الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان الشرط
(وهو التمكن من عقد القلب) أي من اعنقاده، وإنما كان مقدار ما تمكن من عقد القلب شرطا؛ لأن النسخ قبله يكون بداء؛ لأنه لا يتحقق به الابتلاء.
(فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا).
(وقالت المعتزلة: إنه شرط) بناء على أن المقصود من الأمر فعل المأمور
به عندهم؛ لأن كل ما أمر الله تعالى به فقد أراده، فيكون الفعل هو الأصل فيه عندهم فيشترط التمكن منه.
(لأن العمل بالبدن هو المقصود بكل نهي وبكل أمر نصا)؛ لأن قوله: صل معناه: افعل فعل الصلاة، فالمصدر مذكور لغة فكان ثابتا نصا.
ولا يقال بأنهم ينكرون المعراج فكيف يصح احتجاجنا عليهم بحديث المعراج، لأنا نقول: ينكرون الصعود إلى السماء ولا ينكرون ثبوت المعراج الذي هو الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لما أن ذلك ثابت بالكتاب، وإنكار ذلك مفر صريح -عصمنا الله عنه-
(ولأن النسخ صحيح بالإجماع) إلى آخره يعني أجمعنا واتفقنا على أن وجود جزء من الفعلا أو وجود مدة يتمكن المكلف من الإتيان بجزء من الفعل كاف لجواز النسخ، فيجب أن يكون عند وجود عقد القلب كذلك لما أن عقد القلب مع الفعل بمنزلة فعل ذي جزئين؛ لأنه لا وجود للكل بدون الجزء، فكذلك لا اعتبار للفعل بدون عقد القلب، فلما كفى وجود جزء من الفعل لصحة النسخ وجب أن يكفي وجود عقد القلب أيضا لذلك، فكان كل دليل ذكرتموه في وجود جزء من الفعل لجواز النسخ فهو دليلنا في وجود عقد القلب لجواز النسخ.
(ولأن الفعلا لا يصير قربة إلا بعزيمة القلب) لقوله تعالى: (ومَا أُمِرُوا إلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، ولقوله عليه السلام: "الأعمال
بالنيات"، وعزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل كوجود التصديق في حق من لا يتمكن من الإقرار باللسان، فإن ذلك منه إيمان صحيح بالإجماع، (والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة) أي الفعل أسرع سقوطا من المكلف بالنسبة إلى العزيمة التي هي عبارة عن عقد القلب.
ألا ترى أن الإقرار باللسان قد يحتمل السقوط بعذر، فأما التصديق بالقلب فلا يحتمل السقوط بحال، ولأن ترك العزيمة وهو تبديل الاعتقاد كفر، وترك العمل فسق.
ألا ترى أن العمل بالبدن قد يسقط بالمرض والإغماء وغير ذلك.
وأما القول وهو الاعتقاد فلا يسقط، فكانت العزيمة أثبتت قدما وأقوى ثبوتا؛ لأنها مطلوبة بكل حال، والآخر وهو العمل تردد بين السقوط وغيره، ولأن العزيمة تصلح أصلا للعمل لا على العكس؛ إذ لا اعتبار للعمل بدون العزيمة، وللعزيمة اعتبار بدون العمل في موضع الضرورة بالاتفاق، فكان اعتبار العزيمة في التمكن أولى من التمكن من الفعل، ويجعل الآخر من الزوائد.
يوضحه أن الواحد منا قد يأمر عبده ومقصوده من ذلك أن يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له، ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن يتمكن من مباشرة الفعلا، ولا يجعل ذلك دليل البداء منه وإن كان هو
ممن يجوز عليه البداء، فلأن لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى.
(ألا ترى أن عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل)
هذا جواب عن قولهم: إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، والمأمور به هو المقصود.
قلنا: عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل بدون الفعل، ويلزم من هذا أن لا يجوز النسخ ما لم يوجد الفعل وإن وجد التمكن من الفعل.
فعلم بهذا أن عين الحسن يحصل أيضًا قبل الفعل بعد التمكن بالإجماع، فدل ذلك على أن المقصود منه عقد القلب على حسنه وقبحه لا فعله.
(وقول القائل: افعلوا على سبيل الطاعة أمر) وقيد بالطاعة احترازًا عن صيغة الأمر التي هي للتوبيخ والتقريع
كما في قوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شيءتُمْ).
وقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ) أمر بعقد القلب أي سواء وجد
عمل الجوارح أو لم يوجد، لما أن اعتبار عمل الجوارح إنما يكون عند وجود عقد القلب وإلا فلا اعتبار له، وهذا لأن الطاعة لا تكون بدون عقد القلب على حقية الأمر، وهذا جواب عن قولهم:"الفعل هو المقصود من كل أمر".
(والآخر يتردد بين أمرين) أي بين أن يكون مقصودا وبين أن لا يكون مقصودًا يريد به الفعل.
وقيل: "بين الأمرين" أي بين اللزوم والسقوط، والله أعلم.