الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العزيمة والرخصة
لما فرغ من تقسيم المشروعات من حيث ثبوت الأحكام من الكتاب على قدر ما يليق من التقسيم من وسعه ذكر في هذا الباب تقسيم الثابت منها، وهو نوعان: عزيمة، ورخصة.
فالعزيمة: عبارة عما استقر على الأمر الأول بحكم أنه إلهنا ونحن نعبده؛ يعني أثبت الحكم في حقنا بحكم أنه إلهنا وخالقنا من غير نظر إلى الأعذار منا.
والرخصة: ما يغير من عسر إلى يسر بواسطة عذر المكلف.
وقوله: (حتى صار العزم يمينًا) حتى إذا قال القائل: أعزم؛ كان حالفًا أي عند النية.
(وهذا الاسم) أي اسم الفرض والكتابة.
(ففي التقدير والتناهي يسر) أي بالنسبة إلى كونه غير مقدر وهو في
لفظ الفرض.
[الواجب]
(ويشير إلى شدة المحافظة) وهي في اسم المكتبة، وسميت مكتوبة؛ لأنها كتبت علينا في اللوح المحفوظ.
(ومعنى السقوط أنه ساقط علمًا) أي ساقط عنا من حيث الاعتقاد به قطعًا، يعني لا يجب علينا أن نعتقد قطعًا أنه علينا؛ لأنه يجب الاعتقاد بكونه واجبًا بغلبة الظن.
(هو الوصف الخاص سمي به) أي سقوط العلم عما هو الوصف الخاص للواجب، فلذلك سمي بلفظ الواجب؛ لأن الفرض واجب، مستويان في حق لزوم العمل، وإنما المفارقة بينهما من حيث لزوم الاعتقاد في حق الفرض بأنه فرض عليه قطعًا، وعدم لزوم الاعتقاد في حق الواجب، فكان لفظ الواجب هو اللفظ الدال على سقوط العلم والاعتقاد عن المكلف لأنه لازم قطعًا، فلذلك سمي به.
.........................................................................
(صار كالساقط عليه) أي صار الواجب كالساقط على الذي لم يجب عليه العلم بأنه لازم عليه قطعًا لا كما تحمل كما في الفرض، (ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة وهو الاضطراب) وهو أي والجبة، والتذكير لتذكير الخير وهو الاضطراب. قال الشاعر:
وللفؤاد وجيب تحت أبهره
…
لدم الغلاء وراء الغيب بالحجر
الوجيب: الاضطراب، والأبهر: عرق مستبطن الصلب إذا انقطع مات صاحبه
والدم: الضرب، والغيب: الجدار هنا.
وقال في ((ميزان الأصول)): الواجب نوعان: لازم قطعًا كالزكاة والصوم، وواجب لا يكون لازمًا قطعًا. مثل: تعين الفاتحة وغيره.
(والسنة الطريقة) ومنها الحديث في مجوس هجر: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) أي اسلكوا بهم طريقهم. يعني عاملوهم معاملة هؤلاء في
إعطاء الأمان لأخذ الجزية منهم
وهو معروف الاشتقاق (وهو في الشرع: اسم للطريق المسلوك في الدين).
(وهو معروف الاشتقاق) أي هي مأخوذة من قولهم: سن الماء إذا صبه، وإنما أخذت السنة منه؛ لأن من يستن بسنة غيره ينصب في الفعل على وفق فعله كالماء الثاني يجري في جريه كجريان الماء الأول، ولذلك سمي الطريق سنة؛ لأن المار ينصب فيه ويجري نحو جريان الماء من غير انعراج ولا التفات إلى شيء آخر.
(بل زيادة على ما شرع له الجهاد) من إعلاء كلمة الله وكبت أعدائه.
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} .
(وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم)؛ لأن الحكم نتيجة الدليل، فمهما كان الدليل أقوى كان المدلول وهو الحكم أقوى، (وبيان ذلك) أي بيان أن الدليل نوعان: ما لا شبهة فيه وما فيه شبهة؛ (لأن النص الذي لا شبهة فيه أوجب قراءة القرآن في الصلاة وهو قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}) وإنما تعين ذلك الأمر في حق الصلاة إما بالاستدلال بسياق هذه الآية وسباقها، فإن في كل منهما ذكر الصلاة، وإما بالاستدلال بدلالة الإجماع؛ لأنهم أجمعوا على أن الأمر للوجوب ولا وجوب خارج الصلاة فتعين في الصلاة.
(وذلك فيما قلنا)؛ لأن خبر الواحد مكمل لحكم الأول مقرر له؛ لأن حكم الأول وجوب قراءة القرآن، وبعدما أوجبنا الفاتحة لم يتغير ذلك؛ لأن مقتضى الكتاب أن تجوز الصلاة بأي سورة قرأ، وإذا لم يتبدل هذا الحكم بوجوب الفاتحة عندنا، فلم يجز تغيير الأول بالثاني، وتغييره بأن يصير مقيدًا؛ لأنه لا شبهة في الأول، وفي الثاني شبهة.
فإن قيل: لا نسلم بأنه لا شبهة في الأول وهو الكتاب بل فيه شبهة حتى صار هو أدنى من الخبر الأول، فإن ذلك نص عام خص منه ما دون الآية، فيخص فيما وراءه بخبر الاحد، فحينئذ يجب تعيين الفاتحة فرضًا كما هو مقتضى خبر الواحد لقوله عليه السلام:((لا صلاة إلى بفاتحة الكتاب)).
قلنا: ثبت عدم الجواز فيما دون الآية بمعنى لا يوجد ذلك المعنى في الآية، وهو أن ما دون الآية وإن كان من القرآن لا يسمى من قرأه قارئ القرآن على الإطلاق، حتى جوز بعض العلماء قراءة ما دون الآية للجنب والحائض بهذا المعنى فلما لم يتناوله اسم القرآن على الإطلاق لم يكن عدم جواز الصلاة بما دون الآية بسبب أنه مخصوص من قوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فكان هو عامًا حينئذ لم يخص منه شيء، فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد،
وإنه لو جاز بما دون الآية- لأنه من القرآن- لوجب أن يجوز بحرف واحد من القرآن؛ لأنه من القرآن، ولم يقل به أحد.
فإن قيل: يجب أن لا يثبت الوجوب أيضًا بخبر الفاتحة حينئذ؛ لأنه جاء مخالفًا للكتاب؛ لأن الكتاب يقتضي الجواز بدون فاتحة الكتاب، وذلك الخبر يقتضي الجواز بالفاتحة. قال عليه السلام في الخبر الواحد:((وما خالف فردوه)).
قلنا: ذلك الرد إنما يكون فيما إذا لم يكن العمل بخبر الواحد ممكنًا مع العمل بالكتاب، وهاهنا ممكن على الوجه الذي قلنا بأن يكون مكملًا لموجب الكتاب، وهو أن يحمل على الوجوب.
(وخبر الواحد أوجب التعديل)، وهو قوله عليه السلام للأعرابي:((قم فصل فإنك لم تصل)).
(فمن رد خبر الواحد) كما فعله أهل الاعتزال.
(ومن سواه بالكتاب كما فعله أهل الحديث.
(واجب ثبت بخبر الواحد)، وهو قوله عليه السلام لأسامة بن زيد حين كان هورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة فقال: الصلاة يا رسول الله. قال عليه السلام: ((الصلاة أمامك)).
(فإن لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الإعادة).
فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين وجوب الترتيب في الصلاة فإن ذلك أيضًا بخبر الواحد، ووجوب الإعادة هناك إذا صلى الوقتية مع ذكر الفائتة لا تسقط سواء خرج الوقت أو لم يخرج ما لم يدخل حد التكرار، وهنا تسقط الإعادة إذا خرج وقت العشاء؟
قلت: جواب هذا وجواب ما يشاكله من الأسولة مذكورة في حج ((النهاية)) فسقوط الإعادة هنا بعد طلوع الفجر مثل سقوط الإعادة في الصلاة عند كثرة الفوائت.
