الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما
ذكر وجه المناسبة ووجه التأخير عن ذكر الأمر والنهي المقصودين في الكتاب، وقد ذكرنا بغير الضد في ((الوافي)) وهو المهم في الباب.
(وقال بعضهم: يقتضي كراهة ضده) وهذا أدنى مرتبة من قولهم:
يوجب كراهة ضده.
(وقال الجصاص: إن كان له ضد واحد كان أمرًا به) حتى لو قال: لا تتحرك يكون أمرًا بالسكون، وإن كان له أضداد لم يكن أمرًا بشيء منها، حتى لو قال: لا تقم لا يكون أمرًا بالقعود ولا بالركوع ولا بالسجود ولا
بالاضطجاع.
(ألا ترى أنه لا يصلح دليلًا لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له أولى)، وهذا لأن الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء ولإيجابه، والأمر ساكت عن ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل، فلأن لا يوجب حكمًا في ضد ما وضع له كأن أولى، ونظير ذلك قوله عليه السلام:((الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا))، وتقديره: بيعوا الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل على ما يجيء في القياس إن شاء الله تعالى، فموجب الأمر وجوب التسوية بينهما كيلًا، وحرمة الفضل فيما يتناوله الأمر وهو الحنط والشعير وغيرهما من الأشياء الستة، فالأمر ساكت عن غير هذه الأشياء، ولا دلالة له في ثبوت موجبه في غير هذه الأشياء لا نفيًا ولا إثباتًا.
ولو ثبت حكم هذه الأشياء في غيرها إنما يثبت بالتعليل لا بدلالة النص على ذلك، فلما لم يصلح هذا النص دليلًا على ما وضع له في غير ما تناوله فلأن لا يكون دليلًا على ضد ما تناوله هذا النص كان أولى، وضد هذا النص هو أن يقال: لا تبيعوا الحنطة بالحنطة متفاضلًا.
ثم عند هؤلاء وهم الفريق الأول إنما يعاقب إذا فعل ضد المأمور به؛ لأنه لم يأتمر بالأمر؛ لأن الضد عندهم ليس بحرام لعدم تناول هذا الأمر ضده، ولم يجئ صريح النهي في ضد هذا الأمر وهذا العقل فاسد؛ لأنه يؤدي إلى استحقاق العبد العقاب بما لم يفعله، وهو بطل لمخالفة العقل والسمع.
أما العقل: فإن المرء لم يعاقب على العدم؛ لأن العقاب شيء والعدم ليس بشيء، فكيف يجوز بناء الموجود على المعدوم؟
وأما السمع: فقال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وغيرهما من آيات الوعيد.
فإن قلت: كما أن استحقاق العبد العقاب موقوف إلى وجود الفعل القبيح منه فكذلك استحقاقه الثواب الحسن موقوف إلى وجود الفعل الحسن منه، وأيده قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} والسعي أمر وجودي، فيجب أن لا يستحق العبد الثواب الحسن إلا بالسعي الجميل وهو اكتساب الطاعات، ثم قد يحصل له الثواب الحسن بالأمر العدمي وهو الانتهاء عن ارتكاب المنهي عنه، فإن الانتهاء ليس إلا بإبقاء المنهي عنه عدمًا كما كان وهو في ذلك مثاب بالجزاء الحسن. قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} فيجب أن يكون في استحقاق العقاب كذلك بأن لا يشترط الفعل القبيح.
قلت: أما قوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أخبر عن النهي أي المنع وهو فعل، وكذلك الانتهاء الذي يستحق به الثواب عبارة عن ترك الفعل القبيح شرعًا، وترك الفعل فعل لما فيه من استعمال أحد الضدين كالسكون يكون تركه بالحركة وهو فعل.
وحاصله أن موجب النهي الانتهاء وهو الامتناع عن المباشرة، ثم إن دعته نفسه إلى المباشرة يلزمه الترك والترك فعل منه فيثاب به، فكان مثابًا بالفعل، وإن كان الانتهاء قد يتحقق بدون الترك الذي هو الفعل.
