المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب بيان التغيير - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ٣

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌باب بيان التغيير

‌باب بيان التغيير

فقولنا:"بيان التغيير" معناه: بيان هو تغيير كما يقال: علم الفقه وعلم الطب، وهو ما تغير من موجب الكلام الذي ذكر، أو لأنما ذكر في آخره من الشرط والاستثناء.

(وعلي هذا إجماع الفقهاء) خلافا لإبن عباس رضي الله عنهما -في الاستثناء، فإنه جوز الاستثناء متراخيا.

ص: 1441

وحكاية أبي حنيفة رضي الله عنه مع أبي جعفر الدوانيقي معروفة، وهي أنه كان خليفة فاستقبله أبو حنيفة رضي الله عنه يوما وأخذه أبو جعفر بتكنيته وقال: أنت الذي خالفت جدي! فقال أبو حنيفه - رحمة الله عليه -: أتناظرني أم تقاتلني؟ فقال أناظرك، فقال له أبو حنيفه - رحمة الله عليه -لو صح الاستثناء متراخيا بارك الله في بيعتك، يعني لو استثنوا بعد البيعة كيف تبقي بيعتك صحيحة! فسكت فأرسله.

ص: 1442

(فصار الشرط مغيرا له من هذا الوجه)؛ لأن موجب صدر الكلام التنجيز فغير الشرط هذا الموجب.

(فاما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان)؛ لأن النسخ: رفع للحكم الأول وإثبات للحكم الثاني فلا يكون بيانا، إلا أن هذا القول وقع مخالفا لما ذكر من قبل هذا بأن النسخ هو بيان التبديل فقال: في باب النسخ وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلقالذي كان معلوما عند الله تعالى.

قلنا: تأويل هذا هو كون النسخ بيانا في حق صاحب الشرع؛ لأن حد البيان موجود في حقه وهو من ابتداء وجود الكلام، فكان في النسخ في حق الله تعالى إظهار ابتداء وجود الكلام المطلق في أن شرعية الحكم الثابت به إلي هذا الوقت؛ لانه عند الشرع المنسوخ كان الله تعالى عالما ببقاء شرعيته

ص: 1443

إلى وقت مقدر، فلما نسخه كان ذلك بيانا لما كان علمه قبل ورود النسخ.

وأما قوله ها هنا: "فاما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان" أي في حق العباد؛ لأن العباد كانوا لا يعلمون قبل ورود الناسخ انتهاء شرعية المنسوخ، فلا يكون النسخ بيانا لما يظهر من ابتداء وجود الكلام، بل يكون رفعا لشرعية المنسوخ بعد وجودها فلا يكون بيانا.

(ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب) يعني أن المعلق بالشرط يظهر كونه عند وقوع الشرط وهو في الحال غير موجب بل ينقلب موجبا عند وجود الشرط.

(ألا تري أن التعلق بالشرط والاستثناء لو صح كل واحد منهما متراخيا كان ناسخا)؛ لأن قوله: أنت طالق إذا تعري عن الشرط يقع الطلاق بالإتفاق، فلو صح الشرط بعد ذلك لكان رفعا للحكم الثابت

ص: 1444

كالنسخ، فإن النص الموجب لحكم لما أثبت الحكم الثابت بالنص المعارض بعد زمان كان نسخا لذلك الحكم، وكذلك قوله: ألف درهم إذا لم يقترن الاستثناء ثبت موجبه، فلو صح متراخيا كان رفعا للحكم الثابت بالألف كما قلنا في التعليق بالشرط.

(ولكنه إذا اتصل منع بعض التكلم لا إنه رفع بعد الوجود، فكان بيانا) من حيث إن المراد بالألف بعضه لا كله فسمي بيان التغيير؛ لأنه وجد فيه معني كل واحد منهما.

(ومنزله الإستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط) أي في كونهما جميعا بيان التغيير، فكانا من بيان التغيير دون التبديل، هذا علي خلاف ما اختاره الإمام شمس الأئمة رحمه الله فإن بيان التغيير عنده الاستثناء لا غير.

وأما بيان التبدييل عنده فالتعليق بالشرط وعند المصنف بيان التبديل هو النسخ، فالاستثناء والتعليق عند المصنف من بيان التغيير.

ص: 1445

(في كيفية عمل كل واحد منهما، فقال: الاستثناء يمنع التكلم بحكمه) أي مع حكمه، يعني أن الاستثناء يمنع الموجب مع موجبه وهو الحكم عند الشافعي يمنع الموجب.

واما الموجب وهو المستثني منه بمجموعه فثابت ولكن امتنع بعض حكمه بمعارضة الاستثناء.

(وقال الشافعي- رحمه الله إن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة)؛

ص: 1446

لأن صدر الكلام وقع موجبا متناولا لقدر المستثني، إلا إن حكمه لا يثبت بالاستثناء كما هو الأصل في وقوع المعارضة بين الدليلين، وكذلك التعليق بالشرط عنده يمنع حكم العلة عند الثبوت لاأنه يمنع انعقاد العلة بل وقع عله إلا أن الحكم لا يثبت بالتعليق.

(بمنزلة دليل الخصوص) يعني أن دليل الخصوص يعارض النص العام بصيغته في مقدار المخصوص؛ لانه نص مستبد كالنص العام فكان عمله في المعارضة لهذا.