وذكر في ((التقويم)) بعد ذكر سقوط الإعادة بعد طلوع الفجر هنا، وقال: وكذلك قال أبو حنيفة- رضي الله عنه فيمن ترك الفجر، ثم صلى الظهر وهو ذاكر لما عليه: أن ظهره فاسد وعليه القضاء، فإن لم يقض حتى كثرت الفوائت فلا قضاء عليه.
(وخبر الواحد لا يوجبه) أي لا يوجب العلم (فلا يفسد العشاء) أي المغرب.
(فجعلنا الطواف به واجبًا لا يعارض الأصل) عملًا بخبر الواحد، هو قوله عليه السلام:((الحطيم من البيت))؛ لأن الطواف حول الحطيم عمل بخبر الواحد على وجه لا يعارض الكتاب؛ لأنا لطواف حول الحطيم طواف حول البيت أيضًا.
(من غير افتراض ولا وجوب) إلا إذا كان من شعائر الإسلام فحينئذ يكون بمعنى الواجب كالأذان والجماعة.
وقوله: (إلا أن السنة عندنا) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن.
اللائمة: الملامة.
(أنه لا يتنصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب: السنة) أي السنة هكذا. أراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
بيان هذا في زيادات ((المبسوط)) وهو ما روي عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة؟ قال: عليه عشر من الإبل. قلت: فإن قطع أصبعين منها؟ قال: عشرون من الإبل، فإن قطع ثلاثة أصابع؟ قال: عليه ثلاثون من الإبل، فإن قطع أربعة أصابع؟ قال:
عليه عشرون من الإبل. قلت: سبحان الله لما كبر ألمها واشتد مصابها قل أرشها! قال: أعراقي أنت؟ فقلت: لا، بل جاهل مسترشد، أو عاقل مستثبت، فقال: إنه السنة، وبهذا أخذ الشافعي وقال: السنة إذا أطلقت فالمراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون حديثًا أن النبي عليه السلام قال:((تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية))، وقوله:((تعاقل)) أي تساوي المرأة
الرجل في الدية.
وقال في المغرب: وعن ابن المسيب ((المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها)) أي تساويه في العقل تأخذ كما يأخذ الرجل (فقال ذلك في القتل الحر بالعبد) أي قال الشافعي- رحمه الله ذلك أيضًا وهو أن مطلق السنة تقع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن عليًا- رضي الله عنه قال: ((إن من السنة أن لا يقتل الحر بالعبد)) فكانت هي محمولة على سنة النبي عليه السلام، وإنما ذكر هذين وإن كان فيهما معنى الإرسال لما أن الشافعي يقبل مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنه تتبعها فوجدها مسانيد، وأما إرسال علي- رضي الله عنه فإنه مقبول أيضًا؛ لأن إرسال الصحابة مقبول بالإجماع؛ لأن ذلك محمول على السماع.
(وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها) أي لفظ السنة مطلق لا قيد فيه ويذكر ويراد به غير سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يوجب ذلك الاختصاص سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عليه السلام:((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إل يوم القيامة، ومن ين سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)).
وقوله: (وكان السلف يقولون: سنة العمرين) لبيان أن لفظ السنة يطلق على سنة غير النبي عليه السلام أيضًا. (سنة الهدى، وتركها يستوجب إساءة)، وذلك نحو صلاة العيد والأذان والإقامة والصلاة بالجماعة، ولهذا لو تركها قوم استوجبوا اللوم والعتاب، لو تركها أهل بلدة وأصروا على ذلك قوتلوا ليأتوا بها.
(فقيل مرة يكره) فقال: يكره القعود في الأذان ويكره أن يؤذن وهو جنب وهو من آثار سنن الهدى (ومرة أساء) كما في قوله: وإن صلى
أهل المصر جماعة بغير أذان ولا إقامة أساؤوا؛ لأنهم تركوا ما هو من سنن الهدى، ومرة لا بأس، وقال: لا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر.