ألا ترى أنا لامتناع الذي به يتحقق الانتهاء يستغرق جميع العمر، والترك الذي هو فعل لا يستغرق، فإنه قبل أن يعمل به يكون منتهيًا بالامتناع منه، ولا يكون مباشرًا للفعل الذي هو ترك الإتيان به، فإن ذلك لا يكون إلا عن قصد منه بعد العلم به.
وبيان هذا أن الصائم مأمور بترك اقتضاء الشهوتين في حال الصوم فلا يتحقق منه هذا الفعل ركنًا للصوم حتى يعلم به ويقصده، والمعتدة ممنوعة من الخروج والتزوج والتطيب، وذلك ركن الاعتداد، ويتم ذلك وإن لم تعلم به
حتى يحكم بانقضاء عدتها بمضي الزمان قبل أن تشعر به، وعلى هذا لو قال لامرأته: إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق ثم قال: لا أشاء طلاقك- لم تطلق، ولو قال: إن أبيت طلاقك فأنت طالق، ثم قال: قد أبيت- طلقت؛ لأن الإباء فعل يقصده ويكسبه فيصير موجودًا بقوله: ((قد أبيت)) ولا يكون ذلك مستغرقًا لعمره، وعدم المشيئة عبارة عن امتناعه من المشيئة وذلك يستغرق عمره، فلا يتحقق وجود الشرط بقوله:((لا أشاء)) ولا بامتناعه من المشيئة في جزء من عمره. هكذا ذكره الإمام المحقق شمس الأئمة- رحمه الله في نهي ((أصول الفقه)).
(واحتج الجصاص- رحمه الله بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده، ولا وجود له مع الاشتغال بشيء من أضداده) فلذلك استوى فيه ما يكون له ضد واحد أو أضداد، فبأي ضد اشتغل ينعدم ما هو المطلوب.
ألا ترى أنه إذا قال لغيره: اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام ينعدم ما أمر به وهو الخروج.
(وأما النهي فإنه للتحريم ومن ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد)، فإن قول القائل: لا تتحرك يكون أمرًا بضده وهو السكون؛ لأن المنهي عنه ضدًا واحدًا.
(وأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه إتيان كل أضداده) فإنه إذا قال لغيره: لا تقم فللمنهي عنه أضداد من القعود والاضطجاع والركوع والسجود فلا موجب لهذا النهي في شيء من أضداده، فلذلك لا يكون مأمورًا بأضداده.
فإن قلت: ينبغي أن يكون مأمورًا بأحد الأضداد على طريق الإجمال كما في كفارة اليمين؛ لأن الانتهاء لا يتحقق إلا بالاشتغال بأحد الأضداد.
قلت: الأمر بأحد الأشياء على طريق الإجمال إنما يصح في الأمر القصدي كما في كفارة اليمين.
وأما في الأمر الذي يثبت من ضرورة حكمه النهي فلا؛ لأن في الأمر القصدي المقصود حصول الائتمار، وبفعل كل واحد يحصل الائتمار فيصح، وأما في النهي فالمقصود تحريم فعل المنهي عنه والانتهاء عن الإتيان بذلك الفعل المنهي عنه، وفي حصول الانتهاء الاشتغال بكل واحد من الأضداد مستو، ثم لو قلنا: بأن المنهي مأمور بالإتيان بكل أضداد المنهي عنه كان قولًا بالأمر بضد
النهي من غير ضرورة، فإن الانتهاء يحصل بالاشتغال بواحد منها فلا يحتاج إلى الاشتغال بالآخر، فكذلك لا يكون مأمورًا بالكل وفي كونه مأمورًا بواحد منها يلزم ترجيح أحد المتساويين من غير مرجح فلا يصلح ذلك أيضًا.
وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: وقول من يقول بأن مثل هذا النهي يكون أمرًا بأضداده يؤدي إلى القول بأن لا يتصور من العبد فعل مباح أو مندوب إليه، فإن المنهي عنه محرم أضداده واجب بالأمر الثابت بمقتضى النهي، فيكون يتصور منه فعل مباح أو مندوب إليه.