(وقد دل علي هذا الأصل مسائلهم) أي مسائل أصحابنا والشافعي رحمهم الله

وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إلي آخرهفمعناه في تخريج الشافعي إلا الذين تابوا (فاقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون غير فاسقين)؛ لأن الاستثناء عنده بطريق المعارضة، فصدر الكلام يوجب رد الشهادة أبدا والاستثناء يعارضه في حالة واحدة وهي حالة التوبة، ورد الشهادة مما يحتمل

ص: 1447

التوقيت فإنه مؤقت بحالة الفسق، وبعد زوال الفسقبالتوبة كان الحكم بخلافه، وعنده رد الشهادة حكم الفسق، لأن رد الشهادة بالقذف كرد الشهادة بفسق آخرفينتهي بالتوبة.

فأما الجلد فحد يتعلق في حق العبد عنده علي سبيل التغليب ولهذا يورث ويجري فيه العفو فلا تظهر فيه التوبة.

(لأن الاستثناء عارضة في المكيل خاصة) فبقي ما وراء المكيل تحت العام وهو المجازفة والمفاضلة.

(وخصوص دليل المعارضة لا يتعدي مثل دليل الخصوم في العام) يعني أن دليل المعارضة خاص وهو قوله"إلا سواء بسواء" وقع معارضا لصدر الكلام في حالة المساواة فلا يتعدي؛ إذ لو تعدي لصار عاما، وهو خاص كما أن دليل الخصوص لا يتعدي عن المخصوص نصا إلا بطريق التعليل، ولكن الفرق بينهما أن دليل المعارضة لا يتعدي إلي غير ما عارضه إلا بنفسه ولا بطريق التعليل، لأن التعليل فرع النص، فلو عللنا النص المعارض للتعدية يلزم أن يكون التعليل معارضا للنص الذي عارضه النص المعارض كالنص المعارض وهو لا يصح كما ذكرنا في عدم تعليل الناسخ.

ص: 1448

فأما دليل التخصيص وإن كان فيه شبهة المعارضة باعتبار شبهه الناسخ وهو للبيان في نفسه لوجود حد البيان فيه وهو: أن يظهر به ابتداء وجود الكلام، فكان قابلا للتعليل.

وحاصله أن دليل المعارضة وهو قوله "إلا سواء بسواء" لا يتعدي حتي لا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين عند الخصم مثل دليل الخصوص في العام، فإن دليل الخصوص فيه نص خاص قطعي لا يتعدي إلي ما وراء المخصوص إلا بالتعليل، ولهذا لم يثبت الحكم فيما وراءه قطعا بل بغالب الرأي بالقياس.

وكذلك تخريجه في (قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}) أنه بطريق المعارضة، معناه أن صدر الكلام وهو قوله {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يتناول جميع الأحوال، فحال العفو من المرأة صار معارضا فلا يتعدي إلي حال لا يصح العفو منهاإذا كانت صغيرة أو مجنونة.

قال الإمام شمس الأئمة رحمه الله وقال أي الشافعي في قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء": إن المراد: لكن إن جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر، حتي أثبت بالحديث حكمين: حكم الحرمة لمطلق الطعام بالطعام فأثبته في القليل والكثير، وحكم الحل بوجود المساواة كما هو موجب في الاستثناء، فيختص بالكثير الذي يقبل المساواة، وهو نظير

ص: 1449

قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} في أن الثابت به حكمان: حكم تنصف به المفروض بالطلاق، فيكون عاما فيمن يصح منه العفو ومن لا يصح نحو الصغيرة والمجنونة، وحكم سقوط الكل بالعفو كما هو موجب الاستثناء، فيختص بالكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي وإن يتفضل الزوج فيعطي الكل صلة لها وإحسانا إليها، أي الواجب شرعا هو النصف إلا ان تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل وإنما كان الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح؛ لأن الطلاق بيده فكان إبقاء العقد بيده.

وقوله: (يسقط من الألف قدر قيمته) وعندنا لا يسقط من الألف شيء؛ لأن هذا ليس باستثناء حقيقة، فلو كان تكلمنا بالباقي لكان نفيا لغيره لا إثباتا له، فمعني نفي الغير من غير إثبات له قاصدا بالفارسية جز خداي خداي نيست (3)

ص: 1450

وهذا تكلم بالباقي لا غير، وأما لو كان بطريق المعارضة فكان معناه: خداي نيست مكريك خدايست، وهذا كما ترى نفي للألوهية عن غيره وإثبات إياها له، فكان هذا أولى باعتبار أن هذا كلمة التوحيد.

(فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ) كما في البيع بشرط الخيار والطلاق الرجعي، فإن وضع الطلاق لرفع النكاح وذلك لا يوجد في الطلاق الرجعي قبل انقضاء العدة.

(فقوله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَامًا)) فإن دليل المعارضة في الحكم إنما يتحقق في الإيجاب دون الخبر؛ لأن ذلك يوهم الكذب باعتبار صدر الكلام، ومع بقاء أصل الكلام للحكم لا يتصور امتناع الحكم فيه بمانع، فلو كان الطريق ماقاله الخصم لاختص الاستثناء بالإيجاب

ص: 1451

كدليل الخصوص، والدليل على صحة ماقاله علماؤنا رحمهم الله هذه الآية أيضًا، فإن معناه: لبث فيهم تسعمائة وخمسين عامًا؛ لأن الألف اسم لعدد معلوم ليس احتمال مادونه بوحه، فلو لم يحعل أصل الكلام هكذا لم يمكن تصحيح ذكر الألف بوحه؛ لأن اسم الألف لا ينطلق على تسعمائة وخمسين أصلًا.