(وإذا قيل: يعين فذلك من حكم الوجوب)، فقال: ولا يؤذن لصلاة قبل دخل وقتها ويعاد في الوقت، وفي ((شرح الطحاوي)) يستحب إعادة أذان أربعة: الجنب والمرأة والسكران والمجنون.
(ولهذا قلنا: إن ما زاد على القصر في صلاة السفر نفل)؛ لأنه لا يعاقب على تركه ويثاب على فعله، وقد قال الشافعي به فكان نفلًا لجود حده، ولا يلزم على هذا صوم المسافر، فإنه لا يعاقب على تركه ويثاب على فعله مع أنه لو صام يقع فرضًا؛ لأنا نقول: المراد من قوله: لا يعاقب على تركه لو تركه أصلًا، والمسافر يعاقب على ترك الصوم في الجملة وهو ما إذا أدرك عدة من أيام أخر ولم يقضه يعاقب عليه، فكذلك لم يكن الصوم في حالة السفر نفلًا، والنفل شرع دائمًا، فلذلك جعلناه من العزائم؛ لأن شرعية النفل لما لم يبن على عارض من جهة العبد لم يجعلها منا لرخص بل جعلناها من العزائم، وإنما ترض لذكر قوله دائمًا لجانب الرخصة في النفل.
فإن قيل: لم يشرع النوافل في الأوقات المكروهة فلم تكن شرعيتها دائمًا.
قلنا: ذلك لأجل المانع وهو نسبة تلك الأوقات إلى الشيطان إلى ما جاءت به السنة مع أن تلك الكراهة لا تنفي نفس شرعية الصلاة فكانت شرعية النوافل دائمة. (ولذلك صح قاعدًا) أي ولشرعيته دائمًا صح قاعدًا (وراكبًا)؛ لأن في مراعاة أركانه على التمام مع وجود وصف الدوام إفضاء إلى الحرج، فلذلك لازم اليسر فصح قاعدًا، وهذا القدر يشعر بالرخصة، فلذلك كان فيه شبهة الرخصة وإن كان هو في أصله منا لعزائم، ولما كان النفل مشتملًا لهذين الوصفين أخر ذكره عن ذكر سائر العزائم؛ لأنه لم يخلص عزيمة.
(قال الشافعي- رحمه الله لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى عليه (دائمًا ولا يلزم بالشروع؛ لأن حقيقة الشيء لا تتغير في حال دون حال، وهو نفل حقيقة بعد الشرهه فيبقى على صفة النفلية كما قبل الشروع؛ لأن آخره من جنس أوله، ففي الأول كان مخيرًا بين الإتيان به
والترك فيبقى كذلك.
قلنا: نعم كذلك بالنظر إلى ذاته فإنما يلزم الإتمام لغيره وهو صيانة ما أداه؛ لأن ذلك صار مؤدى مسلمًا إلى الله تالى وحق الله محترم.
ألا ترى إذا مات قبل الإتمام يثاب على ذلك، فيجب التحرز عن إبطاله مراعاة لحق صاحب الحق، وهذا التحرز لا يتحقق إلا بالإتمام فيجب الإتمام لهذا وإن كان هو نفسه نفلًا كالسعي إلى الجمعة يجب عليه لوجوب غيره عليه وهو الجمعة.
وحاصله أن الخصم نظر إلى جانب ما لم يؤد، وما قلناه أولى لوجهين:
أحدهما- أن ترجيح جانب الموجود أولى من ترجيح جانب المعدوم؛ لأن الموجود خير من المعدوم.
والثاني- أن ما قلنا أقرب إلى الاحتياط.
فإن قيل: النفل بعد الشروع قبل التمام لم يصر مسلمًا إلى الله تعالى؛ لأن صحة أول الصلاة موقوفة على آخرها فلا يقال في الأمر الموقوف أنه مسلم إلى الله.
قلنا: لا كذلك؛ بل ما قدر من أدائه صار مسلمًا إلى الله تعالى وما ذكره لا يدل على أنه لم يصر الله تعالى بل صار الله تعالى لكن بإبطال آخر الصلاة يبطل أولها لعدم تجزئتها لا لأنه لم يصر مسلمًا إلى الله تعالى.
