المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كتاب الإتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف] - الفتاوى الفقهية الكبرى - جـ ٣

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِبَيَانِ أَنَّ التَّبَرُّعَ لَا يُبْطِلُهُ الدَّيْنُ]

- ‌[كِتَابُ الذَّيْلِ الْمُسَمَّى بِكَشْفِ الْغَيْنِ عَمَّنْ ضَلَّ عَنْ مَحَاسِنِ قُرَّةِ الْعَيْنِ]

- ‌[بَابُ الْحَجْرِ]

- ‌[بَابُ الصُّلْحِ]

- ‌[بَابُ الْحَوَالَةِ]

- ‌[بَابُ الضَّمَانِ]

- ‌[بَاب الشَّرِكَةِ]

- ‌[بَابُ الْوَكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِرَاضِ]

- ‌[بَابُ الْإِقْرَارِ]

- ‌[رَفْعُ الشُّبَهِ وَالرِّيَبِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِأُخُوَّةِ الزَّوْجَةِ الْمَعْرُوفَةِ النَّسَبِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْحِلِّ مِنْ غَيْر تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُرْمَتِهَا ظَاهِرًا وَحِلِّهَا لَهُ بَاطِنًا إنْ كَذَبَ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ]

- ‌[بَابُ الْوَقْفِ]

- ‌[سَوَابِغُ الْمَدَدِ فِي الْعَمَلِ بِمَفْهُومِ قَوْلِ الْوَاقِفِ مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ وَلَد]

- ‌[كِتَابُ الْإِتْحَافِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[الْبَابُ الْأَوَّلُ أَجْرُ نَاظِرٍ عَلَى وَقْفٍ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ الْمَكَانَ الْمَوْقُوفَ بِأُجْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي بَيْتٍ وُقِفَ بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ عَامِرٍ أَجَّرَهُ نَاظِرُهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ]

- ‌[بَابُ الْهِبَةِ]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْجِعَالَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]

الفصل: ‌[كتاب الإتحاف ببيان أحكام إجارة الأوقاف]

ذَلِكَ يُعَيِّنُ هَذَا، وَحِينَئِذٍ انْدَفَعَ مَا بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَكَيْفَ يَسُوغُ لِمُدَّعٍ إلَخْ وَقَوْلُهُ: أَفَتَحْفَظُ إلَخْ جَوَابُهُ: أَنَّا لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ وَلَا ادَّعَيْنَا شَيْئًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّ لَفْظَ عُتَقَاءَ الْأَوَّلَ فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ فَقَطْ

وَهَذَا لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَفْظُ الْوَلَدِ وَوَلَدِهِ وَأَسْفَلَ مِنْهُ كُلٌّ مِنْهَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ ثُمَّ لَمَّا مَهَّدَ ذَلِكَ كَذَلِكَ قَالَ: وَيَسْتَمِرُّ الْحَالُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ عَبَّرَ بِبَاقِي الْعُتَقَاءِ تَارَةً وَبِالْعُتَقَاءِ أُخْرَى: وَلَمْ يُعِدْ الضَّمِيرَ عَلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِيهِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ الْعُتَقَاءِ خَمْسُونَ فَاحْتَمَلَ هَذَا أَنْ يُرِيدَ الْحَقِيقَةَ وَحْدَهَا وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَجَازَ مَعَهَا، فَنَظَرْنَا فِي كَلَامِهِ فَرَأَيْنَا فِيهِ قَرَائِنَ دَالَّةً عَلَى الثَّانِي، وَتَرَجَّحَتْ بِأَنَّ دُخُولَ الْأَوْلَادِ فِي وَقْفِهِ وَاسْتِحْقَاقَهُمْ لِلْأَخْذِ مِنْهُ أَمْرٌ يَقِينِيٌّ، وَالْيَقِينِيُّ لَا يُرْفَعُ بِالْمُحْتَمَلِ، فَأَوْجَبَ لَنَا ذَلِكَ كُلُّهُ كَمَا بَسَطْنَاهُ وَحَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ حَمْلَ الْعُتَقَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا مَرَّ مِنْ الْعُتَقَاءِ وَفُرُوعِهِمْ، فَتَأَمَّلْ بَعْدَ مَا أَحَطْت بِهَذَا التَّحْقِيقِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَتُلِيَ عَلَى سَمْعِك هَذَا التَّدْقِيقُ غَيْرَ كَرَّةٍ.

وَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ حَقِيقَةَ الْغَيْثِ اعْتِبَاطًا أَوْ لِدَلِيلٍ؟ وَهَلْ هَذَا نَظِيرُ أَوْ قَرِيبُ رَأَيْت رَجُلًا شُجَاعًا إلَخْ؟ وَاحْكُمْ حِينَئِذٍ بِمَا هُوَ الْإِنْصَافُ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ وَرْطَةِ التَّعَصُّبِ وَالِاعْتِسَافِ، وَقَوْلُهُ: وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ إلَخْ قَدْ مَرَّ مَبْسُوطًا أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا مَعَ كَلَامِ الْأَصْحَابِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَعْدَلُ شَاهِدٍ وَأَصْدَقُ بُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ وَحَقِيقَةِ مَا حَرَّرْنَاهُ، لِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ خُرُوجِ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ عَنْ الْأَوْلَادِ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى إرَادَتِهِمْ، أَمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ قَطْعًا كَمَا أَنَّهُمْ مَعَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى خُرُوجِهِمْ يَخْرُجُونَ قَطْعًا، فَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي دُخُولِهِمْ حَيْثُ لَا قَرِينَةَ أَصْلًا، وَإِذَا دَخَلَ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْأَوْلَادِ بِقَرِينَةٍ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْعُتَقَاءِ فِيهِمْ بِقَرِينَةٍ بَلْ بِقَرَائِنَ، بَلْ مَرَّ أَنَّ شُمُولَ الْعُتَقَاءِ لِأَوْلَادِهِمْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا كَذَلِكَ الْأَوْلَادُ لِأَوْلَادِهِمْ، وَمَرَّ الْفَرْقُ الْوَاضِحُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا اكْتَفَوْا فِيمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ قَطْعًا بِالْقَرِينَةِ، فَكَيْفَ لَا يَكْتَفُونَ بِهَا فِيمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ.

وَقَوْلُهُ: وَنَرْجِعُ إلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ إلَخْ جَوَابُهُ مَا قَدَّمْته عَنْ السُّبْكِيّ كَابْنِ الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ تَسَاوِيهِمَا وَتَسَاقُطُهُمَا، وَجَبَ إعْطَاءُ الْفُرُوعِ اسْتِصْحَابًا لِلْيَقِينِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْأَخْذِ وَطَرْحًا لِلشَّكِّ حَذَرًا مِنْ مَنْعِ الْمُتَيَقَّنِ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحَقِيرٍ وَلَا جَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ وَلَا قَلِيلٍ، وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، فَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، يَا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِك وَعَظِيمِ سُلْطَانِك، سُبْحَانَك لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك، فَعِيَاذًا اللَّهُمَّ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك مِنْك، وَصَلَاةً وَسَلَامًا عَلَى خَيْرِ أَنْبِيَائِك وَمُبَلِّغِ أَنْبَائِك سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك وَنَبِيِّك النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَكَمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى عَدَدَ مَعْلُومَاتِك وَمِدَادَ كَلِمَاتِك، كُلَّمَا ذَكَرَك الذَّاكِرُونَ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِك وَذِكْرِهِ الْغَافِلُونَ، سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ آمِينَ

[كِتَابُ الْإِتْحَافِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ]

(هَذَا كِتَابُ الْإِتْحَافِ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ تَقَبَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، تَأْلِيفُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَجَرٍ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَتْحَفَنَا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ، وَلَمْ نَرْقُبْ فِي ذَلِكَ مَنْ سِوَاهُ حَسْبَ الْإِمْكَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَتَبَوَّأُ بِهَا أَعْلَى فَرَادِيسِ الْجِنَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَخْصُوصُ بِأَشْرَفِ الْأَوْصَافِ وَالْأَدْيَانِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ مَا زَالُوا يُظْهِرُونَ الْحَقَّ، وَلَمْ يُبَالُوا بِخِلَافِ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْبُهْتَانِ (أَمَّا بَعْدُ) فَإِنَّهُ رُفِعَ سُؤَالٌ أَوَائِلَ

ص: 326

سَنَةِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ فِي إجَارَةِ وَقْفٍ، فَكَتَبْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنِّي خُولِفْت فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيَّ سُؤَالٌ بِصُورَةٍ أُخْرَى، فَكَتَبْت عَلَيْهِ