وإذا قال الرجل: لفلان علي ألف درهم إلا مائة فإنه يجعل كأنه قال: له علي تسعمائة، فإن مع بقاء صدر الكلام على حاله وهو الألف لا يمكن إيجاب تسعمائة عليه ابتداء؛ لأن القدر الذي يجب هو حكم صدر الكلام، وإذا لم يكن في صدر الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة، وكان لهذا العدد عبارتان:

الأقصر: وهو تسعمائة، والأطوال: وهو الألف إلا مائة، وهذا معنى قول أهل اللغة: إن الاستثناء استخراج بعض الكلام على أن يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى.

وقوله: (فبقاء التكلم بحكمة في الخبر لا يقبل الامتناع بمانع) جواب

ص: 1452

عن قوله: «فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ» وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون لا في الإخبار؛ لأن الإيجاب إثباب شيء، فإذا عارضه شيء آخر لم يثبت.

فأما الإخبار فلفظ دال على أمر كان أو يكون وهو لا يصلح بدونك ذلك؛ لأنه لو لم يكن كائنًا يلزم منه الكذب فلا يمكن امتناع المخبر به بالمعارضة؛ لأنه كائن قبل ثبوت المعارضة فيستحيل امتناعه، ولما بقي جميع ماتكلم بحكمه في صدر الكلام لم يقبل الامتناع بمانع فبطل القول بالمعارضة فصح ماذكرنا.

(وإثبات ونفي بإشارته) يعني لو كان صدرالكلام نفيًا كان الإثبات في المستثنى بطريق الإشارة كما في كلمة التوحيد، ولو كان صدر الكلام إثباتًا كان النفي في المستثنى بطريق الإشارة كما في قوله: لفلان علي ألف درهم إلا مائة وإنما لم يعكس؛ لأن الإثبات أو النفي في المستثنى غير مذكور قصدا، لكن لما كان حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه بحسب وضع صيغة الكلام فيه لزم ذلك ضرورة الاستثناء لغة.

(أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل) ولم يستو هاهنا؛ لأن استثناء الكل من الكل لايجوز، ولو كان بطريق المعارضة لجاز.

ص: 1453

(والاستثناء قط لا يستقل بنفسه)

فإن قيل: هذا على أصلكم.

وأما على أصل الشافعي فأنه لما كان الاستثناء على وجه المعارضة كان مستقلًا بنفسه على ما ذكر قبله بقوله: «إلا مائة فإنها ليست علي» قلنا: هذا أيضا لا يستقل بنفسه بدون الأول.

ألا ترى أنه لو قال: إلا مائة فإنها ليست علي بدون سابقة المستثنى منه لا يكون مفيدًا، فلذلك صح قولنا على الإطلاق والاستثناء قط لا يستقل بنفسه.

(وذلك لا يصلح) أي وذلك البعض الذي هو ما وراء المستثنى لا يصلح حكمًا لكل التكلم بصدوره، ثم أوضح هذا القول بقوله:

ص: 1454

(ألا ترى أن الألف اسم علم له لايقع على غيره) يعني أن كل التكلم بصدره اسم الألف في قوله: لفلان علي ألف إلا مائة فلا يصلح ما دون الألف الذي بقي بعد الاستثناء وهو تسعمائة حكمًا للألف، فلو كان إخراج المائة من الألف بطريق المعارضة لبقي اسم الألف صالحا حقيقة لإطلاقه على ما وراء المستثنى وهو تسعمائة كما في دليل الخصوص، فإنه لما ثبت حكمه بطريق المعارضة للعام بقي اسم العام صالحًا حقيقة لإطلاقه على ما وراء المخصوص من العام، فإن اسم المشركين في قوله تعالى:(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بقي صالحًا لإطلاقه حقيقة على ما وراء الدمي والمستأمن من المشركين لثبوته بطريق المعارضة.

والمعنى في ذلك وهو أنا إنما اشترطنا صلاحية إطلاق اسم كل صدر الكلام على ما وراء المستثنى الذي وجب على المقر في قوله: لفلان علي ألف إلا مائة؛ لأن القدر الذي يجب هو حكم صدر الكلام، وإذا لم يكن في صدر الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة.

ص: 1455

(وإذا كان الوجود غاية للأول أو العدم غاية لم يكن بد إثبات الغاية لتناهي الأول)، ثم انعدام الحكم بعد الغاية لعدم الدليل المثبت لا لمانع بعد وجود المثبت فكذلك انعدام الحكم في المستثنى لعدم الدليل الموجب لا لمعارض مانع.

(ولذلك اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات إشارة والنفي قصدًا) إلى آخره، وهذا لأن الإيمان عند المحققين من المتكلمين هو التصديق بالقلب فقط، والبيان باللسان شرط إجراء الأحكام في الدنيا، وعند

ص: 1456

الفقهاء: الإقرار باللسان وإن كان ركنًا لكنه زائد؛ لأنه إذا لم يتمكن من البيان ولم يصادف وقتًا يقدر فيه على البيان وصدق بالقلب فهو مؤمن بلإجماع إذا لم يكن ذلك الوقت وقت البأس فكان التصديق كل الإيمان أو أصلًا فيه، (فاختير في البيان الإشارة)؛ لأن الإشارة غير مقصودة والإقرار أيضًا غير مقصود، فاختير ماليس بمقصود لما ليس بمقصود.

فإن قيل: إن النفي باللسان أيضًا غير مقصود؛ لأن التصديق هو الأصل، والتصديق هو نفي الألوهية عن غير الله وإثبات الألوهية لله تعالى وهو الأصل في القلب، فكيف يصح قوله في الكتاب:«ليكون النفي قصدًا والإثبات إشارة» مع أن النفي على ماقررنا باللسان أيضًا غير مقصود؟

قلنا: الأمر كذلك إلا أنه يقصد النفي في الكلام بالبيان لدفع خصومة الخصم؛ لأن من الناس من يثبت الألوهية لغير الله فمست الحاجة إلى النفي قصدًا دفعًا لقول الخصم.

