الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب بيان أقسام السنة
(وإنما هذا الباب) أي باب السنة (لبيان وجوه الاتصال) من التواتر وغيره (وما يتصل بها) أي بوجوه الاتصال من قسم الانقطاع وبيان محل الخبر وغيرهما (فيما يفارق الكتاب وتختص السنن به)، وذلك أن الثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف طرقه، بعضه بالتواتر وذلك قليل، وبعضه بالشهرة، وبعضه بخبر الواحد، وفي الكتاب لا يتأتى هذه المعاني، بل هو
ثابت بطريق واحد موجب للعلم وهو التواتر، فلثبوت هذه المفارقة بين السنة والكتاب أورد هذا الباب.
[باب المتواتر]
(وما أشبه ذلك) مثل مقادير الديات، (وهذا القسم) أي قسم الخبر المتواتر (يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علمًا ضروريًا) وكان شيخي- رحمه الله-
يقول: ولهذا ثبت العلم بموجب التواتر على القطع والبتات لغير المستدل ما يثبت ذلك للمستدل، فلو كان ثبوت العلم به موقوفًا على الاستدلال لما ثبت به العلم لغير المستدل.
(وهذا رجل سفيه). السفيه هو الذي يشتغل بما ليس له عاقبة حميدة ويلحقه ضرر ذلك، كذا ذكره الإمام أبو منصور- رحمه الله (لم يعرف نفسه ولا دينه ولا دنياه).
أما نفسه: فلكونه مخلوقًا من ماء مهين ثبت بالخبر ولم يكن الخبر موجبًا للعلم. ((لم يعرف نفسه)) أي لم يعرف أصل نفسه.
فإن قلت: لو قال قائل: لا نسلم أن عرفان نفسه أنه مخلوق من ماء مهين بالخبر بل بالقياس على غيره أو على ولده أو المولود منه، فإنه لما عاين ولده أنه ولد من امرأته بعد المباشرة بها أضاف وجود ولده إلى وجود مائها؛ لأنه أقرب الأسباب إليه وجودًا، فبعد ذلك قاس وجود نفسه عليه.
ألا ترى أن الكافر الذي ينكر قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} يعتقد هذا كما يعتقد المؤمن به، فلو كان ثبوته بالخبر بهذا لاختص به المؤمن.
قلت: لا كذلك، فإن مآل ذلك القياس الذي ذكرته راجع إلى الخبر، وهذا لأن أسباب العلم منحصرة على الثلاثة: الحواس الخمس، والخبر الصادق، والعقل، فليس لأحد من الخلق وجود غيره أو وجود ولده أنه خلق
من ماء مهين بمغاير له؛ لأنه لم يعانيه ولا يحكم العقل بأن يخلق الشخص الحيواني المنطيق البليغ العاقل الدراك لأنواع العلم الموصوف بمحاسن الحكم من ذلك الماء الجمادي الذي لا محاسن بينه وبينه، فلما خرج دليل البيان من البين بقي الخبر الصادق بالعين، ولأن القياس لا يثبت العلم القطعي بل يوجب غلبة الظن الذي يجب به العلم، ومن يعرف نفسه أنه خلق من ماء مهين يعرفه على القطع والبتات، وأما ما ذكرته من معرفة المنكر نفسه بأنه خلق من الماء فأصله راجع إلى الخبر أيضًا، فإن أبانا آدم عليه السلام كان نبينا وأخبر هو بأن أولاده مخلوقون منا لماء وحيًا، وكذلك ما بعده من الشرائع نطق به، ونزل القرآن على وفق ذلك فيه كما قال الله تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} ، ولكن الكافر لعباده أنكر نزول القرآن، وإنكاره لا يبطل حقية الحق والصواب، بل يزيد هو على نفسه شدة العقاب.
ويجوز أن يقال معنى قوله: ((لم يعرف نفسه)) أي لم يعرف أنه كان في الابتداء صغير ثم نشأ وكبر، ومعرفة إنما تكون بالخبر.
وكذلك أيضًا من أنكر الخبر لا يعرف دينه وهو ظاهر؛ لأن الدين حقيقة الخبر والسماع خصوصًا في أحكام الدين وهي الشرائع، ولا يعرف دنياه
أيضًا؛ لأن البلدان النائية من الدنيا لا يعلمها إلى من عاينها أو أخبر بها، فعلى قود كلام منكر الخبر لا يعرف وجودها من لم يعاينها.
(لا تكاد تقع أمورهم إلا مختلفة)، وهذا لأن الله تعالى خلق الخلق أطوارًا على طبائع مختلفة وهمم متباينة يبعثهم ذلك على الاختلاف والتائن أبدًا، والاتفاق بعد ذلك مع الأسباب الموجبة للاختلاف لا يكون إلا بجامع جمعهم على ذلك، وفيه حكمة بالغة، وهي: بقاء أحكام الشرع بعد وفات المسلمين على ما كان عليه في حياتهم، فإن النبوة ختمت برسول الله عليه السلام، وقد كان مبعوثًا إلى الناس كافة وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن بما يخبر به.
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا الخطاب يتناول الموجودين في عصره والذين يؤمنون به إلى قيام الساعة، ومعلوم أن الطريق في الرجوع إليه ليس إلا الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، فبهذا تبين أن ذلك كالمسموع منه في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا بالحق خصوصًا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت بالسماع منه علم اليقين.