ثُمَّ سُؤَالٌ بِصُورَةٍ أُخْرَى فَكَتَبْت عَلَيْهِ حَتَّى أَضْجَرَتْنِي هَذِهِ الْوَاقِعَةُ، وَلَمْ أَكْتُبْ فِيهَا إلَّا بَعْدَ مَزِيدِ اسْتِخَارَةٍ وَتَثَبُّتٍ وَتَفَحُّصٍ، حَتَّى لَقَدْ اطَّلَعْتُ مِنْ تَصَانِيفِ أَئِمَّتِنَا الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى مَا يَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ مُؤَلَّفًا، مِنْهَا مَا طَالَعْتُهُ كُلَّهُ كَكِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَمِنْهَا مَا طَالَعْت أَكْثَرَهُ كَكُتُبِ الْفَتَاوَى، وَمِنْهَا مَا طَالَعْت مَوَاضِعَ عَدِيدَةً مِنْهُ، فَلَمَّا كَثُرَتْ مِنِّي الْكِتَابَاتُ فِي ذَلِكَ أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهَا مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّأْلِيفِ، وَسَمَّيْته (الْإِتْحَافُ بِبَيَانِ أَحْكَامِ إجَارَةِ الْأَوْقَافِ) أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَهُ وَسِيلَةً لِي يَوْمِ الدِّينِ، وَعُدَّةً أَدَّخِرُهَا عِنْدَهُ، إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.

وَرَتَّبْتُهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابَيْنِ وَخَاتِمَةِ الْمُقَدِّمَةِ فِي السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ شَخْصٌ وَقَفَ دَارًا عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ وَهَكَذَا وَشَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ لِوَلَدِهِ الْمُعَيَّنِ ثُمَّ لِلْأَرْشَدِ وَحَكَمَ بِمُوجَبِ الْوَقْفِ وَبِصِحَّتِهِ وَلُزُومِهِ حَنَفِيٌّ وَشَرَطَ أَنْ يُبْدَأَ بِعِمَارَتِهِ مِنْ إجَارَتِهِ بِنَظَرِ وَلَدِهِ فَبَعْدَ وَفَاتِهِ أَجَّرَهُ وَلَدُهُ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِعِمَارَتِهِ وَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْإِيجَارِ شَافِعِيٌّ مَثَلًا فَهَلْ حُكْمُ الْحَنَفِيِّ يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ؟ فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ. فَأَجَبْت: الْحُكْمُ بِالْمُوجَبِ مُتَضَمِّنٌ لِلْحُكْمِ بِجَمِيعِ الْآثَارِ الَّتِي يَرَاهَا الْحَاكِمُ، بِشَرْطِ أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الْحُكْمِ بِهَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِيهِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَحْكُمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجَبِ تَدْبِيرٍ.

فَمِنْ مُوجَبِهِ عِنْدَهُ مَنْعُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، فَقَدْ حَكَمَ بِهِ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لِلسَّيِّدِ مِنْهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ شَافِعِيٌّ فِيهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا الْحُكْمُ بِصِحَّةِ بَيْعِهِ لَوْ وَقَعَ، فَإِنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا بِقَضِيَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ. إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ بِمُوجَبِ هَذَا الْوَقْفِ مُتَضَمِّنٌ لِحُكْمِهِ بِامْتِنَاعِ إجَارَتِهِ مُدَّةً لَا يُجِيزُهَا الْحَنَفِيُّ؛ لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ مِنْ آثَارِ حُكْمِهِ، وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَجَّهَ حُكْمَهُ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ الْحُكْمُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضًا لِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ وَعَلَى التَّنَزُّلِ، وَأَنَّ حُكْمَ الْحَنَفِيِّ لَا يَشْمَلُ ذَلِكَ فَإِجَارَةُ النَّاظِرِ الْوَقْفَ مِائَةَ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ بَاطِلَةٌ، كَمَا حَرَّرَهُ الْوَلِيُّ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ حَيْثُ قَالَ: مَا يَفْعَلُهُ حُكَّامُ مَكَّةَ مِنْ إجَارَةِ دُورِ الْوَقْفِ الْخَرِبَةِ السَّاقِطَةِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ لِأُجْرَةِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَجْلِ الْعِمَارَةِ حَسَنٌ يَسُوغُ اعْتِمَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْفِ حَاصِلٌ يُعْمَرُ بِهِ، وَلَا وُجِدَ مَنْ يُقْرِضُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِلْعِمَارَةِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَارَةِ مُدَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ بِأُجْرَةٍ حَالَّةٍ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ لِذَلِكَ اهـ.