ص: 1457

فأما إثبات الألوهية لله تعالى فلا نزاع، فيه قال الله تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، فاختير في الإثبات الإشارة فلذلك ابتدأ في كلمة التوحيد بنفي الأغيار عن شركة الألوهية ليقع النفي مقصودًا، فلما انتفت الألوهية عن غير الله قصدًا ثبتت الألوهية لله تعالى لغة وإشارة؛ لأنه لا بد للعالم الحادث من محدث أحدثه، ومن خالق خلقه وهو الله تعالى.

وإلى هذا أشار الإمام المحقق شمس الأئمة-رحمه الله في تقريره فقال: وأما قول أهل اللغة: الاستثناء من النفي إثبات فإطلاق ذلك باعتبار نوع من المجاز، فإنهم كما قالوا هذا فقد قالوا إنه استخراج وإنه عبارة عما وراء المستثنى ولا بد من الجمع لبن الكلمتين ولا طرق للجمع سوى مابينا، وهو أنه باعتبار حقيقته في أصل الوضع عبارة عن عما وراء المستثنى، وهو نفي من الإثبات وإثبات من النفي باعتبار إشارته على معنى أن حكم الإثبات يتوقف به كما يتوقف بالغاية، فلإذا لم يبق بعده ظهر النفي لانعدام علة الإثبات فسمي نفيًا مجازًا.

ثم قال: فإن قيل هذا فاسدًا؛ لأن قول القائل: لا عالم إلا زيد يفهم منه الإخبار بأن زيدًا عالم، وكذلك كلمة الشهادة تكون إقرارًا بالتوحيد حقيقة، كيف

ص: 1458

يستقيم حمل ذلك على نوع من المجاز؟

قلنا: قول القائل لا عالم نفي لوصف العلم، وقوله: إلا زيد توقيت للوصف به ومقتضى التوقيت انعدام ذلك الوصف بعد الوقت، فمقتضى كلامه هنا نفي صفة العلم لغير زيد، ثم ثبت به العلم لزيد بإشارة كلامه لا بنص كلامه كما أن نفي النهار يتوقت إلى طلوع الفجر، فبوجوده يثبت ما هو ضده وهو صفة النهار ونفي السكون مؤقت بالحركة، فبعد انعدام الحركة يثبت السكون. يقرره أن الآدمي لا يخلو من أحد الوصفين، إما العلم وإما نفي العلم عنه، فلما توقت النفي فى صفة كلامه بزيد ثبت صفة العلم فيه لانعدام ضده، وفي كلمة الشهادة كذلك نقول: فإن كلامه نفي الألوهية عن غير الله ثم يثبت التوحيد بطريق الإشارة إليه.

(وتفسيره ما ذكرنا) وهو قوله: إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا.

وقوله: (مجازًا) بدل من قوله: «مبتدأ» يعني أن إطلاق اسم الاستثناء على المنقطع بطريق المجاز.

ص: 1459

قال الله تعالى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ) وقبله قال: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي كل ما عبدتموه أنتم وعبده آباؤكم الأقدمون وهم الذين ماتوا في سالف الدهر، والأقدم تفضيل القديم وهم الأجداد وآباء الأجداد، فإني أعاديهم أي أجتنب عبادتهم وتعظيمهم إلا رب العالمين فأني أعبده وأعظمه لا أعبد غيره.

وقال الضحاك (إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ): أي إني بريء من الآلهة التي

ص: 1460

تعبدون كلها إلا رب العالمين فإني لا أتبرأ منه.

وقيل: هو استثناء منقطع بمعنى لكن.

وقيل: بل هو استثناء متصل، وقد كان في آبائهم من يعبد الله ويعبدون الأصنام على الشركة فتبرأ من كل مايعبدونه، واستثنى رب العالمين مما يعبدونه فصح الاستثناء. كذا في «التيسير» .

(وكذلك (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَاثِيمًا (25) إِلَاّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا)).

قال في «الكشاف» : أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوًا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادي قولهم:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

أو لا يسمعون فيها إلا قولًا يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء

ص: 1461

المنقطع، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام.

وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) استثناء منقطع، هذا جواب عما تمسك به الشافعي- رحمه الله في أن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة.

قلنا: كلامنا معك في الاستثناء الحقيقي وهو المتصل من الاستثناء لا المنقطع منه وهذا منقطع؛ لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام، فلا يرد علينا نقضًا، ونحن نسلم أن صورة المعارضة ثابتة في الاستثناء المنقطع؛ لأن ذلك ليس من جنس الأول حتى يستقيم فيه التكلم بالباقي بعد الثنيا، فتعذر حمل اللفظ على حقيقة الاستثناء ولئن كان محمولًا على حقيقة الاستثناء فهو استثناء بعض الأحوال، أي فأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال إلا

ص: 1462

أن يتوبوا، فيكون هذا الاستثناء توقيت الحال ما قبل التوبة، فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمت أنت.

(وكذلك قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إذا حمل صدر الكلام على الأحوال يكون حقيقة، فكأنه قال: فالنصف ثابت في جميع الأحوال إلا حال عفو المرأة التي هي صالحة للعفو وهي العاقلة البالغة فحينئذ النصف أيضًا غير ثابت فصح التكلم فيه بالباقي بعد الثنيا بالنظر إلى عموم الأحوال.