التخالج: در دل خليدن الوهم، دل تحيري شدن.
((وضعًا وتحقيقًا)) أي المتواتر يوجب علم اليقين من حيث الأصل ومن حيث الدليل.
(والطمأنينة على ما فسره المخالف) وهو ما ذكر قبله: ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم.
فإن قلت: يفسد تفسير الطمأنينة بقوله: ((عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك)) ويفسده أيضًا في الجواب بقوله: ((على ما فسره المخالف)) يقتضي أن يكون لها معنى آخر وما ذاك.
قلت: نعم كذلك لها معنى آخر سوى ما فسروه، وهو: أن يوجب علم اليقين بحيث لا يتخالجه شك ولا يعتريه وهم، كما قال الله تعالى خبرًا عن إبراهيم عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ولا شك أن اطمئنان قلبه مما لا يتخالجه شك ولا يعتريه وهم.
فعلم بهذا أن الطمأنينة تطلق على علم اليقين الذي لا يتخالجك الشك.
(وأما أخبار زرادشت اللعين فتخييل)،
قيل: هو كان في عهد كيقباذ أمير بلخ وهو أراد أن يتزوج أخت زرادشت وهي كانت في غاية الجمال، وزرادشت مان في الابتداء قاضيًا وادعى النبوة والأمير بايعه لطلب مقصوده، والمجوس اتفقوا على نقل
معجزاته عندهم، وقد كانوا أكثر عددًا من المسلمين، فنقلوا على وفق ما يدعونه.
(أدخل قوائم الفرس في بطن الفرس) فبقى الرس معلقًا في الهواء، وكذا روي أنه وضع طست فيه نار على صدره فلم يضره، (فإنما رووا أنه فعل ذلك في خاصة الملك وحاشيته).
الحاشية: صغار الناس. الوضع: من المواضع، فالمواضعة في الأمر هي: أن توافق مع آخر فيه على شيء، وحقيقتها هي: أن تضع ما في قلبك من الرأي عنده، ويضع هو أيضًا ما في قلبه من الرأي عندك فيتفقا عليه.
(وعلى أنه ألقي على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه كما قص الله تعالى)، فإنه جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه:
من يرد منكم أن يلقي الله تعالى شبهي عليه فيقتل وله الجنة، فقال رجال أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فقتل هو، ورفع عيس عليه السلام إلى السماء.
فإن قيل: هذا القول في نهاية منا لفساد؛ لأنه فيه قولًا بإبطال المعارف أصلًا وبتكذيب العيان، وإذا جوزتهم هذا فما يؤمنكم منه مثله فيما ينقل بالتواتر عن رسول الله عليه السلام أن السامعين إنما سمعوا ذلك من رجل كان عندهم أنه محمد، ولم يكن هو إنما ألقى الله شبهه على غيره، ومع هذا القول لا يتحقق الإيمان بالرسل عليهم السلام لمن يعاينهم لجواز أن يكون شبهة الرسل ملقى على غيرهم كيف والإيمان بالمسيح عليه السلام كان واجبًا عليهم في ذلك الوقت فمن ألقي عليه شبهة المسيح فقد كان الإيمان به واجبًا وفي هذا قول بأن الله تعالى أوجب على عباده الكفر بالحجة وهي المعجزة، فأي قول أقبح من هذا!
قلنا: ليس الأمر كما قلتم؛ فإن إلقاء شبهة المسيح عليه السلام على غيره غير مستبعد في القدرة ولا في الحكمة، بل فيه حكمة بالغة وهي دفع شر الأعداء عن المسيح، وقد كانوا عزموا على قتله، والذين قصده بالقتل فقد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون به، فألقى شبهه على غيره على سبيل الاستدراج لهم ليزدادوا طغيانًا، ومثل ذلك لا يتوهم في حقل قم هم يأتون الرسل ليؤمنوا
بهم، فظهر أن الفاسد قول من يقول: بأن هذا يؤدي إلى إبطال المعارف.
وأما أنه غير مستبعد في القدرة فغير مشكل، فإن إلقاء الشبه دن إيجاد الأصل لا محالة، وقد إبليس عليه اللعنة في صورة شيخ من أهل نجد ومرة في صورة سراقة بن مالك فكلم المشركين فيما كانوا هموا به في باب رسول الله عليه السلام، وفيه نزل قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
ورأت عائشة- رضي الله عنها دحية الكبلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
أخبرته بذلك قال ((كان معي جبريل عليه السلام) كذا في ((أصول الفقه)) للإمام شمس الأئمة- رحمه الله.
وعن هذا المعنى قيد في الكتاب قوله: (وذلك جائز استدراجًا ومكرًا على قوم متعنتين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون)،
فبطلت هذه الوجوه التي ذكرها مخال من التخييلات وكون أصله في
عدد محصور وعلى تلبيس؛ لأن المتواتر الذي قلنا بأنه يوجب العلم ليس مما يكن تخييلًا، ولا مما يكون بخاصة الملك وحواشيه، ولا يكون مرجعه إلى الآحاد أيضًا، فكان حجة قطعية، والله أعلم.
* * *