ألا ترى أن من قال لآخر: لا تأكل أمرًا بقوله: اترك الأكل، قوله: اترك الأكل أمر فيوجب عليه ما يحصل به ترك الأكل من القراءة والتكلم والمضمضة والذهاب والبول والتغوط والجماع وغيرها، فإن بكل منها يحصل ترك الأكل على الكمال، والأمر بالشيء طلب لتحصيل المأمور به على أبلغ الجهات فلا يبقى فعل مباح، وفي اتفاق العلماء على أن أقسام الأفعال التي يأتي بها العبد عن قصد أربعة: واجب ومندوب إليه، ومباح ومحظور- دليل على فساد قول هذا القائل.
قال: أي الجصاص.
(ولم يكن مأمورًا بلبس شيء متعين من غير المخيط)؛ لأن غير المخيط غير متعين في شيء واحد؛ لأن له أنواعًا.
فإن قلت: المنهي عنه مخيط فيكون ضده غير مخيط وهو شيء واحد فكان نظير الإظهار مع الكتمان.
قلت: ليس كذلك، فإن الإظهار والكتمان ليس له أنواع بخلاف المخيط مع غير المخيط؛ فإن لكل واحد منهما أنواعًا والذي ذكرت أن المخيط ضده غير المخيط وهو لا يقدح لما قلنا، فإن مثل هذا متحقق بين القيام وضده، فإن ضد القيام هو ترك القيام ولا واسطة بينهما صورة وبينهما واسطة في المعنى، فإن لضده أنواعًا من القعود والاضطجاع والركوع والسجود.
(إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به) يعني أن الأمر لما كان نهيًا عن ضد ما نسب إليه يثبت أدنى ما يثبت به النهي وهو الكراهة كما في النهي لمعنى في غير المنهي عنه بطريق المجاورة كالبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، فكذلك في النهي الثابت بضد الأمر؛ لأن الثابت لغيرة بطريق الضرورة لا يتساوي الثابت بالأمر المقصود، ولما كان كذلك لم يجز
استواهما، إذ لا مساواة بين المثبت بطريق الضرورة وبين المثبت قصدًا واعتبر هذا بالثابت بطريق الاقتضاء والثابت بالنص.
(وأما الذي اخترناه) وهو قوله: إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به (فبناء على هذا) وهو أن الثابت بغير ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه، (ومعنى الاقتضاء هنا أنه ضروري غير مقصود) يعني أن هذا الاقتضاء على خلاف الاقتضاء المصطلح من وجه، فإن الاقتضاء المصطلح هو جعل غير المنطوق منطوقًا ليصح المنطوق، وهاهنا يصح الأمر بدون إدراج غيره.
لكن ما ثبت الانتهاء ضرورة إثبات المأمور به سمي اقتضاء، وبهذا التقرير خرج الجواب عن قوله: بان كل واحد من القسمين ساكت عن غيره؛ لأنا لما أثبتناه اقتضاء لم يكن كل واحد منهما ساكتًا عن ضده.
(فصار بهذه الواسطة أمرًا) أي فصار النص بواسطة عدم مشروعية الكتمان أمرًا بالإظهار، وهذا مثل قوله عليه السلام:(((لا نكاح إلا بشهود))) وهو نسخ للنطاح بغير شهود ولا نهي، فكان نص الحديث بواسطة عدم
مشروعية النكاح بغير شهود أمرًا بإحضار الشهود في النكاح.
(وفائدة هذا) الأصل وهو أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده؛ (أن التحريم إذا لم يكن مقصدًا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر) أي لم يجعل ضد المأمور به حرامًا إلا إذا تضمن الاستعمال بالضد تفويت المأمور به حينئذ يكون الاشتغال بضد المأمور به حرامًا.
(وأما إذا لم يفوته كان مكروهًا) لا حرامًا لتقريبه إلى الحرمة؛ إذ الحكم يثبت على حسب ثبوت العلة كالأمر بالقيام كما في الركعة الثانية، وهو مأمور بالقيام، ثم هو لو قعد مع ذلك في الركعة الثانية لا يحرم ذلك عليه بل يكره لما قلنا إنه ليس بتفويت للقيام بل هو تأخير له.