(وكذلك قوله: "إلا سواء بسواء" استثناء حال بأن المساواة حال، والأصل أن يثبت المستثنى منه على وفق المستثنى إذا لم يكن المستثنى منه على وفق المستثنى في النفي، وعلى هذا مسائل إن كان في الدار إلا زيد كان المستثنى منه بني آدم إن كان في الدار إلا حمار المستثنى منه الحيوان على ما يجيء تمامه، فكذلك ها هنا المستثنى لما كان حالًا كان المستثنى منه أحوالًا؛ لأن استثناء الحال من العين لا يتصور، فكأنه قال: لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المساواة والمجازفة والمفاضلة إلا حالة المساواة، ولا نتحقق هذه الأحوال إلا في الكثير لما أن المساواة إنما تثبيت بالمسوي الشرعي

ص: 1463

بالاتفاق، وهو الكيل المذكور في حديث آخر بقوله:"إلا كيلا بكيل"، فالمجازفة والمفاضلة مبنيتان على الكيل الشرعي، وهذا لأن مطلق الفصل ليس بمجرد الإجماع؛ لأن أجزاء الحنطة لابد أن تتفاوت بعضها مع بعض آخر وذلك غير معتبر، بل المعتبر ما كان زائدًا على الكيل، فالزائد على الكيل يقتضي وجود الكيل لا محالة، وتلك الأحوال التي ذكرنا لا تتحقق إلا فيما يدخل تحت الكيل.

فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه لا يصح إلا بالإدراج وهو إدراج الأحوال، فالإدراج خلاف الأصل كما أن كون الاستثناء منقطعًا خلاف الأصل أيضًا، فكيف رجحتم جانب الإدراج على كون الاستثناء منقطعًا؟

قلنا: لا كذلك؛ لأن الإدراج أحد نوعي الكلام عند اقتضاء الدليل.

ألا ترى أن أحدًا لم يقل فيما إذا كان المستثنى منقطعًا مع أنا أجمعنا مع الخصم على أن هذا الاستثناء الذي ذكر في الحديث متصل لا منقطع، وكفى به حجة لنا في أنه متصل، ولا يصح اتصاله إلا بما ذكرنا، فكان الإدراج ثابتًا ضرورة.

ص: 1464

فعلم بهذا الحديث لم يتناول القليل الذي لا يدخل تحت الكيل أصلًا، فبطل استدلال الشافعي به على حرمة بيع القليل من الطعام.

وقوله: (وذلك لا يصلح إلا في المقدر) وهو المقدر بالكيل بالاتفاق.

(ونفيه لا يؤثر في الألف) حتى أنه لو قال: لكن لا ثوب له علي بالتصريح بهذا إنه لا يسقط به عنه شيئًا من الألف، فكذلك اللفظ الذي يدل عليه، لما أن المستثنى لم يتناوله صدر الكلام لا صورة ولا معنى.

(وأما إذا استثنى المقدر من خلاف جنسه) بأن قال: لفلان على ألف درهم إلا كر حنطة، (فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله- هو صحيح، وقال محمد رحمه الله ليس بصحيح)، وهذا الخلاف أيضًا في كل مقدر مكيل أو موزون حتى قال في "المبسوط" ولو قال: له علي ألف درهم إلا دينارًا فالاستثناء جائز، ويطرح من الألف قيمة الدينار، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- استحسانًا، وفي القياس لا يصح هذا الاستثناء، وهو قول محمد رحمه الله وكذلك لو قال: إلا فلسًا أو إلا كر حنطة أو استثنى شيئًا مما يكال أو يوزن أو يعد عددًا فهو على هذا الخلاف.

ص: 1465

فأما إذا قال: إلا شاه أو ثوبًا أو عرضًا من العروض فالاستثناء باطل عندنا.

(لأن المقدرات جنس واحد في المعنى) أي في حكم الثبوت في الذمة على معنى أن كل واحد من المكيل والموزون يثبت في الذمة ثبوتًا صحيحًا حيث يثبت بمقابلة ما هو مال وبمقابلة ما ليس بمال بخلاف الثوب والحيوان، فإنهما لا يثبتان في الذمة إلا بمقابلة ما ليس بمال كما قي النكاح والدية، وهكذا تثبت المقدرات في الذمة ثمنًا وتثبت حالًا ومؤجلًا، ويجوز الاستقراض فيها فكانت في حكم الثبوت في الذمة كجنس واحد معنى، والاستثناء: استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا بطريق المعنى، فصح استثناء كل واحد من المكيل والموزون من الآخر لهذا.

وقوله: (لأنهما تصلح ثمنًا) بأن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة وتصف ذلك على ما ذكرنا في "النهاية" فإن الحنطة في تلك الصورة تتعين ثمنًا حتى صح استبدالها بآخر.

ص: 1466

(وقد قلنا: إن الاستثناء تكلم بالباقي معنى لا صورة) أي أنه تكلم بالألف صورة وهذا لا شبهة فيه، وإنما جعل تكلمًا بالباقي من حيث المعنى، فكان قوله:"لفلان علي ألف درهم إلا مائة" من حيث المعنى لفلان علي تسعمائة، فكانت تسمية الدراهم وهي الألف في قدر المائة تسمية صورة بلا معنى، فكذلك ها هنا إذا صح الاستخراج من طريق المعنى وهو القدر بقي المعنى وهو الشيء المقدر في قدر المستثنى وهو كذا من الحنطة.

(تسمية الدراهم بلا معنى) كما قلنا في قولنا: ألف إلا مائة؛ لأن المقدر ها هنا في صدر الكلام مثل ألف درهم، وقوله في الاستثناء: إلا كر حنطة مثل قوله: إلا مائة فلا فرق بينهما في المعنى من حيث وجوبهما في الذمة.