فَإِجَارَةُ النَّاظِرِ الْمَذْكُورَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، عَلَى أَنَّ الْأَذْرَعِيَّ قَالَ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ مَثَلًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَقْفِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ إجَارَةَ النَّاظِرِ الْمَذْكُورَةَ بَاطِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ اهـ. جَوَابِي، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ نَازَعَ فِيهِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْوَقْفَ كَالْمِلْكِ زَاعِمًا أَنَّ قَضِيَّتَهُ صِحَّةُ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا، وَرَوَّجَ بِهِ عَلَى الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ فَكَتَبْت إلَيْهِ أُبَيِّنُ بُطْلَانَ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ، فَقُلْت: مَا أَفْتَيْت بِهِ مِنْ بُطْلَانِ الْإِجَارَةِ ذَكَرْت لَهُ سَبَبَيْنِ. أَوَّلَهُمَا: حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِالْمُوجَبِ وَإِفْسَادُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ مِائَةَ سَنَةٍ ظَاهِرٌ مِمَّا قَرَّرْته فِيهِ تَبَعًا لِمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، فَلَا مَسَاغَ لِإِنْكَارِهِ، لَا يُقَالُ: لَيْسَ الْوَقْفُ كَالتَّدْبِيرِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إلَى الْعِتْقِ؛ وَلِأَنَّ الْبِيَعَ يُنَافِي التَّدْبِيرَ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لَا تُنَافِي الْوَقْفَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الشَّارِعُ تَشَوَّفَ إلَى الْوَقْفِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

وَزَعْمُ أَنَّ الْبِيَعَ يُنَافِي التَّدْبِيرَ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لَا تُنَافِي الْوَقْفَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ النَّظَرَ هُنَا إلَى مَذْهَبِ الْحَاكِمِ الْحَنَفِيِّ، وَالْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ مُنَافِيَةٌ لِلْوَقْفِ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَالْمَسْأَلَتَانِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ثَانِيَهُمَا: مَا حَكَيْته عَنْ أَبِي زُرْعَةَ وَالْأَذْرَعِيِّ.

فَأَمَّا مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَإِطْلَاقُهُ بَعِيدٌ عَنْ قَوَاعِدِنَا، فَلِذَا لَمْ أَذْكُرْهُ فِي الْجَوَابِ إلَّا لِتَقْوِيَةِ كَلَامِ أَبِي زُرْعَةَ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ فَهُوَ حَسَنٌ وَقَوَاعِدُنَا لَا تُخَالِفُهُ، بَلْ تُؤَيِّدُهُ وَتُقَوِّيهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ.

فَإِنْ قِيلَ:

ص: 327

يُنَافِيهِ قَوْلُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَرْضَ تُؤَجَّرُ مِائَةَ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، وَالْوَقْفُ كَالْمِلْكِ فَظَاهِرُ التَّشْبِيهِ: جَوَازُ إجَارَةِ الْوَقْفِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَوْ كَانَ عَامِرًا بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وَقَدْ شُبِّهَ الْوَقْفُ بِهِ فَلْيُعْطَ حُكْمَهُ، قُلْت: لَا قَائِلَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِظَاهِرِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا سَبَبُ تَوَهُّمِ هَذَا مِنْهُ الْغَفْلَةُ عَنْ كَلَامِهِمَا أَعْنِي الرَّوْضَةَ وَأَصْلَهَا فِي بَابِ الْوَقْفِ، إذْ بِتَأَمُّلِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُمَا بِقَوْلِهِمَا: الْوَقْفُ كَالْمِلْكِ أَيْ فِي أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ تَشْبِيهِ الْوَقْفِ بِالْمِلْكِ.

وَأَمَّا حُكْمُ إجَارَةِ النَّاظِرِ مِنْ الصِّحَّةِ تَارَةً وَالْفَسَادِ أُخْرَى، فَقَدْ تَعَرَّضُوا لَهُ فِي بَابِ الْوَقْفِ، حَيْثُ أَشَارُوا فِيهِ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ النَّاظِرَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ بِالْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ لِرِعَايَةِ مَقْصُودِهِ وَبَقَاءِ عَيْنِهِ، لَا بِالنِّسْبَةِ لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ النَّاظِرَ فِي مَالِ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، وَالْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا التَّصَرُّفُ إلَّا بِالْغِبْطَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِمَا بِقَوْلِهِمَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ إحْدَاهُمَا عِنْدَ الْقَاضِي، فَكَذَلِكَ النَّاظِرُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ لِلْوَقْفِ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ.

وَقَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ الْقَاضِي وَمَتَى تَصَرَّفَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ، هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَئِمَّتِنَا فِي بَابِ الْوَقْفِ صَرِيحًا وَاقْتِضَاءً

وَتَشْبِيهُ الشَّيْخَيْنِ الْوَقْفَ بِالْمِلْكِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا يُنَافِيهِ كَمَا تَقَرَّرَ لِمَا ذَكَرْته أَنَّ مَعْنَى التَّشْبِيهِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِمُدَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْغِبْطَةِ أَوْ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْحَاجَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَقْفِ دُونَ مُسْتَحَقِّهِ، عَلَى أَنَّ الشَّيْخَيْنِ إنَّمَا قَصَدَا بِذَلِكَ التَّشْبِيهِ الرَّدَّ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا فِي قَوْلِهِ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، فَمِنْ ثَمَّ قَالَا عَقِبَهُ: وَهُوَ غَرِيبٌ، لَكِنْ انْتَصَرَ لَهُ فِي الْخَادِمِ وَتَعَجَّبَ مِنْ اسْتِغْرَابِهِمَا لَهُ، وَبَيَّنَ وَجْهَ ذَلِكَ قَالَا أَعْنِي الشَّيْخَيْنِ نَقْلًا عَنْ الْمُتَوَلِّي: إنَّ الْحُكَّامَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ لَا يُؤَجَّرَ الْوَقْفُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، لِئَلَّا يَنْدَرِسَ ثُمَّ تَعَقَّبَاهُ بِقَوْلِهِمَا، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَبَيَّنَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْحُكَّامَ مِنْ أَئِمَّتِنَا مَالُوا فِي ذَلِكَ إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ رضي الله عنه لِأَنَّهُ أَحْوَطُ

وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَصَاحِبُ الْأَنْوَارِ: إنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ الِاحْتِيَاطُ، وَقَالَ السُّبْكِيّ مُنْتَصِرًا لِهَذَا الِاصْطِلَاحِ: لَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّ إجَارَةَ الْوَقْفِ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَكُونَ بِالْقِيمَةِ، وَتَقْوِيمُ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْبَعِيدَةِ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَفِيهِ أَيْضًا تَوَقُّعُ الِانْتِقَالِ إلَى الْبَطْنِ الثَّانِي، وَقَدْ تَتْلَفُ الْأُجْرَةُ فَتَضِيعُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لِعِمَارَةٍ وَنَحْوِهَا، فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَقْصِدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ كَلَامُ السُّبْكِيّ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ، إذْ يَجِبُ عَلَى نَاظِرِ الْوَقْفِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي إيجَارِهِ فَلَا يُؤَجِّرُهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِبَقَاءِ عَيْنِهِ، وَقَدْ انْحَصَرَتْ فِي إيجَارِهِ تِلْكَ الْمُدَّة كَمَا بَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي فَتَاوِيهِ، وَلَا يُؤَجِّرُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ: يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إجَارَةُ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ اهـ.

وَلَا يُظَنُّ بِأَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا مَرَّ عَنْهُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ امْتِنَاعِهَا إلَّا بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ غَافِلًا عَنْ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ السَّابِقِ: إنَّ الْوَقْفَ كَالْمِلْكِ بَلْ قَرَّرَهُ أَوَّلًا، وَاعْتَمَدَهُ وَرَدَّ مَا يُخَالِفُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ إجَارَةِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِكَلَامِهِمَا؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِكَلَامِهِمَا وَمُبَيَّنٌ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرَاهُ، وَسَبَبُهُ مَا قَدَّمْته مِنْ أَنَّ كَلَامَهُمَا كَالْأَصْحَابِ فِي بَابِ الْوَقْفِ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ وَنَاطِقٌ بِهِ.

وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فِيهِ وَظِيفَةُ الْمُتَوَلِّي الْعِمَارَةُ وَالْإِجَارَةُ وَتَحْصِيلُ الرَّيْعِ وَقِسْمَتُهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ وَحِفْظُ الْأُصُولِ وَالْغَلَّاتِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ اهـ. فَقَوْلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ رَاجِعٌ إلَى كُلٍّ مِمَّا قَبْلَهُ وَمِنْهُ الْإِجَارَةُ فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ إجَارَةَ النَّاظِرِ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْهُ إنْ كَانَتْ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِيَاطِ وَأَنْ لَا تُؤَجَّرَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ إلَّا إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهَا وَكَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ لِعَيْنِ الْوَقْفِ، وَسَبَقَهُمَا الْجُرْجَانِيُّ إلَى ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُ: وَيَتَصَرَّفُ مَنْ إلَيْهِ النَّظَرُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ انْتَهَتْ.

وَكَوْنُهُ كَالْوَصِيِّ صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا فَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ صَلَاحِيَةِ الْمُتَوَلِّي لِشَغْلِ التَّوْلِيَةِ

ص: 328

وَالصَّلَاحِيَّةِ فِي الْأَمَانَةِ وَالْكِفَايَةِ فِي التَّصَرُّفِ، وَاعْتِبَارُهُمَا كَاعْتِبَارِهِمَا فِي الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ انْتَهَتْ وَقَالَا أَيْضًا فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ: إنَّهُ لَا يُبَدَّلُ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ الْقَيِّمُ الَّذِي نَصَّبَهُ كَأَنَّهُ يُجْعَلُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَالْوَصِيِّ اهـ.