(ولهذا قلنا: إن المحرم لما نهي عن لبس المخيط كان من السنة بس الإزار والرداء)؛ لأن ذلك أدنى ما يقع به الكفارة من غير المخيط، (ولهذا قلنا): إن العدة لما كان معناه النهي عن التزوج) إلى آخره إيضاح لقوله: ((إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما ثبت به)) أي ولما ثبت وجوب العدة بالنهي
قصدًا لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ} وبقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} كان ثبوت أمر الكف في ضده أمرًا غير مقصود، فظهر أثره في انقضاء العدتين والعدد في مدة واحدة؛ لأنه لا تضايق في موجب النهي لكونه أمرًا عدميًا وكونه للتحريم (بخلاف الصوم، فإن الكف وجب بالأمر مقصودًا فيه) وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلذلك لم يتحقق أداء صومين في يوم واحد لتضايق في ركن كل صوم وهو الكف إلى وقت فإنه ثابت بالأمر نصًا، ولا يتحقق اجتماع الكفين في وقت واحد.
فإن قلت: في حق وجوب العدة كما جاء نص النهي بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} وقوله {وَلا يَخْرُجْنَ} كذلك جاء نص الأمر بقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وهذان النصان يحتمل أن يكون كل واحد منهما أصلًا والآخر تبعًا، فمن أين يرجح جانب النهي على جانب الأمر حتى جعل النهي أصلًا والأمر ضمنًا له، فلم لم يجعل على العكس؟
قلت: إنما جعل هكذا بالنظر إلى الأثر وبالنظر إلى المعقول.
أما الأثر: فإن العدة أثر من آثار النكاح فكانت ملحقة بالنكاح ملحقة بالنكاح، والمنكوحة يحرم عليها التزوج وهي منهية عن لقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} وهي معطوفة على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} والمراد بها ذوات الأزواج.
فلما كانت المعتدة منهية عن التزوج باعتبار أن العدة من آثار النكاح كان الكف عن التزوج أمرًا به في ضده تحقيقًا للنهي عن التزوج فلم يكن الأمر بالكف مقصودًا لهذا، فيثبت بهذا أصالة النهي في العدة، فلما كان كذلك كان ورود صيغة الإثبات بوجوب التربص بقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} لتأكيد معنى النهي لا لإثبات وجوب التربص ابتداء، فلذلك انقضت العدد كلها بمدة واحدة؛ لأن حكم الكل هو حرمة التزوج؛ لأن موجب النهي التحريم والحرمات تجتمع، فإن الصيد حرام على المحرم في الحرم لحرمة الحرم وحرمة الإحرام، والخمر حرام على الصائم لصومه ولكونها خمرًا، وليمينه إذا كان حلف لا يشربها. بخلاف ركن الصوم، فإنه مذكور بعبارة الأمر بقوله:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلذلك لم ينقض صوم يومين في يوم واحد.
وأما المعقول: فهو أن المعنى في وجوب العدة صيانة الماء عن الاشتباه وتعرف
براءة الرحم، فالصيانة الثابتة بالنهي أوجب من الصيانة الثابتة بالأمر لما عرف، فكان إحالة وجوب العدة على النهي أولى من إحالته على الأمر من هذا الوجه.
فإن قلت: لو كان المعنى في وجب العدة تعرف براءة الرحم لاكتفى بحيضة واحدة لحصول معرفة براءتها بالحيضة الواحدة كما في الاستبراء.
قلت: نعم كذلك، لكن الوجه فيه ما قاله في ((المبسوط)) وهو أن الحيضة الواحدة لتعرف براءة الرحم، والثانية لحرمة النكاح، والثالثة لفضيلة الحرية، فلذلك لم تتداخل أقراء العدة الواحدة إن تداخلت أقراء العدتين. كالجلدات في الحد فإنها لا تتداخل في الحد الواحد وتتداخل الحدان، فلو قلنا بالتداخل في أقراء فإنها تتداخل في الحد الواحد وتتداخل الحدان، فلو قلنا بالتداخل في أقراء عدة واحدة يفوت هذا المقصود، فظهر بما ذكرنا كله إن أثر عدم مقصودية الأمر في وجوب العدة ظهر في مسألتين.
إحداهما- في جواز تداخل العدتين في وقت واحد.
الثانية- في عدم اشتراط علم المرأة بانقضائها بخلاف الصوم في هذين الحكمين لما أن الأصل في وجوب العدة النهي وفي الصوم الأمر على ما ذكرنا.
(ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله إن من سجد) هذا إيضاح لقوله: ((إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين)) إلى آخره كالمتقدمين، إلا أن ذينك المتقدمين أعني قوله:((ولهذا قلنا إنا لمحرم لما نهي)) وقوله: ((ولهذا قلنا إن
العدة)) في بيان أن ذينك أصل وثبت الأمر في ضمنهما، وهذا أعني قوله:((ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله-في بيان أن الأمر أصل، وثبت النهي في ضمنه ولكن هما سواء في إيضاح قوله: إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به)).
(وإنما المقصد بالأمر فعل السجود) بقوله: {وَاسْجُدُوا} (على مكان طاهر) بدلالة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ومباشرة العبد بالسجود على مكان نجس لا تفوت المأمور به فكانت مكروهة في نفسها ولا تكون مفسدة في الصلاة، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- تفسد بها الصلاة؛ لأن تأدي المأمور به لما كان باعتبار المكان فيما يكون صفة للمكان الذي يؤدي المصلي الفرض عليه يجعل بمنزلة الصفة للمصلي حكمًا، فيصير هو كالحامل لنجاسة، والمصلي الحامل للنجاسة إذا أدى ركنًا يفسد صلاته فكذلك إذا سجد على مكان نجس فكان هذا كالصوم، فإن الكف عن اقتضاء الشهوة لما كان مأمورًا في جميع وقت الصوم يتحقق الوات بوجود ترك الكف في جزء من الوقت فيه.
(ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله إن إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة)، وهذا أيضًا من قبيل أن الأمر بالقراءة مقصود في الصلاة، فكان النهي عن ترك الدوام فيها ضمنًا له؛ لأنه أمر بالقراءة أي بقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} .
(ولم ينه عن تركها قصدًا) إلى آخره. معناه أن القراءة ركن وشرط لصحة الأفعال لا شرط صحة الإحرام، ولا يلزم من ترك القراءة انقطاع الإحرام.
ألا ترى أن المحدث حدثًا سماويًا ممنوع عن قراءة القرآن كما ممنوع عن الركوع والسجود، والإحرام باق، فيفسد ترك القراءة ما هو شرط صحته، فلم يتعد إلى الإحرام.
ولا يلزم أن الصوم يبطل بالأكل) هذا الإشكال يرد على قول أبي يوسف، فوجه الورود هو أن الأكل في باب الصوم منهي عنه نهيًا ضمنيًا؛ لأن الأمر بالكف عن المفطرات هو المقصود من قوله تعالى:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} على ما ذكرنا، فكان النهي عن المفطرات نهيًا ثابتًا في ضمن الأمر
بالكف كالنهي الثابت عن ترك القراءة في الأمر بالقراءة في الصلاة، وهناك لا تنقطع التحريمة بترك القراءة عنده، فيجب أن لا يفسد الصوم هنا أيضًا بمجرد مباشرة النهي عنه وهو الأكل وغيره.
ثم أجاب عنه بقوله: لأن ذلك الفرض ممتد، وكان ضده مفوتًا أبدًا كالإيمان، (فإنه فرض ممتد فكان) وجود (ضده) وهو الارتداد- والعياذ بالله- (مفوتًا له) وإن قل، وقد قلنا إن النهي الثابت في ضمن الأمر المقصود إنما لم يعتبر في التحريم إذا لم يؤد إلى تفويت الثابت بالأمر المقصود.
وأما إذا أدى فذلك النهي والنهي الثابت قصدًا سواء في إيجاب التحريم.
(بمنزلة الحامل مستعملًا له بحكم الفرضية) أي بهذه الواسطة تجعل صفة المكان صفة للمصلي، وهذا احتراز عن وضع الركبتين واليدين على النجاسة حيث لا يفسد صلاته؛ لأن تأدى المأمور به وهو السجود يحصل بوضع الجبهة لا بوضع الركبتين واليدين، فلم تنتقل صفة النجاسة القائمة بالأرض إلى المصلى؛ لأنه هو الأصل، وإنما انتقل إلى المصلى بحكم الفرضية، وهذا المعنى معدوم في وضع الركبتين واليدين.
(لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكمًا) لقوله عليه السلام: ((لا صلاة إلا بالقراءة)) ولهذا لا يصلح الأمي خليفة القارئ، وإن كان قد رفع رأسه من السجدة الأخيرة قبل القعدة، وأتى بفرض القراءة في محلها على المذهب المنصور، ولما كان مستدامًا حكمًا يتحقق فوات ما هو الفرض بترك القراءة في ركعة، فيخرج به من تحريمة الصلاة.
(والفساد بترك القراءة في ركعة واحدة ثابت بدليل محتمل)؛ لأن من العلماء من قال: تجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة وهو الحسن البصري- رحمه الله، فبترك القراءة في ركعة واحدة لم يكن الفساد بدليل يوجب العلم فلم يكن قويًا فلم يتعد إلى الإحرام.
وأما الفساد بترك القراءة في الركعتين فثابت (بدليل يوجب العلم لانعقاد الإجماع) عليه فصار قويًا (فتعدى إلى الإحرام).
(ولهذا قال في مسافر ترك القراءة) إلى آخره، وهذا أيضًا إيضاح لقوله:((لأنه أمر بالقراءة ولم ينه عن تركها قصدًا)) فكذلك مباشرة النهي وهي ترك القراءة لم يوجب انقطاع التحريمة لثبوت النهي ضمنًا للأمر القصدي، وقوله:((وهو قول أبي يوسف)) جعل هذا في نوادر صلاة ((المبسوط)) قول أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- وقال: ترك القراءة في ركعتي ظهر المسافر موجب للتوقف في حكم الفساد عند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- لتوقف حال فرضية في الوقت بغرض التغير بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة في الانتهاء جعل ذلك كنيته في الابتداء، وترك القراءة في الأوليين من المقيم لا يكون مفسدًا لصلاته، فإنه إذا قرأ في الأخريين تجوز صلاته، فكذلك هنا.
(لأن الترك متردد محتمل للوجود) أي محتمل لوجود القراءة في الركعتين الأخريين بواسطة نية الإقامة والقراءة في الأخريين.
(فصار هذا الباب أصلًا) يعني في كل موضع من الأمر يلزم تفويت المأمور به عند مباشرة النهي الثابت في ضمن ذلك الأمر كانت تلك المباشرة حرامًا إلا كانت تلك المباشرة مكروهًا لا حرامًا.
(يبتنى عليه فروع يطول تعدادها)، فإنك لو نظرت إلى جميع الأوامر التي هي موجبة يرد فيها هذا الأصل الذي ذكرته، فمن تلك الفروع الاعتكاف فإنه يبطل بالخروج وإن قل لما أن الاعتكاف عبارة عن اللبث الدائم في المسجد بنية الاعتكاف فبالخروج ينقطع الدوام، فكان الخروج حرامًا لأدائه إلى فساد الاعتكاف.
ومنها أيضًا الصلاة تفسد بالانحراف عن القبلة بالبدل؛ لأن المصلي مأمور بالاستقبال إلى القبلة مادام هو في صلاته أي في غير حالة الضرورة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فكان الانحراف عنها مفوتًا له فيحرم.
ومنها أن المصلى مأمور بأن يؤدي صلاته في الوقت بقوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} فكان القضاء خارج الوقت مفوتًا له فيحرم.
وأما المواضع التي لا تحرم بل تكره كمواضيع الكراهة في الصلاة وغيرها فمنها: الصلاة بقرب النجاسة مكروه لا مفسد؛ لأن المصلي مأمور بتظهير مكان صلاته بدلًا قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولم يفت ذلك المأمور به هاهنا، ولكن قرب من الفوات، فصارت صلاته مكروهة لا فاسدة، فصار كمن أخر القيام في موضع أمر بالقيام في صلاته.
وكذلك لو أدى النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يخرج به عن عهده الزكاة، ولكنه يكره لما أن المأمور به وهو إيتاء الزكاة إلى الفقير لم يفت، ولكن قرب هذا الأداء الفقير إلى الغني فصار شبيهًا بمن أدى زكاته إلى الغني من وجه فكره لذلك.
وكذلك هذا في طرف النهي أنه إذا كان مقصودًا كان المنهي مأمورًا بأن يترك ارتكاب المنهي عنه على القطع والبتات، فلو كان فعلًا يقربه إلى ارتكابه كان تركه سنة أو مستحبًا، يظهر ذلك في قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وغيرهما، والله أعلم.