وأما الثوب فلا يكون مثل المكيل والموزون في الصورة ولا في المعنى وهو الثبوت في الذمة؛ فإنه لا يثبت في الذمة إلا مبيعًا أي في باب السلم، والألف إنما يثبت في الذمة ثمنًا فلا يمكن جعل كلامه استخراجًا باعتبار الصورة ولا باعتبار المعنى، فلذلك جعلناه استثناء منقطعًا.

(وعلى هذا الأصل) وهو أن الوصل يشترط في بيان التغيير:

ص: 1467

(إلا أنه تغيير للحقيقة) فإن مقتضى قوله: على ألف درهم، الإخبار بوجوب الألف في ذمته، وقوله:"وديعة" فيه بيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال، فإذا كان موصولًا كان بيانًا صحيحًا، وإذا كان مفصولًا كان نسخًا، فيكون بمنزلة الجوع عما أقر به.

(لأن حقيقة هذه العبارات للتسليم وقد تحتمل العقد) كقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ) أي ما عقدتم؛ لأنه سبب الإيتاء بطريق ذكر المسبب وإرادة السبب.

ص: 1468

(وإذا قال: لفلان علي ألف من ثمن جارية باعينها) إلى آخره.

قال الإمام شمس الأئمة رحمه الله لو قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعينها إلا أني لم أقبضها فإن على قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يصدق إذا كان موصولًا، وإذا كان مفصولًا يسأل المقر له عن الجهة، فإن قال: الألف لي عليه بجهة أخرى سوى البيع فالقول قوله والمال لازم على المقر.

وإن قال بجهة البيع ولكنه قبضها فحينئذ القول قول المقر لم يقبضها؛ لأن هذا بيان تغيير، فإنه يتأخر به عن حق المقر له في المطالبة بالألف إلى أن يحضر الجارية ليسلمها بمنزله شرط الخيار أو الأجل في العقد يكون مغيرًا لمقتضى مطلق العقد ولا يكون ناسخًا لأصله فيصح هذا البيان منه موصولًا، وإذا كان مفصولًا فإن صدقة في الجهة فقد ثبتت الجهة بتصادقهما عليهما، ثم ليس في إقراره بالشراء ووجوب المال عليه بالعقد إقرار بالقبض، فكان المقر له

ص: 1469

مدعيًا عليه ابتداء تسليم المبيع وهو منكر ليس براجع عما ذا كذبه في الجهة ثم ثبت الجهة التي ادعاها وقد صح تصديقه له في وجوب المال عليه، وبيانه الذي قال إنه من ثمن جارية لم يقبضان بيان تغيير فلا يصح مفصولًا.

وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: هذا رجوع عما أقر به؛ لأنه أقر بأول كلامه أن المال واجب له دينًا في ذمته، وثمن جارية لا يوقف على أثرها لا يكون واجبًا عليه إلا بعد القبض، فإن المبيعة قبل التسليم إذا صارت بحيث لا يوقف على عينها بحال بطل العقد، ولا يكون ثمنًا واجبًا يعني إذا هلكت قبل القبض أو كانت مجهولة.

وقوله: "من ثمن جارية باعينها ولكني لم أقبضها" إشارة إلى هذا، فإن الجارية التي هي غير معينة لا يوقف على أثرها، وما من جارية يحضرها البائع إلا وللمشتري أن يقول: المبيعة غيرها، وقد أقر بأن الألف في ذمته واجب مقرر، وذلك صريح منه بأن الجارية مقبوضة، ثم قوله:"لكني لم أقبضها" يكون رجوعًا منه، فعرفنا أن آخر كلامه عما أقر به من وجوب المال ديناً

ص: 1470

في ذمته، والرجوع لا يصح موصولًا ولا مفصولًا.

(والثابت بالدلالة مثله إذا ثبت بالصريح) يعني الحكم الثابت بالدلالة مثل الحكم الثابت بالصريح عند عدم الصريح، ولو كان قال: قبضت المبيع لكني لم أقبض كان رجوعًا فكذا ها هنا، ولا يقال بأنه بقوله: لكني لم أقبضها، والدلالة إنما تعمل عمل الصريح إذا لم يكن الصريح مخالفًا لها.

فأما إذا كان مخالفًا لها فلا عبرة لها بمقابلة الصريح؛ لأنا نقول: إن ذلك فيما إذا تعارضا.

فأما إذا ثبت موجب الدلالة أولًا فلا، وهاهنا ثبت موجب الدلالة أولًا وهو قبض المبيع على ما ذكرنا، ثم قوله:"لم أقبضها" إنما وجد بعد ثبوت موجب الدلالة فلا يكون ذلك معارضًا بل يكون رجوعًا.

وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة رضي الله عنه يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلًا لا إلى غاية معلومة وهي إحضار المتاع، فإن تسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه ولا طريق للبائع إلى ذلك، لأن البائع ما من جارية يحضرها إلا وللمشتري أن يقول: الجارية المبيعة غير هذه، ولو ادعى أجل شهر أو نحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل، فإذا ادعى أجلًا مؤيدًا أولى أن لا يصدق في ذلك.

ص: 1471

(وعلى هذا الأصل إيداع الصبي -أي الصبي المحجور- الذي يعقل).

وأما الصبي الذي لا يعقل فيجب أن يضمن بالاتفاق. هكذا ذكره المصنف رحمه الله في "الجامع الصغير".

وذكر في أحكام الصغار بعد ذكر هذه الرواية؛ لأن التسليط غير معتبر وفعله معتبر.