ألا ترى أن مسلمًا لو ارتد-والعياذ بالله- تبطل أعماله الصالحة كلها، ولم
نقل فيها أنها لم تصر مسلمة إلى الله تعالى فكذا هذا.
والدليل على أن التسليم إلى الله تالى في ذلك القدر أنه لو مات بعد الشروع في الصلاة يثاب عليه بقدر ما أدى. (والسنن كثيرة في باب الصلاة والحج) أي الأحاديث وردت كثيرة في إلزام القضاء به إذا أفسد النفل في باب أداء الصلاة والحج.
[أنواع الرخص]
(وإن شاء بذل نفسه) من حسبة الله تعالى، والحسبة: فعلة من الحساب، يعني: أز جهت آخرت شمردن.
وفي ((الصحاح)) قال ابن دريد: واحتسبت بكذا أجرًا عند الله، والاسم الحسبة- بالكسر- وهي الأجر.
النكاية: أثري تمام كردن در دشمنان بكشتن يا بجراجت كردن يا
بهزيمت كردن من حد ضرب.
(لرجحان حقه في النفس) يفوت صورة ومعنى وحق غيره في المال إنما يفوت في الصورة لا غير.
(أن الحكم متراخ) وهو وجوب الأداء؛ لأن أصل الواجب واقع على المسافر، ولهذا صح أداؤه بلا توقف، وهو أمارة كون الوجوب واقعًا عليه، بخلاف أداء الزكاة في أول الحول، فإنه لا تقع زكاة إلا بعد الحول، فعلم أن أصل الوجوب لم يقع عليه في أول الحول، ولا يقال إن وجوب الأداء لا
يضاف إلى السبب بل إلى الخطاب؛ لأن نقول: الخطاب هاهنا مقارن لشهود الشهر، وهو قوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} والوقت هو معيار، فيكون وجوب الأداء ثابتًا عند وجود الشهر في وقته وهوا لنهر، ولكن مع ذلك أباح التأخير إلى عدة من أيام أخر نظرًا له.
(فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه) يعني أن في القسم الأول الحكم ثابت وهو الحرمة مع السبب المحرم، والرخصة تعترض على مثل هذه العزيمة إلى سببها وحكمها قائمًا فكان هو دلالة قوة الرخصة، فكانت رخصة محضة، فظهر أثر ذلك في رفع المؤاخذة.
فأما في القسم الثاني فالسبب المحرم قائم وهو شهود الشهر إلا أن الحكم متراخ عن السبب، وفي حق المسافر فلكون السبب القائم موجبًا للحكم
كانت الاستباحة ترخصًا للعذر، ولكون الحكم متراخيًا عن السبب كان هذا النوع دون الأول، فإن كمال الرخصة يتبنى على مال العزيمة؛ لأن الرخصة مقابلة للعزيمة فمهما كانت العزيمة أقوى كانت الرخصة أقوى تحقيقًا للمقابلة، مع ذلك كانت العزيمة هي الصوم هاهنا أولى من التأخير إلى حال الإقامة نظرًا إلى قيام السبب في الحال من غير تعلق؛ لأنه لو كان معلقًا لا يجوز الأداء قبل وجود الشرط؛ لأنه لم ينعقد سببًا كثوم السبعة في الحج قبل الرجوع.
(لكمال سببه ولتردد في الرخصة) يعني أن التأخير إنما ثبت رخصة لليسر والرفق، واليسر فيه متعارض؛ لأن فيه نوع يسر وهو الإفطار ونوع عسر وهو الانفراد بالصوم؛ لأن غيره لا يصوم فكان في الصوم في حال الإقامة اليسر متعارضًا بالعسر، وكذلك في الصوم في حال السفر أيضًا اليسر مع العسر متعارضان؛ لأنه إن كان فيه عسر ترك الإفطار وفيه يسر شركة المسلمين، فكان في الأخذ بالعزيمة نوع من الرخصة، فلما كان في الأخذ بالعزيمة أخذ بالرخصة من وجه كان الاخذ بالعزيمة أولى؛ لأن في العزيمة عملًا لله تعالى، وفي التأخير عملًا للنفس.