وَذَكَرَ الشَّيْخَانِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي اسْتِقْرَاضِ النَّاظِرِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ، وَاعْتَرَضَ السُّبْكِيّ عَلَيْهِمَا بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ إذْنِهِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِمَا الْبُلْقِينِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ بِأَنَّ النَّاظِرَ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّهُ يَقْتَرِضُ بِدُونِ إذْنِ الْقَاضِي، وَجَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ لَهُ مَعْنًى ظَاهِرًا فَإِنَّهُ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ

وَهُوَ مِنْ وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ دُونَ النَّاظِرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ دَيْنٍ فِي رَقَبَةِ الْوَقْفِ مُتَعَلِّقٍ بِسَائِرِ الْبُطُونِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِهِ النَّاظِرُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ أَيْ: وَإِنْ بَقِيَتْ آثَارُ تَصَرُّفِهِ الشَّرْعِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَاحْتِيجَ إلَى إذْنٍ لَهُ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ عَلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ، ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ فِي الْخَادِمِ وَغَيْرُهُ وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُضَيَّقُ فِي النَّاظِرِ مَا لَا يُضَيَّقُ فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَمِنْ ثَمَّ جَرَى خِلَافٌ فِي الْفَسْخِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَجَّرَ بِهِ أَثْنَاءَ الْمُدَّةِ، وَلَمْ يَجِرْ نَظِيرُ ذَلِكَ فِي إيجَارِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّا حَيْثُ جَوَّزْنَا إجَارَةَ الْوَقْفِ نَحْوَ مِائَةِ سَنَةٍ بِشُرُوطِهَا لَا بُدَّ مِنْ إذْنِ الْحَاكِمِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، إذْ الْإِجَارَةُ إثْبَاتُ حَقٍّ بِرَقَبَةِ الْوَقْفِ مُتَعَلِّقٍ بِسَائِرِ الْبُطُونِ، فَلَمْ يَسْتَقِلَّ بِهِ النَّاظِرُ.

وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ: إيجَارُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مُشَبَّهٌ بِإِيجَارِ مِلْكِ الْيَتِيمِ، وَهَذَا أَبْلَغُ تَصْرِيحٍ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إيجَارِ الْمَوْقُوفِ مِنْ الْغِبْطَةِ أَوْ الْحَاجَةِ، وَبِهَذَا الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ

صَرَّحَ الْبُلْقِينِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمْ، بَلْ فِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْإِصْطَخْرِيِّ حِكَايَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّ نَاظِرَ الْوَقْفِ كَالْوَصِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ لِلْوَاقِفِ تَوْلِيَةَ النَّظَرِ لِمَنْ شَاءَ مُطْلَقًا وَعَزْلَهُ، قَالَ: وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ أَنْ يُوصِيَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ، وَأَخَذَ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْوَصِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ لِنَفْسِهِ إذَا خَافَ ضَيَاعَ الْوَقْفِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَنْعَزِلُ الْوَصِيُّ بِعَزْلِهِ لِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ، وَعِبَارَةُ الْخُوَارِزْمِيِّ فِي كَافِيهِ: الدَّارُ الْمَوْقُوفَةُ إذَا انْهَدَمَتْ وَخَرِبَتْ وَتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا نَقْلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَتَحَرَّى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ إلَى رِعَايَةِ شَرْطِ الْوَاقِفِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ اهـ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِي فَتَاوَى الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ رَزِينٍ صَاحِبِ ابْنِ صَلَاحٍ أَنَّهُ سُئِلَ: عَنْ خَانٍ مَوْقُوفٍ دَائِرٍ وَبَقِيَتْ سَاحَتُهُ فِيهَا بَعْضُ مَخَازِنَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجَّرَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لِمَنْ يَبْنِيهِ دَارًا إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً؟

فَأَجَابَ: إنْ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ الْعَوْدِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ إلَى مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى تِلْكَ الصِّفَةِ جَازَ إيجَارُهُ لِمَنْ يَعْمُرُهُ مُدَّةً لَا يُنْسَى فِي مِثْلِهَا الْوَقْفُ اهـ. فَلْيُتَأَمَّلْ قَوْلُهُ مُدَّةً لَا يُنْسَى فِيهَا، هَذَا مَعَ أَنَّهُ خَرَابٌ دَائِرٌ، فَكَيْفَ بِعَامِرٍ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ أَصْلًا.

وَذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لَهُ الَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ الْوَقْفُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ إلَّا أَنْ يَقَعَ فِي ضَرَرٍ فَيَزِيدُ وَيَعْمَلُ مَا فِيهِ الصَّلَاحُ فِي الِاسْتِغْلَالِ، فَأَمَّا مَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ، فَلَا يَجُوزُ فَإِنْ أَجَّرَهُ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَجَبَ فَسْخُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ قَالَ فِي التَّوَسُّطِ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ التَّسْوِيَةُ فِيمَا ذَكَرَهُ بَيْنَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَحْجُورِينَ وَالْأَوْقَافِ وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ اهـ.

وَأَفْتَى الْبُلْقِينِيُّ فِيمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا وَغَرَسَهَا وَبَنَاهَا وَوَقَفَ ذَلِكَ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ مَصَالِحِ الْحَرَمَيْنِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ وَقْفٌ لِلْحَرَمَيْنِ، بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤَجَّرَ هَذِهِ الْأَرْضُ لِغَيْرِ مُعَمِّرِهَا إنْ كَانَ فِي إبْقَاءِ مَا ذُكِرَ مَصْلَحَةٌ لِلْوَقْفِ بِأَخْذِ أُجْرَةٍ مُحَقَّقَةٍ مِنْهُ، وَإِنْ احْتَمَلَ أَنَّهَا لَوْ قُلِعَ مِنْهَا ذَلِكَ تُؤَجَّرُ ثُمَّ قَالَ: فَعَلَى النَّاظِرِ الْإِبْقَاءُ بِالْأُجْرَةِ.

وَإِنْ كَانَ فِي بَابِ الْأَمْلَاكِ لِلْمَالِكِ الْقَلْعُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ لِنَفْسِهِ الْأَصْلَحَ وَالنَّاظِرَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا كَالْغَاصِبِ فَلِلنَّاظِرِ الْقَلْعُ مَجَّانًا، قُلْنَا: هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّ النَّاظِرَ يَنْظُرُ فِي الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْإِبْقَاءِ، وَلَا يُتْرَكُ الْمُحَقَّقُ لِلْمَوْهُومِ، وَهَذَا يَتَقَيَّدُ بِهِ إطْلَاقُهُمْ وَهُوَ مِنْ النَّفَائِسِ اهـ. كَلَامُهُ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَصَرُّفَ النَّاظِرِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَيَتَقَيَّدُ

ص: 329

بِهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا مُطْلَقًا.

وَأَفْتَى الْبُلْقِينِيُّ أَيْضًا فِي نَاظِرٍ أَجَّرَ دَارًا ثَلَاثَ سِنِينَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ قَبَضَ مِنْهَا أُجْرَةَ الْأُولَى، وَمَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ مُعْسِرًا، بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فَسْخُهَا فِي الْمَنْفَعَةِ الْبَاقِيَةِ لِتَنْفَرِدَ جِهَةُ الْوَقْفِ بِهَا، قَالَ: وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ اخْتِيَارُ الْإِمْضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى جِهَةِ الْوَقْفِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْوَلِيُّ لِمَحْجُورِهِ ثَوْبًا فَظَهَرَ مَعِيبًا وَالْمَصْلَحَةُ فِي رَدِّهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ وَفِي الْخَادِمِ: قَضِيَّةُ إلْحَاقِ الْوَقْفِ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا جَوَازُ إجَارَتِهِ مِائَةَ سَنَةٍ وَنَحْوِهَا وَهُوَ بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِهْلَاكِهِ.

وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ سُرَاقَةَ وَأَبِي الْفَرَجِ الْجَزْمُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا فِي الْخَرَابِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ إذَا اقْتَضَتْهُ الْمَصْلَحَةُ لِيُحْتَكَرَ اهـ. فَاشْتُرِطَ لِإِجَارَةِ الْخَرَابِ الْمَصْلَحَةُ فَكَيْفَ بِالْعَامِرِ

(فَائِدَةٌ) يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْعِمَادِ، وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَصَوَّرُوا ذَلِكَ بِصُوَرٍ مِنْهَا إذَا حَكَمَ حَنْبَلِيٌّ بِأَنَّ الْخُلْعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَسْخٌ، فَعِنْدَهُ تَجُوزُ إعَادَةُ الْمُخْتَلِعَةِ مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحَلِّلٍ، فَلَوْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ مَا حَكَمَ الْحَنْبَلِيُّ بِأَنَّ ذَلِكَ فَسْخٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِلَا مُحَلِّلٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ حِينَئِذٍ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَكَيْفَ يَتَعَاطَاهُ فَإِذَا تَعَاطَاهُ نُقِضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَاطَاهُ حَنْبَلِيٌّ، وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ مَالِكِيٌّ بِثُبُوتِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ بِالْخَطِّ وَحَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّتِهِ، فَهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ الْآنَ بِاتِّفَاقِ الْحَاكِمَيْنِ الْمَالِكِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ وَقْفًا عَلَى النَّفْسِ وَالْحَنَفِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِالْخَطِّ.