وذكر الإمام الإسبيجاني رحمه الله في "المبسوط" أن الاختلاف في الصبي الذي يعقل.

أما الذي لا يعقل فلاضمان عليه بالإجماع.

(قال: أبو يوسف رحمه الله هو من باب الاستثناء؛ لأن إثبات اليد نوعان: للاستحفاظ ولغيره)، فإذا قال:"أحفظ هذا" يكون هذا القول استثناء لغير الاستحفاظ عن إثبات اليد، إلا أن الاستحفاظ لم يتعد أثره إلى الصبي لعدم الولاية عليه فيصير المعدوم يعني غير الاستحفاظ خرج من إثبات اليد، والنوع الآخر من إثبات اليد بطريق الوديعة لم يثبت لما ذكرنا من عدم الولاية، فجعل كأن اليد لم يكن أصلًا، فصار كأن الصبي استهلك مال

ص: 1472

الغير ابتداء فيضمن.

وحاصلة أن التسليط والاستحفاظ كل واحد منهما لم يثبت من المودع في حق الصبي.

أما التسليط فإنه تصرف من رب المال في حق نفسه مقصور عليه غير متناول للصبي، فانعدم التسليط لانعدام علته.

وأما الاستحفاظ فانعدم أيضا لانعدام ولايته على الصبي، ويعد انعدام النوعين صار كأنه لم يوجد تمك ينه من المال أصلا، فبعد ذلك إذا استهلكه كان ضامنا كما لو كان المال في يد صاحبه على حاله فجاء الصبي واستهلكه، وهذا الخلاف فيما إذا كانت الوديعة غير العبد والأمة فإن كانت إياهما فقبلهما الصبي كان ضامنا بالاتفاق.

وقوله: (فإذا نص على الإيداع كان مستثنى) أي كان التسليط مستثنى، (والاستثناء من المتكلم تصرف على نفسه فلا يبطل بعدم الولاية على الصبي) أي فلا يبطل استثناؤه (بلا لا يثبت إلا الاستحفاظ)، لأنه استثني غيره

(وقال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-ليس هذا من باب الاستثناء؛

ص: 1473

لأن التسليط فعل يوجد من المسلط) يعني أن قوله: "احفظ هذا" قول والتسليط فعل، وشرط صحة الاستثناء أن يكون صدر الكلام مجانسا للمستثنى، والمستثنى هاهنا غير الاستحفاظ والإستثماء قوله:"احفظ" فلا يصح.

أو نقول: صدر الكلام فعل مطلق والمطلق فرد، والاستثناء يقتضي كون صدر الكلام متناولا للفردين فصاعدا، فلا يكون استثناء بهذين المعنين، لأن قوله "احفظ" كلام ليس مم جنس الفعل ليشتغل بتصحيحه بطريق الاستثناء، ولكنه معارض بمنزلة جليل الخصوص، أو بمنزلة ماقاله الخصم في الاستثناء، وإنما يكون معارضا إذا صح منه هذا القول شرعا، ولا خلاف أن قوله:"احفظ" غير صحيح في حكم الإستحفاظ شرعا فيبقى التسليط مطلقا، فالإستهلاك بعد تسليط من له الحق مطلقا لا يكون موجبا للضمان على الصبي ولا على البالغ.

وذكر في "المبسوط" في تعليل قولهما فقال: لأنه صبي وقد سلطه رب الوديعة على ماله حين دفعه إليه، وفي تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام:

أحدهما: أنه تسليط باعتبار العادة؛ لأن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة

ص: 1474

نظرهم في عواقب الأمور، فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالإذن له في الإتلاف، وبقوله:"احفظ" لا يخرج من أن يكون آذنا؛ لأنه إنما خاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقال: لا تأكل، بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من عادة الصبيان القتل؛ لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم.

والأصح أن نقول: معنى التسليط تحويل يده في المال إليه، فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه، فإذا حول يده إلى غيره صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا، إلا أن بقوله "احفظ" قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ دون غيره، وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي؛ لأنه التزم بالعقد والصبي ليس من أهله، فيبقى التسليط على الإستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والأمة، فإن اعتبار المالك باعتبار يده ماكان متمكنا من قتل الآدمي، فتحويل اليد إليه لايكون تسليطا على قتله.

وقوله (والمستثنى من خلاف جنسه) يشير إلى الوجه الأول، فلما لم يصح استثناء بقى قوله:"احفظ هذا" معارضا للفعل الذي هو تسليط، فلا بد من تصحيحه ليصير معارضا ولم يصح، لأن استحفاظ الصبي لا يصح

ص: 1475

فبطل المعارض، وهو قوله:"احفظ هذا" فبقى التسليط والتمكين من الصبي على المال، وذلك لايوجب الضمان على البالغ فعلى الصبي أولى.

فكان (هذا مثل قول الشافعي في الاستثناء) الحقيقي، فإنه يقول هناك بالمعارضة، ونحن قلنا في هذه المسألة مثل ذلك؛ لأن الاستثناء لا يمكن، فاضطررنا إلى القول بالمعارضة، ولم تصح المعارضة أيضا على ما ذكرنا حتى لو قال ذلك للبالغ كان معارضة صحيحة، فصار مثل قول الشافعي في الاستثناء، فإن عمل الاستثناء عنده بطريق المعارضة.

(وعلى هذا الأصل قال أصحابنا) أي على أصل أن بيان التغيير معتبر بشرط الوصل (في رجل قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه؛ إن البيع يقع على النصف بالألف) إلى آخره.

