الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملاً من غير استقصاء؛ إذ قد تقدم القول عن مشايخنا المعروفين من أهل الإمامة والديانة، إلا أنني أحببت أن أذكر «عقود أصحابنا المتصوفة» فيما أحدثه طائفة انتسبوا إليهم مما قد تخرَّصوا من القول مما نزه الله المذهب وأهله من ذلك.
[أقوال بعض أهل التصوف والرد عليهم] :
إلى أن قال: وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه
«التبصير» كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى؛ فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة.
ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، لم يخص طائفة دون طائفة فتبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المحصلين منهم، وكان ممن نسب إليه ذلك القول ـ بعد أن ادعى على الطائفة ـ ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المحصلين؛ فكيف بابن أخته.
وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة، كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، أو لبَّس فيها حديثًا ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
واعلم أن ألفاظ «الصوفية» وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجرى فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم خاسئًا وهو حسير.
ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد، فقال: كثير ما يقولون: رأيت الله، وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان، ولكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان.
ثم قال: يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا.
وإن مما نعتقد أن الله حرَّم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع الله درجة يبيح الحق
له ما حظر على المؤمنين ـ إلا المضطر على حال يلزمه إحياء النفس ـ وإن بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادة فذلك كفر بالله والقائل بذلك قائل بالإلحاد وهم المنسلخون من الديانة.
وأن مما نعتقده ترك إطلاق العشق على الله؛ وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه، ولعدم ورود الشرع به، وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية.
وأن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المنفرد بكمال أسمائه
وصفاته، بائن من خلقه، مستوٍ على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق، حيث ما تلي وحفظ ودرس.
ونعتقد: أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم خليلاً وحبيبًا، والخلة لهما منه على خلاف ما قاله المعتزلة: أن الخلة الفقر والحاجة.
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليهم الكيف، وأما صفات الله تعالى
فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان واجب وحسم الكيفية عن ذلك ساقط.
ومما نعتقده: أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم، وأن من قال بتحريم المكاسب، فهو ضال مضل مبتدع، إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، وإنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارة، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة.
وإن مما نعتقده: أن الله لا يأمر بأكل الحلال، ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال،
إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع؛ لا أنه مفقود من الأرض.
ومما نعتقده: أنَّا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عن ماله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز، إلا من داخل الظلمة.
ومن لا يزغ عن الظلم، وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك: فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه اسم الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه، فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق. وأجاز ابن مسعود وسلمان، قالا: «كُلْ منه وعليه
التبعة» والناس طبقات، والدينُ: الحنيفيةُ السمحة.
وأن مما نعتقده: أن العبد ما دام أحكام الدار جارية عليه، فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، فكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عنه نفسه {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
[الأعراف:99] ، وقد أفردت كشف عوار من قال بذلك.
ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه مميز على أحكام القوة والاستطاعة، إذ لم يسقط ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية
المبدئية بعلائق الآخرية، فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه
علة، أو رأفة فصار معتوهًا، أو مجنونًا، أو مبرسمًا وقد اختلط في عقله، أو لحقه غشية، ارتفع عنه أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة.
ومن زعم الإشراف على الخلق حتى يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الملة، ومن ادعى أنه يعرف ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد باء بغضب من الله، ومن
ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم، وأنهم على ماذا يموتون ويختم لهم، بغير الوحي من قول الله وقول رسول صلى الله عليه وسلم فقد باء بغضب من الله.
و «الفراسة» حق على أصول ذكرناها، وليس ذلك
مما سميناه في شيء.
ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته ـ ويشير في ذلك إلى غير الأيد والعصمة والتوفيق والهداية ـ وأشار إلى صفاته عز وجل
القديمة، فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام، وذلك كفر لا محالة.
ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال: إنها غير مخلوقة فقد
ضاهى قول النصارى ـ النسطورية ـ في المسيح، وذلك كفر بالله العظيم.
ومن قال: إن شيئًا من صفات الله عز وجل حالٌّ في العبد، وقال بالتبعيض على الله فقد كفر؛ والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حالٍّ في مخلوق، وأنه كيف ما تُلي وقُرئ وحُفظ، فهو صفة الله عز وجل، وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو، لأنه عز وجل بجميع أسمائه وصفاته غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر.
ونعتقد: أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة.
وأن القصائد بدعة، ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه، وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين، فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات، ونعت المخلوقات، فاستماع ذلك على الله كفر واستماع الغناء والربعيات على الله كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق، وعلى أحكام التواجد
والنغام لهو ولعب.
وحرام على كل من سمع القصائد والربعيات الملحنة الجاري بين أهل الأطباع على أحكام الذكر، إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك مما لا يليق به عز وجل، مما هو منزه عنه، فيكون استماعه كما قال:{يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} الآية [الزمر: 18] .
وكل من جهل ذلك، وقصد استماعه على الله على غير تفصيله، فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله، فغير جائز إلا لمن عرف ما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل ما ليس للمخلوق فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى
وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة بها غير مأمونة، إلى أن قال: واتخاذ المجالس على الاستماع والغناء والرقص بالرباعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك، والثوري، ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل، وإسحق والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين.
وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث: إن أصحابك قد أحدثوا شيئًا يقال له القصائد. قال: مثل إيش؟ قال مثل قوله:
اصبري يا نفس حتى
…
تسكني دار الجليل
فقال: حسن، وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟
قال: قلت: ببغداد. فقال: كذبوا والذي لا إله غيره، لا يسكن ببغداد من يسمع ذلك.
قال أبو عبد الله: ومما نقول ـ وهو قول أئمتنا ـ أن الفقير إذا
احتاج وصبر لم يتكلف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حَبْلَه
…
» الحديث.
ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط مرسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح، فهو مذموم في الحقيقة خارج.
ونقول: إن المستمع إلى الغناء والملاهي، فإن ذلك كما قال عليه السلام:«الغناء ينبت النفاق في القلب» ، وإن لم يكفر، فهو فسق لا محالة.
والذي نختار: قول أئمتنا: ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي، وأن المرسل إليهم أفضل، فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر» . اهـ] .