وهو معنى قوله: (فلذلك تمت العزيمة) أي كان العمل بالعزيمة أولى لتمامها، وتمامها بما ذكرنا هو أن سببها قائم وفي العمل بها عمل لله تعالى وصيانة حق الأداء عند شهود الشهر، وقيل معنى قوله:((تمت العزيمة)) أي انتقصت العزيمة لما أن التمام مستلزم النقصان، كما قيل: إذا تم أمر دنا نقصه بخلاف الفصل الأول، فإن الحكم هناك ثابت في الحال وهوا لحرمة، وكذا السبب قائم فكملت العزيمة وكملت الرخصة أيضًا بمقابلتها.
فكمال العزيمة فيه أثر في أفضلية الأخذ بالعزيمة على وجه لو كان فيه هلاك نفيه كان مأجورًا بخلاف الفصل الثاني؛ لأن في القول الثاني انتقص معنى الرخصة لنوع نقصان في العزيمة وهو معنى قوله: ((فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه)) فلذلك كانت أفضلية الأخذ بالعزيمة مقيدة ببقاء صحته، فإنه إذا أدى إلى هلاك نفسه لم يبق الأخذ بالعزيمة مباحًا له، فلمكان أن السبب الموجب للأخذ بالعزيمة قائم كانت الرخصة حقيقة، ولمكان أن الحكم غير ثابت في الحال كان هذا دون الأول.
(وقد أعرض الشافعي- رحمه الله عن ذلك فجعل الرخصة أولى)، وقال: لما كان حكم الوجوب متراخيًا إلى إدراك عدة من أيام أخر كان الفطر
أفضل ليكون إقدامه على الأداء بعد ثبوت الحكم بإدراك عدة من أيام أخر.
قلنا نحن: الصوم أفضل؛ لأن السبب الموجب قائم فكان المؤدى للصوم عاملًا لله تعالى في أداء الفرائض إلى آخر ما ذكرنا.
وقوله: (إلا أن يضعفه الصوم) استثناء عن قولنا، وهو قوله:((فكانت العزيمة أولى)).
(فلم يكن نظير من بذل نفسه لقتل الظالم) أي من بذل نفيه لإقامة الصوم في السفر حتى أهلك نفيه ليس نظير من أكره على الفطر في صوم رمضان فبذل نفسه حتى قتل، فإن في صبره هناك هو مأجور وفي صبره في سفر غير مأجور؛ بل هو معاقب لكونه قاتلًا نفسه، وعلى المرء أن يحترز عن قتل نفسه بخلاف قتل الظالم عند الإكراه على الفطر لأن الفعل هناك مضاف
إلى فعل الظالم.
وأما هو في الامتناع عن الفطر عند الإكراه مستديم للعبادة مظهر للطاعة عن نفسه في العمل لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين.
(الإصر): الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرد ثقله
(والأغلال): جمع غل، وكل منهما عبارة عن الأمور الشاقة التي كانت على الأمم السابقة مثل التوبة بقتل النفس، كقوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ، ومثل قطع الثوب عند إثابة النجاسة، واختصاص جواز الصلاة بالمسجد وغير ذلك، فهذه الأحكام وضعت عنا أصلًا ولم يكن هي في شريعتنا أصلًا، لكن من حيث إن وضعه عنا تخفيف
محض سمي رخصة بطريق المجاز لمشابهته الرخصة في المعنى وهو التخفيف.
(فكان دون القسم الثالث) أي في استحقاق اسم الرخصة مجازًا لرخصته ولمشابهته بحقيقة الرخصة.
(وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا) لما روي عن النبي عليه السلام أنه ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان))، وروي أنه ((نهى عن بيع الكالي بالكالي)).
وقوله: (مشروعا ولا عزيمة) عطف العزيمة على المشروع في النفي لما أن العزيمة أخص من المشروع؛ (لأن دليل اليسر متعين) في السلم بخلاف
الصوم في السفر، فإن الرخصة فيه مترددة لما أنه يسر من وجه وعسر من وجه على ما مر ذكره.