قال في "المبسوط" إن العبد إذا كان لواحد فقال تلرجل: بعت منك إلا نصفه بألف درهم كان بائعا للنصف بألف درهم، لأن إلا للاستثناء.

والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى، فكأنه قال:

ص: 1476

بعت منك نصفه بألف درهم.

فأما قوله على أن لي نصفه، فليس باستثناء، بل هو عامل على سبيل المعارضة للأول، فكان الإيجاب الأول متناولا لجميعه، وبالمعارضة تتبين أنه جعا الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه وذلك صحيح منه إذا كان مفيدا.

ألا ترى أن رب المال يشتري مال المضاربة من المضارب فيكون صحيحا وإن كان ذلك مملوكا له يكون مفيدا ليكون اليد لرب المال، فهاهنا أيضا ضم نفسه إلى المخاطب في شراء العبد مفيد في حق التقسيم، فلهذا كان نابعا نصفه من المخاطب بخمسمائة؛ لأن على قوله الإقرار يصير مملوكا للوكيل، وهذا لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار قيام الوكيل مقام الموكل، وهذا حكم الوكالة فلا يصح استثناؤه كما لو وكل بالبيع على أن لا يقبض الوكيل

ص: 1477

الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا، كذا في "المبسوط".

(فيصير ثابتا بالوكالة) أي الإقرار على الموكل يصير ثابتا بالوكالة (حكما لا مقصودا) فلا يصح استثناؤه، وهذا لأن المقصودية شرط لصحة الاستثناء، حتى أن الشيء إذا ثبت تبعا في العقد لا مقصودا لا يصح استثناؤه لهذا المعنى كأطراف الحيوان؛ فإنها تدخل عند ذكر الحيوان تبعا في البيع وغيره فلا يصح استثناؤه، وهذا هو المعنى فيما ذكره في "الهداية" الأصل أن مايجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد.

وكذلك لا يصح إبطاله بالمعارضة؛ لأنه لما ثبت جواز إقرار الوكيل على الموكل بطريق الحكم لصحة الوكالة، فما دامت الوكالة قائمة كان حكمها وهو جواز إقراره على موكله قائما أيضا، فلا يبطل حكم الوكالة إلا ببطلان الوكالة، وجعل في "المبسوط" مذهب محمد رحمه الله ظاهر الرواية فقال: فأما في ظاهر الرواية فالاستثناء صحيح؛ لأن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز، فهو بهذا الاستثناء يبين أن مراده حقيقة الخصومة لا الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين أنه لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه

ص: 1478

بخلاف ما إذا أطلق.

والثاني: أن صحة إنكاره وإقراره عند الإطلاق لعموم المجاز؛ لأن ذلك كله جواب، فإذا استثنى الإقرار كان هذا استثناء لبعض مايتناوله مطلق الكلام، أو هو بيان مغير لمقتضى مطلق الكلام فيكون صحيحا. كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها ماشيا أو راكبا لم يحنث لما قلنا، وعلى هذا الطريق إنما يصح استثناؤه الإقرار موصولا لا مفصولا عن الوكالة، وعلى الطريق الأول يصح استثناؤه موصولا ومفصولا.

قالوا: وكذلك لو استثنى الإنكار على - صح ذلك عند محمد رحمه الله، خلافا لأبي يوسف، وهذا لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع ذلك منه قبل الإنكار، فإن كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإنكار كما يصح استثناؤه الإقرار.

وقوله: (وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل)، لأنه لو صح إقراره ربما أقر الوكيل بحق المدعي فيصل المدعي إلى حقه عند ظهور حقه بإقرار الوكيل فيفيد الخصومة بمثل هذا الوكيل، وإلا لا فائدة من خصومته؛ (لأن الخصومة تناولت الإقرار عملا بمجازها) وهو الجواب وهو عام.

ص: 1479

وحاصله أن التوكيل بالخصومة توكيل بجواب الخصم، والجواب تارة يكون بلا وتارة يكون بنعم، فالأمر بالتوكيل بالخصومة يتناولهما، فصح استثناء جواز الإقرار عند محمد رحمه الله. لأن الجواب يتناول الأمرين والاستثناء تكلم بالباقي فصح، فعلى هذا لا يصح منفصلا.

(وانقلب المجاز هاهنا بدلالة الديانة حقيقة) يعني أن الخصومة مهجورة شرعا لقوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا) والمهجور شرعا كالمهجور عادة، فصارت إرادة المجاز وهو جواب الخصم بمنزلة الحقيقة، ولأن استثناء جواز الإقرار عمل بحقيقة اللغة؛ لأن الإقرار مسالمة والخصومة ضدها، فكان قوله: على أن لا يقر عليه أو غير جائز الاقرار، تقريرا لموجب كلامه لا استثناءه؛ لأن موجب كلامه وهو التوكيل بالخصومة أن لا يجوز إقراره على موكله لغة لتبقى الخصومة على حقيقتها، فعلى هذا التقرير يصبح قوله:" غير جائز الاقرار" لا وعلى أن يقر عليه موصولا ومفصولا كما هو حكم بيان التقرير.

واختلف في استثناء الانكار؛ والأصح أنه على هذا الاختلاف على

ص: 1480

الطريق الأول لمحمد رحمه الله بيانه بأن الموكلَ يقول: وكلتك بالخصومة على أن لا ينكرَ الخصم أو غيرُ جائز الإنكار، فعلى الطريق الأول صح الاستثناءُ؛ لأنه صار عبارةً عن جواب الخصم، والجوابُ عامُ في الإنكار والإقرار، فصح استثناء الإنكار كما يصح استثناء الإقرار، والله أعلم.

ص: 1481