وَهَذَا كُلُّهُ مَقِيسٌ عَلَى مَا لَوْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ صَلَّى وَبِهِ نَجَاسَةٌ كَلْبِيَّةٌ مُقَلِّدًا لِلْمَالِكِيِّ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا عَلَى مَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ، بَلْ رَكَّبَ فِيهَا قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ قَوْلِ آخَرَ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ قَائِلًا بِبُطْلَانِهَا الشَّافِعِيِّ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْمَالِكِيِّ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ، قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي مَتَى لَفَّقَ قَوْلَ مُجْتَهِدٍ مَعَ مُجْتَهِدٍ آخَرَ نُقِضَ حُكْمُهُ قَالَ: وَكَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ الْمَنْسُوبِينَ لِلشَّافِعِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ الْقُضَاةِ يَجِبُ عَزْلُهُمْ وَلَا تَحِلُّ تَوْلِيَتُهُمْ اهـ.

إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إذْ الْإِجَارَةُ فِيهَا وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهَا مُسْتَوْفِيَةٌ لِشُرُوطِهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، الْأَوَّلُ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى النَّفْسِ وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ زِيَادَتِهَا عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَحُكْمُ الشَّافِعِيِّ بِهَا مُلَفَّقٌ مِنْ قَوْلِ مُجْتَهِدَيْنِ فَلْتَكُنْ بَاطِلَةً إجْمَاعًا لِمَا تَقَرَّرَ لَا يُقَالُ: الْحُكْمُ بِشَرْطِهِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَبَعْدَ حُكْمِ الْحَنَفِيِّ صَارَ الْوَقْفُ صَحِيحًا بَاطِنًا أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَعْنَى كَوْنِهِ صَحِيحًا بَاطِنًا أَنَّا نُنَفِّذُهُ وَنُلْزِمُ بِهِ وَنُدِيرُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، لَكِنَّنَا نُرَاعِي مَعَ ذَلِكَ مَذْهَبَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ، فَلَا نَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّلْفِيقُ الْمَحْذُورُ، وَقَدْ عَلِمْت بُطْلَانَهُ نَعَمْ يَأْتِي قَرِيبًا آخِرَ مَسْأَلَةِ حُكْمِ مِيَاهِ مَرِّ الظَّهْرَانِ مَا فِيهِ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِ ابْنِ الْعِمَادِ فَانْظُرْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(تَنْبِيهٌ) أَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّهُ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ وَكَانَ مِمَّنْ يَرَاهُ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَوَقْفٍ وَغَيْرِهِمَا كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، قَالَ مَا مَعْنَاهُ: وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهُ فِي الظَّاهِرِ سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَيَلْحَقُ بِهَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ، وَأَقَرَّهُ الشَّرَفُ الْغَزِّيُّ وَشَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ظَاهِرٍ، لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِشَرْطِهِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَكَأَنَّهُ فَرَّعَ مَا قَالَهُ عَلَى الضَّعِيفِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ

لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُغَيِّرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ يَنْفُذُ بَاطِنًا إلَّا أَنَّهُ يُغَيِّرُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ عَلَى بُعْدٍ بِأَنَّ مَعْنَى نُفُوذِهِ بَاطِنًا فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ مَثَلًا إذَا حَكَمَ بِهَا حَنَفِيٌّ يَجُوزُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ أَخْذُهَا وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَافِعِيًّا وَأَمَّا الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِهَا الشَّافِعِيُّ فَلَهُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِقَضِيَّةِ الْحُكْمِ أَوْ يُقَالُ: مَحَلُّ نُفُوذِهِ بَاطِنًا وَتَغْيِيرُهُ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ خَصْمَانِ، كَمَا فِي شُفْعَةِ الْجِوَارِ مَثَلًا بِخِلَافِهِ فِي نَحْوِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خَصْمَانِ فَلَمْ يَلْزَمْ الْوَاقِفَ الْعَمَلُ بِقَضِيَّةِ هَذَا الْحُكْمِ لِفَقْدِ تَحَقُّقِ التَّغَايُر فِيهِ بَيْنَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلِلنَّظَرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَجَالٌ فَتَأَمَّلْهُ. ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ صَرَّحَ بِمَا

ص: 330