقِ وَأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بَعْدَ التَّزَوُّجِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلَا طَلَاقَ إلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، فَكَيْفَ يَسْلَمُ لَهُمْ هَذَا وَيُعْتَرَضُ حُكْمَهُمْ بِهِ، بَلْ كَمَا يَسْلَمُ لَهُمْ الْأَصْلُ يَسْلَمُ لَهُمْ الْحُكْمُ بِهِ، وَمِنْ الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ مَحْمُولٌ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلُهُ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَقَعَتْ بِمِصْرَ مِنْ قَرِيبٍ وَأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ احْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ صَحِيحٌ عَلَى قَوَاعِدِنَا، فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ تَطْعَنُوا فِيهِ؟ وَأَنَّ مُحَقِّقِي الشَّافِعِيَّةِ وَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّعَرُّضُ لِحُكْمِ الْمَالِكِيِّ الْمُوَافِقِ لِقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَغَيْرِهَا.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ الْمُخَالِفِ حَيْثُ وَقَعَ عِنْدَهُ صَحِيحًا شَامِلًا لِمَا دَخَلَ وَقْتُهُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ مِنْ الْآثَارِ لَمْ يَجُزْ لِمُخَالِفٍ التَّعَرُّضُ لِشَيْءِ مِنْ آثَارِهِ مُطْلَقًا بِنَقْضِهِ وَلَا بِالْحُكْمِ بِخِلَافِهِ، هَذَا إنْ عُلِمَ مَذْهَبُ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا دَخَلَ وَقْتُهُ أَوْ سَبَبُهُ أَوْ مَا يَشْمَلُهُ كَانَ حُكْمُهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ فِي أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَازَ التَّعَرُّضُ لَهُ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّفْصِيلَ وَاحْفَظْهُ، فَإِنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الشَّاهِدَةُ بِهِ الْمَدَارِكُ وَالدَّلَائِلُ، وَلَا تَرْكَنْ إلَى مَا يُخَالِفُهُ مِمَّا مَرَّ إذْ كَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ النَّظَرِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ إنْ عَرَفَ؟ وَعَمَّا ذَكَرْته مِنْ التَّفْصِيلِ إنْ لَمْ يَعْرِفْ؟ فَالْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتِرْوَاحٌ عَجِيبٌ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

الْمَرْجُوُّ أَنْ يَقْسِمَ لَنَا مِنْ تَوْفِيقِهِ أَوْفَرَ نَصِيبٍ فَإِنْ قُلْت: قَدْ اُسْتُفْتِيَ أَبُو زُرْعَةَ فِي وَقْفٍ عَلَى النَّفْسِ حَكَمَ بِهِ حَنَفِيٌّ أَسْئِلَةً مُتَعَدِّدَةً، فَأَفْتَى فِي كُلٍّ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ كَمَا هُوَ مَسْطُورٌ عَلَى طُولِهِ فِي فَتَاوِيهِ، وَلَمْ يُحِلْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْفِ.

وَكَذَلِكَ فَعَلَ شَيْخُهُ الْبُلْقِينِيُّ وَكَذَلِكَ فَعَلَ السُّبْكِيّ فَأَطْبَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُحِيلُوا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ الْوَقْفِ بِالْمُوجَبِ، قُلْت: إنَّ مَا أَفْتَى بِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِنْ مُوجَبَاتِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَذَاهِبُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي جَوَابٍ آخَرَ، فَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهَذَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ مَا ذَكَرْته مِنْ الرُّجُوعِ لِمَذْهَبِ الْحَاكِمِ بَعْدُ، فَتَأَمَّلْهُ فِي تَفْرِيعِهِ أَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ عَلَى مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَقَطْ، فَقَدْ جَرَى عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الْمَذَاهِب أَنَّ الْحُكْمَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بَعْدَ الْحُكْمِ يَكُونُ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

ثُمَّ رَأَيْت فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ فِي الْقَوْلِ الْمُوعَبِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ مَا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُوجَبِ كُلُّ حُكْمٍ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ، وَمُلَخَّصُ عِبَارَتِهِ لَا إبْهَامَ فِي الْمُوجَبِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ وَمُوجَبَهُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ، فَمَدْلُولُهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ، وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمُ مِنْهُ كَالْبَيْعِ مَدْلُولُهُ: نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ وَمُقْتَضَاهُ: ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْبِيَعُ.

وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ مَدْلُولُهُ إنْشَاءُ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ صَيْرُورَةُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ، وَقَوْلِ الزَّوْجِ: أَنْتِ طَالِقٌ مَدْلُولُهُ: إيقَاعُ الْفُرْقَةِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ وُقُوعُهَا وَحُرْمَةُ الِاسْتِمَاعِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ أَنَّ الْمُوجَبَ فِيهِ إبْهَامٌ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ مَدْلُولَ الْمُوجَبِ مَعْلُومٌ وَبِإِضَافَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْعَقْدِ الْخَاصِّ تَعَيَّنَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ، وَيَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى مُوجَبًا لَهُ لِلْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ إضَافَةِ الْمُوجَبِ إلَى الْحُكْمِ، وَيَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْأَمْرِ الْعَامِّ سَوَاءٌ اسْتَحْضَرَ الْحَاكِمُ

ص: 357

أَفَرَادَهُ أَمْ لَا، فَلَيْسَ هُنَا إبْهَامٌ فَادِحٌ.

وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ: حَكَمْتُ بِكُلِّ مَا يُوجِبُهُ هَذَا اللَّفْظُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهَذِهِ الْكُلِّيَّةِ إذْ الشَّرْطُ عِلْمُ الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ ذَلِكَ الْوَقْتَ جُزْئِيَّاتِهَا وَلَوْ قَالَ: مَهْمَا كَانَ مُقْتَضَى هَذَا اللَّفْظِ حَكَمْتُ بِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِمُقْتَضَاهُ صَحَّ وَكَانَ حُكْمًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَتَرَتَّبَ أَثَرُهُ عَلَيْهِ اهـ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ آثَارِ ذَلِكَ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ الشَّامِلِ صَرِيحًا لِمَا دَخَلَ وَقْتُهُ، وَمَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ وَحِينَئِذٍ فَالْحَقُّ مَعَ الْبُلْقِينِيُّ لِمُوَافَقَتِهِ لِكَلَامِ السُّبْكِيّ، هَذَا لَا مَعَ أَبِي زُرْعَةَ لِمُخَالَفَةِ كَلَامِهِ لِكَلَامِ هَذَيْنِ الْحَبْرَيْنِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَعْلَمُ بِالْمُصْطَلَحَاتِ وَمُقْتَضَى الْأَلْفَاظِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ أَيُّ مُهِمٍّ، رَابِعُهَا: تَحْرِيرُ مَسْأَلَةِ السُّؤَالِ، وَهِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ هَلْ يَسْمَعُ الدَّعْوَى بِضَمَانِ الْمَاءِ وَيَحْكُمُ بِهِ بَعْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ وَقْفِهِ أَمْ لَا؟ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هَلْ هِيَ مِمَّا دَخَلَ وَقْتُهُ أَمْ لَا؟ وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ سُؤَالُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ وَقْفِ الْمَاءِ إذًا هَلْ يَتَنَاوَلُ عَدَمَ ضَمَانِهِ؟ فَإِنْ قَالُوا: يَتَنَاوَلُهُ لَمْ يَجُزْ لِلشَّافِعِيِّ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهِ لِيَحْكُمَ بِضَمَانِهِ لِمَا تَقَرَّرَ: أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الصَّحِيحِ عَلَى مَذْهَبِهِ لَا يَجُوزُ لِمُخَالِفِهِ نَقْضُهُ وَلَا التَّعَرُّضُ لِمَا يُخَالِفُهُ.