أما اليسر في السلم فمتعين؛ لأنه بيع المفاليس وليس يشترط وجود البيع، فكان اليسر فيه متعينًا حتى إذا عين المسلم فيه يبطل السلم، فلا يكون السلم نظير الصوم، (وكذلك اليسر في شرب الخمر) متعين، فلذلك لم يبق الخيار فيه للمكره وهو المضطر للعطش.
(لم يستقم صيانة البعض)، والمراد من البعض العقل؛ لأن حرمة أكل الميتة وشرب الخمر باعتبار صيانة عقله عن الفساد، فإذا فاتت نفسه كان هو فائتًا لجميع أجزائه والعقل بعض أجزائه (إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة) يعني في غير حالة الضرورة في هذه الأمة.
(أنقصر) الصلاة (ونحن آمنون) أي غير خائفين إنما تعرض لهذا؛ لأن ظاهر الآية تقتضي اشتراط الخوف لجواز القصر. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
(((فاقبلوا صدقته))) أي اعتقدوا هذا، واعملوا به.
(فصار الاختيار ضروريًا) أي لأجل أن يختار الأرفق عنده لا مطلق الاختيار، وهو أن يكون مختارًا في شيء مع أنه ليس في ذلك الاختيار نفع يعود إليه.
(فأما مطلق الاختيار فلا؛ لأنه إلهي). معناه أن الله تعالى يستحيل أن يعود إليه رفق أو يندفع عنه ضرر؛ لأنه هو الضار النافع على الإطلاق.
وأما الاختيار للعبد في جلب المنفعة أو دفع المضرة، فإذا خلا عنهما لم يصلح هو اختيارًا للعبد؛ لأنه إلهي يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
(بظاهر العزيمة) والرخصة حيث قال: القصر في الصلاة رخصة
والإكمال عزيمة، فكان الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرخصة كما في الصوم.
(لأن الجمعة هي الأصل عند الإذن) فيتعين عليه أداء الجمعة كما في الحر المقيم. هذا الجواب على طريق المنع.
قوله: (ولأنهما مختلفان) هذا على طريق التسليم، يعني ولئن سلمنا أنه
مخير فالفرق بينه وبين ظهر المسافر ظاهر، وهو أن صلاة الجمعة وصلاة الظهر مختلفان، فيستقيم القول بالتخيير هناك.
وأما هاهنا فالظهر بأربع ركعات والظهر بركعتين واحد، فالتخيير بين القليل والكثير في شيء واحد لغو؛ لأنهما مختلفان فاستقام طلب الرفق؛ لأن الشيئين إذا كانا متغايرين لا يتعين اليسر في أحدهما، حتى أن العبد إذا جنى وقيمته عشرون درهمًا وقيمة الأرش ألف درهم يتخير المولى بين الدفع والفداء لتغايرهما وعدم تعين اليسر، فكذلك هاهنا الجمعة مع الظهر مختلفان، ولهذا لا يجوز بناء أحدهما على الآخر فلم يتعين الرفق في الأقل عددًا، وهذا لأن الجمعة قليل في عدد الركعات، ولكن مع تحمل مشقة السعي، والظهر كثير في عدد الركعات مع عدم تحمل مشقة السعي، فيخير المكلف بينهما لعدم تعين الرفق في أحدهما.
(بخلاف العبد لما قلنا) أي إذا جنى العبد يخير المولى بين الدفع والفداء
لما قلنا إنهما متغايران، ولا يتعين في أحد المتغايرين.
(والفصل كان برأ منه)، والدليل على أن ذلك كان تفضلًا منه لا واجبًا عليه؛ قوله تعالى:{فَمِنْ عِنْدِكَ} .
(وهذا تابع مقصود) أي معرفة حكم ضد الأمر والنهي تابع غير مقصود؛ لأن المقصد معرفة حكم الأمر والنهي لا معرفة ضدهما.
* * *