وَإِنْ قَالُوا: لَا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مَنْقُولَةً عِنْدَهُمْ رَجَعْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ وَحِينَئِذٍ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِمَّا دَخَلَ وَقْتُهُ عِنْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ، فَتَكُونَ مِنْ حَيِّزِ الْقِسْمِ الْمُتَّفِقِ عَلَى شُمُولِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِغَلَّةِ الْوَقْفِ، وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَا لَيْسَ مِنْ غَلَّتِهِ.

وَحِينَئِذٍ فَحُكْمُهُ بِمُوجَبِ وَقْفِ الْمَاءِ يَتَضَمَّنُ الْحُكْم بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِضَمَانِ الْمَاءِ عَلَى مَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَدِّيًا؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْمَاءِ الَّذِي حُكِمَ بِمُوجَبِ وَقْفِهِ، فَهُوَ مِنْ آثَارِهِ الْحَاضِرَةِ وَقْتَ الْحُكْمِ، فَعَلَيْهِ لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِضَمَانِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ الْمُتَضَمِّنَ لِعَدَمِ ضَمَانِهِ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ السُّبْكِيّ مَا يُرَجِّحُ هَذَا الِاحْتِمَالَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمُوجَبُ الْوَقْفِ صَيْرُورَةُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ اهـ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَدَلَ الْمَاءِ الْمَوْقُوفِ تَارَةً، وَعَدَمَ بَدَلِهِ أُخْرَى، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِهِ حُكْمٌ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِحْقَاقُ بَدَلِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَبْحَثِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِضَمَانِ الْمَاءِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ تَفَارِيعِ الْوَقْفِ حَتَّى يَشْمَلَهُ الْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَفَارِيعِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَحِينَئِذٍ فَحُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِضَمَانِ الْمَاءِ لَا يُنَاقِضُ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ، وَقَدْ أَفْتَيْتُ سَابِقًا فِيمَنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِ وَهَكَذَا، وَحَكَمَ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ وَصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ حَنَفِيٌّ، فَأَجَّرَهُ وَلَدُهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَحَكَمَ لَهُ بِذَلِكَ شَافِعِيٌّ، فَهَلْ يَنْفُذُ حُكْمُ الشَّافِعِيِّ أَمْ لَا؟ لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا يَرَاهُ الْحَنَفِيُّ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْآثَارِ الَّتِي يَرَاهَا الْحَاكِمُ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ الْإِمَامِ الْبُلْقِينِيُّ: بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْحُكْمِ بِهَا، إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ مُتَضَمِّنٌ لِحُكْمِهِ بِامْتِنَاعِ إجَارَتِهِ مُدَّةً لَا يُجِيزُهَا الْحَنَفِيُّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ حُكْمِهِ وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ أَيْ: فَهُوَ كَمَنْعِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ السَّابِقِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضًا لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ، وَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِمَا ذَكَرْتُهُ هُنَا مِنْ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ وَقْفِ الْمَاءِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِعَدَمِ ضَمَانِهِ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا جَعْلُ السَّيِّدِ السَّمْهُودِيِّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إذَا حَكَمَ بِمُوجَبِ إجَارَةٍ كَانَ مِنْ آثَارِهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ وَقْتَهَا الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ وَقْفِ الْمَنَافِعِ، فَتَأَمَّلْ جَعْلَهُ هَذَا مِنْ آثَارِ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ ضَمَانِ الْمَاءِ مِنْ آثَارِ الْحُكْمِ بِوَقْفِ الْمَاءِ، إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ وَقْفَ الْمَنَافِعِ وَقَعَ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِالْإِجَارَةِ، فَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بِخِلَافِهِ

ص: 358

فِي مَسْأَلَتِنَا.

وَلِلسُّبْكِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ، بَعْضُهُ يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ وَبَعْضُهُ يَشْهَدُ لِلثَّانِي، وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ: أَنَّ لِلْأَوَّلِ شُرُوطًا تَرْجِعُ لِلْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرَّفِ فِيهِ وَكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمٌ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَبِالْمُوجَبِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ تِلْكَ الشُّرُوطِ حَكَمْنَا بِفَسَادِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهَا فَمَا رَجَعَ لِلصِّيغَةِ أَوْ حَالِ التَّصَرُّفِ فَوَاضِحٌ، وَمَا رَجَعَ لِلْمُتَصَرِّفِ فَمَا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الْوُجُودِيَّةِ كَالْمِلْكِ اُشْتُرِطَ ثُبُوتُهُ لِلْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ، بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَدَمِيَّةِ كَكَوْنِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ ثُبُوتُهُ، وَاشْتُرِطَ ثُبُوتُ نَحْوِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا ظَاهِرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مِلْكٌ وَلَا عَدَمُهُ وَثَبَتَ مَا سِوَاهُ لَمْ يُحْكَمْ فِيهِ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ التَّصَرُّفَ صَالِحٌ وَسَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَيَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَيَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُوجَبِ ذَلِكَ.

وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ التَّصَرُّفَ سَبَبٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ بِشَرْطِهِ حَتَّى إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِي إفَادَتِهِ الْمِلْكَ كَالْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ فَحَكَمَ بِمُوجَبِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ، ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَأَنَّ الْوَاقِفَ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ بَيْعَهُ بَعْدُ، لَمْ يُمَكَّنْ وَأَنْ يُؤْخَذَ كُلُّ مَا هُوَ فِي يَدِهِ إذَا أَقَرَّ لِلْوَاقِفِ بِالْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ كَمَا يُؤَاخَذُ الْوَاقِفُ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْ يُصْرَفَ الرَّيْعُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِ ذِي الْيَدِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ وَقْفُ الْوَاقِفِ لِمَا فِي يَدِهِ أَوْ اعْتِرَافُ ذِي الْيَدِ لَهُ كَافٍ فِيهِ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ فِي الْحَقِيقَةِ حُكْمٌ بِالْبَيِّنَةِ.

وَثُبُوتُ أَثَرِهَا فِي حَقِّ مَنْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ كَالْوَاقِفِ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ بِلَا شَرْطٍ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْبَيِّنَةِ لَازِمٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَحُكْمَ الْإِقْرَارِ قَاصِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْمِلْكُ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كَانَ لَازِمًا لِذِي الْيَدِ وَمَنْ اعْتَرَفَ لَهُ.

وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ، بَلْ الْحُكْمُ مُنْجَرٌّ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ فِيهِ فَأَجَابَ: يَثْبُتُ الْمَلِكُ عَلَيْهِ إمَّا بِإِقْرَارٍ وَإِمَّا بِبَيِّنَةٍ، وَيَزِيدُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَبِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ أَثَرِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، فَالْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ ثَبَتَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ مَوْجُودَيْنِ أَمْ مُتَجَدِّدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِي حَقِّهِمْ لَا مُطْلَقًا وَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ مَعْنَاهُ: الْحُكْمُ بِالْمُؤَثِّرِيَّةِ التَّامَّةِ مُطْلَقًا، وَيَلْزَمُ مِنْهَا ثُبُوتُ الْأَثَرِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِدَافِعٍ، وَاحْتِمَالُ الدَّافِعِ لَا يُنَافِي الْجَزْمَ بِالْحُكْمِ، وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنَّ مَنْ بِيَدِهِ مِلْكٌ لَوْ وَقَفَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مَثَلًا وَثَبَتَ مُكِّنَ مِنْ بَيْعِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ: أَنَّ الْمُقِرَّ وَالْمُتَصَرِّفَ يُؤَاخَذُ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ إقْرَارِهِ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْهُ بِالْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا يُقَرُّ عَلَى بَيْعِهِ، فَهُوَ مِنْهُ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِصِحَّةِ كَوْنِهِ سَبَبًا حَتَّى يَرْتَفِعَ الْخِلَافُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ مَثَلًا وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ يَرَاهُ وَالْحَاكِمُ لَا يَرَاهُ، فَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِرَأْيِهِ مِنْ صِحَّةِ السَّبَبِيَّةِ وَخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ، فَإِنْ قُلْت: الْمُوجَبُ مَجْهُولٌ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَعْيِينِ الْمَحْكُومِ بِهِ كُلِّهِ قُلْت: الْمُوجَبُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَمُوجَبُهُ وَمَدْلُولُهُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ فَمَدْلُولُهُ: مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَمُقْتَضَاهُ: وَمُوجَبُهُ: مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ الْوَقْفُ مَدْلُولُهُ إنْشَاءُ الْوَاقِفِ الْوَقْفَ وَمُقْتَضَاهُ وَمُوجَبُهُ صَيْرُورَتُهُ ذَلِكَ وَقْفًا وَاسْتِحْقَاقُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ اهـ. الْمَقْصُودُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ فَتَأَمَّلْهُ، فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِدَ تَنْفَعُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا جَعْلُهُ مِنْ مُوجَبِ الْوَقْفِ اسْتِحْقَاقَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَنَافِعَهُ وَسَائِرَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لَهُ، فَإِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي تَرْجِيحِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ مِنْ مُوجَبِ الْوَقْفِ مِلْكَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِبَدَلِ

ص: 359

الْمَاءِ فِي مَسْأَلَتِنَا تَارَةً وَعَدَمَهُ أُخْرَى، فَاسْتَحْضِرْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

خَامِسُهَا: يَتَعَيَّنُ عَلَى الشَّافِعِيِّ إذَا أُرِيدَ الدَّعْوَى عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْمَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَعْضِ عُيُونِ مَرِّ الظَّهْرَانِ أَنْ يُكَلِّفَهُمْ الْبَيِّنَةَ بِمِلْكِ مَنْبَعِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمَاءُ مَمْلُوكًا، وَلَا يَكْفِي حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ وَقْفِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجَبِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِمِلْكِ الْمَحْكُومِ لَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَإِذَا اسْتَوَى ذَلِكَ سَأَلَ الْحَنَفِيَّةَ، فَإِنْ قَالُوا: إنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ يَمْنَعُ ضَمَانَ الْمَاءِ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى لِئَلَّا يَكُونَ مُنَاقِضًا لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ، وَإِنْ قَالُوا: لَا يَمْنَعُهُ تُسْمَعُ الدَّعْوَى.

وَحَكَمَ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَذْهَبَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا مِنْ آثَارِ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى أَيْضًا، وَإِلَّا سَمِعَهَا، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، وَكَتَبَهُ أَحْمَدُ بْن حَجَرٍ الشَّافِعِيُّ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ مَشَايِخِهِ وَوَالِدَيْهِ وَالْمُسْلِمِينَ حَامِدًا مُصَلِّيًا مُسَلِّمًا مُحْتَسِبًا مُحَوْقِلًا، ثُمَّ رَأَيْت الْإِمَامَ السُّبْكِيّ رحمه الله سبحانه وتعالى وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ الْقَوْلِ الْمُوعِبِ مَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْته: أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يُنْقَضُ بِشَيْءٍ مِنْ آثَارِهِ وَلَا مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوْ التَّضَمُّنِ أَوْ الِاسْتِلْزَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ امْرَأَةً أَقَرَّتْ أَنَّهَا وَقَفَتْ دَارَهَا الثَّابِتَ مِلْكُهَا وَحِيَازَتُهَا لَهَا عَلَى كَذَا، وَشَرَطَتْ النَّظَرَ لِنَفْسِهَا، وَأَشْهَدَ حَاكِمٌ شَافِعِيٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ وَثُبُوتِ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَبِالْحُكْمِ بِهِ، فَأَرَادَ مَالِكِيٌّ إبْطَالَهُ لِشَرْطِهَا النَّظَرَ لِنَفْسِهَا وَاسْتِمْرَارِ يَدِهَا، وَلِكَوْنِ الشَّافِعِيِّ لَمْ يَحْكُمْ بِالصِّحَّةِ وَأَنَّ حُكْمَهُ بِالْمُوجَبِ لَا يَمْنَعُ النَّقْضَ.

وَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَخْذًا مِنْ تَصْوِيبِ الرَّافِعِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ: صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ وَأَلْزَمْت الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ جَازَ نَقْضُهُ وَلَكِنْ هُنَا زِيَادَةٌ تَمْنَعُ النَّقْضَ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَبِالْحُكْمِ بِهِ أَيْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، وَوَافَقَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَوْ قَارَبَ ثُمَّ صَوَّبَ السُّبْكِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ أَمْ لَا، وَرَدَّ جَعْلَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ لِلْوَاقِفِ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحْتَمِلُهُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَوْ عَلَى مُوجَبِ الْإِقْرَارِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ، وَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ فَقَطْ أَوْ عَلَى الثُّبُوتِ، فَالْمَحْكُومُ بِهِ مُوجَبُ الْإِقْرَارِ أَوْ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ.

وَنِسْبَةُ الْحُكْمِ إلَى الثُّبُوتِ صَحِيحَةٌ بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إلَى الْقَاضِي نَقْلُ شَهَادَةٍ لَا حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْحُكْمِ بِهَا وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ لَفْظَةَ الْحُكْمِ قَدْ لَا يُرَادُ بِهَا الْإِلْزَامُ بِالْمُدَّعَى بِهِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَثْبِيتِ الدَّعْوَى ثُمَّ صَوَّبَ السُّبْكِيّ أَنَّ الْحُكْمَ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ بِحَالٍ إذَا لَمْ يُخَالِفْ نَصًّا وَلَا إجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَاعِدَةً كُلِّيَّةً.

وَأَطَالَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ وَمِنْهُ حِكَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِنَا وَغَيْرِهِمْ الْإِجْمَاعَ، عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، نَعَمْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لِلْحَاكِمِ نَقْضُ حُكْمِ نَفْسِهِ إذَا بَانَ خَطَؤُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا، وَرَدَّ السُّبْكِيّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ لَا يُنْقَضُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ بِالْمُوجَبِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، بَلْ لَا يُنْقَضُ كُلٌّ مِنْهُمَا وَبَيَّنَ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ الْمُطْلَقَةِ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحُكْمِ وُجُودُ جَمِيعِ شُرُوطِهَا، وَكَذَا عَبَّرَ الْقُضَاةُ فِيهَا.

وَأَمَّا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِمُعَيَّنٍ فَيَكْفِي إقْرَارُهُ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ لِيُؤَاخَذَ بِهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجَبِ الْإِقْرَارِ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّةَ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، فَهُنَا ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ. حُكْمٌ بِالْمُطَابَقَةِ: وَهُوَ مُوجَبُهُ، وَحُكْمَانِ بِالِاسْتِلْزَامِ: وَهُمَا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَصِحَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ، وَقَوْلُ الْهَرَوِيِّ: إنَّ مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَتَضَمَّنُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ لِلْإِقْرَارِ الثَّابِتِ عِنْدَهُ لَا الْمَوْتِ وَلَا الْوَقْفِ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّ الْإِشَارَةَ لِلْإِقْرَارِ تَعَيَّنَ أَنَّ الضَّمِيرَ لَهُ فَيَكُونُ الْحُكْمُ بِأَمْرَيْنِ بِالْإِقْرَارِ وَمُوجَبِهِ، فَلَوْ صَحَّ حُكْمُ الْمَالِكِيِّ السَّابِقِ، لَكَانَ الصَّادِرُ مِنْهُ بِالْمُطَابَقَةِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْوَقْفِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَبِالتَّضَمُّنِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَبِالِاسْتِلْزَامِ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بِهِ، فَيَكُونُ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ لِتَوَارُدِهِمَا عَلَيْهِمَا.

وَإِنْ كَانَ مَا حَكَمَ بِهِ الثَّانِي بِالْمُطَابَقَةِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ الْأَوَّلُ بِالْمُطَابَقَةِ وَامْتِنَاعِ

ص: 360